مأزق التسوية وآفاق الدولة الواحدة

 

مأزق التسوية وآفاق الدولة الواحدة

  • دور فلسطينيي الـ 48 في المشروع الوطني الديمقراطي

مقدمة

تتصاعد وتيرة الاهتمام والتداول في مسألة الخيارات  الإستراتيجية الفلسطينية، والحلول السياسية البديلة كحل الدولة الواحدة، بحيث أصبحت من الاتساع ما يجعل المعارضين والرسميين، يرتدعون عن الاستخفاف بالفكرة  ونعتها بأوصاف "التحشيش الفكري" و "الطوباوية"، وغيرها من الأوصاف والمقولات التي انتعشت في مرحلة الانغلاق على خيار سياسي واحد، وامتدت على أكثر من ثلاثة عقود. والأمر الذي يلحظه الجميع، هو أن أوساطًا متزايدة بين المثقفين وأطر المجتمع المدني، بدأت تتعامل بانفتاح واحترام مع الاجتهادات الجديدة، رغم أن هذه الأوساط لم تستقرّ بعد على خيار محدد.

هذا الحراك الفكري والسياسي المبارك، ليس مؤشرًا على وضع فلسطيني مريح، بل هو تجسيد للوعي بالخسائر الفادحة التي يتكبدها شعب فلسطين، جراء اختلال ميزان القوى لصالح النظام الكولونيالي الإسرائيلي والخضوع لإملاءاته، وبالتالي تعبير عن الرغبة القوية بوقف هذا النزف وبسبر أغوار الأفق الملبد بالغيوم الداكنة، والأخذ بيد الأجيال الصاعدة التي ترعرعت في بيئة سياسية منقطعة عن مرحلة التحرر الوطني الفلسطيني والعربي، وعن أخلاقها وقيمها، بل متصادمة معها.

هذه الأجيال تحتاج، قبل أن تمضي في الحياة أكثر في دوامة الفراغ، فراغ القيادة والقيم، تحتاج للمثال أو للنموذج الذي تقتدي به نحو خلاصها، نحو حريتها، نحو كرامتها.

الجانب المهم في هذا الانشغال في طرح البدائل، هو الاستعداد للعودة الى الجذر، وإعادة اكتشاف مصدر قوة القضية الفلسطينية. العودة إلى الوعي، إلى الرواية الأصلية وإلى مفرداتها اللغوية، والتي طالها التآكل والتشوه الخطيران وحتى السحق، تحت عجلات عربة "عملية السلام" التي أكدت عبر نتائجها الكارثية  للقاصي والداني أنها، ربما، أكبر عملية تدليس وتضليل وخداع للذات في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. ابتدعتها أطراف دولية وإقليمية، وتكيفت معها قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية، وخاصة التيار المركزي في منظمة التحرير ومعها الأنظمة العربية.

إن العودة الى الجذر هو استعادة أهم نقاط القوة في قضية العرب الأولى؛ وهي عدالة هذه القضية ووضوحها، قضية فلسطين. إنها قضية شعب تعرض لعدوان استعماري استيطاني بلا سبب، وهذا الشعب مثل كل الشعوب المقهورة، يمارس حقه عبر المقاومة ويدفع الغالي والرخيص لاستعادة حريته منذ حوالي قرن. ونقطة القوة الثانية التي ينطوي عليها طرح البدائل، وبالتحديد، الدولة الواحدة، هي وحدة القضية. أي وحدة الشعب الفلسطيني في الشتات، في الأراضي المحتلة عام 67، وفي منطقة عام 1948. ونقطة أخرى يحويها حل الدولة الواحدة هو البعد الديمقراطي الإنساني، أي شمل المجتمع اليهودي الإسرائيلي في كيان سياسي واحد، بعد تفكيك النظام العنصري ونزع الطابع الكولونيالي عنه، كيان يقوم على قيم الديمقراطية والمساواة والعدالة. لن ينتهي الصراع ولن تُستعاد العدالة إلا إذا قبل هذا التجمع اليهودي، بأن يكون جزءًا من المنطقة – وليس جزءًا من أوروبا أو الغرب.

وفي هذا السياق، سياق البحث عن المخرج وسياق الانشغال في بلورة الإستراتيجية القادمة، يطرح السؤال حول دور فلسطينيي الـ48؛ حول طبيعة ومضمون هذا الدور. وهو سؤال ليس سهلاً، نظرًا للتعقيد بالغ الشدّة الذي نجم عن الاضطرار للعيش تحت حكم دولة (كولونيالية)، فصلته عن محيطه، فرضت عليه المواطنة وأجبرته على العيش بين هوامش متعددة، تتجاذبه انتماءات وولاءات متناقضة. والسؤال الأهم والأخطر، هو المتعلق بالمحاذير التي تحكم أو يجب أن تحكم هذا الدور. فهل يقتصر هذا الدور، على النضال ضد التمييز، ومن أجل المساواة أو "السلام والمساواة"، دون تحديد مضمون هذا الشعار ودون معرفة أفقه ، والذي تطرحه قوى سياسية عربية اسرائيلية محلية وتدعمه السلطة الفلسطينية، التي ورغم تواضع هذا الهدف، لا تقوم بأي خطوة دعائية أو عملية تجاهه، خوفًا من الردّ الاسرائيلي الذي يتحكم بالأرض والاقتصاد والحركة ويُقيّد القرار السياسي، ويفرض لغة سياسية غريبة عن لغة حركة تحرر وطني. إن قيادة السلطة الفلسطينية لا تطرح في مفاوضاتها العبثية (المتوقفة سياسيًا والمستمرة أمنيًا)، مطالبة إسرائيل بأن تكون دولة المواطنين، في مقابل مطالبة إسرائيل بأن يُعترف بها كدولة يهود العالم.

وهل هناك صيغة أخرى تصلح أكثر لواقع عرب الداخل، دون أن تتناقض مع طموحاتهم الوطنية والمدنية، ودون أن تتصادم إستراتيجيًا مع حق كل الشعب الفلسطيني في العيش في وطنه حرًا. فهل الصيغة التي طرحها حزب التجمع "دولة المواطنين"، والتي تحولت الى الخطاب شبه الرسمي لفلسطينيي الـ48 خلال العقد الأخير وأعادت تفجير المواجهة مع الأيديولوجية الصهيونية وبُنيتها السياسية بصورة غير متوقعة، هي الصيغة الأنسب. وهل ما تزال صالحة، أم هناك حاجة لإعادة صياغتها، في ضوء التحولات الخطيرة في بنية علاقات الصراع.

يسأل العديد من المؤيدين والأصدقاء لحزب التجمع في الداخل والخارج، ما الذي يحول دون الإقدام على إحداث نقلة "نوعية جديدة" في تصورات الحزب السياسية، كما فعل في انطلاقته عام 1995 التي شكلت انقلابًا في الفكر السياسي عند عرب الداخل. ليس لهذا السؤال جواب جاهز وقاطع، ولكن بالإمكان الخوض في الإجابة عنه، بحذر ومسؤولية كبيرين، نظرًا لتعقيدات الساحة التي يعمل فيها الحزب والتي يعيش فيها 1.2 مليون فلسطيني. وهي تعقيدات ناجمة عن كون الفلسطينيين في إسرائيل تربطهم المواطنة الإسرائيلية المفروضة عليهم، وما يترتب على ذلك من حاجات يومية والتزامات مفروضة بقوانين هذه الدولة، ومحاذير عديدة. كما أن الحزب قام على شعار تحويل إسرائيل إلى دولة المواطنين وتحرير الأراضي المحتلة عام 67 وإقامة الدولة المستقلة، وعودة اللاجئين كحق مقدس لا مساومة عليه. وكان هذا مراعاة للإجماع الفلسطيني على الحل المرحلي.

لقد جاء المبادرون لإقامة التجمع من مشارب مختلفة. هناك من كان يحمل حل الدولة المرحلية (ولا أقول الدولتين) في الضفة والقطاع وحق العودة، وهناك من حمل مشروع الدولة الواحدة وظل يتمسك بهذه الرؤية (ككاتب هذه السطور، واعتبر أن دولة المواطنين مشروع اعتراضي على الصهيونية، وكان ذلك تسويغًا لمشاركة حركة أبناء البلد التي شغلت فيها منصب نائب الأمين العام حتى تاريخ انطلاق التجمع)، مع أنه يمكن أيضًا أن نعتبره مشروعًا إستراتيجيًا لأن الإصرار على دولة المواطنين كبديل عن الدولة اليهودية-الصهيونية، هو نظريًا تفكيك لهذا الكيان. ولهذا السبب يصعب الانتقال بسهولة وبشكل جماعي إلى بديل سياسي آخر قبل اكتمال نضوج جملة من العوامل الموضوعية والذاتية، نظرًا لخصوصية واقع عرب الـ48، ولأسباب تتصل بواقع الساحة الفلسطينية والساحة الدولية حيث الإجماع على فكرة الدولتين. ناهيك عن غياب قوة وازنة في الشارع الإسرائيلي تحمل رؤية ديمقراطية بديلة.

مع ذلك فإن حزب التجمع الوطني الديمقراطي هو حزب دينامي ومتجدد، وقد اعتبرنا منذ اليوم الأول أن الحزب ببرنامجه وتصوراته وحتى مشاركته في انتخابات الكنيست، التي كانت حصيلة نقاش عسير وصراع أفكار ومواقف، ليست خيارات جامدة وغير قابلة للمراجعة إذا اقتضت الحاجة والمصلحة الوطنية. ذلك أن الحزب جمع بين متناقضات ليست سهلة؛ فهو حزب قومي يهدف الى إعادة تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية لعرب الداخل، عبر إقامة المؤسسات التمثيلية المنتخبة، والمؤسسات الثقافية والتنموية المستقلة التي تُديم هذه الهوية وتنهض بالمجتمع، عبر التأكيد على ارتباطه حضاريًا وثقافيًا وتاريخيًا مع الأمة العربية ومع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. ومن ناحية ثانية هو حزب ديمقراطي يتعامل مع مطلب المواطنة المتساوية بجدية، وإن كان يدرك إدراكًا تامًا أن هذا غير ممكن طالما إسرائيل يهودية-صهيونية، وكولونيالية الطابع والممارسة. كما يحمل التجمع في داخله طاقة كامنة لإمكانية تحوله إلى القوة الرائدة لمشروع الدولة الواحدة داخل الخط الأخضر في مرحلة ما. ولا يقل أهمية حقيقة أن حزب التجمع حصيلة تجمع قوى قومية ويسارية متنافرة، تمكنت بعد عامين من النقاش والتداول، وبعد جهود مضنية، من الاتفاق على صيغة سياسية وفكرية وصيغة تنظيمية وازنة، وهي بذلك تجربة رائدة لم تشهدها الساحة الفلسطينية التي شهدت انقسامات عديدة داخل فصائلها دون أن تنجح أية محاولة لإعادة توحيد مجموعة فصائل متقاربة في إطار واحد. المقصود تجربة تجديد الفكر السياسي ونجاح تجميع عدة قوى في إطار حزبي واحد، متجاوزة للرواسب السابقة وآثارها النفسية. وإن إقامة حزب التجمع هي تجربة متميزة تقتضي من كل وطني وقومي ديمقراطي صيانتها، والحفاظ عليها كما يحافظ على بؤبؤ العين، خاصة في هذه الظروف الراهنة. بل مواصلة تطويرها وإغنائها ومراجعتها. وقد تمنى العديد من المثقفين الفلسطينيين بعد تألق نجم التجمع خاصة في السنوات الأولى لانطلاقه، أن تنتقل روح الابتكار التي ميزت هذه المبادرة إلى التجمعات الفلسطينية الأخرى.

وفي إطار هذا الفهم الخلاّق لمستلزمات النضال، أعلن حزب التجمع وفي مؤتمره الرابع عام 2004 على فتح النقاش حول الدولة الواحدة. ولكن دون أن يقدم في المؤتمرات اللاحقة على تغيير برنامجه الرسمي، الذي يتفق الجميع على أنه برنامج انطوى وينطوي على قوة تجنيدية بين الفلسطينيين في الداخل، وعلى قوة صدامية مع البنية العنصرية للنظام الإسرائيلي. والحقيقة أنه لم يشهد الحزب منذ تلك الفترة نقاشات واسعة حول هذا الخيار، ويعود هذا التقصير أو القصور، إن صحّ التعبير، إلى الأولويات الملحة والضغوط الكثيفة الناجمة عن الملاحقات المتتالية للحزب، ومحاولات شطبه المتكررة وعزله عن جمهوره، عبر إظهاره كحزب متطرف "لا يعترف بحق اليهود في دولة خاصة بهم" يضرّ بمصالح المواطنين العرب. وكل ذلك استدعى التركيز على العمل اليومي وتحصين الحزب من آثار هذه الحملات وبعث الطمأنينة في نفوس جمهوره.

وفي عام 2007، كتب الدكتور عزمي بشارة مقالاً تناول فيه موضوع الدولة الواحدة، وعرضه كموضوع للنقاش دون أن يدعو لذلك، وهو الذي يتبنى في الأصل موضوع الدولة الواحدة (دولة ثنائية القومية).

وعام 2009 وفي اجتماع اللجنة المركزية للحزب، قدمت كأمين عام الحزب ورقة مطولة كاستمرار للنقاش. وأوضحت في هذه الورقة الترابط غير المباشر، بين فكرة "دولة المواطنين" ومشروع الدولة الواحدة، وهي صلة مُشار إليها بشكل عام جدًا في البرنامج الرسمي للحزب (لأسباب تتصل بقوانين تسجيل الأحزاب في الدولة العبرية)، من منطلق الوعي بحتمية تغيّر المشهد السياسي وما يقتضيه من تهيؤ دائم لتجديد البرامج والفكر والمواقف.

سأضيف إلى هذه الورقة، المقدمة الى اللجنة المركزية، في هذا الكتيب، مداخلة حول وضع ودور عرب الداخل في الصراع وفي النضال من أجل الأهداف الوطنية والديمقراطية، لتكون كمساهمة في النقاش والتفكير، حول طبيعة دور هذا الجزء من شعب فلسطين في المشروع الوطني الديمقراطي. وهي مهمة تتصل أيضًا بمسؤولية كل فلسطيني له علاقة مباشرة بالنضال أو بعملية صياغة الرأي العام.

 

 

 

 

 

 

مأزق التسوية وآفاق الدولة الواحدة

ملاحظات على الوضع الفلسطيني الداخلي

هل كان يمكن لأحد، من رواد الثورة الفلسطينية المعاصرة، وحركة النضال الوطني التحرري العربي، أن يتخيّل أنه بعد مرور أكثر من أربعين عامًا على انطلاق هذه الثورة، وعدة عقود من النضال والتضحيات الهائلة، تتحول من حركة لإعادة نصف الشعب الفلسطيني المهجر إلى وطنه وهزم الصهيونية، إلى سلطة مرتبط بقاؤها بالتسوّل من حلفاء اسرائيل، وبالتنسيق الأمني مع الاحتلال؟

هل كان يمكن لأيّ منا، أن يتخيل أن يتحول شعار تحرير فلسطين، وإقامة دولة ديمقراطية واحدة للجميع، عبر النضال والمقاومة، إلى مطلب دولة على 22% من الوطن، والاستعداد للمساومة على حق اللاجئين وإخراج فلسطيـنيّي الـ48 من دائرة الحلّ، على يد سلطة أو نخبة من قادة الثورة لا تألو جهدًا من أجل تجنب خوض الصراع مع الاحتلال، بل تمنع من يحاول ذلك وتقمعه، وتستبدل ذلك بالمفاوضات العبثية كطريق وحيد في ظل ميزان قوى مختل لصالح العدو؟

منذ سنوات طويلة نشهد النتائج المأساوية لنهج غريب عن حركات المقاومة. عالم كامل من الثقافة والقيم، والسلوكيات والرؤى، كونته نخب مكافحة وقوافل من المناضلين، وجموع من الشهداء، ينهار أمام أعيننا. ماكنة إعلامية ضخمة، مسنودة من الداخل والخارج، وبدعم مالي وسياسي كبير، تعمل ليل نهار من أجل أن لا يكون هذا التراجع أو الانهيار مؤقتًا، بل من أجل أن يصبح راسخًا، وجزءًا عضويًا من مشهد التضليل والنفاق العالمي، وأن يطوق ويحتوي إرهاصات لظاهرة مقاومة عربية (لبنان، العراق) بدت مرشحة لإيقاف التدهور العربي وفرملة ترويض الذهنية العربية.

في فلسطين، وعلى خلفية هذه الانهيارات والإخفاقات والتي طالت أيضًا أوساط اليسار والتيار الديمقراطي، نهضت حركة فلسطينية، ذات أيدلوجية دينية إسلامية، تحركت من خانة الدعوة لأسلمة المجتمع، إلى خانة النضال ضد الاحتلال تحت ضغط حركات المقاومة الوطنية-العلمانية. وتحولت منذ الانتفاضة الأولى – انتفاضة الحجارة إلى عنصر أساسي في المقاومة الشعبية وحظيت بالاعتراف الفصائلي والشعبي. طـُويت صفحة الاتهامات (وهي صحيحة) التي كانت توجه إليها، باعتبار أن الاحتلال غضّ النظر عنها، بل سمح لها بأن تنمو وتكبر منذ نهاية السبعينيات لتواجه حركة فتح، كبرى فصائل المقاومة، بل رائدة المقاومة، وبقية فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت ترى فيها إسرائيل منظمة إرهابية، يعاقب من يتعامل معها بالسجن أو القتل أو الملاحقة. بل كل من كان يُضبط وهو يرسم اختصارها بالإنجليزية PLO على الجدران، كان يتعرض للسجن. وللمفارقة، إن من علامات المشهد الراهن، أن هذه المنظمة التي كانت تقضّ مضاجع إسرائيل والصهيونية - وبعد اتفاقية أوسلو- تحولت إلى منظمة معترف بها إسرائيليًا ودوليًا، بعد أن تمّ إفراغها من مضمونها الكفاحي والأخلاقي. وقد شطبت بنود أساسية من الميثاق الوطني، ميثاق منظمة التحرير، في المؤتمر الـ22 للمجلس الوطني في قطاع غزة، بحضور الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون عام1996 وأصبحت أداة في يد سلطة الحكم الذاتي. أما حركة حماس، المتهمة بتشجيع إسرائيل لها أيام العمل الدعوي المعزول عن مقاومة الاحتلال، فقد أخذت مكان منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المقاتلة. وأصبحت العدو اللدود لإسرائيل التي قتلت واغتالت العشرات من قادتها في العقدين الأخيرين.

لم يأت ظهور حركة المقاومة الإسلامية إلى ساحة الصدام مع المشروع الكولونيالي الصهيوني من فراغ. فقد شهدت الحركة الوطنية الفلسطينية تجليات أو مراحل ثلاثًا منذ الخمسينيات؛ القومية العربية (حركة القوميين العرب) التي ارتبطت رؤيتها بالتحالف مع طلائع الأمة العربية، باعتبار أن قضية فلسطين هي قضيّة عربيّة والصراع هو عربي-صهيوني، وليس فلسطيني- صهيوني. والشكل الثاني، الوطنية الفلسطينية بقيادة حركة فتح وبقية منظمات المقاومة، التي أخذت زمام المبادرة من الأنظمة العربية خاصة بعد فشلها في تحقيق التحرير. الشكل الثالث، الوطنية الدينية-الإسلامية بقيادة حركة حماس. ويلاحظ دارسو المسيرة الفلسطينية أن الفارق الزمني بين هذه التجليات أو التمظهرات للوطنية الفلسطينية هو عشرون عامًا، وأن كل مرحلة من هذه المراحل تعود إلى إخفاق المرحلة السابقة في تحقيق الهدف. كما أنهم لاحظوا أن كل طرف كان يبدأ بالهدف الأقصى – تحرير فلسطين – ثم ينتهي إلى دولة في الضفة والقطاع.

كانت اتفاقية أوسلو عام 1993 تعبيرًا عن أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية والطريق المسدود التي وصلت إليه، لظروف دولية وعربية بائسة ولأسباب ذاتية تتعلق بكيفية إدارة الثورة والمقاومة. وتمثلت هذه الظروف في انهيار الاتحاد السوفييتي والعدوان الأمريكي-الأوروبي على العراق (بالتعاون مع أنظمة عربية)، وتفاقم أزمة النظام العربي الرسمي الى الحضيض. وعلى عكس تطلعات الموقعين على الاتفاقية من الفلسطينيين، فقد أكّدت الفترة اللاحقة الأهداف الحقيقية لإسرائيل ألا وهي تثبيت المشروع الكولونيالي في الضفة والقدس، وتصفية القضية الفلسطينية وجوهرها – قضية اللاجئين. كما كشفت في الوقت ذاته عدم نضج النخب الفلسطينية الموافقة والمؤيدة لاتفاقية أوسلو، وعدم أهليتها لإنتاج نظام سياسي مختلف عن الأنظمة العربية – سواء من ناحية بناء المؤسسات أو من ناحية التعامل مع قضايا الناس. وقد كان إعادة إنتاج نظام عربي فاسد على جزء من أرض فلسطين، أحد دوافع النقمة الشعبية على السلطة وتفجير الانتفاضة الثانية. تجلت نتائج اتفاق أوسلو أمام الناس، في كون القيادة أخفقت في تحرير الأرض وفي إقامة نظام سياسي عصري. وقد تكونت شرائح منتفعة في السلطة واتسعت دائرة الأوساط المرتبطة بها، والتي أصبح لها ارتباطات مصلحية مع الاحتلال. كل ذلك قاد إلى خلق وعي مصلحي داخل السلطة، لدرجة أن بعض رموز هذه الأوساط، خططت وظلت تتآمر على الرئيس ياسر عرفات، حتى بعد ارتكابه خطأ أو خطيئة أوسلو، بسبب رفضه العروض الأمريكية وبسبب استمرار تمسكه بورقة المقاومة، إلى جانب تمسكه بورقة المفاوضات. وهذا الفرق هو هام بين عرفات وبين القيادة التي خلفته بضغط أمريكي، والتي يتسم نهجها برفض خوض الصراع ضد الاحتلال، والاكتفاء بالتفاوض العبثي، الذي تحول إلى تمارين فكرية مع قادة الاحتلال. لقد عوقب الشهيد ياسر عرفات بالاغتيال بالسمّ، بسبب هذا الفرق على مستوى التعامل مع إسرائيل.

المعارضة الفعلية لاتفاقية أوسلو

لقد عارضت معظم الفصائل الفلسطينية اتفاقية أوسلو، وعارضتها شخصيات تاريخية داخل حركة فتح. ورفضت المشاركة في الانتخابات للمجلس التشريعي عام 1994. ولكن المعارضة الفعلية صدرت عن حركة حماس. وقد لجأت الحركة إلى العمليات الانتحارية بعد مذبحة الحرم الإبراهيمي، وهي العمليات التي أثارت جدلاً على الساحة الفلسطينية حول توقيتها وجدواها، خاصة بعد أن تصاعدت في السنوات اللاحقة وبعد تصاعد وحشية المحتل. وقد جوبهت المعارضة الحمساوية وعملياتها ضد إسرائيل قبل انفجار الانتفاضة الثانية، بملاحقة من السلطة الفلسطينية وزج العديد من قادتها في السجون، عملاً بروح اتفاقية أوسلو التي تنصّلت من العنف، أي المقاومة، كوسيلة لتحقيق الأهداف الفلسطينية. ولكن ياسر عرفات استطاع أن يحافظ على مستوى من العلاقة مع قيادة حماس، ولم يسعَ إلى كسر شوكتها. ربما كان يحتاجها للضغط على إسرائيل من أجل دفعها لتنفيذ بنود اتفاقية أوسلو.

غير أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية وطابعها المسلح وعدم الاستعداد لها مسبقًا، وغياب الإستراتيجية الواضحة، الميدانية والسياسية – أدخلت الساحة الفلسطينية والعلاقة مع الاحتلال إلى حالة جديدة. لا شك أن العمليات داخل إسرائيل ألحقت بها أضرارًا بشرية ومادية غير مسبوقة، خاصة في السنوات الثلاث الأولى بعد الـعام 2000. ولكن الردّ الإسرائيلي كان قاسيًا وغير متناسب، مما دفع البعض إلى نقدها من زاوية الجدوى، والبعض الآخر من الزاوية الإنسانية.

ويمكن القول إن الانتفاضة الثانية، أعادت الاعتبار للسلطة الفلسطينية  بقيادة الشهيد ياسر عرفات – إذ أعادت صورة الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة وخاصة حركة فتح، حزب السلطة، التي بدت للخارج قبل ذلك كمتعاونة مع الاحتلال ووكيل له، إلى صورة حركة تجابه الاحتلال ودباباته وجنوده وتقدم التضحيات الهائلة بالأرواح، بطريقة بطولية في بقعة جغرافية  صغيرة. وقد زُجّ الآلاف من حركة فتح في السجون الإسرائيلية، إلى جانب المناضلين من الفصائل الفلسطينية الأخرى كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي اغتالت إسرائيل أمينها العام الشهيد أبو علي مصطفى بصاروخ طائرة.

ولكن غياب الإستراتيجية الفلسطينية الموحدة، وغياب التوافق والتنسيق داخل الحركة الوطنية، خاصة بين السلطة وحماس أضاع فرصا كبيرة وتاريخية لاستثمار الانتفاضة بصورة أفضل. إن الدخول في عملية كسر عظم مع الاحتلال كان خاطئًا. أولاً لأنه لا يجوز أن يظهر الفلسطينيون وكأنهم دولة يجابهون دولة، وثانيًا كان من الخطأ تحييد الجماهير الشعبية عن المقاومة، فاقتصرت المقاومة على أفراد فدائيين ضحوا بأنفسهم نيابة عن جموع الشعب. وهذا ساعد الاحتلال على استئصال غالبية القيادات من مختلف الدرجات، إما بالاغتيال أو بالاعتقال.

حركة المقاومة الإسلامية والمأزق الراهن

لم تنمُ حركة حماس إلا على خلفية الإخفاقات لمنظمة التحرير، والتيار الوطني القومي عمومًا. وقد اكتسبت شعبيتها لأسباب أهمها: عملها الدعوي والاجتماعي والتحاقها بالمقاومة ضد الاحتلال، وكونها لم تكن مشاركة  في السلطة التي غرقت بالفساد. وبغض النظر عن الموافقة أو الاختلاف على أيديولوجيتها، وعلى تكتيكاتها، فإن نموّ قوّتها وفعاليتها فرمل عملية التطبيع مع الاحتلال، التي كانت تتخذ مسارًا تصاعديًا. ولكن حماس نشأت كحركة دينية، وخارج الوطنية الفلسطينية التقليدية المعروفة بمفاهيمها، ومفرداتها السياسية والمدنيّة. كان الجهاد ببعده الإسلامي-الأممي، هو الطاغي على خطابها. وكانت تتعامل مع فلسطين بلغة دينية – كوقف إسلامي وغيره.

لقد بدأت حماس تغيّر من مقاربتها لهذا الاختلاف، أو التمايز بينها وبين الحركة الوطنية الفلسطينية منذ أوائل التسعينيات. إذ لم تعد قادرة على تجاهل الوطنية الفلسطينية ومفرداتها، والتجربة الفلسطينية التاريخية، ولاحقًا شعرت أنها كمقاومة تدفع الثمن الكبير، وهي غير مشاركة في القرار الفلسطيني الرسمي. فكان لسان حالها يقول نحن نستشهد وهم، أي السلطة، يستحوذون على القرار.

يتجاهل البعض أن حماس، مرّت بتحولات على مستوى الخطاب السياسي في العقد الأخير، وأصبحت أكثر براغماتية. وأصبحت تعتمد مصطلحات سياسية مدنية – وقد يكون قبول فكرة الدولة في الضفة والقطاع المعلم الرئيسي لهذا التحول، بغض النظر عن كيفية وصفه – تراجعًا أو عقلانية. جرى ذلك ربما، لأسباب تتعلق بطبيعة نهج حركة الإخوان المعروف ببراغماتيته المفرطة أحيانًا، أو تحت ضغط الواقع وحاجات الناس اليومية، ومؤخرًا تكيفًا مع الظروف الدولية، ومتطلبات إدارة الصراع مع الاحتلال ومواجهة المجتمع الدولي (أمريكا وأوروبا).

ولكن المأزق الكبير الذي دخلته حماس، هو قبولها دخول السلطة؛ والأمر الذي يتناقض مع حركة مقاومة؛ فكيف يمكن التوفيق بين سلطة ومقاومة عسكرية – خاصة وأن هذه السلطة مرتبطة باتفاقات أوسلو مع إسرائيل! ولذلك هناك من يرى أن ذلك كان خطأً فادحًا من جانب حماس، وكان عليها أن تكتفي بالدخول إلى المجلس التشريعي، وتظل معارضة تراقب أداء السلطة. ولكن تبين أن الفوز كان مفاجئًا لها، ولم تكن مهيأة للدخول إلى نظام سياسي، كانت تشكك فيه وتناصبه العداء وتعتبره من إفرازات أوسلو.

ونظرًا لعدم الاعتراف الدولي (الغربي) بنتائج الانتخابات، ومن جانب الاحتلال، والحصار الذي فـُرض على حكومة حماس. وبعد مفاوضات سياسية مع قيادات حركة فتح، حول كيفية تشكيل الحكومة وحول برنامجها السياسي، والمحاولات التي جرت بضغط من الخارج، لإجبارها على الاعتراف بإسرائيل وبالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، أدركت حماس المأزق الذي أدخلت نفسها فيه، إذ أنها اضطرت أن تقدم تنازلات سياسية (اتفاق مكة) لتبقى في السلطة.

وهنا من الخطأ أن يُعرض مأزق حماس، وكأنه نابع فقط من كونها تريد أن تكون في السلطة، وأن برنامجها المقاوم ليس إلا وسيلة للوصول إلى هذه السلطة.. وكما قال أحد قيادات حركة فتح؛ "ان حماس كانت أسرع من فتح في مسيرة التدهور على المستوى السياسي وعلى مستوى إدارة الحكم".

إن الموضوعية تقتضي، أن نرى أن الخلاف بين حركة المقاومة حماس مع قيادة السلطة الفلسطينية، ليس فقط أيديولوجيا وإستراتيجيا بل أيضًا تكتيكيا ومبدئيا، يلتقي مع الخلاف بين موقف فصائل يسارية في منظمة التحرير الفلسطينية، وموقف ونهج السلطة الفلسطينية المتعلق بطريقة التفاوض وإدارة الصراع مع إسرائيل. بطبيعة الحال هذا لا يعني أن الصراع المسلح، الذي خاضته حركة حماس ضد إسرائيل، كان يخضع لإستراتيجية سليمة ولترشيد، يأخذ بالحسبان ميزان القوى وتوقع حجم الردّ الإسرائيلي على نوع معين من العمليات، خاصة تلك الموجهة للمدنيين. ولكن المشكلة الأكبر هي لدى السلطة الفلسطينية، برئيسها وفريقه المساعد والموجّه، والتي بدت وكأنها أخذت قرارًا إستراتيجيا بالانسحاب من الصراع.. ليس بشكله المسلح فحسب، بل حتى في شكله الشعبي السلمي – على نمط الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي انفجرت في أواخر عام 1987. والأخطر هو استمرار تعاونها وتنسيقها الأمني المنهجي مع قوات الاحتلال لفرض ا"لأمن" في الضفة الغربية، أي قمع المقاومة. وهذا ليس خطأ بل خطيئة.

ومع تصاعد حدة الخلاف الداخلي داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، وبعد حصول الحسم العسكري في قطاع غزة وهو خطأ إستراتيجي، ازداد التدخل الخارجي، وبشكل خاص الأمريكي الذي كان يهدف إلى إغواء القيادات الفلسطينية بالتشبث بالسلطة وبالمفاوضات، وبنفس الوقت بقبول إعادة بناء الأجهزة الأمنية للحفاظ على الأمن الداخلي والأمن الإسرائيلي، وقمع كل من يعكـّر صفو هذا الأمن. كل ذلك مقابل وعود أمريكية بالضغط على إسرائيل، ولإقامة الدولة الفلسطينية التي لم تحدد ماهيتها أو حدودها أو فضاؤها.

 

الخيارات والبدائل الأخرى

من الواضح أن خيار التسوية والمفاوضات في ظل ميزان القوى الحالي، والمجرد من ورقة المقاومة أو من أي خيار سياسي آخر، وصل إلى طريق مسدود. وقد فاقم هذا المأزق أو جعله أكثر وضوحًا، وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في إسرائيل بزعامة بنيامين نتانياهو عام 2009. كما أن خيار المقاومة أو خيار الجمع بين المقاومة والسلطة، أيضًا وصل إلى طريق مسدود بسبب غياب الإستراتيجية الموحدة.

إذًا، إذا تتبعنا مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ انطلاقها، نرى التدرج في التراجعات المستمرة، من شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر وعودة اللاجئين، إلى الدولة العلمانية الديمقراطية على كل فلسطين، إلى الدولة المرحلية عام 1974، إلى حل الدولتين أو "دولتين لشعبين" (وهو يختلف عن حل الدولة المرحلية كونه يعني الاعتراف بإسرائيل وضمنًا بيهوديتها)، إلى سلطة الحكم الذاتي – حسب اتفاقية أوسلو الذي اعترف بإسرائيل وضمنًا بيهوديتها، والآن سلطة في قطاع غزة وسلطة في رام الله – كيانان فلسطينيان متنازعان على سلطة تحت الاحتلال.

ولا بدّ أن نرى التراجع الآخر المرافق؛ تحول قضية فلسطين من قضية عربية باعتبار أنها بلد عربي محتل يقتضي تحريره، إلى قضية نزاع على حدود، ومن قضية صراع عربي – صهيوني إلى قضية صراع فلسطيني إسرائيلي. ومن الاستعانة والاستناد إلى الدعم العربي الشعبي والرسمي وقوى التحرر والديمقراطية في العالم، إلى الاستعانة والتعويل على ما يسمى بالمجتمع الدولي – والأصح على حليف إسرائيل الرئيسي – الإمبريالية الأمريكية. والأسوأ تحول سلطة أوسلو، وهذه نتيجة منطقية لهذا المسار، إلى سلطة يعتمد بقاؤها ووجودها على معونات الدول المانحة أو على التسوّل، وعلى خضوعها لشروط لعبة هذه الدول القائمة المستندة إلى ميزان القوى القائم، كمرجعية للمفاوضات الجارية منذ أوسلو. وهي مرجعية بديلة عن القرارات الدولية، التي نصت على أن الإحتلال عام 67 والمستوطنات، غير شرعي.

هذا المسار التفاوضي منذ أوسلو، يجري اسميًا تحت شعار "الدولتان"، وبعضهم يُحبّ أن يقول "دولتين لشعبين" مع كل ما يعني ذلك من تكريس للطابع العنصري لإسرائيل، واستثناء أكثر من نصف الشعب الفلسطيني من الحل – وهم اللاجئون وعرب 48.

فما هو مصير شعار الدولة المرحلية، أو شعار "الدولتين" أو شعار "دولتين لشعبين"، بعد عشرين عامًا من التفاوض على هذا الخيار؟ وهل أصلاً كان هذا الخيار صحيحًا؟ وهل عدم تحققه كان فقط لعدم صحته أو واقعيته، أم لأنه افتقد إستراتيجية العمل الملائمة؟

ربما كانت هذه الصيغة واقعية قبل عقود، أو على أثر احتلال إسرائيل للضفة والقطاع، لو كان هناك تخطيط سليم لإستراتيجيات النضال. ولكن الوقائع الاستيطانية الضخمة التي تسارعت على الأرض دون توقف، تجعل هذا الحل يبدو اليوم أمام الكثيرين غير واقعي، حتى لدى بعض من تبنوا حل الدولتين. بل يظهر أنه لا يقل طوباوية عن حل الدولة الواحدة.

إن النخبة الفلسطينية التي أدارت المفاوضات أو قادت هذا المسار، لم تدرك حقيقة المشروع الإسرائيلي أو الحل الصهيوني النهائي. ففي الوقت الذي كانت إسرائيل تفاوض الفلسطينيين على الحل، كانت إسرائيل تصوغ حلاً آخر كليًا على الأرض، ينسجم مع الرؤية الصهيونية مع تعديلات غير جوهرية عليها. إن اتفاقية أوسلو بالنسبة لإسرائيل لم تكن مؤقتة كما كانت بالنسبة لقيادة منظمة التحرير. لقد كانت هي الحل النهائي. وإلا لماذا تواصل الاستيطان وتضاعف في السنوات الخمس الأولى بعدها؟

وما يجري على الأرض، هو الحل النهائي الصهيوني – تثبيت الكتل الاستيطانية الكبيرة، وتهويد القدس، وإقامة معازل، والجدار العنصري الفاصل لفرض القبول بصيغة تتراوح بين حكم ذاتي ودولة منقوصة السيادة ومجزأة ومقطعة الأوصال – باختصار ليست دولة.

إن الرؤية الصهيونية تقوم على أساس أن كل فلسطين هي أرض يهودية، والمشكلة التي تحتاج إلى حلّ هي الكم العربي فيها، الذي يمكن بفضل تكاثره أن يخلق أو يؤدي إلى حالة من الاختلال الديمغرافي، الذي من شأنه الإطاحة بالطابع اليهودي للدولة.. وربما بالدولة كلها. طبعًا عودة اللاجئين إلى الدولة غير واردة إطلاقًا.

إن مشكلة منح المواطنة أو عدم منحها للسكان الفلسطينيين الباقين في المناطق المحتلة عام 67، هي المعضلة التي تسعى إسرائيل إلى حلها منذ اتفاقية أوسلو. الأمر الذي يجعل الحكم الذاتي الموسّع، هو الشكل الأقصى لسلطة فلسطينية في إطار دولة يهودية تسيطر على كل فلسطين – ما دام الفصل مستحيلاً بسبب الاستيطان.

هكذا أصبحت الدولة الفلسطينية الافتراضية جزءًا من جسم الدولة اليهودية، ويمكن القول إن هذه الدولة ابتلعتها وقطعتها في أمعائها.

هذه النتيجة المأساوية هي التي أسست لطرح فكرة الدولة الواحدة مجددًا، وبالتحديد ثنائية القومية عند عدد من المثقفين الأكاديميين اليهود ممن كانوا يعتبرون يسارا صهيونيا. ودولة ديمقراطية علمانية وأيضًا ثنائية القومية عند أوساط أكاديمية ومثقفة فلسطينية.

إذن إن فكرة الدولة الواحدة على اختلاف مضامينها أو طبيعتها؛ ثنائية القومية، أو دولة ديمقراطية علمانية تقوم على المواطنة الفردية أو دولة كونفدرالية، تعود بقوة وبصورة منهجية إلى طاولة النقاش الأكاديمي بشكل خاص، ولا نقول إلى ساحة النضال. وبدأ التعامل مع الفكرة من جانب الفئات المثقفة يتخذ شكلاً جديًا، من حيث التحليل والدخول في المبررات والتسويغات، وفي المضامين أيضًا وكيفية تحقيقها.

ويُمكن ملاحظة التحول المتزايد بين النشطاء اليهود (إسرائيليون وغير إسرائيليين)، باتجاه الحديث عن مستقبل مختلف للفلسطينيين واليهود: دولة ديمقراطية واحدة للجميع.

فالكاتب اليهودي المعروف والمحاضر في جامعة نيويورك، توني جات، عبّر عن هذا التحول في مقال أثار ضجة وهجمة عنيفة من جانب مناصري اسرائيل واللوبي الصهيوني، متهمين إياه بكراهية الذات وذلك في صحيفة نيويورك تايمز، عام 2003. جاء فيه "لقد حان الوقت للتفكير فيما لم يكن بالإمكان التفكير به" وأضاف: "نحن نقوم بتأجيل الخيار الأصعب الحتمي، فقط، أقصى اليمين وأقصى اليسار يعترفان، أن الخيار هو بين إسرائيل الكبرى المطهرة عرقيًا أو دولة واحدة للجميع". واعتبر أن إسرائيل تقادم عليها الزمن.

أما الناشط اليساري حاييم هنغبي، الذي أيّد إتفاقية أوسلو وتراجع عنها بعد سقوط الأوهام؛ واليوم يؤيّد دولة واحدة يقول:

"بدل أن يؤدي الصراع إلى خلق نظام أخلاقي وتفكير عقلاني، فقد جعلهم (أي الإسرائيليين) مدمنين على استعمال القوة، ولكن هذه القوة استنفدت نفسها. إذا استمرت اسرائيل كدولة كولونيالية فلن تعيش. في نهاية المطاف فإن المنطقة ستكون أقوى منها، وفي النهاية سيكون أصحاب الأرض الأصليون أقوى من إسرائيل. أولئك الذين يعيشون بالسيف سيموتون بالسيف".

وهناك الأسماء المعروفة، المؤيدة لهذه الفكرة، أستاذ الجامعة يهودا شنهاف، تل أبيب، ألان بابي الذي ترك الحزب الشيوعي الإسرائيلي ورؤيته للحلّ، وهو الأستاذ المطرود من جامعة حيفا بسبب مواقفه الجريئة، د. أمنون راز، أورن يفتحئيل، من جامعة بئر السبع، ميرون بنفنستي، نائب رئيس بلدية القدس في سنوات الثمانينيات، وحاييم بريشيت من جامعة لندن والعشرات غيرهم. غير أن هذه الفكرة لا تزال محصورة بين نخبة، ولا يوجد هناك حتى الآن تيار يهودي إسرائيلي وازن