بؤس المواقف في مواجهة البطش الإسرائيلي

بنظرة سريعة على التفاعلات السياسية والشعبية الفلسطينية يتبين بيسر وسهولة أن التفاعلات لا زالت بائسة. التصريحات الخجولة، أو المراوغة، أو المبادرات الفيسبوكية، أو حملات التضامن الشعاراتية، أو الانتقادات الهدامة - الصريح منها والضمني، ليس ما تحتاجه خطوة مسيرة العودة. بؤس التفاعلات أو القصور عن التفاعل الإيجابي أو البنّاء لا يعود إلى صغر الحدث أو تفاهة الخطوة؛ إنما لأسباب يريدها أو يتجنب معالجتها البائسون. والبائسون هنا، عاجزون ولا يكتفون بتسخيف الخطوة، أو التشكيك بها، أو إهمالها هروبا من عجزهم أو إخفاء له؛ بل زادوا على ذلك في محاولة استثمارها - دون بذل أي عناء - لترويج نهج الارتهان لإرادة الدول من جهة، وللاستمرار في تغييب إرادة الشعب من جهة ثانية. ولا يخفى على أحد أن تغييب إرادة الشعب قد يكون تعبيرا عن الاستبداد كما في حالات الانظمة القائمة في كثير من الدول، وقد يكون عجزا بنيويا في قوى حركة التحرر، وقد يكون مزيجا من الاثنين، كما في الحالة الفلسطينية.
وبمتابعة للتفاعل الإسرائيلي، يتبيّن أنه الأوضح من بين التفاعلات. فإسرائيل وجدت نفسها في مأزق سؤال كيفية المعالجة. والمأزق هنا ليس ناشئا عن احتمال تنفيذ العودة الآن؛ بل ينشأ عن تحدَّ جديد اعتقدت أنها لن تضطر إلى أن تواجهه - على الأقل في ظل حالة التراجع الفلسطيني الراهنة والوضع المتردي في الإقليم برمته. يتمثل هذا التحدي في احتمال أن تشكل خطوة المسيرة كسرا لحاجز الصدمة والخوف الذي حال دون وجود وتطور برنامج فلسطيني جدي للعودة منذ النكبة. وجدت إسرائيل نفسها مضطرة للاختيار ما بين اعتبارين. الأول: التفاعل الدولي والتفاعل الفلسطيني المحتمل مع خطوة مسيرة العودة من جهة. الثاني: استراتيجية إدامة حالة الانكسار الفلسطيني من جهة ثانية. ولأن إسرائيل واثقة من استفحال حالة الانكسار في الضفة والداخل والشتات، ومطمئنة تماما إلى الدور الغربي، وخصوصا الأميركي في كبح التفاعلات الدولية، اختارت القمع بشدة. هذا الاختيار نابع من إدراك عميق لخطورة الخطوة فيما إذا أدت إلى كسر حاجز الخوف لدى الفلسطيني. إن كسر هذا الحاجز، يعني بداية الخروج من حالة العجز ودوامة انتظار إنفاذ المجتمع الدولي لوعوده. وبالمعنى الاستراتيجي، يشكل هذا الخروج الخطر الأكبر على المشروع الصهيو-إسرائيلي الاستعماري. إسرائيل تدرك أن العودة لن تتحقق عبر هذه المسيرة، ولكنها تدرك أيضا أنها قد تشكل نموذجا لمبادرات فردية وجماعية لا حصر لها. وأزمة إسرائيل، لن تكون في قمع المبادرات بذاتها، بل في تبلوّر وعي الفلسطيني لذاته، وحقوقه، وقدراته ومشروعه التحرري بالتالي. وعليه، لم يكن الإسراف والوحشية في القتل عبثيا، انما الغاية منه إعادة الوعي إلى مربع الصدمة، والخوف والانكسار. ولعله من المجدي هنا التساؤل عن مصدر بعض الفيديوهات المصورة والتي تُروِّج بكثافة مشاهد القنص من الخلف، أي من مناطق وزوايا لا يمكن تواجد كاميرات فلسطينية فيها.
رغم أن بؤس التفاعلات الفلسطينية في الضفة والداخل والشتات مع الخطوة ملحوظ، إلا أن تجاوزه لا يزال ممكنا. بلا شك، كان لانحسار مشروع أوسلو وآثاره الكارثية على الوعي الوطني، والحصار الدائم والمطبق وآثاره على معيشة الناس، ووجود تنظيمات فاعلة وسط الناس، ووجود مصلحة لدى حماس في فك الحصار ومنع فرض عقوبات جديدة على القطاع، تشكل أسبابا هيأت قطاع غزة لإطلاق هذه المبادرة. ولا أحد يستطيع أن يدعي أن الخطوة لا تنطوي على أجندة سياسية قد تهدف من ورائها حماس إلى الخروج من أزمة لديها، ولكن سيكون مجافيا للحقيقة القول إن الخطوة بالمعنى التنظيمي ليست كبيرة، أو أنها بالقياس إلى الأثر غير مجدية. إن وجود قوى قادرة على تحفيز وضبط حركة الآلاف وتوجيهها إلى هدف وطني عام في ظل المعطيات الحالية، لهو دليل نجاح على القدرة على التأثير، وبالتالي التغيير. وبمعنى المخالفة، العجز عن تحريك الشارع والتستر وراء تضامن لفظي لا يعدو كونه دليل خلل بنيوي أو انتهازية مفرطة. ويصبح الأمر مدعاة للسخرية عندما يسوّق العاجزون أنفسهم عبر الادعاء أن المسيرة هي نجاح لبرنامج المقاومة السلمية! فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يتم محاكاة مسيرة العودة بمسيرات حتى وإن جاءت محدودة زمنيا وأقل حجما في الضفة وغيرها؟
إذا كان صحيحا، وهو كذلك، أن تنظيم الجماهير تجسيد لقدرة التنظيم والعكس صحيح، فإن بؤس المواقف وغياب الحركة الجدية للنهوض بقضية اللاجئين وإعادة الاعتبار لحقوق شعبنا المهدورة يثير الكثير من الأسئلة عن جدوى القائمة الطويلة للتنظيمات والاحزاب الفلسطينية سواء المنضوية أو غير المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية، أو المنضوية أو غير المنضوية في الكنيست.
إنه لمن المنصف القول إنه إذا كان ما يجري في غزة نجاحا لنهج المقاومة السلمية، فالجميع بلا استثناء أمام تحدّ كبير. ولا يندرج ضمن هذا التحدي التباهي بأن نهج المقاومة المسلحة قد فشل، أو الادعاء بأن الخطوة حمساوية. هكذا مزاعم تندرج ضمن التجاذبات الحزبية والانقسام المقيت وليس ضمن الاستعداد لخوض التحدي. ومثلما لا يجدي الاكتفاء بمواصلة طلب عقد الجلسات الطارئة لمجلس الأمن الدولي، فإنه ليس من الحكمة أيضا المراهنة على تحقيق بعض التفاعل الفلسطيني بانتظار مزيد من الشهداء من باب ما يسمى فعاليات التضامن، وكأن الحديث يدور عن تضامن بين شعوب. ولن يكون نجاحا انتظار فرصة احتشاد الشارع فيما غدا يعرف باحتفاليات ذكرى النكبة السنوية. سيكون كارثيا على المستوى السياسي العمل على إفشال الخطوة أو فشلها بالتدريج. وسيكون كارثيا أيضا على المستوى الشعبي عدم إسناد الخطوة بفعاليات منظمة تحاكي الحالة في قطاع غزة. الإبداع الثوري، وهو مسؤولية الطليعة، يكون عبر المحافظة على شعبيتها، وخلق مفاعيل استمرارها. ربما لا يكون متاحا الآن معالجة العجز لدى القوى أو آثار أوسلو، ولكن بالتأكيد القوى مطالبة بالعمل فورا، وبإطلاق المبادرات الشعبية. وبلا شك، فإن شعبنا لديه الإيمان بحقوقه، وأثبت استعداده دائما للتضحية.
ربما لا تستطيع الضفة والداخل والشتات حشد عشرات الآلاف، ولكن ليس أيّ منها بحاجة إلى حصار ظالم لأكثر من عشر سنوات ليدرك أن وضعه - الذي قد يكون أحسن قليلا- لا كرامة له فيه، ولا حقوق مصونة له. الحقيقة، التي لا يجب إغفالها، هي أن الفلسطيني في مختلف المواقع مهدور الكرامة والحقوق رغم عدم تطابق أشكال القمع، والظلم، والتمييز، والإذلال، ورغم ما قد يبدو من تفاوت في المستوى. ليس أيّ من الضفة أو الداخل أو الشتات بحاجة إلى كثير من التمعن ليرى أهمية الاعتماد على الذات مقابل فشل المجتمع الدولي في إحقاق الحق، أو تواطؤه مع إسرائيل أو تآمره على قضيتنا وحقوقنا. وعليه، تكون الأولوية لفعاليات منظمة تحول دون تمكّن إسرائيل من إدامة حالة الانكسار والخوف. الأولوية لاستثمار اللحظة والحدث في تشكيل الفلسطيني القادر. لسنا بحاجة إلى سبعين عاما أخرى كي ندرك أن العودة – اذا كنا فعلا نريد العودة - رهن بإرادتنا. وغني عن القول، إن إطلاق الإرادة الشعبية وتحفيزها لا يعني دفع الناس إلى الموت، رغم أن للحرية أثمان لا بد أن تدفع في لحظة ما. وغني عن القول أيضا، أن المبادرات الشعبية لا تنتظر قرارا تنظيميا من قوى سياسية أقصى ما لديها التضامن مع شعبها.

(الكاتب هو مدير مركز بديل لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين - بيت لحم)


تصميم وبرمجة: باسل شليوط