التكريم: الأصل والحاصل

تطالعنا في مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت الأخرى أخبارٌ عن تكريمٍ تلوَ تكريمٍ، تباعًا. جميلٌ وحسنٌ ورائعٌ أن يكرّم المجتمعُ بناتِه وأبناءَه، وحتّى أصدقاء له من خارجه (يلّا، فكرة لتكريم أول خواجا/ية!). لكن، على أهميتهما، لا يُختزل التكريم في شخصٍ ت/يكرَّم وشخص أو جماعة تكرِّم. للتكريم أصل وأصول، وله أركان.

في الأصل التكريم هو عملية اعتراف وإقرار علنيّين بتفرّد الفرد المكرّم/ة في مجال حياتيّ معين، وبإسهامه/ا وبذله/ا في الوقت ذاته للمجتمع في هذا المجال، أوبموقف بطوليّ أو إنجاز أو تصرّف استثنائيّ قام/ت به أحدهم/إحداهن. والتكريم يصدر عن جهة مخوّلة، ويعبَّر عنه باحتفاليّة ذات مراسم وطقوس، ووفق معايير محددة.

ثمة عدد من الأسئلة المهمّة هنا يمكن تصنيفها في مجموعتيْن. في المجموعة الأولى سؤالان مركبان: أوّلهما متى وكيف يتعيّن التفرّد الفرديّ والإسهام المجتمعيّ، كلّ على حدة وكلاهما مجتمعان؟والسؤال الثاني، ما هي الجهة المخوّلة لمنح الاعتراف والإقرار المذكورين؟ وفي المجموعة الثانية ثمة سؤالان آخران سوسيولوجيّان في جوهرهما: لماذا هذا الكمّ من التكريمات، وبكلمات أبسط ما هذا "الفَيَعَان" على التكريم في مجتمعنا، نحن فلسطينيو 48؟! ولماذا الآن، في السنوات الأخيرة؟

لن أجيب هنا عن هذه الأسئلة بشكل منهجيٍّ ووافٍ، وعن الأخيرين لن أجيب إطلاقًا، فالوسيلة لا تحتمل. باقتضاب شديد، يتعيّن التفرّد الفرديّ في مجال حياتيّ ما حصيلة لمشروع حياة، أو لمشروع طويل الأمد يمتدّ لسنوات طويلة، هي الزّمن الضروريّ للتأهّل، والتطوّر، والتخصّص، ومن ثمّ التّفرّد، إنّ هو حصل، مع مراعاة الفوارق القائمة بين الحقول المختلفة التي تعوزها هذه في عامل الزمن وعامل الانكشاف للجمهور الواسع وغيرهما. وكذا بالنسبة للإسهام والبذل المجتمعيّيْن، حيث يقاسان في كلّ محطة ومحطة وفق معايير، ويتراكمان في كلٍّ شموليٍّ يسِمُ الفرد بالتفرّد والإسهام، وبحقّ. والواقع أن التميّز الفرديّ لا يعني بالضرورة إسهامًا وبذلًا للمجتمع، فكم من نجاحٍ فرديٍّ انحصر في كونه نجاحًا فرديّا ولم يترجَم بشكل فاعلٍ إلى إسهامٍ مجتمعيّ، وإلّا لكان حالنا أفضل!

في التكريم ركنٌ غاية في الأهمية، هو الجهة التي تكرّم. ويشترط فيها أن تكون ذات اختصاص ومهنيّة، وذات صلاحيّة في المجال الحاصل فيه التكريم، بحيث يخوّلها هذا أن تكرِّم. وعادةّ تنتدب هذه الجهة المخوّلة لجنة مختصّة لتقييم تفرّد الشخص المزمع تكريمه/ا، وإنتاجه/ا، وإسهامه/ا المجتمعيّ وفق معايير مهنيّة "موضوعيّة" شفّافة، وعادة يدوّن القرار الصادر عن هذه الجهة أو اللّجنة بهذا الخصوص، ويعلن عنه كتابةً وقراءةً في مراسم التكريم ومن على المنابر (الالكترونية والورقيّة) ذات الصّلة، بوصفه المسوّغ لاستحقاق التكريم. ولكي تكسب الجهة المهنيّة هذه المهارات والصلاحيّة والتخويل، ينبغي أن تكون جسمًا أو تنظيمًا معروفًا في المجال المحدّد، له خبرته ورصيده التراكميّ، والذي، مرة أخرى، يعوزه عامل الزمن والتجربة والصّدقيّة والمصداقيّة. هذا، وبعض حالات التكريم لا تتطلب إلّا شرطَ التقاعد عن العمل، مثلًا، حين يكون المكرِّم مكان العمل أو الجّهة المشغّلة، ولا بأس.

التكريم كما هو حاصل في ربوعنا لا يتطابق مع الحالة النموذجيّة أو المعياريّة، ولا يقترب منها. يكفي ألّا يتوفر أحد أركانه ليقع خلل. لدينا من هم وهنّ أهلٌ للتكريم، فهل لدينا جهات مخوّلة لتسميتهم واختيارهم وصوغ الاعتبارات المهنيّة الموضوعيّة والصدقيّة التي تسوّغ خصّهم بالتكريم؟ شيوع التكريمات الحاصل في الأوساط المختلفة عندنا، والأدبيّة منها على كثرة رابطاتها حديثة العهد هي أبرزها، وفي أوساط لا تسمية ولا صفة رسمية لها، ومن جهات وأشخاص لا صلاحيّة لهم بهذا الخصوص، وتجاه أشخاص لا يستوفون حدّ الاستحقاق، كل هذا يفرغ التكريم من مضمونه، وهو ليس إلّا "كرّمني/ كرميني، بكرمك"، أو أقايضك، أيّا كانت أشكال التكريم رهن المقايضة، وأيًّا كانت "البضائع" رهن المقايضة.

حسنٌ ورائع بل وضروريّ أن يكرّم المجتمع أبناءه وبناته، ففي هذا اعتراف باستحقاقهم وهم أحياء، ولطالما تذمّرنا من أن "لا نبيّ في بلده"، وكم من مناسبة أسمعْنا فيها أن مجتمعًا لا يقيّم ويكرّم أبناءه وبناته، لا يستحقهم ولا يستحق بِرّهم، وأنّ في التكريم شحذ لطاقات وهمم الناشئين بين ظهراني المجتمع! السؤال: أين نحن وما هو حاصل من أصل وأصول وضوابط التكريم؟!


تصميم وبرمجة: باسل شليوط