الانكشاف من جانبيّ الخط الأخضر: الفرصة التائهة

مع الاقتراب من حاجز "الجلمة"، الذي يفصل جنين عن الأراضيّ المحتلة عام 1948، وخاصة يوم السبت، يرى المسافرون الطابور الطويل من السيّارات المحمّلة بالبضائع خارجة من جنين عبر الحاجز، وطابور آخر من السيّارات الداخلة إلى المدينة لتمتلئ بدورها بالبضائع وتخرج قبل أن يُغلق الحاجز. داخل المدينة، ترى السيّارات جميعها تقريبًا بلوحات صفراء لتدلّل على الكم الهائل من الفلسطينيّين حملة الجواز الإسرائيليّ، الذين يقصدون المدينة للشراء والأكل والتعليم.

ولفهم شدّة وأهميّة هذا التبادل التجاريّ، يمكن الاطلاع على دراسة أجراها الباحث الاقتصاديّ، رجا الخالدي، التي تشير إلى أن حجم التبادل الاقتصاديّ بين الضفّة الغربيّة والداخل وصل في العام 2013 إلى ما يعادل مليار و300 ألف شيكل. وتشير الغرفة التجاريّة في جنين إلى أن 1200 تاجر جديد سجّل في الغرفة خلال العام 2016، بالإضافة إلى أن بعض الإحصائيّات تشير إلى دخول ما يعادل 5000 سيّارة من الداخل إلى جنين خلال أيّام السبت. وعلى الرغم من حقيقة أن هذا التدفّق الهائل أسبوعيًا، هو اقتصاديّ في جوهره، إلّا أنه يخلق في موازاة ذلك، فرصة انكشاف اجتماعيّ وثقافيّ بين الفلسطينيّين على جانبيّ الخط الأخضر ليصيغ روابط اجتماعيّة وثقافيّة.

في الجانب الفلسطينيّ، حيث التقسيم والخط الأخضر والجدار هم أداة من أدوات الاستهداف على جانبيّ الخط الأخضر، يغدو الانكشاف على الفلسطيني الآخر، إن كان خلف الحدود أو خلف الجدار أو داخل الحصار، بحد ذاته، قيمة سياسيّة واجتماعيّة. وهذه القيمة المجرّدة، تقف على خط رفيع جدًا من حيث أبعادها، وهي حسّاسة إلى حد بعيد، خاصة إذا ما أضيف إليها الأفكار المسبقة التي تشكّلت على مدار سنوات طويلة وبثّتها إسرائيل عبر قنواتها الإعلاميّة هي وأذرعها المُختلفة. وهي حسّاسة بحيث يمكن أن تكون التجربة ببساطة بالاتجاه السلبيّ أو الإيجابيّ، فيأتي السلوك الفردي، في بعض الأحيان، ليؤكّد على أفكار مسبقة سلبيّة؛ أو يأتي ليصحّح أفكارا أخرى. وبالتاليّ، تغدو المسؤوليّة في هذا الظرف مضاعفة، ليس فقط للزيارة واستمرارها، بل لمنع تعزيز الرواية التي تبثّها إسرائيل بين الفلسطينيّين أولًا، ومن أجل وجود حيّز مشترك مريح للطرفين، تشكّل الأخلاق فيه أساس العلاقة في ظل غياب القانون، أو في ظل انعدام القدرة على المحاسبة القانونيّة النابعة أساسا من حمل جواز السفر الإسرائيليّ، حيث لا تستطيع أجهزة أمن السلطة مراقبته أو إخضاعه للقانون الفلسطيني.

بين السلوك الفرديّ والجماعيّ: اختبار الأفكار

في هذا الظرف الاجتماعيّ - السياسيّ فإن التعميم مرفوض. فالتجمّعات متباينة وليست كتلة واحدة متناسقة من السلوك الثقافيّ. وفي الحقيقة، فإن المقبول على أحدهم مرفوض على الآخر. والعكس صحيح. وهذه حقيقة علميّة مثبتة على مستوى العالم. فكما هي المجتمعات متباينة فيما بينها، فإنها أيضًا تحوي تباينات لا نهائية بين أفرادها بكل ما يخص السلوك والأخلاق والالتزام. ولكنّنا في الحقيقة أيضًا، لا نعيش ظروف طبيعيّة. ولا يمكننا أن نتوقّع من ذاتنا ما نتوقّع من مجتمع طبيعيّ يرفض التعميم. هناك أفكار مسبقة مكدّسة ومسار تاريخيّ مختلف للفلسطيني في أراضي الـ1948 عن الفلسطينيّ في الأراضي المحتلة هام 1967. والتشابه بينهما ليس مفهومًا ضمنًا في الظرف الذي شكّلته إسرائيل. ولا يمكننا إنكار حقيقة أن إسرائيل نجحت على مدار 70 عامًا، منذ النكبة، في رسم حدود ثقافيّة وهميّة موازية للجدران الإسمنتيّة والحواجز الأمنيّة، بثّت فيها وبداخلها، عبر التعليم والإعلام على مدار عشرات السنين، اختلافات، امتيازات، أوهاما بالإضافة إلى صور نمطيّة.

ومن هذه النقطة تحديدًا، يمكن البدء. فمن العمى السياسيّ والمنهجيّ أن ندّعي أنه لا وجود للأفكار المسبقة والصور النمطيّة. هي موجودة، والاعتراف بوجودها يشكّل نقطة قوّة عند علاجها أو محاربتها. هي موجودة وكلا الطرفين يذهب إمّا لإثباتها وإمّا لدحضها حتّى في منطقة الّلا وعيّ ودون أن يقصد أن يفكّر أو يصرّح. وبالتاليّ، نغدو أمام استكشاف أكثر من كونه انكشاف، ولكنه ليس بالاستكشاف المجرّد، إنه أشبه باستكشاف واختبار أفكارك عن الآخر. كذلك هو الأمر بالنسبة إلى الآخر في تفاعل متبادل. وفي هذا الظرف، على كل فرد أن يعلم أنه يتحمّل مسؤوليّة المجتمع، وأن سلوكه لا يقع على ذاته بل يقع على البيئة القادم منها، وهو يقع عمليًا في دائرة اختبار أفكار الآخر. ومن هنا، على الفرد، دون تردد، أن يدرك حقيقة في غاية الأهميّة: أنت، ودون وعيّ أو إعلام مسبق، تمثّل تجمّع كامل من الشعب الفلسطينيّ. وهذا أيضًا، ينطبق على أهاليّ القدس والضفّة الغربيّة والداخل أيضًا، وهي قاعدة يمكن أن تشكّل أساس العلاقة الاجتماعيّة الثقافيّة بين التجمّعات الفلسطينيّة المختلفة.

السؤال الأخلاقيّ في ظل غياب الدولة

إن المسبّب الرئيسيّ لأي سلوك غير مقبول من قبل الفلسطينيّ من الداخل أو الأراضيّ الفلسطينيّة المحتلة عام 1967، هو حقيقة حيازة جواز السفر أو بطاقة الهويّة الإسرائيليّة، التي بدورها تمنع السلطة الفلسطينيّة من اعتقاله أو محاكمته في حال ارتكاب أي جريمة أو مخالفة قانونيّة. ولكنّنا نتحدّث هنا عن عامليْن مهمّين جدًا لا يمكن إغفالهما: الأول هو حقيقة أن التفاعل فلسطينيّ- فلسطينيّ؛ والثانيّ هو حقيقة أن هذا الحيّز المشترك واستمراره كحيّز مشترك يعدّ مصلحة متبادلة للمستهلك الذي يحصل على أسعار أرخص وللتاجر الذي يحصل على سوق استهلاكيّ إضافيّ. وبكلمات أخرى، من مصلحة الطرفين أن يكون هذا الحيّز موجودا ومستمرا وينبض بالحياة، ومن مصلحة إسرائيل أن يبقى هذا الحيّز اقتصاديّ لا غير، ومن مصلحة الحركة الوطنيّة أن يتخذ هذا الحيّز بعدًا أعمق من الاقتصاد. ومن هنا تنبع الحاجة لخلق حيّز مشترك مريح للجميع، ولكن معادلة الجواز والقانون تجعل من هذا الحيّز عبارة عن "فوضى" لا مثيل لها من حيث انعدام الرقابة.

وبما أن الحديث يدور عن فلسطينيّ- فلسطينيّ، فإن الأخلاق يمكن أن تشكّل أساس هذه العلاقة بدلًا من القانون، وهي أعمق من القانون وسطوة الشرطة والمحاكم. وهي تخضع لسؤال المقبول وغير المقبول في الحيّز العام من حيث الاعتداء على مساحة الآخر، أو التعامل مع الآخر بالاحترام الذي يسعى الفرد لأن يكون هو أساس تعامل الآخر معه، أو اقتحام المساحات العامّة بصورة همجيّة أو الالتزام بعض الشيء بعادات وتقاليد المساحة المضيفة. والجميع يعلم تقريبًا، أن ظروف حياة الفلسطيني في الداخل وفي غيتوهات إسرائيل التي تكدّسوا فيها وتسمّى "بلدات عربيّة" لا قانون إسرائيليّ أيضًا ولا شرطة إسرائيليّة فعليّة إلّا باتجاه السياسة. لذلك، فلا ضير إن كانت الأخلاق أساس هذه العلاقة، فمن شأنها أن تشكّل أولًا الحيّز المريح؛ وثانيًا الخروج من ثنائية تاجر مستهلك؛ وثالثًا والأهم: قتل الصورة النمطية الوهمية التي نعيش في فلكها نحن الفلسطينيّون على طرفيّ الخط الأخضر. وبكلمات أخرى، ستغدو الأخلاق في حال تطبيقها كأساس العلاقة والتفاعل في الحيّز قيمة إضافية يستفيد منها التجمّعيْن على مستويات عدّة أولها وأهمها: التواصل الفلسطينيّ المجرّد من رواية الصهيونيّة.

الحركة الوطنيّة: مسؤوليّة الرعاية

في هذا السياق الاقتصاديّ الاستغلاليّ الخالص، توجد إمكانيّة للاستثمار. وعلى الحركة الوطنيّة في الداخل ونظيرتها في الضفّة الغربيّة أن تتوقّف عن كونها لجنة إصلاح تهرع إلى جنين مع أول جريمة تحصل وتخرج إلى الإعلام، كاعتداء على طلّاب جامعة، أو مشكلة مع طالب في الجامعة، أو اعتداء على بعض المتسوّقين. وعليها أن تقوم بوظيفتها والمبادرة إلى تنظيم هذه الفوضى، لاستغلال الفرصة الكامنة فيها وإعادة تدويرها سياسيًا. فهنا تحديدًا، ثمة ما يمكن القيام به والمبادرة إليه: الإسراع في خلق هيئة أو جسم تنظيميّ يرعى هذا التدفّق الجميل والمثير للاهتمام وتنظيمه ليكون حيّزًا وطنيًا منصفًا للجميع يفرض رقابة ويبث ثقافة ويبدّد الجدران التي بنتها إسرائيل تاريخيًا.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط