القومية و حلم الحرية والعدالة الإجتماعية والحداثة

 

التجمع الوطني الديمقراطي – دائرة التثقيف المركزي

 

القومية وحلم الحرية والعدالة الإجتماعية والحداثة

 

-------------------------------------------------------------------

القومية

 

مقدمة

هذا هو الخطاب الثاني الذي نتقدم به اليكم أيها الشباب، أبناؤنا، بناتنا، إخواتنا، علـّه يكون متكأً تستندون إليه في مشواركم، نحو الحداثة والحرية، والكرامة والعدالة وبناء المجتمع الحر الذي يزول فيه الإضطهاد القومي والتأخر الإجتماعي، ويتساوى فيه الأفراد، خاصة بين المرأة والرجل، تحت مظلة جماعية واحدة، تظلل كل شعوب الأرض. هي مظلة القومية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية.

         هذا هو حلم الإنسان منذ فجر البشرية، بأن يكون لحياته معنى، وأن تبنى على قيم أخلاقية في صلبها، أن يكون جزءاً فاعلاً في الجماعة، وفي الوقت ذاته فرداً مستقلاً قادراً على التفكير الحر وإطلاق طاقاته لصالح المجموع ولصالح ذاته. هذه هي المعادلة التي يسعى إليها كل إنسان واع ومتنور ومسؤول.

        لقد جاءت هذه المعادلة أي الجمع بين مصلحة الجماعة ( القومية ) ومصلحة الفرد، حصيلة كفاح طويل سالت خلاله أنهار من الدماء، وحصيلة إجتهادات وإبداعات مفكرين وفلاسفة وسياسيين دفع الكثير منهم حياته شنقاً أو قتلاً أو إغتيالاً أو إعتقالاً.

      إن حاجة مجتمعنا العربي لهذه المعادلة وفكرة الجمع بين القومية والمواطنة الديمقراطية ليست أقل من أي مجتمع أخر. لأن مجتمعنا يعيش حالة تأخر إجتماعي وثقافي مثل كل المجتمعات العربية رغم التغيرات الكبيرة التي حصلت فيه، و رغم إزدياد عدد المتعلمين والمفكرين والمثقفين.

     لقد نبعت فكرة تقديم هذه المادة عن القومية بطريقة مبسطة ومتسلسلة في كراس صغير، لتسهيل الإلمام بالفكرة القومية، عبر التعرف على جذورها التاريخية؛ كيف نشأت وكيف تطورت، وكيف وصل الحال بها الى اليوم، وماذا تعني بالنسبة للأمة العربية من المحيط الى الخليج، وماذا تعني بالنسبة للمجتمع العربي الفلسطيني داخل ' إسرائيل '. إنها تهدف الى تنظيم تفكيرنا وفهمنا لظاهرة تاريخية لعبت دوراً حاسماً في تاريخ البشرية.

فعلى الرغم من مرورعشرة أعوام على إقامة التجمع الوطني الديمقراطي ' داخل الخط الأخضر '، وإعادة تنظيم التيار القومي بحلة جديدة ومبتكرة وحديثة وإعادة بعث الإعتزاز بالإنتماء الوطني للشعب الفلسطيني وبالإنتماء القومي للأمة العربية، فلا زال هناك من يتهّكم على الفكرة ويستهزئ بالقومية وبالعروبة. و ينقسم المتهكمون  إلى ثلاثة: القسم الأول، بعض أصحاب التيار الإسلامي الأصولي الذين يقولون أن هناك تناقضاً بين العروبة والإسلام في حين أن العروبة والإسلام توأمان لا ينفصلان. وقسم ثان شيوعي أصولي عجز عن فهم علاقة القومية بالأممية وحاجة المجتمع العربي إليها. وقسم معاد لأنه جاهل بالفكرة ونشأتها.

إن القومية، ليست ديناً نزل من السماء، إنما هي ظاهرة تاريخية، نشأت عبر التاريخ وعبر تفاعل الإنسان مع أفراد المجموعة وتفاعله مع الطبيعة، أي عبر النشاط  الذي قام به الإنسان من أجل الحفاظ على وجوده وبقائه ومن أجل سد حاجاته المادية والروحية وتحقيق الحد الأدنى من الأمن الإجتماعي والسلام الداخلي. ولأنّ الإنسان يختلف عن الحيوان ولا يكتفي بالحاجات المادية، أي أنه لا يكتفي بالأكل والشرب والعمل، نشأت مع مرور الزمن حاجات روحية مثل.الإستئناس بالعلاقات مع أفراد المجموعة، الذين يطورون عبر هذه العلاقات طرق للإستمتاع مثل الرقص والغناء والشعر والأدب والفنون المختلفة كالمسرح وغيرها كما نشأة الرابطة العاطفية أو النفسية بين أفراد المجموعة التي عُرفت فيما بعد بالمشاعر القومية. وهذا ما يسمى ثقافة الشعوب أو الهوية الثقافية أو الهوية القومية.

كل ذلك يتم في إطار المجموعة التي تتحدث لغة واحدة، وتعيش على أرض مشتركة. وفي مجرى حياة الجماعة تحدث تناقضات وصراعات داخلها وتنفصل الى مجموعات أصغر، عشائرية أو مذهبية أو غيرها وقد ينشب بينها اقتتال وحروب دائمة. وتنشأ الحاجة الى توحيد عدد من المجموعات ذات الصفات المشتركة، صفة اللغة والتاريخ والحضارة والأرض المشتركة. من أجل ذلك تنشأ حركة سياسية يقودها أكثر أفراد القوم وعياً وشجاعة ومعرفة، لتوحيد القوم في أمة واحدة في إطار دولة أو إطار حكم ذاتي.

هكذا ينتقل القوم من حالة إجتماعية متأخرة، فيها تناقضات وصراعات عشائرية أو دينية أو مذهبية أو جهوية الى حالة أكثر تقدماً ويصبح إنتماء الفرد الأول الى قوميته بعد أن كان في المرحلة السابقة مقتصراً على عشيرته أو مذهبه. بطبيعة الحال تبقى العشائر والأديان داخل الإطار القومي ويستطيع الفرد أن يمارس شعائره الدينية بحرية تامة، من خلال الإحترام المتبادل مع أصحاب الأديان الأخرى. ولكن مع الوقت تضمحل العصبيات العشائرية والعصبيات الدينية وتصبح تلك الإنتماءات ما قبل القومية طبيعية ومنفتحة ويصل الناس الى هذه المرحلة عندما تنجح الحركة القومية في إقامة الأمة- الدولة. وتتاح الفرصة أمام الفرد المواطن المستقل لإنتخاب القيادة السياسية، الرئاسة وأعضاء البرلمان،  بصورة ديمقراطية. أي يصبح الفرد في الدولة متساوياً مع الأفراد الأخرين، ولا يعود الإنتماء الديني أو المذهبي أو القومي أو العشائري عائقاً في طريق تحقيق حقه في المساواة.

وهذا ما يسمى المواطنة المتساوية داخل الدولة القومية. أن القومية  بدون ديمقراطية مصيرها الفشل. ويكون نتيجتها قمع وكبت للحريات ومعاناة، حتى لو تمكنت القيادة القومية غير المنتخبة من بناء مشاريع ضخمة للدولة  أو تحقيق إنتصارات عسكرية جبارة.

إن مجتمعنا العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر هو جزء من المجتمع العربي عموماً، أي جزء من الشعب الفلسطيني والأمة العربية من المحيط الى الخليج التي تطمح أن يكون لها دولة عربية واحدة ديمقراطية ومزدهرة التي حال الإستعمار الغربي والأمريكي دون قيامها. و لأن المجتمع العربي الفلسطيني داخل إسرائيل يعيش في واقع مركب ومعقد، ولأنه أصبح أقلية بعد نكبة عام 48  وأصبح يعيش في دولة تحكمها أغلبية يهودية تميز ضد هذه الأقلية العربية، ولا تعترف بها على أنها شعب له حقوق قومية أي لغة وتاريخ  و تطلعات مشتركة مثل إدارة شؤوننا الثقافية-المتعلقة بالتعليم والمدارس والثقافة وحقنا بتخطيط مستقبلنا وبتطوير علاقتنا مع شعبنا ومع أمتنا العربية.

ولأن الأكثرية اليهودية أو الدولة اليهودية تسعى الى تفكيكنا الى طوائف والى عشائر، فإننا نحتاج بصورة ملحة الى العمل المنهجي والمدروس للحفاظ على هويتنا الجماعية وعلى خصوصيتنا الثقافية. وعلمتنا تجارب الشعوب التي عبرت هذه المرحلة ووحدت نفسها في أطر قومية، أننا بحاجة الى إقامة المؤسسات التي تستطيع أن تجسد هويتنا وتمدنا بالقوة وتمكننا من أن نصل الى أهدافنا الجماعية وتحقيق المساواة الحقيقية والكرامة القومية. وإلا سيبقى المواطنون العرب في الداخل مهمشين ثقافياً واقتصادياً وسيواجهون خطر التفكك والإنحلال.

من أجل تحقيق ذلك إحتجنا الى حزب قومي كحزب التجمع لطرح هذه الفكرة والنضال من أجل تحقيقها عبر إقناع الأحزاب العربية الأخرى وعبر مواجهة السياسة الإسرائيلية المعادية لهذا التوجه. 

بهذا الفهم التاريخي والعملي للقومية، وبهذه النظرة المستقبلية الواثقة نمضي قدماً في التمهيد لتحقيق المشروع الثقافي القومي لعرب الداخل. نسلح الأجيال الشابة بالذخيرة الفكرية والسياسية العصرية والديمقراطية لتحقيق الإنجازات ومواصلة المشوار. نحو الحرية والعدالة.

 

كيف يفهم التجمع الوطني الديمقراطي القومية؟

 

نشوء الجماعة

لا يستطيع الفرد أن يعيش بدون جماعة، والإنسان أصبح كائناً إجتماعياً وتكونت لديه مشاعر إنتماء لجماعة وأنماط سلوك وهوية، فقط من خلال العيش المشترك مع الأفراد الذين يعيش بينهم. في حياة الإنسان البدائية، كان الصراع مع الطبيعة.

صارع الإنسان من أجل البقاء. قاوم البرد والحر والفيضانات والحيوانات المتوحشة، فأقام الكهوف ليأوي إليها واخترع وسائل الصيد وجمع الغذاء. لم تكن الملكية الخاصة قد وجدت بعد، فالارض والطبيعة والشجر لم يكونوا ملكية أحد. والانسان البدائي كان يستهلك ما يجمع من غذاء ولا يدخر شيئاً لليوم التالي. هذا النمط من الحياة الاولية سمّي بالحياة المشاعية. أي يستفيد منها كل من يريد ويستطيع. ومع التكاثر الطبيعي للبشر، ونشوء الجماعات البشرية من خلال الإستقرار في مكان واحد، وتبلور حياة اجتماعية كالأسرة والقبيلة والعشيرة، وما يفرضه من تعاون بين أفراد الجماعة الواحدة، ظهرت الحاجة الى عقد اجتماعي، أي اتفاق داخل الجماعة الواحدة، تنظم العلاقة بينهم، يشرف على تنفيذه والسهر عليه ربّ الأسرة أو شيخ القبيلة أو العشيرة. الهدف من ذلك هو حل الإشكالات التي تواجه الجماعة، والتي  تنشأ بين أفراد الجماعة الواحدة، وضمان تلبية حاجاتهم الأساسية، وحماية الجماعة من جماعات أخرى. وكنتيجة لتكاثر الإنسان وتنوع طرق الردّ على تحديات الطبيعة وتنوع العلاقات الداخلية لكل جماعة وأخرى، تظهر في المنطقة الجغرافية الواحدة أو في المناطق الأخرى جماعات أخرى قد تكون مختلفة أو متقاربة في المواصفات، من حيث اللغة وطبيعة العلاقة. هكذا تنشأ القيم والعادات وانماط السلوك وطرق إنتاج الحياة المادية، أي كيفية الحصول على العيش ونمط توزيع المنتوج.

مع مرور الزمن، وانقضاء حقب طويلة، تخللتها هجرات كثيرة قامت بها هذه الجماعات، وحدوث حروب دامية بينها، في صراعها على الكلأ ومصادر الرزق، وبعد تحقق قدر معين من الإستقرار على بقعة من الأرض، بدأت في التشكل والتبلور خصائص مشتركة للجماعة، بعضها يتحول الى شعوب أو الى أقوام (من قوم) تعيش مستقرة على بقعة ارض محددة وبعضها يبقى في الطور القبلي غير المستقر. وبطبيعة الحال فإن مستوى تطور أي جماعة مرهون الى حد كبير بعنصر الإستقرار والثبات على نفس الأرض وبظهور المواهب والقدرة على الابتكار والتجديد داخل المجموعة الواحدة فضلاً عن التفاعل الخلاق مع تجارب مجموعات أو شعوب أو أقوام أخرى – سواء على مستوى فنون الحرب، أو العلم أو الإدارة أو العمران أو الصناعة الحرفية. ويسمّي علماء الإجتماع مجمل التجربة المشتركة التي خاضتها الجماعة بالحضارة أو الثقافة، أي كل ما حققته هذه الجماعة من عناصر اتصال (اللغة) وعلوم وإدارة وفنون عمرانية وقيم مشتركة. وهذا ما يميّز جماعة ما عن جماعة أخرى. وبشكل خاص اللغة والثقافة.

كما وتنشأ مع الوقت، وعبر الحياة المشتركة الزاخرة بالتحديات رابطة عاطفية بين أفراد المجموعة الذين يتكلمون نفس اللغة ويعيشون معاً على نفس الأرض. ويكافحون ويعانون معاً ويتضامنون مع بعضهم البعض. والرابطة النفسية أو العاطفية هي من العوامل الأساسية التي يقوم عليها الإنتماء للجماعة القومية.

لم يتطور الطور الإجتماعي الأول للتنظيم البشري من الأسرة الى القبيلة او العشيرة والى المملكة والدويلة أو الدولة -  المدينة وصولاً الى القومية إلا في العصر الحديث. أي بعد انقضاء مراحل تاريخية طويلة عرفت خلالها البشرية نوعين من التنظيم السياسي، المستوى المحلي القبلي او المدينة – الدولة (أثينا اليونانية على سبيل المثال) والمستوى الامبراطوري مثل الاغريق، الرومان وفارس وغيرهم، ممن جاءوا قبلهم وبعدهم. هذا لا يعني أن المجتمعات القبلية قد اختفت كلياً من العالم ففي بعض الدول التي تشكلت حديثاً، منها الدول العربية، لا تزال تحكمها عشائر بثوب عصري وبأدوات تقنية غربية مثل دول الخليج – السعودية وغيرها. وقد سبق الإنتقال الى القومية في أوروبا بالتحديد. والدولة القومية المعرّفة بناسها الذين ينتمون الى حضارة وثقافة ولغة مشتركة، وبحدودها الواضحة الفاصلة بينها وبين دول أخرى نشأت في نفس السياق، جولات من الصراع الدامي بين الأمارات والأقاليم والمجموعات ذات الصفات الثقافية المتقاربة أو المختلفة. فقد نشأت الحاجة الى وقف هذا الصراع لأن استمراره شكّل عقبة أمام تطور الجماعات وتقدمها واستقرارها وسعادتها، فأسس لهذا الإنتقال، بالإضافة الى الظروف الموضوعية، منظرون، ومصلحون، ومفكرون وسياسيون، وحركات قومية، عملوا جميعاً على توحيد الجماعات المتقاربة في اللغة والثقافة، ولكن المتخاصمة، في دولة واحدة.

 

نشوء القومية

يختلف الكثيرون حول مفهوم  القومية والموقف منها ومن بعض خصائصها ولكنهم يجمعون على أنها ظاهرة ثقافية – سياسية تشكلت تاريخياً ولعبت دوراً هائلاً في تطور المجتمع الحديث. وجاءت القومية في أوروبا نتاج تطور اقتصادي نوعي تمثل في الثورة الصناعية وما أحدثته من تغيرات هائلة في تركيبة المجتمع وقيمه وطرق الإدارة والمعاملات. وهذا لا يعني أنه لم يكن تنظير للقومية منذ البداية، إنما نشأ فيما بعد، وأصبحت هناك نظريات في القومية وبناء الأمم.

مصدر القومية في اللغة العربية من كلمة قوم أي مجموعة من الناس يشتركون في اللغة والثقافة والأرض وبينها رابط نفسي – معنوي لأنهم عاشوا معاً على بقعة من الأرض ودافعوا عن وجودهم المشترك ضد عوامل الطبيعة والأعداء الخارجيين الذين طمعوا في ثروتهم وأرضهم. والوحدة القومية نقيض التجزئة وهي طور متقدم عن الوجود الإجتماعي السابق مثل العشيرة والقبيلة والطائفة والجهوية والأقاليمية.

إن القومية ظاهرة حديثة ظهرت بداياتها في أوروبا في القرن الخامس عشر، مع عصر النهضة وظهور الرأسمالية مكان الأقطاع (مالكي الأراضي) وبداية الكشوفات العلمية والفتوحات الجغرافية مروراً بالثورة الصناعية، التي قادت الى التقدم في المواصلات والإتصالات والتعليم مما أضعف بل قوّض الولاءات المحلية والعائلية لمصلحة الشعور بالإنتماء الى مجتمع أكبر أصبح يتطلب المزيد من التفاعل والتعاون بين أفراده. إن انتشار التعليم مع تقدم النهضة والثورة العلمية والصناعية، ساهم في انتشار لغة قومية واحدة على حساب اللهجات أو اللغات المحلية. ومن هنا يرتبط ظهور القومية بالتحديث.

بكلمات أخرى، شكل ظهور القومية بقيادة الطبقة الوسطى (وهي الطبقة الواقعة بين الطبقات الشعبية والطبقات الرأسمالية) التي عبرت عن رغبتها في خلق  دولة وطنية، تجتمع فيها عناصر الشعب واللغة والحدود والمصلحة الاقتصادية المشتركة على الاقل للطبقة القائدة او المسيطرة، مرحلة متقدمة عن المرحلة التي ساد فيها الإقتتال والصراعات الداخلية في أوروبا بين سكان الأقاليم المختلفة، والإنتماءات العائلية والجهوية. وتطلب الإنتقال الى هذه المرحلة القيام بثورات ضد سيطرة الكنيسة والنبلاء والأقطاع وقمعهم للمفكرين والعلماء. وظهر مصلحون في تلك الفترة، مثل مارتن لوثر الذي حمل لواء الإصلاح الديني وتحرير الكنيسة من احتكار رجالها لتفسير الدين. وأيضاً ظهر رجال في السياسة ومهّدوا للدولة القومية مثل السياسي الإيطالي ميكافيللي وغيره. وقدمّ لوثر تفسيراً مختلفاً لدور الدين المسيحي الذي ظهر في بداياته كثورة ضد العبودية والاستغلال وضد طغيان الرومان ومن اجل المساواة بين بني البشر. لكن التغيير الجذري اللاحق الذي جرى في المجتمع الاوروبي قاده مفكرون وسياسيون علمانيون بحيث لم تكن حركة الاصلاح الديني الا مقدمة لهذا التغيير أي الإنتقال من عصر الظلمات الى عصر النور كما يسميه هؤلاء الروّاد.

  لقد وصفت عملية توحيد كل مجموعة من الأقاليم في دولة واحدة، عبر الحركات القومية، بأنها عملية توحيد أي بناء مجتمع / أمة واحدة يجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والأرض، وعملية تذرير أو تفتيت الإنتماءات الصغيرة – القبائل والطوائف. أي يتحول الفرد الى مواطن يكون إنتماؤه الأول الى قوميته أو دولته وليس الى عشيرته أو إقليمه أو طائفته أو مذهبه. وشكل هذا الإنتماء حماية له من الأعداء الخارجيين ومن العداوات الداخلية. لم يكن الفرد في العصور الوسطى كائناً مستقلاً في القبيلة، ولم يكن داخل الامبراطورية تحت حكم الامبراطور المدعوم من سلطة دينية في مراحل تاريخية مهينة أو من سلطة غير دينية سوى بُرغياً في ماكنة الحرب والغزو، لا رأي له ولا احترام لحقوقه الخاصة. لكن كيف يحمي نفسه من عسف الدولة وكيف تنتظم العلاقة بين المواطنين أنفسهم ويعرف كل واحد حدود حرّيته في ظل الدولة القومية الحديثة؟ لقد جرى ذلك عبر تطوير منظومة من الحقوق والضوابط والقوانين وفصل الدين عن الدولة.

حتى تلك الفترة، اي حتى عشية الثورة الصناعية وظهور الدولة القومية والفكرة الديمقراطية وقانون الحريات الفردية، لم تكن حدود واضحة للدول ومعترف بها بين الجماعات البشرية ، ولم يكن اصطلاح مواطن او مواطنة معروفاً بعد. فقد أوجد عصر النهضة والدولة القومية مفهوم الفرد والمواطنة المتساوية والمساواة بين الافراد وحقهم في المشاركة السياسية، ولم يعد الفرد مجرد جزء من قبيلة مجموعة بشرية تقليدية تضيع  فيها حقوقه الفردية ورأيه الخاص.

 

مرحلة الرأسمالية الجشعة

التحول الذي أشرنا اليه كان مرحلة انتقال من المرحلة الإقطاعية وهيمنة الكنيسة التي سيطر عليها رجال دين لم يمثلوا روح المسيحية الرافضة للعبودية والداعية الى المساواة بين الناس، الى مرحلة الرأسمالية -  مرحلة الإنتاج الصناعي وحرية التجارة وظهور طبقة رأسمالية التي انطلقت من مذهب الحرية الإقتصادية المطلقة.

يجب الإشارة الى أن الطبقة البرجوازية تميّزت ثوريتها بالتوجه الليبرالي. والليبرالية، التي تعني التلقائية أوالحرية الفردية شبه المطلقة خاصة في الشأن الإقتصادي. وهذه الطبقة التي ثارت ضد النظام القديم وأقامت الدول القومية الموحدة في أوروبا، أصبحت في مرحلة لاحقة وبعد أن إزداد غناها قوة إستغلال وتحولت الى طبقة رأسمالية (جشعة) تلحق بالمنتجين، أي بالطبقة العاملة، صنوفاً من القهر والبؤس. وهي بذلك تجاوزت القومية واستغلتها لصالحها. هذه الحركات كانت قومية في مرحلة ما قبل الوحدة والى أن تمت الوحدة. وكانت تلتزم بالرابطة القومية التي تنفي التجزئة. ولكنها بمجرد أن حققت الوحدة، في إطار دولة قومية واحدة، انقسمت الى قوى متصارعة على أساس طبقي. الطبقة الرأسمالية الثرية من ناحية تريد تحقيق مصالحها الخاصة وتكديس الأرباح وهو موقف مناقض لوحدة المصير القومي، والشعب أو غالبية الناس من العمال والفلاحين والتجار الصغار والموظفين ومن ناحية أخرى يُريدون أن يحققوا التقدم من خلال الرابطة القومية. بكلمات أخرى، بعد قيام الدولة بدأت تنفصل الطبقة البرجوازية، مجموعات كبرى ووسطى وصغرى.

لقد قامت الليبرالية على مقولة القانون الطبيعي للفيلسوف الانجليزي جون لوك والذي نادى باحترام حق الإنسان بالتملك وحرية الحياة والتنقل. أما آدم سميث الذي جاء لاحقاً فهو يُعتبر منظر الرأسمالية والحرية الإقتصادية الكاملة للفرد لأنه حسب مفهوم هذا القانون، تتحقق بذلك مصلحة المجتمع تلقائياً. أي حرية المنافسة المطلقة دون أن تتدخل الدولة في نشاط الأفراد. وتبقى الدولة في حدود وظيفتها الطبيعية، أي توفير الأمن الخارجي والداخلي لهم. وكان هذا يعني فتح المجال للأقوى، وسحق المتنافسين الصغار. لقد نظر جون لوك لنظرية الحقوق الطبيعية، حق الملكية وحق الحياة والتنقل. لماذا لأنه لم يكن من حق معظم الناس أن يملكوا. فقد سيطر على الانتاج وعلى الارض (قبل الثورة الصناعية) الاقطاعيون الذين تعاملوا مع الفلاحين كعبيد واستغلوهم ابشع استغلال. ولذلك كان المذهب الليبرالي الذي ناهض وتحدى النظام الاقطاعي في المرحلة الاولى خطوة ثورية ولكن بعد قرنين من الزمان تبيّنت خطورة هذا المذهب في الاقتصاد لأن الاقوياء والاكثر قدرة اصبحوا قوة رأسمالية مسيطرة، وهم أقلية، على الاغلبية الساحقة من الشعب العامل. عبر هذه العملية التاريخية نشأ النظام الرأسمالي الاستغلالي.

هكذا شكلت هذه المرحلة انتقالاً من مرحلة الدفاع عن الوجود القومي وحمايته الى مرحلة الصراع داخل المجتمع نفسه وفي إطار الكيان القومي الذي تشكل بمشاركة الجميع. وإذا كان تشكيل الأمة والدولة القومية هو بمثابة الخيار للحياة الأفضل مقارنة بالمرحلة السابقة، فإنه بعد تبلور هذا الإطار -  الدولة القومية  -  بإعتبارها الصيغة الحديثة الأفضل لإدارة المجتمع، فإنه مع نمو حاجات جديدة وتناقضات جديدة تنشأ الحاجة والمحاولات للتصدي لها، كل وفق رؤيته للعالم ولأيدلوجيته. وكل القوى التي تطرح الإصلاح والتغيير، تنادي بخدمة الشعب والأمة، سواء من خلال الإطاحة بالطبقة الرأسمالية أو من خلال تخفيف الفروقات الطبقية داخل المجتمع الواحد.

 

 

الماركسية والصراع الطبقي

مع بداية القرن التاسع عشر، وبعد ثلاثة قرون من الثورات الفكرية والإجتماعية والإقتصادية والتحرر من الإقطاع وشروره، عادت التناقضات والمظالم التي كانت سائدة في مرحلة الإقطاع لتظهر في عصر الرأسمالية. فالثورة التي كانت تستهدف تحرر الإنسان وتحقيق سعادته وكرامته، انزلقت الى أيدي طبقة من البرجوازيين (الرأسماليين) الذين أصبح همهم الأساسي تكديس الأرباح دون اعتبار لقيمة وحقوق وكرامة العامل أو الفلاح أو الحرفي الصغير.

لقد انتشرت المصانع وورش العمل الكبيرة في المدن بصورة مدهشة. واحتاجت المصانع الى الأيدي العاملة الرخيصة، والى المواد الخام بصورة دائمة الأمر الذي دفع الطبقة الرأسمالية الحاكمة بصورة مباشرة أو غير مباشرة الى الخارج لاستعمار الدول المتخلفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا وغيرها، وتحويلها الى سوق لمنتجاتها. كان مذهب الإقتصاد الحرّ يرفض أي قيد على نشاط الفرد لحركة التجارة الداخلية والخارجية. هكذا تحولت الطبقة الوسطى -  البرجوازية التي قادت الثورة الفكرية والصناعية التي قامت في الأساس على حرية الفرد والمساواة بين الأفراد والشعوب الى قوة مستغلة لشعوبها والى قوة مستعمرة لشعوب أخرى لم تصلها الثورة الصناعية.

لقد تجلت التناقضات التي تولدت مع تقدم الثورة الصناعية والإقتصاد الحر، في الخوف من الفوضى والإضطرابات التي صحبتها. لقد فقد الفلاحون أراضيهم التي ألحقت بالمزارع الكبيرة التابعة للرأسماليين الكبار. وضعفت سيطرة الطبقات الغنية القديمة، بالتحديد مالكي الأراضي والإقطاعيات، على الحكومة لتحل محلها بالتدريج سيطرة رجال الأعمال وأصحاب المصانع الكبيرة في المدن، الذين ازداد تأثيرهم في الدوائر الإقتصادية ومن ثم في الدوائر السياسية أي ازداد تأثيرهم في الحكم. ولكن الأمر المفزع كان الأعداد الهائلة من العاطلين عن العمل الذين إما كانوا فلاحين وفقدوا أراضيهم أو حرفيين صغار فقدوا أدوات إنتاجهم أمام أدوات الإنتاج المتطورة والكبيرة، كذلك أعداد عمال الصناعة الذين كانت تستأجرهم المصانع الجديدة التي كانت تنتشر بلا نظام. كانت الأمراض تنتشر بصورة كبيرة.

كان من الطبيعي أن تلفت هذه الحالة أو هذه التناقضات نظر مفكرين ومصلحين وأن يسعوا الى التخفيف من حدة هذه التناقضات أو المظالم. مثل روبرت أوين الإنجليزي وشارل فورييه وسان سيمون الفرنسيان، الذين دعوا الى نظام اشتراكي، وسميت بالإشتراكية الإنجليزية والإشتراكية الفرنسية. ولكن ظهرت بعد ذلك، وتطويراً لها بل ونقضاً لها اشتراكية كارل ماركس وفردريك انجلر الألمانيان. وسميت بالإشتراكية العلمية على اعتبار أن الإشتراكيات الأخرى كانت طوباوية ومثالية وغير واقعية لأنها لم تدعُ الى إلغاء الملكية الخاصة. والى الإطاحة بالنظام السياسي الرأسمالي القائم والى نصرة الطبقة البروليتارية.

على أية حال كانت ملاحظات ماركس ورصده لتطور النظام الرأسمالي هي التي دعته الى وضع نظرية 'الإشتراكية العلمية' التي تبيّن فيما بعد أن بعض الإفتراضات والملاحظات التي بنى ماركس نظريته عليها كانت خاطئة وأن التنبؤات التي أطلقها لم تتحقق. ولكنها كانت تحليلاً فذاً لطبيعة الرأسمالية.

ماذا لاحظ ماركس وعلى ماذا بنى نظريته التي تعتبر رغم الملاحظات عليها، عملاً عبقرياً؟

النظام الرأسمالي ينطوي على تناقضات حادة. قلة تملك وسائل وأدوات الإنتاج وأكثرية لا تملك شيئاً وتضطر للعمل عندها. غنى فاحش وتطور مذهل في الصناعة والإتصالات من جهة وفقر مدفع واستغلال فاحش. وتمظهر ذلك في بؤس العمال الذين تحولوا الى أشبه بالعبيد في المصانع التي انتشرت في المدن والذين عملوا في ظروف غير إنسانية.. عملوا لساعات طويلة وبأجور متدنية (في عصر ماركس كانت ساعات العمل 13-15 ساعة) وبدون شروط صحية وظروف سكن ملائمة وضمانات اجتماعية. كانوا مجرد براغي في الماكنات. ولقد أبدع تشارلي تشابلن في فلم الأزمنة الحديثة – في تصوير هذه الحالة -  حالة الإستغلال والإغتراب الذي يعيشها العامل في النظام الرأسمالي. والإغتراب يعني أنه لا يشعر بالإنتماء الى المنتوج الذي ينتجه أو إلى المجتمع الذي يعيش فيه.

من داخل هذه التجمعات العمالية، حيث الموت والجوع والفقر والمرض، خرجت أصوات الغضب والإحتجاج والمظاهرات. بعض العمال اعتقدوا أن الآلات هي مصدر بؤسهم. فقامت مجموعات منهم في إنجلترا بالهجوم على الآلات وتحطيمها وسموا بمحطمي الآلات. كان العمال بحاجة الى من يساعدهم على فهم واقعهم ومصدر بؤسهم الا وهو نظام الإستغلال وليس الآلات ولا الثورة الصناعية، والى من ينظمهم في النضال من أجل تخليصهم من هذا البؤس ويحقق لهم حياة إنسانية.

وقد رأى ماركس أن هذه الفترة، أو هذا المجتمع الغربي الحديث المختلف جذرياً عما سبقه يحمل في باطنه نذيراً بقدوم فترة تاريخية ثورية يقدم فيها نوع جديد من البنية الإجتماعية ينهي الصراع الطبقي ويقوّض أركان الرأسمالية.

 

 

 

الصراع الطبقي وتنظيم العمال

تشتد التناقضات في النظام الرأسمالي بين العمال الأجيرين والرأسماليين. كان الرأسمالي يسعى الى زيادة ساعات العمل لأن كل ساعة زيادة تشكل فائضاً إضافياً من الربح. كما كان الرأسمالي يلجأ الى تشغيل النساء والأطفال لأنه يدفع لهم أقل من الرجال. هذا الواقع، يرى ماركس، ينتج تناقضات تراكمت ولم يبق غير الطفرة غير أنه قبل الطفرة. أي القفزة أو الإنقلاب، يوجد صراع.

يضيف ماركس أن زيادة عدد العمال باستمرار وحرمانهم من ملكية وسائل وأدوات الإنتاج وانخفاض الأجور وتعمق بؤسهم يحولهم الى طبقة، والطبقة في نظر الماركسية ليست جموع العمال بل طبقة العمال المنظمين في صراعهم ضد أصحاب العمل والطبقة الحاكمة.. عبر اللجان العمالية والنقابات والإتحادات والأحزاب، فيخوضون المعارك لتخفيف حدة الإستغلال. ولكن نصرهم النهائي يكون بتوفير النظام السياسي والإستيلاء على الحكم وإلغاء الملكية الفردية وصولاً الى الشيوعية. وهذا لا يتحقق الا عبر وحدتهم الشاملة -  عبر حزب سياسي بروليتاري تقوده فئة من الثوريين الواعين والمدركين لمهام التغيير الثوري.

لم يقل ماركس كيف تبني الإشتراكية ولم يتحدث عن نموذج محدد سوى الأفكار العامة. ولذلك ظهرت بعده إجتهادات مختلفة حول كيفية تطبيقها، وظهرت مذاهب وتيارات متعددة، ماركسية واشتراكية عديدة. ورأينا اشتراكية صينية واشتراكية سوفييتية واشتراكية رومانية ويوغسلافية وغيرها، وكلها كانت ذات طابع قومي. ولكن لم تحصل ثورات اشتراكية في أي من الدول الصناعية المتقدمة التي اجتاحتها الثورات في القرن التاسع عشر، كما تنبأ ماركس. والذي حصل هو أن أول نموذج لتطبيق الماركسية كان في دولة متخلفة رأسمالياً وهي روسياً، عام 1917، وبناء الإتحاد السوفييتي الذي جاء انهياره بعد 70 عاماً مدوياً أمام الرأسمالية التي استطاعت رغم ما تنطوي عليه من ظلم واستغلال، أن تجدد نفسها وتتجاوز أزمتها وتتحول مؤخراً الى وحش كاسح.

ولكن لا بد من التذكير أن النظرية الماركسية والثورات الإشتراكية كانت، قبل انهيار الإتحاد السوفييتي وعلى مدار عشرات السنين، قد ألهبت حماس المظلومين في العالم باعتبارها أداة لتغيير واقعهم البائس من خلال فهم قوانين تطور المجتمع وتحقيق حلم الإنسان القديم وتطلعه الى مجتمع مثالي تتحقق فيه المساواة والسعادة. وفي القرن العشرين قامت ثورات عديدة اجتماعية وسياسية وحركات تحرر وطني ضد الأنظمة الرأسمالية وضد الإمبريالية والإستعمار، بوحي من هذه النظرية وبتأثير مبدأ حق تقرير المصير الذي طرحه نلسون الرئيس الأمريكي، في أوائل القرن العشرين (1914). وأضـْـفـَت هذه النظرية عمقاً على البنية الفكرية لهذه الحركات. ولكن التجربة العملية لتطبيق الإشتراكية الماركسية في العديد من بلدان العالم وأهمها روسيا أو الإتحاد السوفييتي، أثبتت عدم واقعية هذا الطرح. وتبين فيما بعد قصورات في النظرية وفي التطبيق، رغم دورها الهام في كشف تناقضات النظام الليبرالي الرأسمالي المتوحش وإجبار هذا النظام على إدخال تحسينات في ممارسته لصالح الطبقة العاملة والفئات الضعيفة لكن دون ان يضطر الى إتخاذ خطوات أكثر جذرية لإلغاء الاستغلال الفاحش.

لقد آمن الماركسيون بإمكانية تجريد الإنسان من نزعته في التملك، وتحويل الملكيات الخاصة الى ملكيات عامة، أي الى ملكية الشعب لكنها تحولت في البلدان الشيوعية الى ملكيات للدولة أي للفئة الحاكمة للجهاز الحزبي الحاكم. وهذا الأمر ضد طبيعة الإنسان. وبذلك تحولت القيادة الحزبية الحاكمة وجهازها الحكومي البيروقراطي المنفصل عن عموم الشعب الى عقبة امام تطور الاشتراكية وتطور المجتمع. وتحقيق العدالة الإجتماعية والحرية السياسية للفرد والشعب.

 وانتهت الأحزاب الشيوعية التي حكمت روسيا ودول أوروبا الشرقية، وأحزاب كانت في المعارضة، الى رفض الديمقراطية السياسية (التعددية الحزبية)، باعتبار أنها بدعة اخترعها الرأسماليون وآمنت ان الوصول الى الاشتراكية يتم عن طريق القوة. وحين غابت الديمقراطية السياسية، والتعددية، سيطرت الدكتاتورية والجمود والقمع. وتحولت الأحزاب الشيوعية أو بالأحرى لجانها المركزية، الى أجهزة بيروقراطية بيد الدولة الشيوعية التي تحولت الى جهاز قمع سحقت المجتمع المدني واصبح الفرد مكشوفاً كلياً امام جهازها الرهيب. وبددت الكثير من الإنجازات الكبيرة التي حققتها، وخاصة في الإتحاد السوفييتي، في المراحل الأولى من حكمها، فانهارت بسهولة أمام الإمبريالية الأمريكية.

وهذا لم يكن الحال في بداية تشكل الأحزاب الإشتراكية في القرن التاسع عشر، بل كانت الأحزاب تعلن نفسها أحزاب اشتراكية ديمقراطية تبنت مبدأ الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية ومبدأ الانتقال الى النظام الاشتراكي او نقل السلطة بصورة سلمية وبطريقة تراكمية تدريجية وليس بطريقة إنقلابية او عنيفة. على أية حال لا يزال النقاش محتدماً وجارياً بين الماركسيين وكل المعنيين بالتغيير حول أسباب انهيار التجربة الشيوعية أمام الوحش الرأسمالي – الأمريكي في الأساس، وهل لا تزال صالحة حتى اليوم، وحول كيفية مواجهة التوحش الرأسمالي الراهن الذي تمثله السياسة الامريكية في الاساس. وتؤيد الإشتراكية الديمقراطية تدخل الدولة في الإقتصاد وتوفير حمايتها للفقراء عبر الضمانات الإجتماعية والصحية كما هو الحال في بعض الدو الأوروبية والتي تحقق فيها قدر عال من العدالة الإجتماعية والحرية السياسية.

وعلى أثر انهيار التجربة تحوّلت أحزاب شيوعية عديدة وشيوعيين سابقين في الكتلة الشرقية وفي أوروبا الغربية الى أحزاب اشتراكية ديمقراطية.

ولكن بغض النظر عن سقوط التجربة الشيوعية، فإن الصراع الإجتماعي أو التفاوت في مستوى الحياة المادية والعلمية داخل المجتمعات الغربية لا يزال قائماً ويتفاقم، وكذلك بينها وبين دول الجنوب. وبالتالي فإن البحث عن الحياة الأفضل والنظام الأنجع في إدارة المجتمعات وتحقيق العدالة الإجتماعية وسعادة الانسان لا يزال يشغل كل المعنيين في تحقيق العدالة والمساواة والديمقراطية.

 

التراث التنظيمي

لقد أفرزت الدعوات الى النضال ضد النظام الرأسمالي ونظام العبودية الجديد الحاجة الى التنظيم وإقامة الحزب أو الأحزاب العمالية -  الشيوعية أو الإشتراكية لقيادة العمال والوصول بنضالهم الى مقاصده.

جاء البيان الشيوعي الذي وضعه ماركس وإنجلز عام 1848، والذي دعيا فيه الى إقامة حزب سياسي بروليتاري عمالي، في مناخ كانت مظاهر الغضب والإحتجاج تحصل بصورة عفوية وبدون تنظيم مركزي. كان ذلك يحصل في المصانع ومواقع العمل دون أن يكون بينها رابط كفاحي منظم -  أي حزب قطري يجمع الجميع في نضال مشترك ويمنحهم أكثر قوة وأكثر تأثيراً على أرباب العمل والنظام السياسي الذي يساندهم ويعبر عن مصالحهم. ومني العمال وحركاتهم الإحتجاجية بهزائم عديدة على مدى القرن التاسع عشر. وكان أبرزها ثورة 1848 التي سيطر فيها العمال الفرنسيون على السلطة وأنشأوا كومونة باريس -  الإشتراكية ولكنها هزمت بعد أقل من 4 أشهر.

وتعيّن على قادة النضال الإشتراكي التعلم والإستفادة من هذه التجارب. فبالإضافة الى روح الإقدام والشجاعة والتضحية كان النجاح في إقامة التنظيمات الثورية يتطلب قيادات ثورية مبدعة قادرة على توفير البنى التنظيمية القوية والمتماسكة ذات الإنضباط الحديدي، ومعرفة كيفية استقطاب العمال والحرفيين والتجار الصغار والموظفين والجنود، حول الحركة الثورية. وكيفية التحريض والتجنيد والدعوة الى العمل السياسي. وكذلك التعرف على نقاط قوة وضعف الخصم ، وتكتيكاته.

وقد شكل الحزب الشيوعي الروسي، بقيادة لينين، الذي سيطر على السلطة في روسيا عبر ثورة أكتوبر عام 1917 بحرب ثورية عنيفة، وأسقط الحكومة القيصرية والحكومة المؤقتة، نموذجاً للأحزاب الشيوعية في مختلف دول العالم. باعتبار أن لينين هو واضع أسس تنظيم 'الحزب من نوع جديد، وباعتباره أول حزب شيوعي ينجح في ثورة شعبية في قلب نظام الحكم الرأسمالي الأقطاعي أو الرجعي. وقد استفادت منه أيضاً قوى وتيارات غير شيوعية ناضلت ضد الإستعمار وضد الرجعية وبلادها.

على أية حال، أيضاً تبيّن أن القصورات والخلل في مبنى وطريقة عمل الحزب -  المركزية الديمقراطية -  كانت من أسباب انهيار التجربة الروسية السوفييتية. وتعني المركزية أن يكون قيادة مركزية واحدة تقود النضال ولكنها تنتخب بصورة ديمقراطية من أعضاء الحزب أو الحركة الثورية. لقد تحولت المركزية الديمقراطية، الى مركزية بدون ديمقراطية اي الى ديكتاتورية الحزب تجاه المختلفين في الرأي داخله وجرت ملاحقتهم وقتلهم، وكذلك تجاه الشعب حيث أصبحت الدولة التي تحكمها نخبة من الحزب -  محتكرة للقرار. وقد كانت أحزاب شيوعية عديدة، خاصة في أوروبا، قد أفلتت من التبعية للحزب الشيوعي السوفييتي ولمواقفه وتحليلاته وتنظيراته قبل انهيار التجربة السوفييتية بوقت طويل -  ولكن ذلك لم يسعفها، فهي لا تزال تعاني من عجز عن الخروج من أزمتها الفكرية والعملية.

 

 

الماركسية والقومية

 

تعترف الماركسية بالوجود القومي، وتدرك مسار التطور التاريخي للقومية ولنشوء الأمم والدول القومية. ولكن الماركسيين يختلفون مع دعاتها. فَهم اعترفوا بأهمية الدور التاريخي الذي قامت به الطبقة البرجوازية (الطبقة الوسطى) في تدمير الأقطاع وما مثله من إستبداد وعبودية للفلاحين في اوروبا خاصة، وبدورها في إقامة الدولة الوطنية. ولكن الماركسية تنادي بزوال الدولة لأن الوحدة القومية داخلها، في نظرها، غير حقيقية وفيها تناقضات بين الأغنياء والفقراء، أو بين الرأسماليين والعمال وكل  المنتجين، لأنها إداة قمع ضد الطبقة العاملة. وتقول ان الطبقة البرجوازية المسيطرة تستخدم الطبقة العاملة تحت غطاء مصلحة الدولة القومية لترسيخ مصالحها ولخوض الحروب الخارجية بحثاً عن الثروات والأسواق لزيادة  ارباحها. وهي اي الدولة (الطبقة المسيطرة والمحتكرة للعنف)، ليست حقيقة خالدة أو كيان منعزل عن المكان وعن التاريخ، نزل من السماء او جاء من لاشيء  بل هي منبثقة عن المجتمع، ونتاج للصراع بين قوى داخل المجتمع على مدى فترة تاريخية طويلة ومصيرها الزوال وحكم البروليتاريا العالمية في العالم.

كان لينين قد أيد قبل انتصار الثورة حق الأمم في تقرير مصيرها. وووجه بمعارضة من ماركسيين آخرين داخل حزبه واحزاب اوروبية اخرى عندما  أيّد إدخال هذا المبدأ في بيان للشوعيين الروس عام 1914. واتهمه هؤلاء بأن هذا موقف غير ماركسي. صحيح أن لينين والماركسية بشكل عام، أيدا حق الأمم في تقرير مصيرها، في مواجهة القوى الرجعية الحاكمة وفي مواجهة الإمبريالية. وساند الإتحاد السوفييتي حتى في ظل دكتاتورية ستالين الوحشية، حركات تحرر عديدة. ولكن التأييد كان تكتيكياً، أي مرحلياً، أي أن هذه الحركة بعد انتصارها عليها أن تكون في خدمة النظرية الثورية للطبقة العاملة والنضال ضد الامبريالية الامريكية. كل شيء خاضع لمصلحة الطبقة العاملة بما فيه حق تقرير المصير!!. أما التفسير التاريخي للقومية فهو كالتالي: القومية نتاج حكم برجوازية راسمالية غايتها الأساسية خلق سوق واحد والإستيلاء عليه. اي ان العامل الاقتصادي هو الدافع الاساسي.

ويتساءل المفكر العربي الاشتراكي، عصمت سيف الدولة في احد كتبه السبعة عن  - (نظرية الثورة العربية) 'لم يقل لينين على الأقل لماذا عندما اراد البرجوازيون تنفيذ خطتهم الخبيثة بإنشاء دولة قومية وجدوا بلاداً يتكلم سكانها لغة واحدة 'ويضيف' إن البرجوازيين لم يوزعوا اللغات على الناس طبقاً لحدود الاسواق التي يريدون الإستيلاء عليها'.

يجب الإشارة الى ان المسألة القومية كانت وراء العديد من الإنشقاقات والإختلافات داخل الإحزاب الشيوعية وفيما بينها، اي لم يتفق الماركسيون على موقف موحد منها مثلما اتفقوا حول شعار الإِشتراكية وان بطرق وبمضامين مختلفة.

والنقص في تحليلهم لنشوء القومية واستمرارها هو أنهم أخطأوا في تعاملهم مع القومية بإعتبار ظهورها وتطورها الى دولة - أمة، كان مقروناً بالعامل الإقتصادي اي بظهور البرجوازية الصناعية فقط وأهملوا الجوانب السياسية والثقافية والتاريخية في تشكيل الأمم. كما انهم لم يروا فيها اي دور خاص في صنع المستقبل وتبقى الأمة بالنسبة لهم مجرد وجود او إنتماء مصيره الزوال؟؟

إن قوة الظاهرة القومية فرضت نفسها على الماركسيين في اوروبا وفي كل مكان، وكذلك لم يستطع لينين قائد الثورة الروسية وخليفته ستالين رئيس الاتحاد السوفييتي تجاهل القومية داخل الاتحاد السوفيتي ونظّرا لها وفقاً للظروف الناشئة وليس انطلاقاً من النظرية الماركسية.وقام ستالين بإعادة تنظيم القوميات من جديد ومارس عملية نقل سكان من مكان الى اخر. أي قام بعملية 'هندسة' لشعوب الإتحاد السوفييتي غير الناطقة بالروسية. وعين مسؤولين روس مع فرض الروسية كلغة رسمية عليها.

وظّن ستالين ان'الثورة الشيوعية' ازالت العداوات والفروقات بين القوميات داخل الاتحاد السوفيتي فقال' إن الثورة الإشتراكية سحقت بضربة واحدة اغلال القهر القومي وازالت اسس العداوة القديمة ومهدت الطريق لتكامل الشعوب وكسبت البروليتاريا الروسية ثقة اشقائها من القوميات الاخرى ليس فقط في روسيا إنما ايضاً في اوروبا وآسيا..'.

لكن إنهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989 كشف زيف هذه التصريحات والتحليلات إذ انتفضت القوميات وانفصلت عن روسيا وتبّين ان السياسة الستالينية بخصوص القوميات كانت تعبيراً عن فرض إرادة سياسية ذاتية وهندسة ثقافية مصطنعة وقسرية.

لا يعني هذا أننا نؤيد الانفصال في كل الاحوال والتشردم والاقتتال بل كان بإمكان الحزب الشيوعي السوفييتي لو إبتعد عن الجمود الفكري، ان يقيم علاقة ندية ومساواتية واحترام خصوصيات القوميات ضمن دولة واحدة على اساس الديمقراطية في مواجهة الرأسمالية المتوحشة والامبريالية الغربية. وخاصة الامريكية التي راحت تنفرد وتتحكم بالعالم وبالشعوب النامية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الذي شكل قوة رادعة في مواجهة التفرد والهيمنة من جانب قوة كبرى واحدة.

القوميات في العالم الثالث

لقد كان للفكر القومي في اوروبا اصداؤه الواسعة والعميقة في بلدان العالم الثالث خاصة في العالم العربي منذ بدايات القرن التاسع عشر. لقد تم بعث النزعة القومية في تلك البلاد ونشأت الحركات القومية من اجل التحرر من الاستعمار وتحقيق التنمية. وقد غزاها الإستعمار الغربي حاملاً معه أدواته الحديثة وأفكاره الجديدة، ليس لتنوير وتحديث مجتمعات هذه الدول، بل من أجل تكريس وترسيخ استعماره لهذه البلاد ونهب ثرواتها.

لقد كانت ظروف هذه الدول الاجتماعية والثقافية والاقتصادية مختلفة عن ظروف أوروبا. ولذلك فإن تلك الحركات القومية لم تكن من نتاج الطبقة الوسطى البرجوازية كما كان عليه الحال في اوروبا، بل كانت تعبيراً عن إرادة شعبية في بلاد لم تعرف التقسيم الطبقي والصناعة المتطورة التي عرفتها اوروبا. ونشأت في مواجهة الاستعمار الغربي وعلى نقيض القوميات الاوروبية التي قادت الحملات الاستعمارية ضد البلدان النامية.

لم تتبنّ  هذه الحركات موضوعة الصراع الطبقي، وان اعترفت بوجود تناقض مع القوى الداخلية المرتبطة بالإستعمار الغربي. ونادت بالتصالح بين الطبقات او تخفيف التناقضات الاجتماعية. طبعاً كان من نواقص بعض التيارات القومية الاولى خلوها من مضون اجتماعي لتوجهاتها وبرامجها القومية. لم يكن لديها برامج اجتماعية واضحة أو تصور محدد لشكل المجتمع الذي تريده. فهي طالبت بالتحرر من الهيمنة التركية والغربية وبناء دولة وطنية حديثة.

كما أن هذه الحركات لم تنشأ نتيجة صراع بين سلطتين، السلطة الدينية والسلطة السياسية، كما حصل في اوروبا. بل ان العامل الديني كان اسهم بإيجادهذه الحضارات والقوميات مثل البوذية في شرق اسيا والهندوسية في الهند والمسيحية في امريكا اللاتينية.

وفي حالة الامة العربية فإن الدين والحضارة الاسلامية عنصران اساسيان في تكوين الهوية القومية العربية.

ولذلك فإن النهضويين والمصلحين العرب الأوائل تمثلت ردودهم على غزو الغرب وعلى تخلف المجتمعات العربية بمبادرات فردية للتجديد الديني – أو الإصلاح الديني. مثل الشيخ رفاعة الطهطاوي في مصر ومن ثم محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي في سوريا الذي دعا الى نقل الخلافة من أيدي الحكم العثماني الى أيدٍ عربية. أما أصحاب الإتجاهات القومية في بلاد الشام، مهد ظهور القومية العربية بفكرها الحديث، فتضمنت دعوتهم الى فصل الدين عن الدولة وبناء دولة عربية واحدة والمساواة بين أبناء الأمة الواحدة بغض النظر عن الإنتماء الطائفي والعشائري.

ظهور القومية العربية

يرى العديد من المؤرخين والباحثين العرب أن النزعة القومية – الوطنية ظهرت اولاً في بلاد الشام ولكن النزعة الوطنية ظهرت اولاً في مصر، وليس القومية العربية. ظهرت أولاً في مصر بعد الحملة الفرنسية بقيادة نابليون على مصر عام 1798. هذه الحملة، التي أحبطت بعد ثلاث سنوات من المقاومة المصرية، كانت أول لقاء مباشر مع حضارة أوروبا وفكرها. لقد وصف المؤرخون هذا اللقاء بالصدمة الحضارية أي أن العرب صدموا مما حمله الفرنسيون معهم الى مصر من آلات حديثة ومختبرات ومطابع وطرحوا السؤال الذي لا يزال يتردد صداه حتى اليوم: لماذا تقدم الغرب الأوروبي وتأخر العرب أو المسلمون الذين لعبوا دوراً حضارياً ريادياً لمدة قرون بعد ظهور الإسلام.

كنتيجة لهذه الصدمة الحضارية وانطلاقاً من الرغبة في اللحاق بركب الحضارة، انشغل المصلحون العرب في الإجابة على هذا السؤال، وفي كيفية الردّ؛ هل بالعودة الى التراث والسلف الصالح (إسلام الرسول والخلفاء الراشدين) أم بتقليد الغرب أم من خلال الجمع بين التراث والحداثة – أي الأخذ من الغرب ما يساعد على نهوضنا دون التخلي عن هويتنا وتراثنا. وعلى المستوى السياسي سعى محمد علي باشا والي مصر زمن الدولة العثمانية الى إعادة بناء مصر على نمط الدول الأوروبية فأرسل البعثات التعليمية الى باريس ولندن. وكان من بين أبرز أعضاء هذه البعثات، الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الذي أدرك من واقع التجربة الأوروبية أن الوطنية، أي الحماسة لمصالح الدولة والأمة 'الحماسة الوطنية'، هي أحد الشروط الأساسية في نهوض الدول الأوروبية. ولكن الشيخ الطهطاوي لم يقصد بالوطنية سوى الوطنية المصرية، إذ لم يكن قد تبلور مفهوم القومية العربية بعد،  أي ضرورة وحدة كل الدول والأقاليم العربية في دولة واحدة. ولكن مع تصاعد الصدام مع الدول الغربية، التي تحولت الى دول استعمارية مناقضة لمفاهيم الديمقراطية والمساواة والعدالة التي قامت على أساسها، ومع ظهور النزعة القومية العربية الشاملة في بلاد الشام ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر على أثر سياسة التتريك والنزعة القومية التركية، ظهرت الحركات القومية العربية في كل من سوريا ولبنان والعراق وغيرها من بلاد المشرق. فبعد حملة نابليون على مصر انتقلت الأفكار الوطنية والعلمانية والديمقراطية والمساواة الى لبنان بواسطة حملة ابراهيم باشا، ابن محمد باشا، (1831 – 1840) وأدى ذلك الى تغيير في وضع المواطنين (العرب المسيحيين) حيث حصلوا على امتيازات وحقوق متساوية لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت في ظل الحكم العثماني الذي كان يُصنّفهم كذميين. وبرز بطرس البستاني، (1819 – 1883) كأحد أهم الرواد الذين مهـّدوا في كتاباتهم لتنبيه الوعي القومي وبدء ظهور الحركة القومية العربية. وفي القرن العشرين نظر لها عدد كبير من المثقفين العرب، وكان أبرزهم ميشيل عفلق وساطع الحصري. وسبقهم عدد من رواد النهضة في أواخر القرن التاسع عشر. وكانت ثورة عبد الناصر عام 1952 انعطافة تاريخية بحيث تحول عبد الناصر الى التجسيد الحي للقومية العربية والرمز القومي للجماهير العربية من المحيط الى الخليج. وهو بذلك نقل مصر من الوطنية المصرية التي تبنتها أحزاب في مصر آنذاك مثل حزب الوفد. الى القومية العربية أي وحدة العالم العربي.

إن القومية في العالم العربي ظاهرة حديثة تأثرت بالفكر القومي الأوروبي. وهذا لا يعني ان القومية الاوروبية هي التي اوجدت العرب كقوم او كلغة او كتاريخ بل المقصود أنها حفـّزت الطموح السياسي لدى النخب العربية بتوحيد العرب في دولة عربية واحدة.  فالتاريخ العربي يحمل عناصر وعي واعتزاز بالهوية العربية ويعود ذلك إلى الدور المركزي الذي لعبه العرب في نشر الإسلام وحضارته وإلى النجاحات الهائلة التي حققها العرب في السنوات الأولى من الفتح الإسلامي إلا أن هذه العزة القومية لم تترجم الى دولة عربية خالصة. فالدولة الإسلامية ضمت شعوباً كثيرة لا تتحدث اللغة العربية، ناهيك عن سيطرة تركيا على الخلافة لأكثر من أربعة قرون. ومع ذلك فإنه لا يكتمل الحديث عن القومية العربية بدون علاقتها المميزة مع الإسلام الذي وحّد  القبائل والعشائر العربية في مجتمع واحد بقيادة النبي محمد (ص).

 

الحزب الشيوعي الإسرائيلي والهوية الوطنية

يعترف اليوم العديد من الشيوعيين العرب والفلسطينيين بخطئهم وبقصورهم في فهم ظاهرة القومية العربية ومطلب الوحدة العربية وكذلك في تعاملهم مع الدين ودوره في التكوين الحضاري للامة العربية بل وفي المجتمع عامة.  

لقد ناضل الشيوعيون العرب والفلسطينيون على طول  سيرة النضال العربي الحديث ضد الإستعمار والرجعية المرتبطة به وساهموا في نشر الفكر التقدمي بين المثقفين وحاملي لواء التغيير ودفع العديد منهم حياتهم ثمناً لذلك وقضى بعضهم الى جانب وطنيين وقوميين سنوات طويلة في السجون.

غير أنهم على المستوى الفكري والثقافي والسياسي رغم مساهمتهم في إضفاء عمق فكري في برامج بعض الحركات القومية عجزوا عن فهم خصوصية المجتمع العربي وحاولوا نسخ الماركسية السوفييتية وتطبيقها بصورة ميكانيكية على طبيعة الصراع داخل المجتمعات العربية والصراع مع الصهيونية والاستعمار.

وتعاملوا (بإستثناءات قليلة) مع الحركات القومية العربية بإعتبارها حركات برجوازية على نمط الحركات البرجوازية الرأسمالية في أوروبا، بل تبنى بعضهم اراء مستشرقين سوفييت مثل ان الامة العربية ليست امة لأنها تفتقد لسوق اقتصادي مشترك  متبنين الموقف الستاليني من مسألة القومية وشروطها. كأن هذه الحركات القومية نسخة طبق الأصل من القوميات الاوروبية وتريد، حسب مفهومهم، السيطرة على السوق العربية في حين ان الوحدة العربية كانت مطلباً شعبياً لبناء دولة عربية واحدة قوية ولطرد الاستعمار من البلاد وتصفية التجزئة التي فرضتها القوى المستعمرة على المنطقة العربية بعد إنهيار الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة لأربعة قرون قبل انهيارها امام الغزو الغربي الإستعماري الأخير وأمام الحداثة الغربية.

لقد اختلف الشيوعيون العرب حول موضوع القومية عند كل مفترق طرق يتصل بالموقف القومي من قضايا مصيرية . مثل قرار التقسيم والوحدة العربية بين مصر وسوريا بزعامة عبد الناصر عام 1958 والانفصال عام 1961.

وبخصوص قرار التقسيم عام 1947 الذي دعا، وبتأييد الاتحاد السوفييتي، الى تقسيم فلسطين بين الحركة الصهيونية والعرب، فقد دعم الإتحاد السوفييتي هذا القرار في دعم التقسيم واقامه دولة يهودية في فلسطين على أساس أنه يدعم حركة إشتراكية في مواجهة قوة رجعية. والمقصود بالحركة الإشتراكية، الحركة الصهيونية التي كان تيارها المركزي يتبنى بعض المفاهيم الإشتراكية. أما القوة الرجعية فهي قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية. وهكذا كان يجيّر كل شيء في خدمة نظرية الطبقة العاملة. القوميون العرب والعديد من الشيوعيين الفلسطينيين رفضوا التقسيم. لكن في نهاية المطاف اقرت قيادة الشيوعيين الفلسطينيين بأغلبيتها الموافقة على قرار التقسيم بعد موافقة الاتحاد السوفييتي، الامر الذي يؤكد ان الحزب الشيوعي الفلسطيني كان مثل أغلبية الاحزاب الشيوعية في العالم متذيلاً   للحزب الشيوعي السوفييتي كما اشار الى ذلك خورتشوف في خطابه الشهير في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1956، الذي فتح فيه النار على نهج ستالين. وهاجم عبادة الفرد والجرائم التي ارتكبها باسم الشيوعية.

كانت قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني التي اندمجت مع اليهود الشيوعيين بعد قيام إسرائيل، الذين شاركوا الحركة الصهيونية في حربها ضد الشعب الفلسطيني، قد إعتبرت ان الموافقة على قرار التقسيم ابداع خاص بها. إنما الحقيقة هي أن كان هذا الموقف كان انجراراً وراء الحزب الشيوعي السوفييتي وزعامته الستالينية الذي كانت اولوياته مختلفة عن الأولويات الوطنية للشعب الفلسطيني.

لقد غّلبت قيادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، مثلما كان الحال عند بداية تأسيس الحزب في اوائل العشرينات على ايدي يهود اشتراكيين (بوعالي تسيون)، الطابع الطبقي على الطابع القومي. اي انها اعتبرت ان الصراع كان بين الطبقة العاملة الفلسطينية واليهودية معاً من جهة والبرجوازية اليهودية والعربية من جهة أخرى. في حين ان الصراع كان قومياً بين 'قوم' و 'قوم'. لم يهاجر العمال اليهود الى فلسطين من أجل خدمة العمال والفلاحين الفلسطينين، وفي مواجهة البرجوازية اليهودية والاقطاعية العربية. بل جاؤوا ضمن مشروع لاحتلال فلسطين، واحتلال الارض واحتلال اماكن العمل وتجريد كل الشعب الفلسطيني بكل طبقاته الاجتماعية من وطنه وثرواته وتحويله الى شعب مستعمر ومستعبد. وهذا لا يعني أنه لم يكن هناك تناقضات اجتماعية داخل الشعب الفلسطيني وأنه لم يكن فئات اجتماعية رجعية معيقة لنهضة الشعب وتحضره وأن هذه الفئات تتحمل قسطاً من المسؤولية، ولكن المشروع الصهيوني كان يستهدف أمة ووطن.

فالشيوعيون العرب في الحزب الشيوعي دعوا الى وحدة الطبقة العاملة العربية واليهودية ضد حكام اسرائيل متجاهلين حقيقة أن العمال اليهود مستفيدون من المشروع الصهيوني، وأن الصراع بين العرب وإسرائيل هو قومي وليس طبقياً. وأخفقوا في فهم القومية العربية وأهمية الوحدة القومية وبالتالي أتخذوا موقفاً سلبياً من الحركات القومية العربية، وقد دفعوا ثمناً لهذا الموقف. ففي انتخابات الكنيست عام 1959 خسر الحزب 3 مقاعد من أصل 6 بسبب وقوفه الى جانب عبد الكريم قاسم رئيس العراق المدعوم من الشيوعيين العراقيين المتحفظين من الوحدة العربية، ضد عبد الناصر القومي الذي كان ينادي بالوحدة العربية. كان عبد الكريم قاسم والقوميون البعثيون العراقيون قد أطاحوا بنظام نوري السعيد المتحالف مع الغرب الإستعماري عام 1958، لكن وقوف قاسم ضد الوحدة مع مصر وسوريا فجّر التناقضات مع حزب البعث القومي وتمت الإطاحة به عام 1963.

 

لقد كان هناك من اليهود اليساريين من نادى بإقامة دولة فلسطينية واحدة في البلاد، دولة علمانية تقوم على المساواة، ولكن هؤلاء كانوا أقلية هامشية، وتراجع بعضهم واندمج في المشروع الصهيوني الكولونيالي عندما لاحت بوادر إنتصار هذا المشروع بدعم من قوى الاستعمار الغربي. وفور قيام إسرائيل راحت قيادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي ليس فقط اليهودية بل العربية تنظـّر وتقول ان التجمع اليهودي الاستيطاني في فلسطين أصبح يشكل قومية وبالتالي يحق له حق تقرير المصير من خلال إقامة دولة مستقلة بشكل ينافي حتى التعريف الماركسي حول شروط تشكل القوميات والامم مثل اللغة المشتركة والارض والتاريخ والنفسية المشتركة.

لقد اعترف بعض الشيوعيين العرب، ولو بصورة متأخرة أن هذا الموقف كان متأثراً بموقف الاتحاد السوفيتي وكان بذلك منافياً للموقف الوطني والقومي وحتى التقدمي الديمقراطي الذي لا يمنح أي حق لحركة استعمارية بإغتصاب ارض شعب آخر وإقامة دولة على أنقاضه.

على ايه حال لا تزال آثار هذا الموقف، رغم مرور أكثر من خمسة وخمسين عام عليه، حاضرة في برنامج الحزب الشيوعي الإسرائيلي وقادته الحاليين وفي ممارستهم السياسية والايديولوجية والمتمثل في التمسك بموقف الاخوة العربية اليهودية التقليدية غير القائم على المساواة والندية والرافض لدعم فكرة بلورة الهوية القومية العربية ومنح العرب نوعاً من حق تقرير المصير عبر الحكم الذاتي الثقافي وإقامة المؤسسات الثقافية والاقتصادية وإنتخاب قيادة تمثيلية للعرب داخل الخط الاخضر الى جانب شعار دولة المواطنين وإلغاء يهودية الدولة والبنية القانونية العنصرية لدولة إسرائيل. ان هذا الموقف، موقف الحزب الشيوعي، نابع من فهم ايديولوجي مشوه للأممية وللموقف الماركسي، ومن تراث سياسي وفكري نبع اساساً من تبعات الاعتراف بيهودية الدولة فور الاعلان عنها عام 1948 وما تطلبه ذلك من الخضوع لفكرة وطنية إسرائيلية إذا وجدت، ولرموز الدولة اليهودية مثل العلم والنشيد الوطني وغيرها التي تبناها الحزب الشيوعي وقياداته. هناك أوساط داخل الجبهة تظهر تعديلاً على لهجتها السياسية بخصوص الهوية الوطنية ولكنه غير منظم وغير منهجي. وذلك تحت ضغط نمو التيار القومي والمتمثل بحزب التجمع الوطني الديمقراطي ولضرورات التنافس مع هذا التيار الصاعد.

 

في الصهيونية والقومية العربية

كيف نترجم الحقوق القومية لعرب الداخل

بنت الأيديولوجية االصهيونية، على النقيض من العديد من الايديولوجيات والعقائد الإنسانية والأممية، بنت منظومة قيمها على العرق. فهي ايديولوجيةعرقية وضعت نصب عينها (طبعاً من منظورها) خدمة عرق واحد أو طائفة واحدة، هم اليهود، خارج السياق الإجتماعي الذي عاشوا بين ظهرانيه، وبالتالي خارج دائرة المساهمة الإنسانية. فقد اختارت أن تنزع اليهود من مجتمعاتهم الطبيعية ودولهم الوطنية الذين ولدوا وعاشوا فيها، عبر استحضار الأساطير المتعلقة بوجود اليهود في أرض كنعان – فلسطين في التاريخ الغابر، لتغزو فلسطين بمشروع سياسي - استيطاني على أنقاض شعب عاش فيها ولم يغادرها في أي مرحلة من مراحل التاريخ، سوى في مرحلة التهجير والتطهير العرقي على يد الحركة الصهيونية في منتصف القرن العشرين. أي عام 1948.

يتعامل الإسرائيليون الصهاينة مع تيودور هرتسل، صاحب فكرة الدولة اليهودية ومؤسس الحركة الصهيونية، التي أعلنها في مؤتمر بازل في سويسرا عام 1897 كبطل قومي وضع فكرة المشروع القومي الصهيوني في 'أرض اسرائيل'.

وهرتسل، هو محام يهودي علماني استند الى الأساطير التوراتية لإقامة وطن قومي لليهود تحت دعوة العودة الى أرض اسرائيل وإنقاذ اليهود من الملاحقة والإضطهاد في أوروبا. وكما هو معروف فقد قاوم مشروعه التيار الأرثوذكسي (المتدين) في الطائفة اليهودية في دول اوروبا واعتبروا المشروع الصهيوني غير مقبول دينياً ولا أخلاقياً. ولا تزال قطاعات من هذا التيار خاصة في بريطانيا وأمريكا، مثل حركة نتوري كارتا وغيرها، متمسكة بهذا الموقف المعارض في حين تحول، مع مرور الزمن، الجزء الأكبر من التيارات الدينية الى مؤيد ومساهم في المشروع الصهيوني. وكذلك انضم وانخرط جزء كبير من يهود روسيا واوروبا في الاحزاب الشيوعية والاشتراكية في تلك الفترة وناضلوا من اجل تغيير الانظمة والحكومات القائمة كمدخل لتغيير اوضاعهم واوضاع الطبقات والفئات المسحوقة والمضطهدة في المجتمعات الاوروبية. ووقف هؤلاء بشدة نظرياً وعملياً، قولاً  وفعلاً، ضد الايدلوجية الصهيونية ومشروع هرتسل بترحيل اليهود الى فلسطين وإقامة دولة لهم على حساب شعب آخر.

يقوم المشروع الصهيوني على تحويل يهود العالم الى قومية عبر استخدام الأساطير ومعاناة اليهود في بعض الدول الأوروبية جراء الإضطهاد والملاحقة من قبل الحكومات مثل روسيا القيصرية وألمانيا النازية وغيرهما، رغم أن التعريفات للقومية الحديثة لا تنطبق على الدعوة لإقامة المشروع الصهيوني وهي الأرض المشتركة، التاريخ، واللغة. ويذكر أن العديد من التيارات اليهودية كانت ولا تزال تنادي بحل المسألة اليهودية في إطار الدول التي يعيشون فيها.

على الرغم من غياب جميع هذه التعريفات أو عدم انطباقها على الحركة الصهيونية، أصرّ قادة الحركة الصهيونية العلمانيون، بل وغير المؤمنين، باستخدام التوراة، ومن خلال التعاون المباشر والتخطيط المشترك مع قوى الإستعمار الغربي وبشكل خاص بريطانيا، أصروا على المضيّ قدماً في بلورة المشروع القومي الصهيوني - عبر عملية مصطنعة - وليس عبر عملية تاريخية طبيعية شبيهة بتلك التي مرت بها شعوب الأرض نحو بلورة نفسها كجماعة ذات خصائص ثقافية مشتركة.

لقد تبلورت الفكرة الصهيونية - القومية - في إطار العملية التاريخية التي مرت بها أوروبا في مرحلة الدولة الوطنية والحداثة. فالفكرة القومية بمعناها الحديث نشأت في أوروبا كجزء من عملية تحديث المجتمع - وكعملية انتقال من ظلام القرون الوسطى وسيطرة الكنيسة  التي وفرت غطاء للاقطاع والإستغلال الذي يناقض جوهر ومبادئ الدين المسيحي وقمع حرية الفكر والبحث العلمي، الى عصر الأنوار ابتداءً من القرن الخامس عشر ومروراً بالقرون الثلاثة التالية.

كان ذلك بمثابة انتقال المجتمعات في أوروبا الى حالة اجتماعية - سياسية - ثقافية أرقى، كبديل عن الحالة السابقة التي تميّزت بالإنتماءات الجهوية والأقاليمية (أقاليم) وما ساد فيما بينها من اقتتال دائم وحروب دموية طويلة وغياب الإستقرار والأمن للحياة الإجتماعية والإقتصادية.

وقد تطورت الفكرة القومية - وهي فكرة سياسية ثقافية كتعبير عن طموحات الأمة في العيش المشترك في إطار دولة ذات سيادة لها حدود معرّفة وواضحة، من خلال استحضار الرموز والابطال الشعبين والأساطير والتاريخ المشترك والتأكيد على اللغة المشتركة - وقد جاء ذلك كله في ضوء الثورة الصناعية التي فرضت الحاجة الى سوق مشتركة وقواعد لتنظيم عملية التبادل المادي - الصناعي والتجاري.

إن نشوء الدولة الوطنية تبعها تطورات في المجال الحقوقي ونشأت فكرة الفرد، المواطن، والفكرة الديمقراطية كنظام حكم، على يد مجموعة من المفكرين والفلاسفة الأوروبيين، الإنجليز والفرنسيين. لم يكن قبل ذلك حقوق للفرد، كان مجرد رقم في رعايا الملك. هكذا وحّدت كل مجموعة من الأقاليم والجماعات المتقاربة في اللغة وفي التاريخ نفسها في دولة ذات سيادة عبر حركاتها القومية، وبموازاة ذلك وعبر عملية تطورية تاريخية، أضعفت انتماء الفرد الى الجماعات العضوية الأصغر، وأصبح الفرد عضواً في الأمة ومتحرراً بإرادته من الإنتماءات الأصغر، وقد وضعت القواعد والأنظمة لتنظيم التنافس الإقتصادي والسياسي والفكري.

لقد فصلت الدولة الأوروبية الحديثة الدين عن الدولة، وأصبحت المواطنة هي التي تنظم العلاقة بين الفرد والدولة، بغض النظر عن انتماء الفرد الديني أو العرقي أو الإثني. غير أن دولة هرتزل التي جاءت في سياق التاريخ الأوروبي، لم تكن بسبب طبيعة أهدافها وتركيبة أيدلوجيتها إلا مسخاً ديمقراطياً (صورة مشوهة عن الديمقراطية الأوروبية). فهي ديمقراطية عرقية – عنصرية وليست دولة جميع المواطنين وجميع القوميات. إن غير اليهود في هذه الدولة هم العرب الفلسطينيون أصحاب الأرض الأصليون محكوم عليهم بالتمييز الأبدي. فهم، في نظر الحركة الصهيونية ودوله واسرائيل، ضيوف لا يحق لهم سوى بعض الحقوق الفردية، أما الحقوق الجماعية لهم (مثل اللغة والثقافة والأرض) فهي غير واردة في قاموس اسرائيل. لم يشفع لهؤلاء المواطنين أصحاب الأرض، قبولهم لحل وسط مع القادمين اليهود من مختلف بقاع الأرض يتمثل بالمساواة الكاملة التي هي بمثابة الحد الأدنى من التعويض عن فقدان الوطن.

لا يعترف التيار الصهيوني بغالبيته الساحقة، يساراً ويميناً، بفكرة القومية العربية، ولا يعترف بحق العرب أو الشعوب العربية في تقرير مصيرها السياسي واقامة دولة عربية واحدة – حديثة وقوية. هذا التيار، مدعوماً آنذاك بالغرب الإستعماري، وفي مقدمتهم - بريطانيا فرنسا وأمريكا، حارب جمال عبد الناصر بلا هوادة، حارب مشروعه القومي التحديثي الهادف الى القضاء على تركة سايكس بيكو الإستعمارية التجزيئية وتوحيد الأمة العربية في دولة واحدة. وهو نفسه (التيار الصهيوني) الذي قام باستكمال احتلال كل فلسطين التاريخية واعتماد الإستعمار الكولونيالي لأراضي عام 67.

هذا التيار - الذي لا يعترف أيضاً بالحقوق القومية للمواطنين العرب  في إسرائيل- باعتبارهم جزء من شعب أو 'أقلية قومية' كما تقتضي القوانين والأعراف الدولية والتي وقعت عليها اسرائيل عند قيامها على احترام حقوقه وخصوصيته. هم يتحدثون اليوم عن المساواة ولكنهم لا يعنون بذلك الحقوق الجماعية، فالحقوق الجماعية، في فهمهم، مقتصرة على المجتمع اليهودي في إسرائيل وكذلك على جميع اليهود في العالم. أما الشعوب العربية بما فيها الشعب الفلسطيني التي تعيش على أرضها منذ ألاف السنين، واختلطت فيما بينها، وصنعت حضارة مشتركة (إنجازات علمية وثقافية وفكرية وعمرانية) ولها لغة مشتركة، فلا ينطبق عليها تعريف الأمة أو القومية حسب الأيدلوجية الصهيونية. وبالتالي لا يحق لها حق تقرير المصير. ومن هنا كان العداء الصهيوني والغربي لمشروع عبد الناصر الذي هدف الى تحديث المجتمع العربي عبر توحيده قومياً وتبني التنمية التي تعني بناء اقتصاد قوي ومنتج وغير تابع، وبناء انسان عصري وقادر على الانتاج والابداع من خلال اطلاق طاقاته والحفاظ على حريته. والتي، أي التنمية، اعتبرها بن غوريون أخطر الخطوات التي يقوم بها عبد الناصر.

صحيح أن عبد الناصر فشل في تحقيق مشروع توحيد الأمة العربية وفي مواجهة حملة العداء العربي والصهيوني، وارتكب أخطاءً كبيرة بحجم الإنجازات الكبيرة، وكذلك أخفقت التيارات القومية الأخرى كحزب البعث (في سوريا والعراق) في بناء الوحدة وفي بناء مجتمعات ديمقراطية وحديثة. ولكن هذا لا ينفي صحة الطريق القومي الذي اختطه عبد الناصر ولا ينفي ضرورة أن تنهض القوى القومية والديمقراطية في العالم العربي لمتابعة هذا المشروع، مشروع تحديث وتطوير المجتمع العربي واعتماد التنمية الإنسانية عبر خلق التكامل بين أجزاء الوطن العربي، وليس بالضرورة بنفس الأشكال والصور التي اعتمدها عبد الناصر. فهو نفسه أدرك الأخطاء بعد فشل الوحدة مع سوريا. وكذلك بعد هزيمة 67. غير أن المنية عاجلته قبل أن يتمكن من استكمال المراجعة التي بدأها فور الهزيمة. واستنتج أن هناك أكثر من شكل أو نموذج أو طريق للوحدة.

'الأقلية العربية الفلسطينية' في إسرائيل، هي جزء من الأمة العربية، ومنبع ثقافتها يعود الى الثقافة العربية الإسلامية الموحدة للعرب جميعاً التي وضع بذورها الإسلام في المدينة المنورة قبل أكثر من 14 قرناً. وهي بحاجة أكثر من أي جزء من الشعب الفلسطيني للإرتباط بهذه الثقافة للحفاظ على الهوية العربية والهوية الوطنية الفلسطينية في مواجهة مخطط الدولة العبرية المعتمد منذ النكبة والهادف الى تحطيم هذه الهوية وتجزئة هذه الأقلية الى طوائف وتكريس الحمائلية والعشائرية.

ولكن التجمع الوطني الديمقراطي، لا يتبنى خطاباً قومياً تقليدياً، فلم يعد مقبولاً بعد كل الإخفاقات التي واجهت الحركات والتيارات القومية في العالم العربي، والإخفاقات والأزمات التي واجهت وتواجه التيارات الماركسية والإسلامية، أن تكرر نفس الخطاب والأفكار دون إعادة قراءة للإنجازات والإخفاقات والمعضلات الفكرية ودون تحديث الخطاب وإضافة ما كان ناقصاً. ألا وهو الديمقراطية وحقوق المواطنة. ولا حاجة لأن يعلمنا بعض المتأسرلين والمتملقين لليسار الصهيوني خطاب الحداثة او التقدم الذين ينتحلونه بمعزل عن القومية التي يعجزون  عن فهمها ودورها الحاسم في تحديث المجتمع مقرونة بالديمقراطية.

إن تقديم الفكرة القومية بمضامين حديثة وعصرية بالنسبة لمجتمعنا الفلسطيني في إسرائيل، وهي المزاوجة بين القومية والمواطنة المتساوية أي توحيد المجتمع العربي قومياً في مقابل العشائرية والطائفية والسعي الى إقامة الحكم الذاتي الثقافي وانتخاب قيادته بصورة ديمقراطية، من جهة، والتأكيد على حق المواطن العربي بالمساواة الكاملة باعتبار أن المواطنة هي الناظم للعلاقة بين هذا المواطن والدولة وليس العرق أو الدين، أحرج التيار الصهيوني المركزي مدّعي اللبرالية، وكشف التناقض القائم بين التمسك 'بقوميتهم' أي 'يهوديتهم' والديمقراطية، وهو تناقض نجحوا في إخفائه حتى فترة قريبة. فجاء التجمع الوطني الديمقراطي ليسقط هذا الزيف ويضعهم أمام حقيقتهم وجها لوجه.

إن التجمع ليس تياراً قومياً شوفينياً يحمل نزعات عنصرية تجاه شعوب العالم ولا يعتبر القومية عقيدة أيدلوجية بل أداة لتحديث المجتمع ومواجهة التخلف. وهو تيار ديمقراطي انساني. يؤمن بالمساواة والعدالة الإجتماعية بين البشر. إنه يطرح هذه القيم ليس على مستوى العلاقة مع المجتمع اليهودي في إسرائيل بل ايضاً على مستوى العلاقات الداخلية للمجتمع العربي الفلسطيني.

وعندما يهاجم أقطاب النخبة المثقفة الليبرالية في إسرائيل التجمع الوطني بصورة عامة والدكتور عزمي بشارة بصورة خاصة، فهم يختارون الهجوم على الطرح القومي دون الشق الديمقراطي، فهم في الحقيقة يدافعون عن قوميتهم المتناقضة مع ديمقراطيتهم أي عن صهيونيتهم. كان يتمنى هؤلاء ومعهم المؤسسة الأمنية لو أن التجمع تبنى طرحاً (قومجياً) بدون طرح المواطنة الديمقراطية ليسهل الهجوم عليه أمنياً وكذلك فكرياً.

 

 

 

 

بعض المراجع التي يمكن الإستعانة بها:

  • نظرية الثورة العربية -  عصمت سيف الدولة (الأجزاء السبعة)
  • المجتمع المدني -  عزمي بشارة
  • الخطاب السياسي المبتور -  عزمي بشارة
  • أصول الفكر الماركسي -  لويس كورنفورث
  • البيان الشيوعي -  ماركس
  • نحو تجديد المشروع الإشتراكي -  مجموعة كبيرة من المفكرين العرب
  • عن العروبة والإسلام -  عصمت سيف الدولة
  • حركة القوميين العرب -  مركز دراسات الوحدة العربية

   - الدكتور سعد مهدي شلاش

  • أزمة الماركسية (التاريخ والمصير)

      - شمس الدين الكيلاني

  • القومية، مرض العصر أم خلاصه – بندكت اندرسون وإيرنست جلنر
  • تطوّر معنى القومية – منيف الرزاز

 

 


تصميم وبرمجة: باسل شليوط