ناصر والناصرية

مصر أم الدنيا، مقولة استعملها المصريون محاولةً منهم لتعزيز مكانةَ مصرَ الدولة ومصرَ الجيشِ في عقلِ وقلب ِكل مصري ليفتخرَ بمصريته، والتعاملُ معها على أنها عابرةٌ للدول، وعابرةٌ للقاراتِ، حتى أن المواطن المصري البسيط كان يعتقدُ، ولا زال البعض منهم يعتقد إلى يومنا هذا أن مصرَ هي أعظم دولةٍ في العالمِ، وأنها موقعٌ رياديٍ، ورأس حربةٍ في كل المحافل والمناسبات.

كيف لا وهذا الشعبُ ينتمي لحضارةٍ عريقةٍ كحضارة الفراعنة؟!!! إضافة لكون مصرَ كانت المزود الرئيسي للمؤنِ والعتادِ الحربي لكل من حولها؟!!

كان المصريونَ يزودون صلاح الدين الأيوبي بالسلاح والمؤنِ في حروبه مع الصليبيين مثلاً.

كما كانت مصرَ تتصف بدولة مؤسساتٍ، مقسمة لولايات زمن محمد علي باشا الذي نظمّها وعزّزَ مكانتها في المنطقةِ بعد سلسلةٍ من الحملاتِ لاحتلال مناطق مجاورةٍ كحملته على الشام، ومرت مصر بفتراتٍ ثوريةٍ انقلابيةٍ كثيرةٍ، منها العلمانيةِ والدينيةِ، كمحاولاتِ سعد زغلول لإعادة تنظيم البلادِ، ومحاولة حسن البنا أخونة البلادِ بما يتلاءم مع الشريعةِ والخلافةِ الإسلاميةِ.

وقد تميزت فترة ما قبل ثورة الضباطِ الأحرارِ في الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 بالكثيرِ من القلاقل وعدم الاستقرار زمنَ حكمِ الملك فاروق، ولم تكن مصرَ تعاني من مشاكل وصراعاتٍ تستوجب الثورة، كأزمةٍ اقتصاديةٍ أو قمعٍ للشعبِ المصري مثلاً، الأمر الذي كان عائقاً مركزياً لاستقطاب مؤيدين في الشارع المصري في بدايات الثورة، إلا أن الأدبياتِ التحرريةِ والديمقراطيةِ التي وضعت الفردِ ورفاهيته، والتأكيد على ضرورة فرض العدالةِ الاجتماعية بالمفهوم الاشتراكي للثورة التي تكفل العدل والمساواة وتكافؤ الفرص للجميع وحرية التعبير التي كانت في مركز أهداف الثورة، أصبح الالتفاف حولها طبيعياً وتحصيل حاصل، خصوصاً لأبناء الفلاحين والفقراء أبناء الطبقات المسحوقة التي عاشت ظروفاً أشبه بالعبوديةِ في زمن الاقطاع.

وكانت قيادة الثورة من خيرةِ الشباب المصري المتنور والذي رأى بضعفِ الملكِ فاروق أمام المستعمر الإنجليزي إهانة تمس صميم الكرامة الوطنيةِ، هذا إضافةً لحياتهِ الشخصيةِ الصاخبة بالبذخِ والتبذير على حساب مقدرات الوطن، بعيدا عن مشروع الدولةِ، وبعيداً عن هموم شعبه الذي كان يرزح تحت طائلة الفقر والحاجة.

ونجحت ثورة الضباط بشق طريقها نحو القصرِ الملكي بسهولةٍ ما، لأن القادة المنخرطين بالثورةً كانوا لا يزالون في الجيش وبخطة محكمةٍ، وبسريةٍ تامة حتى اللحظات الأخيرة، ووقّع الملك فاروق على تنازله عن العرش مضطراً دون أن تسيل نقطة واحدةٍ من الدم.

اعتزاز المصري بمصريته، وبتحفيز الروح الثوريةِ لناصر ورفاقه، عزز مكانة مصر القيادية لحمل المشروع القومي العروبي الوحدوي النهضوي لإعادة مجد الأمة التي أنهك الاستعمار كرامتها.

قادت مصر العالم العربي، وتعاملت معه كامتداد قومي عروبي طبيعي، فيه الوحدة شرطٌ لطرد الاستعمار وعملائه ووكلائه من القوى الرجعية التي سيطرت على المشهد السياسي آنذاك.

بث ناصر روح الوحدةِ، ونفث في الأمةِ روح العزةِ والكرامة والعنفوان وصدح: 'ارفع رأسك يا أخي فقد ولّى عهد الاستعمار'، فرأت فيه شعوب الأمة العربية، وكل ألمُستَضعَفين في الأرضِ مخلّصاً من نير الاستعمارِ والاستبداد.

ثمانية عشر عاما فقط هي التي عاشها ناصر بعد الثورة، مشاريعٌ عظمى أذهلت العالم، فالسد العالي كان أعظم مشروع تنموي في القرن العشرين من بين 122 مشروعاً على مستوى العالم باعتراف الأمم المتحدة ، وتأميم قناة السويس كان أخطر مشروع تحد للاستعمار بعد أزمة الصواريخ الكوبية التي كادت تشعل حرباً عالمية ثالثه كما وصفها الرئيس الأمريكي أيزنهاور حينها، والإصلاح الزراعي الذي قضى على الإقطاع وحدد الملكية القصوى عشرين فداناً، ووزع على الفلاحين خمس فدادين مجاناً في المئة يوم الأولى للثورة، وفرض مجانية التعليم بكل مراحله حتى الجامعات فأعطى فرص التعليم لأبناء الفقراء والعديد العديد من الإنجازات الهائلة للثورة، في عمرها القصير.

عاش ناصر حياةً عادية بعيدا عن البذخ والترف على عكس الملك فاروق مما عزز مكانته في الاوساط الشعبية المصرية والعربية، إضافةً لخطاباته التحررية الثورية المناهضة للصهيونية وقوى الاستعمار، والمساند الأول للقضية الفلسطينية التي جعلها قضية العرب جميعاً وكان محركها الأساس.

أحبه الشعب كواحدٍ من أبنائه الفقراء، فشكل حلما لصدق مشروعه العروبي الذي لولا معاداة الغرب وعملائه لكان في أوجه الأمة، ووجه مصر نقيضاً لما هو قائم من ذلٍ وتبعيةٍ وهوان.

مات ناصر ولم يمت المشروع العروبي الذي حمله، وإن يكن أملاً للشعوب العربية مجددا هو لأن هذه الشعوب ما زالت تفتخر بإرثه وتنادي بما نادى به ناصر حتى يومنا هذا.

المشروع الناصري هو المشروع العروبي الوحدوي الذي ما زال ينبض رغم محاولات تشويه الهوية العربية ومحاولات تشتيت العرب حسب أطياف وطوائف.

شكرا ناصر، لأنك ما زلت تنبض فينا، ومشروعك القومي العروبي سينتصر يوما لا محالة، وسترتفع صورتك يوما بجانب علم كل دولة عربية متحررة حرية حقيقية، كما ملأت صورك بيوت فلسطين.. ولا زالت.

مقالات في ثورة ملهمة

الرابط ⬇️
http://www.altajamoa.org/public/pdf/magazine1.pdf


تصميم وبرمجة: باسل شليوط