عن العنف في المناطق المُستَعمَرة منذ 1948

عند حديثنا عن ظاهرة العنف في المجتمع الفلسطيني، يمكننا القول إننا لا نعاني من هذه الظاهرة المتفشية بقوة وحسب، بل نعاني من عدم الفهم لطبيعتها وأساسها الوجودي ومنابع انتشارها أيضا، وهذا يؤدي إلى انعدام السبل في مواجهتها، وما يؤكد هذا، هي الآليات التي نستخدمها حتى نتصدى لهذه "الظاهرة"، فالفهم الخاطئ للمشكلة ينتج عنه بالضرورة تحليل خاطئ، وبالتالي حلول قاصرة.

علينا أولا أن نفهم البيئة المنتِجة لهذه الظاهرة، دون الخروج عن النظام القائمة به، أي الذي يقيمها، أو لنقل إننا نفهمها عندما نستوعب فكرة نظام الإنتاج القائم الذي يخلّف بالضرورة مجتمعا مُخلّفا، وعلينا أن ندرك الأيديولوجيا الاستعمارية المسيطرة وأثرها على المجتمع الفلسطينيّ.

وإذا كنا نعاني نوعا من "التخلف" كما يقول البعض، فإن ما يشدنا إلى النظر في حالتنا هذه ليس جلد الذات وما شابه، كما أنه من غير المنطقي تحويل الاستعمار إلى شمّاعة نلقي عليها عيوبنا، بل يجب أن نفهم حالتنا في شكلها الحالي، كإنتاج محدد، عن نمط الإنتاج القائم، ويجب أن نحددها كعلاقات يحاول الاستعمار تأبيدها هي بالضرورة "أوكسوجينه"، كما ويجب أن نعي مهمتنا الثورية في هدم هذا النظام بالذات. ولعل الوعي لهذه المهمة الثورية تبدأ عندما ندرك الحالة التي نحن بها والتي تصبو بالضرورة إلى التحرر من قيد الاستعمار، وليس العكس، فالتفاوت البنيوي بين المجتمع المستعمِر والمستعمَر يفرض المهام والمفاهيم على الأخير حتى يفهم كونيته وتكونها، وجزءٌ من هذه المفاهيم والمهام، على ما أعتقد، هي فهم العنف وسياقه القائم.

إن المجتمع المتخلف، أو المخلّف للتدقيق، والمبعثر، لا يمكنه تنظيم عصابات جريمة منظّمة بهذا الشكل القائم وبقواه الذاتية؛ فالمجتمع الفلسطيني في المناطق المستعمرة منذ 1948 "يملك" سبع عصابات جريمة منظّمة، ناهيك عن التكتلات الحمائلية في بعض القرى والمدن. ما أقصده هنا هو وجود القوى التي تمهد الطريق لهذه العصابات بعد مساهمتها في تشكيلها، وهي أجهزة المخابرات التي تغض بصرها عن هذه العصابات وتنميها في آن، وهذا ليس بعقل مؤامرتي إطلاقا، إذ لا يمكننا أن نغفل حقيقة وجود رجال شرطة وضباط عرب في هذه التنظيمات بل إن بعضهم تقلّد مناصب عُليا فيها. ويمكننا أن نضيف نقطة أخرى هي أن أجهزة دولة الاستعمار الصهيوني، أحد أقوى الأجهزة بالعالم، وبالتالي لن تعجز عن مواجهة، أو التصدي, لظاهرة عنف مجتمعيّة، إذا ما أرادت التّصدي لها فعلا؛ ولا ننطلق من هذه النقطة حتى نثبّت على الاستعمار شراكته في العنف، فهذا تسخيف لدوره، بل من هذه النقطة نستطيع أن نوصد الباب أمام من يطالب الشرطة بالتصدي للجريمة، وللتوكيد على "الوصد" يمكننا أن نسوق أكثر من مثال؛ أولا: إن عددا كبيرا من السلاح الذي "تم جمعه" تم بيعه، ذاته، بعد سنوات في السوق السوداء. ثانيا: نسبة العنف الذي يتجسّد بإطلاق النار في المجتمع الفلسطيني هي ثمانية أضعاف النسبة في المجتمع اليهودي. ثالثا: إن أكثر من 70 فلسطينيا استشهد برصاص الشرطة منذ عام 2000، في المقابل قُتل أقل من 10 مواطنين يهود. وعندما ننظر إلى نسبة إلقاء القبض على القاتل فإن التفاوت مرعب بين الطرفين. وفي حادثة لم يمضِ عليها أكثر من شهر، واستطاعت الشرطة فيها وفي غضون ساعات؛ إلقاء القبض على السلاح الذي التقت فوهتهُ بها في مدينة أم الفحم، بينما لم تستطع العثور على كثير من الأسلحة غيره، الأسلحةُ الموجهة من أبناء أم الفحم لأبنائها الآخرين، يا للطرافة!.

وللنقد الذاتي، حتى نوفي كافة الجوانب حقها، فإن المجتمع الفلسطيني يمكن له أن ينتج الشبان الذين يمكن أن ينخرطوا في مثل هذه العصابات، أو أن يقوموا بأعمال العنف والجريمة، إذ أن إنتاج هذه الفئات، لا يعود فقط إلى الاستعمار، فالمجتمع الفلسطيني يملك العديد من الفئات المهمشة والفقيرة، والتي هي "جنود" تلك العصابات أو القاتل والمقتول. فئات مهمشة عن مركز الأحداث والفعل "المهم" فتجد نفسها في الأطراف، وتستقبلها إغراءات تلك العصابات، من مكانة مجتمعية يهابها الجميع، ومن المال الذي سيحصلون عليه، وغيرها الكثير من "المغريات"، ولا نستغرب كثيرا عندما يكون معظم أفراد تلك العصابات والتكتلات الحمائلية هم العمال الكادحون، أصحاب الدخل المحدود، والاستعمار هو الذي يحدد بطبيعة الحال، هذا الدخل للعامل الفلسطيني، أقصد أغلبية الشعب؛ من يستيقظون باكرا للعمل ويعودون منه يجدون فراغا في جدولهم النهاريّ كما الليليّ، فقد انعدمت الملاعب والمراكز الرياضية والترفيهية، وبالطبع الثقافية، عن الحيِّز العام في المناطق المستعمَرة منذ 1948. فهذه المراكز غير مربحة لرأس مال الفلسطيني.

وما يكرّس هذه الحالة أيضا؛ انصرافُ "النخبة" المتعلّمة إلى سوق العمل الإسرائيلية حتى توفّر لذاتها معاشا يوفر لها "حياة كريمة" دون إفادة المجتمع بهذه الشهادات والألقاب الأكاديمية، أو تراه ينسلخ عن مجتمعه ويتعالى على أبنائه لأنهم هم "المتخلفون" وهو "الحداثي" "التقدمي". وفي هذا نوع من "الفصل" بين أبناء الشعب الفلسطيني، هو نتاج الخضوع لأيديولوجيا الاستعمار المسيطرة.

وفي الحديث عن المراكز الثقافية، فأنا لا أُطالب رأسَ المال بإقامة مشاريع ثقافية توعوية، فهذا قفز عن فهم طبيعته، بل أقصد غياب دور الأحزاب السياسية بالدرجة الأولى، أي غياب مشروع سياسي فلسطيني جامع، يحاكي هموم الناس اليومية، لا يضعها على الأطراف، بل ويضع هذه الهموم في سياقها الصحيح، وهو سياق سياسي بامتياز، أو لنقل إنه موجود، لكنه مهمّش في أماكن، وضعيف الحضور في أماكن أخرى، وهذا موضوع آخر لسنا هنا في صدد معالجته، وقد نجد مشروعا آخر يدّعي السياسة ويدّعي أنه يحاكي هموم الناس ويريد معالجتها لكنه يقول في حديثه عن العنف "كثير من المتحدثين بقضايا الجريمة يبتعدون عن المصدر الرئيسي للقتل وهو عصابات الإجرام المنظّم لدى المواطنين العرب" -ولو أردت أن أقتبس أكثر من هذا لما انتهيت-. أي إنه قَفَزَ عن بيئة هذه العصابات وقيّمها -أي العصابات- بأنها "الخطر الرئيسي" وصنّف الفلسطيني القابع تحت الاستعمار بأنه مواطن عربي في إسرائيل، أي من حقه كمواطن أن تتدخل الشرطة، لتتصدى للجريمة، صنّفه بمنهجية تحديد هي الأقرب الى البهلوانية والابعد عن النقد العلمي لظاهرة العنف, اذ في هذا التحديد "للمصدر الرئيسي للقتل" خروج عن تحديد الفعل الاستعماري في مجتمعنا، وبهذا التحديد بالذات يتحدد المشروع الذي يحمل هذا الخطاب، ويمكننا القول إن هذه المشاريع طفت على السطح بعد غياب المشروع السياسي آنف الذكر.

وفي جانب آخر يحتاج إلى ما هو أوسع وأعمق من مقالة، هو الإسلام السياسي - الشعبوي الذي نجد رجاله، رجال "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" يقفون جنبا إلى جنب مع زعماء تلك العصابات في "جاهات الصلح" وشرّ البلية ما يضحك. ويأتي الشيخ يلقي آية قرآنية يخّدر بها الحاضرين، ويخلع على نفسه "رهبة" رجل الدين بعد أن وقع الفأس بالرأس، وتنتهي الجريمة، بالنسبة له، في لحظة زمانية خارقة هي احتساء فنجان قهوة ومن ثم التقاط الصور مع بعضهم البعض، وبعد هذا المجهود الجبار يذهب إلى منبر خطبة الجمعة يحرّض ويكفّر ويصرخ.

ونجد القرى والمدن التي يملكون نفوذهم الأكبر بها تعج بالعنف والجريمة، يا للغرابة!. وسأكتفي بهذا العرض البسيط والسريع لدور الإسلام السياسي - الشعبوي في العنف، ولن أتطرّق هنا إلى دورهم في تعنيف المرأة وتهميش دورها في المجتمع، حتى لا أطيل أولا، ولأن هذه مواضيع دراسة كاملة، وهذه مقالة وليست دراسة.
ومن المهم التنويه إنني لا أقصد أن التفكير الديني هو سبب العنف، إطلاقا، إذ على مستوى التفكير، أي الحقل الأيديولوجي في الصراع، فإن الأيديولوجية الاستعمارية المسيطرة هي المؤثرة والفاعلة، وليس الأيديولوجيا الدينية وإن كان التفكير الديني، في مستوى معين من مستوياته، تيارا في الأيديولوجيا المسيطرة.

إن الخطأ في مواجهة العنف يزيد العنف عنفا، وإن المرجعية التي لا تضع العنف في سياقه تفاقم تأثيره ومداه على المجتمع، فقد تحولت مواجهة العنف إلى مشروع أسرلة، وقد وجد بعض الناس مكانتهم في هذه "المواجهة" وحوّلوها إلى "كريديت" خاص، وليس هما جماعيا ينهش في جسدنا. وبالمناسبة، أنا لم أطرح في هذه المقالة "حل مشكلة العنف" هذا لأن الحلول لا تكتب على شاكلة مواد أو مقالات، كما أنها لا تخرج من الصالونات، بل هي مؤسسات على الأرض وحراكٌ مادي سياسي وطني شامل، تسبقه الدراسات العميقة التخطيطية، يشكل الوعي الجمعي عند عموم أبناء الشعب. وإن تحليل هذه الظاهرة، بغية حلها، في منهج علمي، هو ما يكتب في المقالات والمواد، ومن ثم يعود إلى الواقع الذي انطلق منه، يصطدم ويتفاعل معه وتناقضاته، يحل ومن ثم يربط، أي يُعَلمِن.

 


تصميم وبرمجة: باسل شليوط