علاقة تركيا بإسرائيل ومبدأ الربط بقضية فلسطين

د. جمال زحالقة

جاءت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بشأن التطورات على خط علاقة تركيا بإسرائيل، لتؤكّد الأخبار الكثيرة، التي تناقلتها وسائل الإعلام عن محاولات تركية متكررة للتوصل إلى تفاهمات مع إسرائيل بشأن عدد من الملفّات الشائكة، وعن التحضير لترميم العلاقات الدبلوماسية، وإعادة السفير التركي لإسرائيل.

وسبق هذه التصريحات نشر عن لقاء جمع رئيس جهاز المخابرات الوطنية التركي هاكان فيدان، ورئيس الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين، كما تناقلت وسائل الإعلام أخبارا عن نية تركيا إعادة سفيرها الى إسرائيل في مارس المقبل (يبدو بعد الانتخابات الإسرائيلية) وعن أنه تمت تسمية السفير وهو بانتظار التعيين الرسمي. وشدد الرئيس أردوغان في تصريحاته، ومثله بقية المسؤولين الأتراك، على الربط بين تغيير في العلاقة مع إسرائيل وسياسة الدولة العبرية تجاه الفلسطينيين.

مبدأ الربط

يعتبر مبدأ الربط من مفاتيح السياسة الخارجية التركية، ويقوم على ربط العلاقة بإسرائيل بعلاقة إسرائيل بالفلسطينيين، وتراوح الالتزام بهذا المبدأ بين الربط الضعيف، الذي يقارب الضريبة الكلامية، إلى الربط القوي، الذي أدّى في بعض الأحيان الى أزمات حادّة في العلاقة. لقد عارضت تركيا قرار التقسيم، لكنّها اعترفت بإسرائيل، بعد إتمام توقيع اتفاق الهدنة عام 1949، وأقامت معها علاقات دبلوماسية عام 1950. وبعد أن بدأت العلاقات بين البلدين تتطور خطوة فخطوة، جاء العدوان الثلاثي على مصر، وردّت عليه تركيا بسحب مندوبها الدبلوماسي من تل أبيب، وأعلنت لاحقًا بأنه لن يعود حتى «إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وفق قرارات الأمم المتحدة». وهكذا وضعت الدبلوماسية التركية حجر الأساس لسياسة الربط، التي ستلعب لاحقًا دورًا مهمًا في تطور العلاقات التركية الإسرائيلية، إلى جانب مصالح وعوامل أخرى مؤثّرة.

سياسة أردوغان

بعد أن وصل إلى الحكم، طوّر الرئيس التركي أردوغان مبدأ الربط وحوّله الى مبدأ «الربط القوي» واشتق منه سياسات أشد حزمًا وأكثر تأثيرًا، وقام برفع مستوى الدعم السياسي والمادي للفلسطينيين، وبتأزيم العلاقة بإسرائيل بارتباط بما تقوم به ضد الفلسطينيين. وجاءت تصريحاته الأخيرة انطلاقًا من هذه السياسة، حيث عبر من جهة عن رغبة بلاده في «نقل العلاقة مع إسرائيل إلى مستوى أفضل». مضيفًا «علاقاتنا مع إسرائيل على المستوى الاستخباراتي مستمرة ولم تتوقف» ومن جهة أخرى قال إن تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين «غير مقبول» وأكد أن تركيا «لا يمكن أن تقبل بسياسة إسرائيل تجاه فلسطين، وهذه هي نقطة خلافنا معها، التي تستند لمفهومنا للعدالة ووحدة أراضي الدول». الجديد في عهد أردوغان أن سياسة الربط، لم تعد قضية علاقات خارجية، بل أصبحت مسألة داخلية أيضًا يلعب فيها الرأي العام التركي دورا مركزيا، ويبدو أنّه ما دامت هناك انتخابات ديمقراطية في تركيا، لن تكون هناك علاقات طبيعية مع إسرائيل، مهما دفعت التطورات إلى تكتيكات سياسية هنا وهناك، فغالبية الشعب التركي تدعم الشعب الفلسطيني، وحقوقه المشروعة، وترى أنها في خندق واحد معه ضد الاحتلال وضد العدوان الإسرائيلي، وكما كتب أحد المعلقين الأتراك «من المستبعد أن يكون أي تطبيع كامل في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب.. السفراء قد يعودون في أي وقت، ولكن لن يتقبل الشعب التركي والحكومة اضطهاد الاحتلال للفلسطينيين، كما أن الاحتلال لن يتخلى عن ذلك لاسيما في ظل دولة احتلال يقودها نتنياهو».

لا يتعامل أردوغان مع القضية الفلسطينية كعبء عليه، وعلى الدولة التركية، بل هو يعتبرها عاملًا مهمًّا في بناء هوية تركية قومية إسلامية متجدّدة، ومواقفه تجاهها ترفع من شعبيته، ومن دعم الشعب التركي له ولحزب العدالة والتنمية. كما انّه يرى بأن موقفه من القضية الفلسطينية يعزّز من مكانته في العالمين العربي والإسلامي، وينسجم مع عقيدته الفكرية والسياسية، ومع أحلامه «العثمانية». وبموازاة الثقل الأيديولوجي في سياسات أردوغان، فهو براغماتي وعملي إلى أبعد الحدود، ولم يقطع العلاقة بإسرائيل، بل اكتفى بجعلها في حالة أزمة، ما يعيد إلى الأذهان موقف تركيا في السبعينيات، حيث تعرّضت لضغوط هائلة لقطع علاقتها بإسرائيل، لكنّها لم تتجاوب معها واكتفت باتخاذ موقف سياسي مساند للموقف العربي والفلسطيني، وداعم لقبول فلسطين عضوًا مراقبًا في الأمم المتحدة، وصوّتت الى جانب اعتبار الصهيونية حركة عنصرية، ما أثار غضب إسرائيل وأدّى مع عوامل أخرى إلى انهيار «تحالف الأطراف» الذي أقامته إسرائيل في نهاية خمسينيات القرن الماضي، لمواجهة المد الناصري وشمل تركيا وإيران وإثيوبيا وحتى السودان والمغرب، في مراحل معينة.

ماذا تريد تركيا من إسرائيل؟

رغم كل المشاكل، التي اعترت العلاقات السياسية بين إسرائيل وتركيا، فقد بقيت العلاقات الاقتصادية مزدهرة، ووفق المعطيات الرسمية كانت الصادرات التركية لإسرائيل عام 2015 حوالي 3 مليارات دولار، مقابل 1.7 مليار من الواردات، وارتفع ما تصدره تركيا لإسرائيل عام 2018، الى 6.5 مليار دولار، مقابل استيراد بقيمة 1.9 مليار (لا تشمل المعطيات قطاعي الماس والسياحة). وبعد الأزمة في العلاقات وطرد السفير الإسرائيلي من تركيا، انخفض التبادل التجاري عام 2019 لتصبح الصادرات التركية 4 مليارات دولار، والواردات 1.7 مليار. وإذ تملأ البضائع التركية، الرخيصة نسبيًا، الأسواق الإسرائيلية، يعتقد القيّمون على الاقتصاد التركي، أن إمكانيات توسيع الصادرات لإسرائيل مغرية، خاصة في ظروف الأزمة الاقتصادية. ولكن وعلى الرغم من أهمية وزن وتأثير التبادل التجاري، إلّا أنّه ليس العامل الحاسم في اتخاذ القرار بشأن طبيعة العلاقات التركية الإسرائيلية. هناك عدد من القضايا، التي تدفع تركيا إلى إعادة النظر بعلاقتها بإسرائيل:

*أولًا، تستقبل تركيا الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، بحذر شديد وخشية أن يتصدّى للممارسات والسياسات التركية في سوريا وليبيا وبحر إيجة وبلاد القفقاس، وأن يقيم جبهة متراصة مع دول أوروبية وغير أوروبية لمحاصرة النفوذ التركي. كما تخشى تركيا أن يكون أكثر صرامة في موقفه في مسائل الأمن والتسلّح وحقوق الإنسان والأقليات في تركيا. وهناك من يعتقد في القيادة التركية أن تحسين العلاقة مع إسرائيل سيؤدّي إلى تلطيف الأجواء مع القادم إلى البيت الأبيض، وإلى الحد من التحرك المعادي لتركيا في الكونغرس، الذي يساهم فيه اللوبي الصهيوني. هناك علامات استفهام كبيرة حول هذا التوجه، ففي حين كان نتنياهو مفيدًا كوسيط لدى ترامب، فهو نفسه في أزمة مرتقبة في علاقته بجو بايدن، ولا يصلح بالمرة كوسيط عنده.

*ثانيًا، تسعى تركيا إلى كسر حالة العزلة التي تعاني منها في مسألة تقسيم المياه الاقتصادية شرقي المتوسط، وهي تحاول كسب إسرائيل إلى جانبها وتفتيت الجبهة المناوئة لها، والمؤلّفة من اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر، وانضمت إليها دولة الإمارات مؤخّرًا. ووفق المصادر الإسرائيلية، قدمت تركيا لإسرائيل مقترحًا بالاتفاق على تقسيم مجال السيطرة شرقي المتوسط، تستفيد منه إسرائيل كثيرًا، بتوسيع المياه الاقتصادية الواقعة الخاصة بها.

*ثالثًا، تنظر تركيا بقلق إلى أن أحد أهداف اتفاقيات التطبيع، وبالأخص مع الإمارات، هو محاصرة نفوذ ومكانة تركيا، وذهب بعض المحللين إلى القول إن الوقوف ضد إيران يأتي في الدرجة الثانية. هنا أيضًا تعمل تركيا على تفتيت التحالف «العربي الإسرائيلي» عبر اختراقه وزعزعته من الداخل. هنا يُسأل السؤال لماذا لا تقوم تركيا بتحسين علاقتها مع الدول العربية لتحقيق الهدف نفسه؟

*رابعًا، تأمل تركيا في أن يؤدّي إصلاح العلاقة مع إسرائيل، إلى تخفيف الضغط على نشاطها في القدس، وفي فلسطين عمومًا. وتقوم تركيا بتمويل مشاريع مهمة في القدس بضمنها ترميم مبان قديمة، وتقديم العون للعائلات الفقيرة، ودعم مؤسسات تعليمية وصحية وغيرها. وتعمل إسرائيل على عرقلة هذا النشاط التركي عبر تضييق الخناق على أنشطة الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا) التي تخصص 12 مليون دولار سنويًا، لتمويل مشاريعها في القدس. وصرّح وزير الخارجية الإسرائيلي «سنتخذ جميع الخطوات لاستئصال القاعدة السياسية للأنشطة التركية في القدس الشرقية.. لقد ولّت أيام الامبراطورية العثمانية، وليس لدى تركيا ما تبحث عنه في القدس». وبغض النظر عن الأسباب والدوافع، وهي كثيرة، تبقى القدس في السطر الأخير مهمة جدًّا في حسابات تركيا وأردوغان شخصيًا، وهذا أمر مهم يمكن استثماره لمواجهة المخاطر التي تعترض مصير العاصمة الفلسطينية.

رد إسرائيلي فاتر

لم يكن هناك أي رد إسرائيلي رسمي على تصريحات أردوغان ومسؤولين أتراك آخرين. ونشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن هناك ترددا وفتورا في الاستجابة للتقارب التركي، وهناك أساسًا خشية من أن تركيا تستدرج إسرائيل الى مطب ومصيدة، وأن القصد ليس تحسين العلاقة، بل الاستفادة من تخريب علاقة إسرائيل بدول أخرى. ويستدل من تسريبات إعلامية لمسؤولين إسرائيليين، أن شروطهم لترميم العلاقة تشمل قطع علاقة تركيا بحماس وتمرير المشاريع التركية في القدس، عبر القنوات الإسرائيلية والامتناع عن التصويت ضد إسرائيل في المؤسسات الدولية، واتخاذ موقف أكثر «توازنًا» بين إسرائيل والفلسطينيين وشروط أخرى لم يكشف عنها.

ليس واضحًا بعد ماذا سيكون مصير العلاقات التركية الإسرائيلية في الأشهر المقبلة، بعد دخول بايدن البيت الأبيض، وبعد الانتخابات الإسرائيلية في مارس المقبل. لكن من المهم ان ننتبه إلى أن تركيا لم تتخل عن مبدأ الربط، وهذا يختلف عن مبدأ التطبيع العربي المبني على مبدأ الفصل بين قضية فلسطين والعلاقة مع إسرائيل. نحن لا نريد أي تطبيع من أي نوع، لكن الربط هو أضعف الإيمان، وعلى القيادة الفلسطينية أن تعمل مع الاتراك حتى يكون الربط قويًا ومتينًا، بالأخص في ملفات القدس والأقصى وغزة وهذا الامر ممكن المنال.

* رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي

مقالات بقلم د. جمال زحالقة أيضًا | الانتخابات الإسرائيلية: فوز أكيد لليمين وخسارة ممكنة لنتنياهو


تصميم وبرمجة: باسل شليوط