في العلاقة بين الانتفاضات العربية والانتفاضات الفلسطينية

منذ البدء كانت فلسطين قضيه عربيه. ومنذ البدء كان سبب الهزيمة أمام الغرب الاستعماري التأخر العربي، والفوات الحضاري مقابل تفوق الغزاة. وفِي سياق التواصل التاريخي والجغرافي والحضاري بين أقطار الوطن العربي سُجل نجاح الحركة الصهيونية في احتلال واستعمار فلسطين كهزيمة عربيه، وليس فلسطينية فحسب.

تحررت الأوطان العربية من الاستعمار الغربي وبقيت فلسطين مستعمرة، تقاوم ومعها العرب في مرحلة أولى لم تدم طويلا. وحدها واصلت المقاومة، كما هو حاصل الآن. وهي مرحلة ينشغل فيها البعض من العرب في التآمر المباشر والصريح على فلسطين، وبعضٌ آخر قلب وجهة مدافعه نحو الداخل، وانشغل في إبادة المواطنين وتدمير الدول، مقاوما التغيير.

على خلفية هزيمة عام ١٩٤٨، انتفض ضباط شباب، مفعمون بالحسّ الوطني والقومي، وأطاحوا بأنظمة فاشلة ومرتبطة بالاستعمار، أي من كان مسئولا عن الهزيمة وعن تكريس التأخر العربي.

انقسم الوطن العربي إلى معسكرين، الأول معسكر قومي مناهض للاستعمار، والثاني معسكر رجعي مرتبط مع الغرب وتحت حمايته .

تزعم المعسكر القومي، الذي علقت الشعوب العربية كل آمالها عليه، الضابط الشاب جمال عبد الناصر، الذي رجع إلى القاهرة من فلسطين، بعد الهزيمة، مخذولا، ولكنه كان مصرا على التغيير، فكان له ما أراد. وغدا رئيسا لمصر، مفجرا حالة ثورية في الوطن العربي، خاصة بِعد أن خاض معركة التأميم والاستقلال ضد العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦، بالترافق مع إصلاحات اجتماعية وتعليمية بعيدة المدى. كانت مسيرة هذا الضابط الشاب، وغيره من الشباب القومي في كل من الجزائر وسوريا والعراق واليمن وغيرها، مشبعة بالإرث الإصلاحي والنهضوي والكفاحي، الذي تراكم عبر جهود واجتهادات مصلحين ومثقفين مناضلين (إسلاميين وبساريين وقوميين)، وحركات مقاومة، على مدار العقود، بل على مدار القرنين الماضيين. كما كانت التجربة العربية قبل الإسلام، وكذلك التجربة العربية الإسلامية الممتدة منذ ثورة النبي العربي محمد بن عبد الله، جزءا عضويا من تكوينهم الفكري. أما التجربة الحداثية الغربية التي تأثروا بها، فلم يستوعبوا كل عناصرها، سوى في تنظيم الجيش وطرق الإدارة وفِي مجالات أخرى. أما النظام السياسي الحديث، القائم على فصل السلطات والتداول السلمي للحكم، وعلى التعددية وحرية التعبير والتنظيم والتمثيل البرلماني، فقد ظل بدعة غربيه لا تلائم مجتمعاتهم في نظرهم. ولكن حصاد هذه التجربة، ورغم الإنجازات والتحولات التي قادوها في المجال التعليمي والثقافي، كان الفشل في إقامة دول، ناهيك عن الفشل الذريع في تحقيق الوحدة العربية التي كانت شعارا لكل القوميين. أما دول الخليج، فقد ظلت محميات غربيه بلا استقلال، محبوسة في اقتصاد ريعي غير منتج، دول تملكها عائلات وقبائل.

وبالتالي، لم تتمكن النخب العربية على كافة ألوانها الأيديولوجية والفكرية، من بناء دولة عربية قطرية واحدة تكون نموذجا للدولة الحديثة العصرية، وتكون مختلفة عن الأنظمة الملكية، أو ما اصطلح على تسميته بالمعسكر العربي الرجعي . والمفارقة أن الأنظمة الجمهورية فاقت الأنظمة الملكية في مجال القمع وسحق المجتمع المدني، الذي حال دون تشكل حياة سياسية نابضة، وبدائل حقيقية للحكم القائم. وازداد القمع والتغول والاعتداء على حقوق وحرية المواطنين طرديا، مع تفاقم أزمة الحكم وإخفاقه على مستوى الداخل، أي على مستوى تحقيق الأمن والأمان للمواطنين، وعلى صعيد العجز عن تحرير الأرض العربية وتحرير فلسطين.

لقد أدى هذا العجز إلى ارتفاع أصوات النقد الصادرة عن مثقفين ونشطاء جريئين، وعن حركات سياسية تقدمية، ضد انظمه الحكم وأجهزتها القمعية. ويُعزى هذا المستوى من القمع الذي مارسته الأنظمة القومية، الجمهورية، إلى الصورة التي كونتها عن ذاتها، صورة مقدسة، نابعة من وهم تبوء الصدارة في الدفاع عن قضية التحرير أو المواجهة مع العدو الصهيوني. وبدل اعترافها بالعجز والفشل وفساد أنظمتها، راحت تعوض عن ذلك بتشديد الملاحقة والقتل وتجويف المجتمع والحياة السياسة للحفاظ على السلطة بأي ثمن.

وباستثناء مصر جمال عبد الناصر، فقد تحولت الجمهوريات العربية إلى عزبةٍ لعائلة، بعد أن ورّث الرؤساء العرب أبناءهم، كما هو الحال في دول الخليج. فعلى الرغم مما على الرجل (عبد الناصر) وما له ، فهو لم يمتلك قصرا أو ثروة، وهو الوحيد الذي تجرأ بعد عدوان حرب عام ١٩٦٧ الكارثيه، على الإعلان عن مسئوليته عن هذه الهزيمة، وأعلن استقالته، ولم يضع المسئوليه فقط على المؤامرة الخارجية، مع أنه بالفعل كانت هناك مؤامرة عليه، في حين أن حكاما آخرين يصرون على التمسك بالحكم، رغم انه تحت قيادتهم لم تبق دول، ليس بسبب مؤامرة، بل بسبب عواقب بطشهم بشعوبهم .

ولكن ما يجب الإشارة إليه هو أنه بعد وفاة جمال عبد الناصر، تبين أن الإنجازات التي تحققت في فترته لم تُبنى على أسس راسخة في الحكم والمجتمع، والدليل أن أنور السادات، المرتد عن الثورة، تمكن من الانقلاب على كل ذلك في لحظة قصيرة، دون مقاومة حقيقية.

الثورات العربية تتوقف عند أبواب فلسطين

على وقع هذا الفشل المدوي للأنظمة العربية، تفجر غضب الشعوب العربية التي تحررت من كابوس الخوف والترهيب. وارتسمت مشاهد آسرة للعقول والقلوب في شوارع وميادين العواصم والمدن، ومستنهضة للآمال والأحلام التي تكسرت أكثر من مرة، في طول الوطن العربي وعرضه. جماهير، بصدورها العارية، تخلع الطغاة، وتدق أبواب طغاة آخرين، وتُبشر بمرحلة جديدة. إن المآلات الراهنة، المأساوية، لهذه الثورات، لا تعني نهاية المطاف، بل مقدمة لموجات قادمة من الحراك والفعل الثوري.

هذه المشاهد ليست جديدة كليا في الوطن العربي، فالتفاعل كان دائما حاضر، وإن بمستويات متفاوتة. وقد لا يسارع الكثيرون إلى التذكر أن مشاهد مشابهة، أي انتفاضات شعبية عارمة، حدثت في أحد الأقطار العربية، سبقت العالم العربي. إنها الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى، غير المسلحة، عام ١٩٨٧، التي استمرت خمس سنوات متتالية. وقد سحرت هذه الانتفاضة الفلسطينية العالم أجمع، وكذلك جماهير الوطن العربي. وتحولت كلمة انتفاضة إلى كلمه عالميه. وجاءت هذه الانتفاضة الفلسطينية الشعبية المبهرة في ظل تعمق المشروع الكولونيالي الصهيوني في الأرض الفلسطينية، وبعد أن شعر الفلسطينيون أنهم تُركوا لوحدهم.

لقد تفاعلت جماهير الوطن العربي مع الانتفاضة الفلسطينية، ولكن ضعف القوى الوطنية والقومية واليسارية العربية، وتحالف بعضها مع الأنظمة القائمة، بعدما أنهكها القمع، وكذلك جمودها الفكري والتنظيمي، كل ذلك حال دون تشكل حالة ثوريه عربيه مساندة لهذه الانتفاضة، ولربطها بضرورات التحول الديمقراطي داخل بلدانها .

لقد وصلت الثورات العربية الأخيرة إلى معظم الأقطار العربية، ولكنها لم تصل إلى فلسطين. ودارت أسئلة ونقاشات كثيرة بخصوص أسباب ذلك. فقد كان يفترض الكثيرون أن تكون هذه الثورات مقدمه ليس لوطن عربي جديد، ديمقراطي وحر وموحد فحسب، بل أيضا مقدمه لإطلاق مسار تحرري فلسطيني جديد، يستعيد مركزية قضية فلسطين كقضية عربية، في مواجهة الهيمنة الخارجية، وتحديدا الأميركية والصهيونية. وشجع على هذا الاستشراف، ما قامت به الجماهير المصرية حين اقتحمت سفارة كيان الأبرتهايد في القاهرة .

وتبين أن الواقع الكولونيالي المركب، الذي ُدمجت فيه السلطة الفلسطينية كرادع وقامع للمقاومة، إضافة إلى الانقسام الكارثي ، شكل حاجزا منيعا أمام عدوى الثورات العربية. يضاف إلى ذلك عجز وضعف وتآكل هوية فصائل المعارضة الفلسطينية المنضوية داخل منظمة التحرير التي باتت ملحقة بسلطة أوسلو، التي لم تكن متحمسة للثورات العربية، بل كانت تشعر أنها تهدد مشروعها.

لذلك، تمكنت سلطة أوسلو، ولاحقا سلطة حماس في غزة، من وأد الحراك الشبابي، الذي انطلق ، في شهر ٢٠١١، في رام الله وقطاع غزه ، وهو في المهد، وذلك قبل أن تتحول الثورات إلى حروب أهلية وحروب بالوكالة. وبذلك، تم دفن مبادرة شبابيه خلاقه نحو فتح أفق فلسطيني جديد، لإنهاء الانقسام وتحريك الناس ضد المشروع الكولونيالي .

وتلا إحباط هذه المحاولة الشبابية الفلسطينية مرحلة عسكرة الثورات ونجاح الثورات المضادة، مما أثار الإحباط واليأس في صفوف الشباب العربي، وراكم صعوبات تجديد الحراك الشباب الفلسطيني. وقد تراجعت آمال الشباب الفلسطيني على الثورات العربية بعد ما لحق بها من تخريب .

لقد بات الإنسان العربي مشغولا في النجاة بحياته تحت وطأة أنظمة مجرمة، تنال من بيته وأبنائه ولقمة عيشه. مع ذلك، ورغم انتشار اليأس بين شرائح واسعة من المجتمعات العربية، وخاصة الشباب، إلا أن هناك، وفي مختلف أنحاء الوطن العربي، من يواصل التمسك بالنشاط الثوري، وبالإصرار على متابعة العمل من أجل تجديد ومراجعة المرحلة، ومتابعة الطريق نحو الحرية والتحرر.

شعب فلسطين يجدد المعركة من سجنه

إنه لأمر مذهل أن يُجدد شعب فلسطين معركته التحررية، رغم كل ما يحيطنا من دمار وحصار وعدوان.

إنه لأمر يثير الاعتزاز والشعور بالثقة الكبيرة أن هذا الشعب لا يستسلم لليأس والتيئيس. ربما ينسى البعض أن شعب فلسطين، رغم ما يولده بطش الأنظمة العربية بشعوبها، وكذلك المشروع الاستعماري، والانقسام الفلسطيني، من مشاعر المرارة والخذلان، خاض شعب فلسطين في السنوات الأخيرة معاركا بطولية، وأقدم على تضحيات كبرى، سواء على المستوى الجماعي أو على المستوى الفردي. ففي عام ٢٠١٢ وفِي عام ٢٠١٤، خاضت المقاومة في غزه حربا دفاعية بطولية في وجه عدوان صهيوني دموي، دون أن ترفع الراية البيضاء .

أما على مستوى المقاومة الشعبية المدنية، فقد انخرط فلسطينيو مدينة القدس وضواحيها، منذ عام ٢٠٠٨، في انتفاضات شعبيه لافتة، تتجدد بين الحين والآخر، وصلت ذروتها في انتفاضة البوابات الالكترونية، الصيف الماضي، والتي أعادت مشاهد الثورات العربية في الميادين إلى الأذهان. وفي هذه الفترة، وبالتفاعل مع هذه الانتفاضات، خاض فلسطينيو الـ٤٨ نضالات ومواجهات مع قوات القمع الإسرائيلية مؤكدين على وحدة الشعب والقضية. يضاف إلى ذلك الحراك الثقافي والأكاديمي، الذي يصبُّ في مسار توطيد وتعزيز الوعي بالسردية الفلسطينية، وبكون قضية فلسطين، قضية تحرر وطني من نظام أبارتهايد كولونيالي.

إن مسيرة العودة الكبرى، التي تفتقت فكرتها عن جيل الشباب، هي استمرار وتطوير لمسار شعبي كفاحي مارسه الشعب الفلسطيني منذ بداية الغزوة الصهيونية لفلسطين، ولكنها تشكل نقلة نوعية في الممارسة والفكر السياسي الفلسطيني، من حيث ترسخ القناعة لدى كل الفصائل المسلحة، خاصة حركة حماس، بالأهمية الإستراتيجية لشكل النضال الشعبي المدني، إلى جانب الأشكال الأخرى من النضال.

والسؤال الآن، إذا كانت مسيرة العودة تُبشر بإعادة توحيد فلسطين أرضا وشعبا في الوعي الشعبي العام، وتنهي فكرة التقسيم، من خوض المعركة تحت شعار يوحد الكل الفلسطيني – مطلب حق العودة، وإذا كانت هذه المسيرة تُبشر بفتح الأبواب نحو استعادة عروبة فلسطين، أيضا في الوعي الشعبي العربي، ألا ينبغي التفكير والبدء بتشكيل هيئه شعبية عربية من المحيط إلى الخليج، يسعى إليها فلسطينيون من ذوي الاتجاهات التحررية، بالمفهوم الشامل، أي تحرر وطني وديمقراطي، لإعادة القضية الفلسطينية بقوة إلى الأجندة الشعبية في أقطار الوطن العربي، وتضغط على الأنظمة والحكومات لردعها على الأقل عن التوغل في التطبيع مع نظام الاستعمار الصهيوني. كيف تكون حركة تضامن عالميه مع النضال الفلسطيني منظمة وفاعلة، ولا تكون حركه مشابهة في الوطن العربي!

ندرك أن المسألة ليست سهلة، بل قد يذهب البعض إلى القول إن هذا المطلب غير واقعي، بسبب انشغال المواطن العربي في معركة وجوده، وفِي مواجهة كوارث القمع والتدمير، خاصة في سوريا واليمن والعراق ومصر وليبيا.

ولكن يمكن البدء في أقطار عربية أخرى، حيث لم تصل الحالة الداخلية فيها إلى مستوى الحروب الداخلية، أو التي نجت من الحروب الأهلية.

لقد كان مأمولا، في بدايات الثورات العربية، أن تتشكل حركة شعبيه عربيه موحده ديمقراطيه (أمميه عربية)، تمثل كل الثورات لتوجهها وتساندها، وألا تترك للأنظمة العربية الرجعية ولدول إقليمية، التي ليست الديمقراطية في قاموسها، حرية العبث فيها. ولكن هذا لم يحصل، وقد يأتي الوقت الذي تنشأ الحاجة إليها، لأن مخاض التغيير في الوطن العربي لن يتوقف، إذ أن كل الأسباب التي فجرت الزلزال العربي لا تزال قائمه: القمع، الفقر، البطالة، الخضوع للخارج.

إن ما أحيته الثورات العربية من مفاهيم الثورة والتغيير، والمجتمع المدني، وتداول السلطة سلميا، وقيم الحرية والتحرر والعدالة الاجتماعية، يجب أن يكون في صلب برنامج أي هيئه عربيه موحدة، وفيها فلسطين. هذه الهيئة يجب أن تكون ذات اتجاه تحرري شامل، تحرر المواطن من الاستبداد والفقر والعوز، وتحرر الوطن من الهيمنة الامبريالية والاستعمار الصهيوني. لقد بات على العربي الفلسطيني أن يذوت واجب التماثل الفعلي والاندماج في هموم المواطن العربي ، والانحياز الكامل والفعلي إلى جانب طموحه ، أن يعيش بأمن وأمان، متحررا من سطوة الدوله البوليسية ومن كل أشكال القهر .

هذا باعتقادي هو مسار الفعل الفلسطيني، المطلوب، بعد كل ما وصلنا إليه.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط