إزاء إيران لا يعوّل على إسرائيل سوى السفهاء

د. جمال زحالقة

بدأت إدارة بايدن بتطبيق ما وعدت به في الانتخابات وشرعت بالتحرّك لتجديد المفاوضات مع إيران، للعودة إلى الاتفاق النووي، الذي وقّعه باراك أوباما عام 2015، وألغاه دونالد ترامب عام 2018. ويبدو هذا التحرّك المباشر وغير المباشر على خط واشنطن ـ طهران، أهم تطوّر سياسي وأمني واقتصادي في الشرق الأوسط، وسيكون له تأثير حاسم على كثير من القضايا والصراعات في المنطقة، لا بل قد يكون المفتاح للتعامل المستقبلي مع ملفات اليمن وسوريا ولبنان والعراق وأفغانستان، ويحمل في طيّاته إسقاطات مهمة على القضية الفلسطينية أيضا.

ظاهرياً تبدو مواقف الطرفين الأمريكي والإيراني غير قابلة للجسر، فإيران تشترط رفع العقوبات حتى تعود إلى التطبيق الكامل للاتفاق النووي، وحتى تلغي خطوات الرد على العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب عليها. في المقابل أعلن بايدين أكثر من مرّة أن الشرط المسبق لمفاوضات مع إيران هو عودتها إلى الالتزام ببنود الاتفاق مع السداسية كافة، ووقف جميع الإجراءات التي اتخذتها في مجال رفع مستوى تخصيب اليورانيوم وتقييد الرقابة الدولية على منشآتها النووية.

على الرغم من الخلاف، الذي قد يمنع المفاوضات ويقوّض إمكانية الاتفاق بين طهران وواشنطن، فإنّه من الواضح أن إيران معنية جدّا بإحياء المسار الدبلوماسي مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وبرفع العقوبات الصعبة المفروضة عليها. الولايات المتحدة أيضا توّاقة إلى استئناف المفاوضات والعودة إلى الاتفاق النووي، ومحو هذه الصفحة من الإرث، الذي خلّفه دونالد ترامب. يتفق الطرفان على ضرورة العودة للمفاوضات، وعلى أن الحل يجب أن يكون دبلوماسيا وليس عسكريا أو تخريبيّا أو عبر عقوبات اقتصادية. هما يختلفان أيهما يسبق، إلغاء واشنطن للعقوبات؟ أم إلغاء طهران لخطوات الرد عليها. ويزيد من صعوبة الخلاف ألّا أحد في طهران يريد أن يظهر كمن خضع للضغط الخارجي، عشية انتخابات الرئاسة الإيرانية في حزيران/يونيو المقبل، خاصة أن التيار المحافظ بالمرصاد لكل مظهر «تهاون» في التعامل مع مطالب الولايات المتحدة وأوروبا والوكالة الدولية للطاقة النووية. أما في واشنطن فقد رفع بايدن السقف عاليا، حين صرّح بأن لا عودة للمفاوضات ما لم تطبّق إيران الاتفاق النووي بحذافيره، وتلغي كل خرق له. ويقوم مؤيّدو إسرائيل والحزب الجمهوري بحملة شعواء ضد ما يسمّى «تنازلات» لإيران، ويبدو أن تراجعا للإدارة الأمريكية عن شروطها ليس بالأمر الهيّن.

تنصبّ الجهود هذه الأيام على البحث عن وسائل تسمح بتجديد المفاوضات، بدون أن يظهر أحد الطرفين وكأنّه خضع للآخر. ونشر موقع «نيويورك تايمز» (18/2/2021) أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف والرئيس حسن روحاني، اقترحا فتح حوار حول «خطوات تقارب متزامنة يقوم بها الطرفان بتاريخ محدد». ولقي هذا الاقتراح آذانا صاغية داخل البيت الأبيض، حيث جرى بحث إمكانية القيام بخطوات منسّقة ومتزامنة لتنفيذ اتفاق 2015 الأصلي. وتجري دراسة هذا التوجه بمسارين، الأول مسار متدرج عبر خطوة تتلوها خطوة، والثاني مسار الدفعة الواحدة، بحيث يجري التفاهم سرّا على كل شيء وإخراجه إلى الملأ على شكل اتفاق ناجز.

لا الولايات المتحّدة ولا إيران تريدان استمرار انسداد الطريق أمام العودة مجددا إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات، وهناك تسريبات عن اتصالات سرية مباشرة وغير مباشرة، بين طهران وواشنطن. وقد وجد وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكين مخرجا من مأزق الانسداد، واقترح انضمام «ضيوف» أو مراقبين أمريكيين إلى المفاوضات بين أوروبا وإيران. دبلوماسية الضيف على المفاوضات مريحة للطرفين، وتفتح المجال للتفاوض بدون مفاوضات رسمية.

يأتي الاقتراح الأمريكي الجديد بالوساطة الأوروبية، لمنع تدهور الأمور أكثر، بعد أن أعلنت إيران أنها لم تعد ملتزمة ببعض بنود الاتفاق النووي، وأنها لن تسمح بالزيارات المباغتة لمراقبي وكالة الطاقة النووية الدولية في منشآتها النووية. وأكثر ما تخشاه واشنطن هو تكرار ما حدث عام 1994 في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، حين حدثت أزمة مع المراقبين في كوريا الشمالية، وبدل احتوائها جرى تصعيدها، ما أدّى إلى طرد المراقبين وتسريع إنتاج السلاح النووي، بدون رقيب أو حسيب. فعلى عكس إدارة ترامب، تعتقد إدارة بايدن أن الضغط المبالغ به على إيران لن يمنعها من الوصول إلى القنبلة النووية، بل بالعكس سيدفعها أكثر لتسريع الوصول إلى قدرات تمكّن من إنتاجها. إضافة إلى تصريح وزير الخارجية الأمريكي بشأن الوساطة الأوروبية، قامت الولايات المتحدة ببعض خطوات النوايا الحسنة، وخففت القيود المفروضة على تحرّك ممثلي إيران في الأمم المتحدة في نيويورك وغيرها، وأعلمت الإدارة الأمريكية الأمم المتحدة انها لم تعد ملتزمة بما يسمّى إعلان ترامب، بشأن فرض العقوبات وحظر بيع الأسلحة لإيران، ووفق وكالة رويترز أبلغت الولايات المتحدة إسرائيل وغيرها رسميّا، أنها تنوي تجديد المفاوضات مع إيران. في المقابل منحت الحكومة الإيرانية مهملة ثلاثة أشهر إضافية لا تُفرض فيها بالكامل التقييدات المشدّدة على المراقبين الدوليين. النقاشات «التقنية» حول مدخل البدء في المفاوضات هي لا شيء مقارنة بالخلافات الجوهرية حول المضمون. صحيح أن الولايات المتحدة تريد العودة إلى الاتفاق النووي لكنّها تعلن انه غير كافٍ، ويجب إدخال التعديلات والإضافات عليه. ومن هذه التعديلات تشديد الرقابة على المنشآت النووية، وتمديد فترة سريان مفعول التقييدات الصارمة على تخصيب اليورانيوم، والتزام صريح وواضح بعدم الاقتراب إلى إنتاج سلاح نووي. وتريد الولايات المتحدة أيضا توسيع الاتفاق، أو اتفاقيات جديدة، لوضع قيود ملزمة على إنتاج الصواريخ، خاصة تلك القادرة على حمل رؤوس نووية. كما تسعى الإدارة الأمريكية إلى الحد من التمدد الإيراني ووقف دعم ما يسمّى بالإرهاب.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ودول أوروبا تتبنّى معظم الشروط الإسرائيلية، إلا أن هذا لا يعجب إسرائيل، التي ما زالت تعارض المفاوضات وتقف ضد العودة إلى الاتفاق النووي، وتدعمها في هذا الموقف السعودية والإمارات والبحرين ودول عربية أخرى.

ما تريده إسرائيل هو المزيد من العقوبات وجر الولايات المتحدة إلى تهديد إيران عسكريا. الجديد في واشنطن أن القرار الأمريكي بشأن الشرق الأوسط يتّخذ في واشنطن، وليس في تل أبيب كما كان في عهد ترامب، سيّد نتنياهو المطيع. وقد لخّصت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية ذلك بأن «قطار دبلوماسية بايدن خرج نحو إيران ولن يتوقّف في إسرائيل». الولايات المتحدة ملتزمة بالحفاظ على أمن إسرائيل وعلى التفوق الإسرائيلي المطلق، لكنّها ليست مستعدّة أن تتحكّم تل أبيب بقراراتها الاستراتيجية النابعة من فهمها لمصالحها ولأمنها القومي. إزاء التطورات المتسارعة، التي قد تتسارع أكثر، لم يعد النظام العربي القائم قادرا على التعامل مع المتغيّرات. السعودية والإمارات والبحرين أضعف من أن تقف ضد واشنطن، حتى لو تحالفت مع إسرائيل واحتمت خلفها. لقد جرى تسويغ التطبيع العربي على أنّه جاء للوقوف في وجه الخطر الإيراني، وفسّر المفسّرون وطبّل المطبّعون على أن التحالف مع إسرائيل يحمي من إيران. وقد جرى تعريف هذه الحماية بأنّها نابعة من قدرة إسرائيل على التأثير في السياسة الأمريكية. إسرائيل فعلا تؤثّر في القرار الأمريكي لكنّها ليست كلية القدرة، خاصة حين يتعلّق الأمر بالأمن القومي الأمريكي. وها هو قطار الدبلوماسية الأمريكية يسير بسرعة نحو إيران، وإسرائيل عاجزة عن إيقافه، فماذا سيفعل العرب؟ هل يستمرون في التعويل على ما لا يعوّل عليه؟

إذا كان النظام العربي يريد الحياة لشعوبه ولديه حد أدنى من القلق على مصيرها، فعليه أن يبتعد عن أي تحالف مع إسرائيل، لأنّه يضرب صلب الكيان والهوية والكرامة ولأنّه ببساطة غير مفيد بالمرّة ولا يصمد أمام تقلبات السياسات الإقليمية. كما أن الدول العربية ليست مضطرة إلى التحالف مع الولايات المتحدة، التي لم تقف مع العرب في يوم من الأيام. الخطوة الصحيحة هي التوصل إلى توافق عربي أولا، حتى تكون هناك ذات عربية أصلا، ومن ثم العمل على تفاهمات إقليمية مع إيران وتركيا، فهاتان الدولتان، ومهما حدث، ستبقيان في المنطقة فاعلتين ومرتبطتين بالعالم العربي. استراتيجية بناء الأمن القومي العربي، تعتمد على التفاهم الممكن والمتاح مع إيران وتركيا، أما إسرائيل فلا يعوّل عليها سوى المفلسون من الحكّام، والولايات المتحدة ستهتم بمصالحها هي في الاتفاق مع إيران، فمن سيحافظ على مصلحة العرب سوى العرب.

* رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي


تصميم وبرمجة: باسل شليوط