في ذكرى هبة القدس والأقصى

عندما انتفضت جماهير شعبنا في الثلاثين من آذار سنة 1976، كان يوم عودتي من المستشفى ملفعاً بزي أبيض وكان عمري حينها خمسة أيام، وكان هذا كاف لأن يسرد لي من حولي في كل مناسبة من بعدها ما حدث في ذلك الوقت عندما دخلت القوات الإسرائيلية إلى سخنين وبدأت بإطلاق الرصاص الحي بشكل عشوائي غير آبهة لأحد وسقط في حينها الشهداء رجا أبو ريا وخضر خلايلة وخديجة شواهنة، رحمهم الله.

ظننت أن كل من حولي من أبناء جيلي بعد جيل الخامسة يتعلم ويعيش حياته بشكل طبيعي سواي، فأنا حتى جيل العاشرة كنت أحاول تجميع الصورة المحطمة لأفهم ما حدث فعلا ولماذا حدث، وكانت هذه المهمة ملقاة على عاتقي، ففي حينها التزم الكثيرون الصمت وحتى لو سألتهم، فضلوا عدم الإجابة أو تجميل الصورة وتبسيط الرواية لتسهيلها علي، كوني كنت طفلا في حينه.

منيب طربيه

في ذلك الوقت صمت الكثيرون، فالجرح كان عميقا ومؤلما وكان من حولي يبكون بصمت ويتظاهرون أنهم يبتسمون على الملأ، فلا أحد يستطيع أن يشرح أو يطمئن وإلى أين ستصل الأمور، وبدأ من بعدها مشوار البحث عن الحقيقة، حقيقة الصمت، وحقيقة السكوت عن الاغتصاب، اغتصاب الأرض والعرض. فالكثيرون ارتبط مصيرهم في بيت طيني وبئر وبعضهم في عائلة مكونة من عدة أفراد، فإن أراد أن يتحرك وينطلق فحركته بطيئة لأن حمله ثقيل.

استمر البحث وتكونت الهوية وأصبحت واضحة المعالم وبدأنا نميز بين العدو والصديق وبدأ مشروع جهاد النفس والتصالح مع الذات في مواجهة مشروع تشويه الهوية، فحينها أصبحت واعيا كفاية لأناقش نفسي، ففي المدرسة كان النقاش ممنوعا والإجابة تقتصر على بعض الأسئلة، وفي البيت والحي صمت مقيت يكسره أحيانا بعض ما غنى أبو عرب أو مارسيل خليفة عن فلسطين، وليس بديهيا أن يفهم كل منا بجيل مبكر ماذا يعني الوطن خاصة عندما تبحث عن علمه في خزانة قديمة في مخزن البيت وكأنهم يخبئون دبابة، ففي سن العاشرة بدأت أرسم العلم وأعشق ألوانه حتى تلك الحادثة عندما كنت ألازم أمي عندما كانت تخبز لنا بعض الأرغفة وإذ بشابين يافعين يلهثان وهما يمران من جانبنا ويعطيانها العلم طالبين منها إحراقه لأن الجنود يلاحقونهما (فخوفا منهما أرادا إخفاء العلم بإحراقه)، فعندها أيقنت أن الوطن يتعدى كونه علما.

وبدأت بالبحث عن أسئلة لم أجد لها جوابا حتى خرجت من المعتقل (المدرسة) فالسجانون هناك يحبوني ويخافون علي ولا يريدونني أن أقحم نفسي بما يفوق طاقتي.

بعدها بدأت البحث في ميادين أخرى عن الوطن فوجدته، ولكنني سرعان ما اكتشفت أنه مغتصبا، وبدأت مرحلة جديدة من محاولة إعادة الحق لوطني المغتصب، فحينها اكتشفت أن جيلا كاملا يمر بما أمر به، ولكن كل منا على حدة ولا أحد يجرؤ على الجهر بألمه.

إن مشروعي التحرري كما الكثيرين بدأ عندما خرجنا من الأطر التي رسمها لنا من حولنا، ففي عالم الممنوع والمسموح لم يكن كثيرا ما هو مسموح، فطالما حذرنا من حولنا بغية التصرف بعقلانية وبمسؤولية، حتى أننا أدمنا على الممنوع وظننا أنه إله وله معبد وراء الشمس.

فالانطلاقة بدأت عندما بدأنا نكتب بأقلام الحبر فضلا عن ألام الرصاص، وبدأ رأينا يثبت وله أسس وبدأنا نقرأ الكتب والروايات وبطولات أسلافنا في مواجهة الأتراك، الإنجليز والصهاينة.

إن وعينا الجمعي اعتمد بالأساس على مبادرات شخصية وحب استطلاع عبثي وكان بتأثير شخصيات عروبية وفلسطينية كعبد الناصر، ياسر عرفات، غسان كنفاني، إدوارد سعيد، وغيرهم ممن رسموا خريطة الطريق لنا ولأجيال قادمة.

ما كان مقترح على الساحة المحلية من تيارات سياسية لا يفي بالغرض ولا يغني ولا يسمن من جوع، خاصة وأن سقف النضال كان محدودا لا يتعدى النضال الطبقي في مجتمع متعدد الطبقات لا متعدد القوميات.

ظهر التجمع كمركب أساسي على الساحة السياسية المحلية والذي ارتكز بتكوينته على مجموعة من الأحزاب والحركات الوطنية كالحركة التقدمية، حركة الأرض، أبناء البلد وغيرهم من شيوعيين الذين رأوا أنه آن الأوان للتغيير، خاصة بعد أن اكتشفوا مكيدة أوسلو وحالة الضياع التي مر بها الفلسطينيون، وهنا انضممت لقناعاتي إلى التجمع آملًا أن نصل إلى هدفنا المنشود في محاولة لإعادة الخطاب الوطني إلى المقدمة ومواجهة المشروع الصهيوني ومحاولة تشويه الهوية الفلسطينية.

بدأنا بالتنظم محليا كل من مكانه وإنشاء حركات شبابية تعمل على توعية الشباب والمساهمة في انضمامها إلى الحركة الوطنية لصد المشروع الصهيوني الذي بات يرى بنا خطرا ديموغرافيا ويحاول بشتى الطرق التخلص منا.

تبين فيما بعد أن هناك وعيا جمعيا فلسطينيا، لكنه غير منظم، وكان للتجمع دور أساسي في تنظيم هذا الوعي داخل مؤسسة مع هيئات وتوجيه وتنظيم، حيث بات واضحا فيما بعد أن هذا التنظيم وحضوره ميدانيا في جميع المحافل، بات يقض مضجع المؤسسة الإسرائيلية.

إن الذاكرة الجمعية والوعي الجمعي لهما القسط الأكبر في تحريك الشارع الفلسطيني في الداخل، حيث بات واضحا التحرك بشكل مدروس والذي بات يحرك الشارع ضد سياسات القمع والعنصرية التي تتبعها المؤسسة الإسرائيلية وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، دخول قطعان اليمين مدججين ويتقدمهم أريئيل شارون الذي حاول تغيير قواعد اللعبة في حينه وانقلب السحر على الساحر في حينه وانتفض الشارع الذي لم يهدأ إلا بعد فترة لا يستهان بها.

مع دخول شارون وقطعانه إلى باحات الأقصى أتى الرد من الشارع الفلسطيني بالمظاهرات وإغلاق الشوارع والذي توج المواجهات حينها سقوط شهيد هبة القدس والأقصى، محمد الدرة، الذي التقطته الكاميرات عندما حاول أبيه حمايته، إلا أنه لم ينجح بذلك أمام وابل الرصاص الذي أرداه قتيلا.

وبعد ذلك تضاعف غصب الشارع وخرجت الحشود إلى الشوارع في البلاد العربية ومن ضمنها سخنين، فكنا جميعا بالواجهة نلقي الحجارة ونحرق الإطارات كتعبير عن غضبنا وهذا ما كنا نستطيع فعله في حينه، ولكننا لم نتوقع أن تلقي الشرطة الرصاص الحي على المتظاهرين، فعماد الشهيد الذي كان يكبرني بعام وكانت تجمعني معه صداقة حميمية، كيف لا وهو شاب موهوب ورياضي ومدرسة في الأخلاق كان بيننا نحن أبناء الجيل الذي بنى هويته الوطنية بجهده الخاص، كان بيننا. وكذلك وليد الشهيد الذي كان يصغرني بعامين وأيضا جمعتني به صداقة بطبيعة مجاورتي له فكان شابا يافعا موهوبا أحب الحياة وخطط لبناء مستقبلة كيفما حلو له، كان أيضا بيننا.

لم تأبه إسرائيل لهذه الأحلام وقامت بقنصهم بنفسها، فمن قام بالتنفيذ مجرم ويجب معاقبته، ولكنه فقط أداة، وارتقيا شهيدين إلى ربهما. وتبين لاحقا أن إسرائيل قامت بشكل ممنهج بقتل ثلاثة عشر شهيدا ظنا منها أنها بذلك ستردع المتظاهرين وقمعهم.

عندما احتشد الشباب حول الشهيدين في حادثين متفرقين، لم نشك ولو للحظة أنها إصابة خفيفة وسرعان ما سيعودان، إلا أن خبر ارتقائهما شهيدين وقع علينا كالصاعقة.

وما زالت المسيرة مستمرة، مسيرة النضال ومواجهة سياسات القمع العنصرية التي تحاول المؤسسة الإسرائيلية إيهامنا أنها ديمقراطية وواحة سلام، في الوقت الذي تقوم فيه بقتل خيرة شبابنا بدم بارد.

لقد قامت إسرائيل بقنص ثلاثة عشر شابا، ولكل شاب منهم رواية بحد ذاتها وسنبقى نسردها للأجيال القادمة، فكل منهم له حكاية، حكاية طويلة مبنية على حب الوطن والتضحية لأجله، حتى أن التضحية وصلت إلى أنهم قدموا أغلى ما يملكون، أرواحهم الغالية والتي بقيت بيننا، نتبادل الحديث فيما بيننا عن بطولاتهم وعن دورهم وتضحيتهم، كيف للمؤسسة الإسرائيلية أن تظن أننا سننسى، لا، لن ننسى وسنبقى قابضين على الحق كالقابضين على الجمر، ولا بد للقيد أن ينكسر، وسيأتي اليوم الذي تشرق به شمس الحرية وحينها سيعي كل أسير وشهيد أن لتضحيته كان هدفا ساميا وليس عبثيا.

رحم الله شهداء فلسطين الأبرار.

*عضو بلدية سخنين وعضو لجنة المراقبة في التجمع الوطني الديمقراطي.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط