"قانون القومية" وتأطير مضامين النضال

يتناول هذا المقال، باقتضاب، الخلفيات السياسية لسن "قانون القومية" وتعامل المجتمع العربي معه، وإمكانيات وآفاق النضال لمناهضة القانون. ويوضح المقال أن القانون يترجم السياسات الإسرائيلية المنتهجه لغاية الآن ويأطرها في قانون واحد يعكس معاني وغايات دولة إسرائيل. من هنا، فإن التعامل مع هذا القانون والنضال ضده يجب أن يكون في سياق مواجهة السياسات الإسرائيلية الكلية وجوهر الدولة، ويجب ألا يقتصر على شعار "إسقاط القانون". هذا النضال يجب أن يكون مشتركا لكافة فئات الشعب الفلسطيني، كون القانون يمسها جميعها ويلغي حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.

انعكاس السياسات القائمة

عكست عودة نتنياهو إلى الحكم عام 2009، وساهمت في الوقت ذاته، بحصول تحول نوعي في الثقافة السياسية المهيمنة في إسرائيل، ومن ثم في إستراتيجيات إدارة الصراع مع الفلسطينيين، في الداخل وفي الأراضي المحتلة عام 1967. منذ تلك الفترة، نما اجماع إسرائيلي جديد يشدد على الجوهر اليهودي للدولة ويقلص الهامش الديموقراطي، الضيق أصلا، وتعززت ثقافة العداء تجاه كل ما هو عربي، والرهاب تجاه مهاجري العمل، وتعززت النزعة القومية وتبني القيم الاقتصادية النيو- ليبرالية. وقد شخص العديد من الباحثين في الشأن الإسرائيلي تلك التحولات بأنها مرحلة هيمنة اليمين المتطرف الشعبوي، ووصفوها "بإسرائيل الثالثة" المنحدرة نحو الفاشية. شددت تلك الأبحاث إلى عمق الإجماع الصهيوني الجديد الآخذ في التبلور وإلى تراجع المشاريع السياسية المنافسة للهيمنة اليمينية، التي انعكست في تبني غالبية الأحزاب السياسية المركزية برامج سياسية غير متباعدة بل متشابهة إلى حد بعيد، تجتمع حول الثوابت الجديدة، وتختلف وتتنافس في الهوامش وفي الحدة فقط.

راوغت وماطلت وتحججت إسرائيل منذ اتفاقيات أوسلو بهدف التهرب من الاستحقاقات وإنهاء الاستعمار للضفة الغربية وقطاع غزة، وعملت على قمع المطالب القومية للفلسطينيين في الداخل بواسطة سياسات عامة وتشريع قوانين، بانتظار تغير الأحوال والبيئة الإستراتيجية الإقليمية والعالمية لكي تفرض ما تريد، بل أنها عملت لتغيير الواقع والبيئة الإستراتيجية لتتلاءم مع رغبة إسرائيل لفرض حلول من طرف واحد. على ما يبدو، استنتجت إسرائيل بأن الحقبة الراهنة تسمح للانتقال من سياسة إدارة الملفات إلى حسمها من طرف واحد؛ إغلاق ملف الاستعمار للضفة الغربية وغزة عن طريق صفقة القرن، وإغلاق ملف مسألة الفلسطينيين في الداخل بواسطة "قانون أساس الدولة القومية"، فهما وجهان لعملة واحدة. وباتت إسرائيل تتصرف كمشروع استيطاني يسعى إلى تحقيق الانتصار النهائي بعد أن اقتنعت بأنها لن تحصل أبدًا على شرعية المُستَعمَر.

سن "قانون القومية" أغلق باب التفسيرات والتنظير والاجتهاد حول جوهر دولة إسرائيل، ووضّح أن البعد القوميّ - اليهوديّ هو الأهم، بل الطاغي، وأن الديمقراطية هي مجرد أداة للحسم في التنافس السياسيّ داخل المجتمع الاسرائيلي فقط. القانون يحمل بذور كارثية على القضية الفلسطينية، إذ يحدد طابع دولة إسرائيل وماهيتها ووظيفتها باعتبارها للشعب اليهودي أينما تواجد، من دون تعريف حدود، ويوضح أن الاستيطان اليهودي قيمة مركزية، وأن القدس "العاصمة الأبدية" لإسرائيل، والرموز والهوية والنشيد والعلم في خدمة المشروع القومي اليهودي، وينسف عمليا الرواية والمشروع الوطني الفلسطيني. لكن ومن جهة ثانية، إذا ما استُغِلت الحالة الراهنة بشكل صحيح من قبل كل الفلسطينيين، بمقدورنا أن نتصدى للقانون، وأن نبدأ بعملية ترميم للنضال الفلسطيني وتأطير جديد لمعاني وأدوات النضال.

من هنا نخلص إلى أهمية مناهضة المشروع الصهيوني بواسطة مشروع وطني فلسطيني شامل يجمع كافة الشعب الفلسطيني، ويحدد أدوات النضال وفقا لخصوصية كل فئة. علينا أن نبدأ نحن في الداخل الفلسطيني فورًا بوضع الأسس لمشروع وطني جامع تتفق عليه كافة التيارات السياسية من خلال لجنة المتابعة، بالتوازي مع فتح حوار شامل لكافة فئات الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني وتحديد عناوينه، بالإضافة إلى مهام وأدوات النضال لكل فئة، وفقًا لخصوصية ظروفها وإمكانياتها.

سن "قانون القومية" ومظاهرة تل أبيب نهاية الأسبوع الماضي، قد تكون بداية لتشكيل وعي جديد لدى الفلسطينيين في الداخل، مفاده أن للكرامة القومية أهمية في النضال والعمل السياسي، وأن مناهضة القانون تعني مناهضة شاملة لكافة سياسات القمع والترهيب والإقصاء المعمول بها تجاههم، بل ضد المنظومة السياسية التي جاءت بهذا القانون وشرعنته وحولته إلى ركن أساسي من أركان النظام، وأن الاكتفاء بمطلب إلغاء القانون أو تعديله بواسطة تغيير الحكومة أو إسقاط نتنياهو فقط، يعني احتمال العودة إلى عقلية الأسرلة الي اندثرت في هبة أكتوبر 2000. قد يكون إسقاط وتغيير الحكومة شرطا ضروريا لإسقاط القانون لكنه ليس كاف.

إن الصحوة لدى الفلسطينيين في الداخل قد تدفع باتجاه عودة الشارع الفلسطيني والأحزاب العربية الى السياسية الخلافية - الصدامية (contention politics) مع المؤسسة الإسرائيلية. وعليه، يجب أن ندرك أهمية استغلال ذلك لتحقيق إنجازات جماعية، وأن تكون المظاهرة بداية لتحرك سياسي جماعي مختلف في الفهم والأدوات والأهداف. صمودنا أمام مشاريع التفتيت والشرذمة وفشل محاولات الأسرلة لغاية الآن، ومحاولة إسرائيل حسم ملف الفلسطينيين في الداخل باستعمال قوانين بعد فشل سياسات الردع والترهيب، يؤكد إمكانية تحقيق ذلك.

(الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي)


تصميم وبرمجة: باسل شليوط