الانتفاضة الثانية 2000، المجزوء، والخارج عن سياق النَص العام

من الانتفاضة الثانية (أرشيف وفا)

نخطئ جداً حين نقرأها بنظرة "من الداخل" على الداخل الفلسطيني فقط، بمعزلٍ عن السياق الفلسطيني العام.

كل شهيد عالمٌ بأكمله، وحين نكتب عدد الشهداء بالأرقام، فقط لأنها ضرورة لتسجيل الحقائق التاريخية، كي لا ننسى حجم التضحيات والثمن الباهض الذي يدفعه شعبنا من ناحية، ولتوثيق حجم الجريمة وبشاعة المجرم وتسليط الضوء الكاشف على وجه الاحتلال ليراه العالم على حقيقته دون قناع، ولا مساحيق تجميل من ناحيةٍ أخرى.

مصطفى طه

وحين يكتب كل منا أرقاماً للضرورة، لا نغفل للحظة أن الشهيد ليس رقماً عابراً، هو عالمٌ بأكمله بالنسبة لشعبه، ولأسرته الصغيرة هو انقلابُ الحياة رأسا على عقب  من جذورها وهي تحاول أن "تتعايش" مع الحياة من جديد، بواقعها الجديد، وهي تدرك سلفاً أن الجرح النازف لن يندملَ إلى الأبد، وذكرى الشهيد وملامحه تبقى حاضرةً على الدوام في كل زاويةٍ من زوايا البيت، كما زوايا القلب والعقل والعاطفة والوجدان، ومع حجم الخسارة الباهضة التي لا يمكن تعويضها يتوهم البعض أنها ستؤدي إلى حالة انكسار، في حين يكون البعض الآخر واثقاً سلفاً، أن الخسارة الفادحة هذه لن تزيد الأهل ودائرة المعارف الصغرى إلا صموداً وعنفواناً وتحدياً لمؤسسة الإجرام، بموازاة "العض" على الجرح النازف بصمت الجبارين... من هذه الحقائق ننطلق سلفاً حين نكتب بالأرقام اضطراراً كما أسلفنا.

وحين تحاول بعض وسائل الإعلام، أو بعض جمعيات ومؤسسات العمل الأهلي اختزال الانتفاضة الفلسطينية الثانية "بمناوشات" بين بعض الشباب والشرطة ما أدى لاستشهاد 13 شهيداً في الداخل الفلسطيني بمعزلٍ عن سياقها الفلسطيني العام، يقع البعض في الخطأ القاتل سهواً أو جهلا أحياناً، وهذا ممكن تفهمه مع كل الاعتراض، فيما لا يمكن إلا الاعتراض بقوة لمن يفعلها عمداً وطوعاً بإملاء من مصادر التمويل الأوروبي المشروط بهدف تفريغ المعنى النضالي الحقيقي وحجم تضحيات شعبنا الفلسطيني البطل عموماً، بما فيه الداخل الفلسطيني بالطبع.

ومع اعتماد هذه الصورة النمطية بشكل ممنهج في كل ذكرى من جديد، واختزالها في أسبوعٍ من المظاهرات واستشهاد 13 شاباً في الداخل إضافة لآلاف الجرحى والأسرى، هي حقيقة بالطبع، ولكنها الحقيقة المجزوءة، والخارجة عن سياق النص العام في آن.

وكي لا تضيع الصورة بكاملها يصبح استعراض المشهد بعناوينه المركزية، وببرقياتٍ سريعة، ضرورة تقتضيها أهمية الصراع على الوعي العام.

ولإنعاش ذاكرة بعض من نسي، أو تناسى نقول:

1- الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أكتوبر 2000 استمرت لأكثر من أربع سنوات ونصف (من 28/9/2000- 8/2/2005) وتم توقيع الهدنة في شرم الشيخ التي شارك فيها شارون، مبارك، وأبو مازن المُنتخب جديداً حينها.

2- سقط ما يقارب 4400 شهيد فلسطيني، جُرح قرابة 48000، واعتُقل عشرات الآلاف، وهدمت عشرات آلاف البيوت منها بشكل كامل.

3- اغتالت إسرائيل معظم قيادات الصف الأول لشعبنا منهم الشهداء: ياسر عرفات، أحمد ياسين، أبو علي مصطفى، عبد العزيز الرنتيسي، وغيرهم الكثير، وحكمت عشرات المؤبدات لمن بقي حياً أمثال مروان البرغوثي وأحمد سعدات وآلاف السجناء والمعتقلين غيرهم.

4- خسرت إسرائيل ما يقارب 1060 قتيلاً، وجُرح ما يقرب 45000، وتعطل قرابة 50 دبابة (مركافاه) وعشرات الآليات العسكرية الأخرى، ومرت إسرائيل في أصعب أزماتها الاقتصادية نتاج الانتفاضة الثانية.

5- أسطورة مخيم جنين كانت إحدى المحطّات فقط.. هو من أكبر مخيمات اللجوء في الضفة الغربية، يسكنه 20،000 معظمهم من منطقة حيفا وطيرة الكرمل قبل النكبة، اجتاحته القوات الإسرائيلية ضمن عملية "الدرع الواقي" بكتيبة عسكرية كاملة من دبابات وآليات عسكرية أخرى وطائرات الأباتشي بهدف القضاء على المقاومة هناك التي كان تعدادها 200 مقاوم فلسطيني فقط بأسلحتهم الخفيفة، واستمرت المواجهات لأسبوعين من 1- 12 نيسان 2002، واعترفت إسرائيل بمقتل 23 جنديا، فيما أفاد شهود عيان أنها خسرت 55 على الأقل بما فيه قائد الإنزال الجوي (الكوماندوز). واُستشهد 58 مقاوماً فلسطينياً، وهُدم 1200 بيتاً منهم 450 تم مسحهم عن الأرض كاملاً... ومحاكمة محمد بكري على فيلمه "جنين جنين" تأتي من باب هول الفظائع التي حاول الاحتلال الوحشي التعتيم عليها هناك.

6- رموز اخترقت إعلام العالم عنوةً لبشاعتها... وتعرى وجه الاحتلال تماماً دون قناع:

في الثلاثين من سبتمبر 2000 التقطت عدسة مصور قناة فرنسا (2) شارل إندرلان لقطة من (59) ثانية فقط، لحظة استشهاد الطفل محمد الدرة في حضن أبيه الذي كان يصرخ مستنجداً لحماية طفله دون جدوى... صورة جعلت من الانتفاضة ناراً في هشيم، وبيّنت للعالم، بالبث الحي، كم هو وحشيٌ هذا الاحتلال.

شهران ونيّف بعد ذلك، يوم 8/11/2000 عادت لتحتل عناوين وسائل الإعلام العالمية صورة أخرى، صورة الفتى الجنرال (كما أحب عرفات وصفه) فارس عودة، ابن الثالثة عشر وهو يقف بمقلاعه أمام رتلٍ من الدبابات واخترق الرصاص رقبته الصغيرة...

يوم 7/5/2001 قذيفة دبابة إسرائيلية تمزق جسد الطفلة الرضيعة إيمان حجو... صورة مزقت قلوب كل شرفاء الأرض، وأعادت التأكيد للعالم للمرة المليون ما معنى الاحتلال، وكم هو ثمن التضحية الفلسطينية في ظل اختلال موازين القوى بالمقابل.

ليست قصة أرقام مجردة هي الانتفاضة الثانية، وليست مجرد مقولة قاتلة في سطحيتها "مناوشات" بين شرطة وشباب، كما لم يستشهد أبناء يوم الأرض الخالد وهم على الشرفات "مسالمين" كما حاول البعض روايتها حينها، بتفريغٍ فج لفحواه النضالي كأول محطة جدية فاصلة في مواجهة أبناء الوطن الأصلانيين مع السلطة.

من نتائج الانتفاضه الثانية أيضاً:

سقوط وهم الرهان الخاسر على ما يُسمى معسكر "يسار - مركز الذي لا زال البعض يرددها" بحماس مزعج بابتذالها ، فالحكومة الحمائمية  التي ترأسها "إيهود - بارك" سنة 2000 كان الأكثر شهرةً "بحمائميته" حينها، وزير أمنه الداخلي بروفيسور "شلومو - بن عامي" الذي ارتكبت شرطته المجازر بحقنا، "ويسارية" قائد شرطة منطقة الشمال (الذي أعلن في أكثر من وسيلة إعلام عن يساريته) "أليك - رون" لم تمنعه "يساريته" عن تنفيذ الأوامر.

"باراك" اليساري هو صاحب مقولة: "لا يوجد شريك فلسطيني للسلام بعد مؤتمر كامب- ديفيد 2000"، ورمز "اليسار" حينها "يوسي - سريد" هو من قال جملته الشهيره للفلسطينيين: "ابحثوا عني"! (חפשו אותי)، هل نسينا؟!

والإعلام الإسرائيلي "الحر" المُتهم "بيساريته" من قبل نتنياهو واليمين عموماً، هو صاحب موقف: "اصمتوا.. يطلقون الرصاص" (שקט יורים) هل تذكرون؟!

في المحك الحقيقي سقط هذا "اليسار"...

"أرحمونا من هذا الحب القاتل" رجاء!!

ومع هذا ندرك تماماً أن هناك المئات من القوى اليهودية الديمقراطية الصادقة وتربطنا العلاقات مع العشرات منهم، مناهضة للاحتلال ودفعوا  ثمن رفضهم الخدمة الإجبارية في جيش الاحتلال وصمدوا في كل المحكّات الصعبة... ولكنهم ليسوا تياراً مركزياً بالطبع.

قضيتنا مش بس مدنية، ومش بس ميزانيات، ولا مفروض نقبل تصنيفنا "معتدل" يمكن احتوائه، و"متطرف" يجب القضاء عليه، فمن يبحث عن حب "اليسار" وإعجابه ويتصرف على هذا الأساس، أو "يجتهد" لترى به المؤسسة "معتدلا" بحجة تحقيق بعض الخدمات اليومية، كلاهما واهم... وواهم كثيراً.

إحنا أصحاب الوطن الأصلانيين ولسنا مجرد متسولين على فتات مائدة اللئام.

الخدمات اليومية حق مش مِنّة... ولكن الكرامة الوطنية شرط... نقطة.

*الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي


تصميم وبرمجة: باسل شليوط