رَزان النجار

 

رزان النجار الفدائية المسعفة المتطوعة التي ظلت تناضل على مقربة من الحدود مع فلسطين التاريخية، من أجل تضميد جراح شعبها منذ بدء انطلاق مسيرات العودة في 30 آذار/مارس الماضي، هذه الفدائية المسعفة التي قتلها قناص إسرائيلي غادر لكي يفجعنا ولأنه يعي ماذا تعني لنا رزان كفلسطينين، وهي التي كانت قد سبقت الجميع إليها دون موعد وبدون سابق إنذار، واستطاعت أن توحد الكل الفلسطيني حولها، وهي التي استطاعت من على نقاطِ الصّفرِ أن تبني دولة، مثلما فعلت الشهيدة دلال المغربي حتى لو لساعات معدودة او أيام أو أشهر.

رزان النجار التي لم تترك جريحا لم تسعفه، وهي تغامر بحياتها، كل حياتها، مدركة معنى الوطن بالنسبة للجيل الجديد الذي لم ير إلا الاحتلال والانقسام والحروب وكل أشكال المعاناة. رزان تسطر بكلماتها كل المعاني التي تعجز عنها البلاغة العربية وهي تخرج من طور الواجب إلى الإرادة والعزيمة الصلبة التي لن تلين تحت وطأة أي ظرف من ظروف الحياة حين كتبت "أنا بديت المشوار هنا ورح أنهيه هنا".

رزان التي كشفت عن وجعنا الغائر المفتوح على امتداد الوطن وكشفت عن بؤسنا أمامها لأننا لم نفعل لها أي شئ وهي على قيد الحياة، رزان التي لم تستطع أن تكمل تعليمها بسبب الظروف الاقتصادية في حين أن قادة الانقسام يدرس أبناؤهم في أرقى الجامعات في تركيا وأوروبا، رزان الملاك الأبيض التي لا يشبهها أحد وظلت جنازتها توازي جنازات الشهداء أبو عمار والياسين وكل القادة الفلسطينين.

يظل التساؤل الأهم والأبرز للقائمين على حياتنا، لماذا تذكرتم رزان بعد أن رحلت عنا وقررتم منحها شهادة الدبلوم فخريا في التمريض، أو ترميم البيت أو صرف مساعدة أو ما شابه ذلك.

كتبت الشاعرة آلاء القطراوي: صباح الخير يا رزان..

زيدي مساحةً ابتسامتكِ أكثر، لتظلّلني من قيظِ الصيف وحرقته، هل تحبّين اللون الأحمر؟ ما يستفزني أنّه جميلٌ كوردة جورية كبيرة وباذخٌ كفستان قصير منفوش، وفاتن إذا كان شالاً على وجهٍ ملائكي كوجهك، إلا أنّه مؤلمٌ جداً (كدمٍ على مريولٍ أبيض) .

هل يؤلمكِ الحُبّ؟

الحبّ الذي اكتشفته وهم يلمسون جثمانكِ في اللحظة الأخيرة، الأيدي التي رُفعَتْ وهي تلوّح لكِ، بينما لم تكوني على متنِ طائرة أو شباكِ قطار، لكن كنت فوق نعشٍ مغطىً بعلمِ فلسطين ومريولٍ أبيضَ عليه بقع كبيرة من دمك العابق .

هل آلمكَ صوتُ عاشقٍ انطفأَ فجأة، أنا أعلم أنكِ تتكلمين، إلا أننا لا نستطيع سماعك سوى في رؤيا، ولكننا منذ رأينا أمّكِ تحضنُ مريولكِ الأبيض كطفل، لم نستطع النوم أبداً، ولم نرك ممدة على فراشكِ السندسيّ تبتسمين ..

المهم ،

أنا مقهورة جداً، لأنَّ صورتك الكبيرة على مفترق السرايا جاءت متأخرة، أنَّ الرسام الذي رسمك ليهديك رسمته لم يجدكِ، وأنّ نصّي هذا، مجردُ استعراضٍ للغةٍ منهكة فحسب، وأنَّ القمصان التي طًبعَت عليها صورتك والتي جاءت مكان القلب تماماً، مجرّد حبّ متأخر، وأنتِ كنت على مدار الأسابيع الماضية تجتاحين الحدود وتسعفين المصابين بجرأة هائلة، تليق بفتاة فلسطينية، كانت آهات الجرحى أهم من جسدها الرقيق، ومن مبرد أظافرها، ودبابيس شعرها الملونة، كانت أهم من كحلها، وماركة قميصها، ورسالة حب محترقة في هاتفها المحمول، كانت أنّات الجرحى أهم، كانت أهم ..

أ ... ه.. م

وكعادتكِ سبقتنا في إنسانيتك،

وتأخرنا ككل مرّة في اكتشاف هذا الجمال الملائكي فيكِ ..

ماذا سترتدين في العيد؟ هل يحتفلون في الجنة؟ وهل ستحتاجين الأضمدة هناك؟ هل سيُتعبك الغاز المسيّل للدموع، وأنتِ تحاولين إسعاف طفلٍ من رصاصة أوقعت بعضاً من مخه في يدك، هل ستنكسر يدكِ، وتعودين من جديد للعمل باليدِ الثانية، هل تشاهدين فلسطين كاملةً، وهل رأيت القدس، ذهبيةً معتقّة، وعريقةً مُهَابة، كثغركِ المفتوح حين حاولوا إمدادكِ بالأكسجين، فأمدكِ الله به قبلهم، وأخذكِ بالقرب منه ..

يا رزان :

سلّمي على القدس من فوق، وظلّي ابتسمي، ولا بأس اتركينا لنحترق بدموعنا وحُرقة قلوبنا عليك، لنحاول الشفاء وسامحينا إن لم نستطع .

وكتبت الزميلة الصحافية عروبة عثمان: في كلمات الشهيدة رزان النجار "أنا بديت المشوار هنا ورح أنهيه هنا" اقتفاءٌ حاسمٌ للأثر؛ لم ترَ الأفق بعين المهمة الإنسانية بقدر ما رأته بعين روحٍ وثّابة تتخطّى القيود؛ تخرج من حدود "الواجب" وتدخل عالمًا طيّعًا لإصرارها على الوجود منذ أول يوم في مسيرات العودة. رزان لم تتعامل مع المسيرات باعتبارها عرضاً جانبياً لمهمة عمل. تعاطت معها باعتبارها بثًّا مترجمًا للإيمان بالعودة الذي يمسّها هي شخصيًا بصفتها فلسطينية قبل أيِّ مسمياتٍ وظيفيةٍ أخرى، وهو ما جعلها تنافح عن وجودها هناك من موقعٍ فطريٍّ قبل أيّ موقعٍ آخرَ يتحتّم عليها. رزان حرّكتها حتميةٌ مبثوثةٌ فيها، لا طارئ عمل من الخارج بالدرجة الأولى. تضمّد الجرحى وتنقذ الكثيرين وتصرّ على العودة دوماً لأنّ ثمّة ما يعينها على حياكة خيطٍ طويلٍ جدًا منبعه من الداخل يصل الشهيد بالجريح بالثائر بالصاروخ بالطائرة الورقية؛ بغزة بحيفا بالقدس. كلّ المجد لها والعار للقتلة والخانعين.

وكتب وزير الثقافة الفلسطيني، د.إيهاب بسيسو: "كان عمرها 21 عاماً، أي أنها في أيلول 2000 لم تكن قد تجاوزت الثالثة، وانتفاضة الأقصى تخطو نحو بدايات التشكل، كان ذلك هو العام الذي تحول فيه محمد الدرة من طفل يحاول الاحتماء من رصاص القناص إلى ملاك مجنح. كان عمرها 21 عاماً، أي أنها في حزيران 2006 لم تكن قد أتمت العاشرة حين اتخذ الحصار بعدا جديدا، وصارت غزة ملحمة صمود يومي. كان عمرها 21 عاما، أي أنها في حزيران 2007 كانت طفلة في العاشرة، لم تتجاوز شهادة الابتدائية بعد، لتصبح طبيبة أو مسعفة ميدانية، كان ذلك هو العام الذي شهدت فيه البلاد شرخ الانقسام، الشرخ الذي صار وجعا مزمنا لم تشف منه البلاد. كان عمرها 21 عاماً، أي أنها في كانون أول 2008 لم تكن قد تجاوزت الحادية عشرة، لتشهد أولى الحروب كطفلة، عاشت خلالها فصول الوجع قبل أن تسجل الحرب حضورا مؤلما في الذاكرة. كان عمرها 21 عاماً، أي أنها في تشرين ثان 2013 شهدت الحرب الثانية على غزة. كان عمرها 21 عاماً، أي أنها في تموز 2014 شهدت الحرب الثالثة، وكانت على أبواب الثانوية العامة. كان عمرها 21 عاماً، أي أنها في حزيران 2018 اختزلت كل التواريخ السابقة، واندفعت نحو السياج مسعفة ميدانية أتمت تكوينها العلمي، شاهرة حلما وطنيا لتنقذ شباب الحلم من رصاص القناص، شباب يشبهونها في الحلم والاندفاع نحو الانعتاق من سطوة الحصار على المفردات. لكنها عادت كفراشة في الأبيض، ترفع صوتها فوق الرصاص بكل كبرياء: اسمي رزان النجار، عمري 21 عاماً. كان عمرها 21 عاماً، وسيظل عمرها 21 عاماً مشرقاً إلى الأبد".

ختاماً سنظل نحن الساخطون على كلّ الأزمنة والأمكنة. نحن الذين لا نحيا إلا حياة الانتظار الطويل ننتظر المعبر، ننتظر العمل، ننتظر الكهرباء، ننتظر المصالحة، ننتظر الاعمار، ننتظر الحياة، ننتظر المطار، ننتظر الميناء، ننتظر الرئيس، ننتظر كل شئ.

 


تصميم وبرمجة: باسل شليوط