المؤتمر الخامس 2007: الخطوط العريضة

أنهت الهيئات المركزية في حزب التجمع الوطني الديمقراطي معظم التحضيرات للمؤتمر الخامس للحزب الذي سيفتتح يوم 22.06.2007، ومنها الأوراق المعدة لهذا المؤتمر والتي استمر الإعداد لها ومناقشتها حوالي 4 أشهر، وهي اليوم تقوم بتعميمها عبر صحيفة فصل المقال على قواعد الحزب لطرحها للنقاش والتطوير والإغناء، ولإتاحة الفرصة أمام كل عضو للإدلاء بمساهمته وبرأيه.

وقد شملت عملية الإعداد ايضاً تحضير الفروع وجرد العضوية والمباشرة بانتخاب المندوبين لهذا المؤتمر، وهي مهمة قاربت على الإنتهاء. وهذا يعني أن الفروع جاهزة لاستقبال المواد والمباشرة في بحثها ومناقشتها.

يبغي الحزب من عملية الإعداد للمؤتمر جعل عملية تناول المواد المعدة ورشة فكرية كبيرة تعكس تفاعلاً عميقاً ومسؤولاً من جانب القواعد مع المراجعات والتقييمات والتصورات والإقتراحات المطروحة في الأوراق.. تتوج في النهاية بنتائج هامة، تثقيفية وسياسية وتنظيمية وكفاحية، تنعكس على حياة الحزب بصورة نوعية في السنوات القادمة، وتؤهل لتأسيس مرحلة جديدة تثري ليس البنية ومنهجية عمل الحزب فحسب بل مجمل الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية والتربوية الكفاحية في المجتمع العربي في البلاد.

    وتتناول أوراق المؤتمر قضايا وجوانب هامة متعلقة بواقع ومستقبل المجتمع العربي  في البلاد، وكذلك واقع الحركة الوطنية الفلسطينية الراهن وتطورات الوضع الإقليمي والدولي، لما لذلك من تأثير مباشر وغير مباشر على واقعنا كجزء من الشعب الفلسطيني ومن الأمة العربية يعمل في ظروف المواطنة الإسرائيلية في دولة لها علاقاتها مع المجتمع الدولي، تؤثر فيه وتتأثر به. 

     بطبيعة الحال يحظى واقع عرب الداخل وقضايا الحزب الداخلية ودوره السياسي والجماهيري في هذا الواقع بالقسط الأكبر من اهتمام الحزب، كما ينعكس ذلك في الأوراق. 

    ويأتي هذا المؤتمر في ظروف يشتد فيها الخناق حول المواطنين العرب وتزداد المخططات العنصرية التي تتجدد وتتخذ مسارات أكثر خطورة وأشكالا أكثر سفورا منذ انفجار الانتفاضة الفلسطينية الثانية والهبة الشعبية العارمة في الداخل في اكتوبر 2000. 

    كما يأتي في ظروف تبذل فيها محاولات لانتشال الوضع الفلسطيني من حالة الفوضى والاقتتال وفقدان المسار، وإعادة تنظيم الحالة الفلسطينية وسط صعوبات جمة وتعقيدات هائلة داخلية وضغوطات خارجية. وتشهد هذه المرحلة تعثر المشروع الإمبراطوري للولايات المتحدة الأمريكية التي اختارت العراق عبر غزوه واحتلاله كمعبر إلى هذا المشروع الإستعماري، وتسعى الآن إلى إيجاد مخرج من مأزقها لورطتها في العراق، وذلك عبر حلفائها العرب وعبر فتح حوار مع دول جوار أساسية اعتبرتها حتى اللحظة أطراف في محور الشر. 

    أما الساحة الإسرائيلية فهي تمر بحالة من الإرباك غير المسبوقة واهتزاز الثقة بقياداتها السياسية والعسكرية، هذا الاهتزاز الذي تفاقم وأخذ بعدا نوعيا بعد إخفاق إسرائيل في هزيمة المقاومة اللبنانية في حرب تموز 2006 التي لا تزال آثارها تتفاعل على مستوى الحياة السياسية والحزبية الإسرائيلية. ولكن ذلك لا يعكس تحولاً جذريا في المواقف الإسرائيلية لا الرسمية ولا الشعبية.. خاصة فيما يتعلق بالموقف من حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو العربي الإسرائيلي. وأي تغيير شكلي يظهر هنا وهناك لا يأتي إلا ضمن متطلبات اللعبة الداخلية (بين الأحزاب) أو ضمن استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية المحكومة والمدفوعة حاليا بنظرتها لمتطلبات الخروج من المستنقع العراقي. 

ومما لا شك فيه أن المقاومة العراقية والمقاومة اللبنانية وممانعة ودعم سوريا للمقاومة، وفشل إسرائيل في فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، كل ذلك يفرض الآن على الأعداء تراجعات في مقاربتهم للصراع مما يعكس أهمية استمرار التمسك بالموقف الوطني وبالمقاومة. 

قضايا المجتمع العربي في البلاد

 ويشمل: 

* الواقع الاقتصادي الاجتماعي 

* حول المسألة البلدية 

* حول انتخاب القيادة لجنة المتابعة والعلاقة مع الأحزاب 

* قضية التعليم العربي 

* العمل الأهلي

* الانتهازية والسعي للتحلل من السياسة

الواقع الاقتصادي الاجتماعي

    يواجه المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل مخاطر متزايدة تمس حياته المعيشية وعلاقاته الداخ مظاهر الفقر والتدهور الاجتماعي، مثل الفردية والقتل الفردي والجماعي، وشيوع الانتهازية بسبب سياسة التهميش الاقتصادي والثقافي والسياسي، والاعتداء المستمر على حقوق المواطنين العرب، وغياب الحد الأدنى من الاستقلال الاقتصادي الذي يؤدي الأمر الى المزيد من تعميق الأزمات الراهنة وإعاقة تبلور المواطنين العرب كجماعة قومية ويعيق عملية بنائهم كشعب.

 لقد كشفت الإجراءات الإقتصادية، مثل تخفيض مخصصات الأطفال ومحاولة ضرب منجزات اجتماعية من نوع مخصصات البطالة وتقليصها (مشروع وسكونسن) وازدياد مساهمة المرضى في مصاريف العلاج والدواء، وكذلك آثار سياسة نتنياهو الاقتصادية التي تمس بالطبقات الفقيرة كشفت للعديد من المواطنين العرب أنهم فقراء يعيش جزء كبير منهم على أموال المخصصات والمعونات . لقد أدرك العرب أن تمسكهم ببعض العادات الاستهلاكية كان يعميهم عن هذه الحقيقة المرة، وأنه رغم وجود بعض البيوت والسيارات الفخمة ورغم المفرقعات في الأعياد وانتشار ظاهرة الإفطارات الجماعية للوجهاء بدلا من موائد الرحمن للفقراء، فإن القرى العربية في بنيتها هي عبارة عن أحياء فقر مزدحمة.

وكان بإمكان موجة استيراد العمال الأجانب بعد الانتفاضة الأولى أن تكون تذكيرا للمواطنين العرب في الداخل أنهم لا يفكرون جديا ببنيتهم الاقتصادية. لقد إنخرطوا، في أفضل الحالات، في النضالات النقابية الإسرائيلية. ولا اعتراض على هذا، ولكن هذا لا يكفي خاصة إذا تم إهمال خصوصيتهم ومتطلباتها.

لقد توجه الاقتصاد الإسرائيلي مع توفر تبرير أمني بعيد الانتفاضة الأولى إلى ما هو ارخص، أي الى استيراد الأيدي العاملة. وذلك قبل ان يحصل تغير في نوع الاختصاصات في قوة العمل العربية، قبل أن تتعدل كما تعدلت بنية قوة العمل اليهودية تدريجيا مع تغير بنية الاقتصاد. وكانت النتيجة بطالة بمعدلات غير مسبوقة لم يعرفها العرب في السابق. وكان قد غطى عليها لمرحلة قصيرة توسع الطبقة الوسطى العربية وازدياد معدلات النمو في مرحلة أوسلو والمساواة في مخصصات الأطفال قبل التقليص الأخير من مرحلة نتنياهو. وقد وساهم في تعميق البطالة نقل بعض الصناعات، خاصة التي كانت تشغل نساء عربيات مثل النسيج، إلى الخارج بحثا عن أيدي عاملة ارخص وأسواق أوسع.

فقدت القرية العربية منذ النكبة اقتصادها الزراعي دون أن تطور اقتصادا آخر. وهي إضافة إلى ذلك لم تفقده لصالح مدينة عربية مفتوحة لهجرة الريف إليها. ولم تشهد القرية هجرة حقيقية إلى المدينة على أثر خراب الزراعة بفعل المصادرة وتغير بنية الاقتصاد ومنافسة الزراعة اليهودية وغيرها. بل بقيت القرية في مكانها دون زراعة ودون اقتصاد تتضخم وتنتفخ وتصبح بلدة، ثم مدينة في عرف وزارة الداخلية الإسرائيلية، تأوي عمالا وموظفين يعملون في اقتصاد المدينة اليهودية. أما الاقتصاد المحلي الوحيد فما هو إلا مهن حرة وخدمات تقدم إلى هؤلاء العاملين المنتجين في الاقتصاد اليهودي.

 تهجّرت البرجوازية الصاعدة في مرحلة الانتداب والإقطاع ونخبة المدينة الثقافية والبيروقراطية ضمن عملية التهجير في النكبة. ونبتت البرجوازية الجديدة الصغيرة والقليلة العدد على هوامش الاقتصاد الإسرائيلي من قطاعات مثل مقاولات البناء  والوكالات والتجارة بالجملة. وهي لا تؤسس لاقتصاد عربي جديد وإنتاجي، وليس بوسعها ذلك، بل لقطاع اقتصادي صغير وخدماتي في الأساسي يعيش على هامش الاقتصاد الإسرائيلي، وهكذا هو الحال بقية القطاعات الاقتصادية التي يقطن المعتاشون عليها في القرية العربية.

لية وهويته الوطنية. وهو يمّر في ظروف تتفاقم فيها تبعات سياسة التمييز العنصري وتنسخ

ودون كيان سياسي مستقل، لا جدوى من محاولة تأسيس اقتصاد مستقل عن الاقتصاد الإسرائيلي. فمجرد التفكير بذلك هو استقلال عن الواقع والمنطق، ناهيك عن وحدة السوق والضرائب والعملة والأسعار والبنوك وغيرها. وحتى ضمانات البطالة  والصحة والشيخوخة تعتمد على نظام التأمينات والضمانات القائم في الاقتصاد الإسرائيلي المرتبط بوجود دولة. المواطنة الاقتصادية قائمة، وهي من الدرجة الثالثة او الرابعة، ولكنها قائمة حتى لو تم التخلي عن المواطنة السياسية غير المتساوية أيضا. ولذلك فالصراع لتحسين وضع القرية العربية وتصحيح اقتصادها ولو قليلا يتم في الإطار القائم، وفي إطار البنية الاقتصادية القائمة، وعبر تحديه في الوقت ذاته.

وإذا تم التسليم بان التطور يجري في الإطار الإسرائيلي القائم فقط ودون أي تدخل أو تخطيط عربي سوف تكون النتائج وخيمة، وقد كانت وخيمة حتى اللحظة. قد يرتفع مستوى معيشة المواطنين العرب حينا وينخفض حينا كحالات متأثرة بمعدلات النمو والركود وغيرها.  ولكن العملية الأساسية المثابرة والعنيدة الجارية تبقى هي تهميش الاقتصاد العربي في الداخل، كهامش لمركز، وكمجرد ظاهرة مرافقة للتطور والأزمات في مراكز الاقتصاد الإسرائيلي اليهودية.

ولذلك ورغم كون العرب في إسرائيل جزء من الاقتصاد الإسرائيلي إلا أن الوجهة يجب الا تتلخص في ترك الحبل على غاربه، وترك الاقتصاد يتطور عفويا بموجب متطلبات السوق. فالتطور العفوي هو تطور خاضع ومتأثر بموجب حاجات المركز اليهودي الاقتصادية وقواعده وقوانينه وليس بموجب حاجات المجتمع العربي. والسوق في النهاية هو سوق يهودي.

من اجل ذلك يلزم وجود جسم تخطيط عربي، يخطط قوميا لنوع المطالب التي تطرح على الدولة، ونوع المبادرات المطلوبة من المجتمع. هل يجب ان نكتفي بالدفاع عن المعونات الحكومية والضمانات والتأمينات في مجتمع فقر أم نطور بنى تحتية مادية وبشرية ومطالب للاستثمار، ونهيئ مجتمعنا لمطالب كهذه؟ من واجب هيئة تخطيط كهذه ان تعد لمسطح البناء وما يجب ان يكون عليه ونوع الصناعة او المشاريع التي تستطيع القرية العربية، او مجموعة قرى، استيعابها. حتى لو تطلب الأمر تشجيع عدة قرى وبلدات على التجمع في رابطة تخطيط، وفي منطقة صناعية موحدة مثلا، ولبحث نوع التخصصات لدى خريجيها، وبعدها عن المركز، وحجم الضريبة فيها، وسعر الأرض...ويمكن أيضا بحث نوع الزراعة الممكنة للتصدير، نوع التخصصات التي ينبغي تشجيع الشباب على دراستها، وغير ذلك لغرض التخطيط لاقتصاد ما أو لمقومات اقتصادية تتجاوز التأثر فقط بما يفرضه المركز.

ونحن طبعا لا نقصد جمعيات متنافسة جديدة، بل يتطلب ذلك وجود هيئات تخطيط معتمدة من قبل المجتمع العربي، ووجود هيئات منتخبة ذات شرعية تضع السياسات التي يتم بموجبها التخطيط وتمولها. ولا مناص من انتخاب المواطنين  العرب لهيئة من هذا النوع مباشرة، مع دفع رسوم ولو شاقل واحد في الشهر لنوع من برلمان لعرب الداخل مع ميزانية بالحد الأدنى لهيئات وجهاز موظفين. وليس المطلوب فصل العرب عن الحكم المركزي ولا تعطيل المطالبة بالمساواة، بل بالعكس، المطلوب هو توفير الإجابة على تهميشهم وتميزهم. والبرلمان المنشود غير قادر على القيام بمهامه إلا كخاص ضمن العام، وإلا كحالة ارتباط وانفصال في الوقت ذاته. 

واقع وثقافة أحياء فقر في المدن المختلطة:

أدت السياسات الإسرائيلية المعادية للوجود العربي في المدن المختلطة الى إنتاج أحياء فقر عربية. كانت يافا واللد والرملة وعكا وحيفا، مدن فلسطين الساحلية. كان فيها بدايات للصناعة والعمران، وفي بياراتها أنتجت فلسطين البرتقال - ذهب محاصيلها وزينة مزروعاتها. وفي كنف هذه المدن كانت بدايات المشروع الحضاري والهوية العربية الفلسطينية، ومن موانئها جرى التفاعل مع بيروت والاسكندرية، ومع حوض المتوسط وأوروبا.

حتى بعض البنايات السكنية في هذه المدن كانت تحفا معمارية ميزت عصر النهضة العربية من حي المالكي في دمشق إلى كورنيش الاسكندرية وزمالك القاهرة. في النكبة هدمت مجتمعات مدن فلسطين. وفي اللد تم تهجير السكان بعد واحدة من أشرس المذابح الصهيونية ضد العرب، مذبحة مسجد دهمش. واستولى المستوطنون الصهاينة على أبنيتها وشوارعها وبقيت في بعضها أحياء عربية سرعان ما تحولت إلى 'غيتوات' فقر تجتذب هجرة سكان أكثر فقرا إليها من محيطها ومن النقب. واستولى المحتلون على محالها التجارية. وعلى بنايتها سطت مؤسسات وشركات صهيونية من 'رشوت هبتوح' إلى 'عميدار' لتؤجرها في بعض الحالات لأصحابها أنفسهم. وفي تحفها المعمارية استوطن من لم يتعب في بنائها في عملية سطو مسلح. وصودرت اوقافها. وفي بنايات اخرى سكن الهدم والاهمال.

 في بعضها نجت بقايا طبقة وسطى حافظت ببطولة على مدارس عربية وعلى أجيال تتكلم لغة الضاد العربية. وجرت تسمية هذه المدن في عرف إسرائيل مدنا مختلطة. وتواصل فيها الصراع لحشر العرب داخل 'غيتوات' او للاستيلاء على مساكنهم بعد منعهم من ترميمها في بعض الحالات، إذ أرادتها السلطة الصهيونية أحياء سياحية متوسطية 'انتيكية' الطابع ولكن دون عرب، على نمط 'سوهو' في نيويورك ولندن. وصارع العرب فيها للحفاظ على هويتهم. وإنشغل العرب فيها بانتخابات بلدية بعد أخرى، وكان الغرض دائما هو تلبية مصلحة فردية يفترض ان تلبى دون عمالة، أو اتقاء شر رئيس البلدية القادم، الذي سيحاول إثبات صهيونيته بتجاهل قضايا العرب او بتوسيع الأحياء اليهودية وتطويرها او بتحميل العرب وزر الجريمة والمخدرات وهكذا. ومؤخرا برزت نخبة عربية جديدة تخوض الانتخابات البلدية في ما يسمى المدن المختلطة من أجل الحفاظ على مجتمع عربي متطور، ومن أجل تنظيمه دون 'غيتو' وتنظيم أحواله التعليمية والاجتماعية. ولا شك ان الحفاظ على صحة وسلامة المجتمعات العربية فيما يسمى المدن المختلطة من أنبل وأعدل المعارك الوطنية والمدنية التي يخوضها هذا الجزء الحي من الشعب الفلسطيني والأمة العربية.    

ويتواصل هدم البيوت بشكل مكثف في مدينة اللد والرملة وغيرها من 'المدن المختلطة' ويتم التخطيط لهدم واسع جديد في يافا. وكان شارون وغيره قد حذروا من 'استيلاء' العرب على مدينة اللد فهي الأقرب لتكون محطة الهجرة العربية الأولى لمن يهجرون النقب، وقد عادت سياسة هدم البيوت بكثافة غير مسبوقة في مرحلة شارون. وهذا هو 'انجازه' البارز الوحيد للمجتمع العربي في الداخل في فترة حكمه. وكان في ذلك تأكيد صريح على ثوابت الصهيونية بتكثيف الاستيطان في الداخل وتهويد المناطق ذات الأغلبية العربية وحشر العرب  في النقب و'المدن المختلطة' في غيتوات فقر، والعودة إلى الاستخدام الكثيف لمفاهيم الخطر الديموغرافي داخل حدود 67 أيضا. وتنتشر الجريمة بشكل غير مسبوق في مدينة يافا وتتحفظ الشرطة من ملاحقتها طالما كانت محصورة داخل الأحياء العربية. 

وتعقد المؤتمرات تحت عناوين مثل: الغالبية اليهودية في عكا يجب المحافظة عليها'، لبحث شتى الطرق لضمان أكثرية يهودية ثابتة في المدينة بواسطة جلب اليهود المتدينين اليها. إذ شهدت المدينة

من زاوية النظر الصهيونية في الآونة الأخيرة اختلالا في التوازن الديموغرافي حيث اجتاحت المدينة موجات من 'القادمين العرب'، (القادمون العرب هو مصطلح جديد)، من القرى المجاورة هي عائلات مستورة بغالبيتها، فيما تركتها عائلات يهودية قوية اقتصاديا.

وتُستخدم هنا دوافع اليهود المتدينين الصهاينة لغرض التشجيع على الهجرة اليهودية والسكن في عكا. وهذه نفس الخامة البشرية التي يتم بواسطتها الاستيطان في الضفة الغربية.

إن ظروف السكن الصعبة وفي منطقة عربية على وجه الحصوص تحتاج إلى ناس مدفوعين بدافع إيديولوجي طلائعي غير مادي من نوعية دوافع مستوطني الضفة الغربية وقطاع غزة. وهؤلاء بدافعهم الإيديولوجي الصهيوني العنصري سوف يتحولون إلى مادة متفجرة طبعا. فهم يصلحون للاستيطان المدفوع بالعداء للعرب، ولكنهم لا يصلحون للعيش المشترك في مدينة واحدة. وهذا يعني أن العرب في هذه البلاد يجدون أنفسهم في مواجهة استيراد العقلية الاستيطانية من الضفة الغربية والمناطق المحتلة الأخرى إلى داخل الخط الأخضر.

ولا شك ان المؤتمرات العنصرية التي تعقد في الخفاء تفوق عددا وصراحة تلك التي تعقد علنا. وغالبا ما تعقد مراكز الأبحاث ومؤسسات الأمن القومي ندوات ومؤتمرات، لا يصل صداها إلى الإعلام، تبحث فيها أوضاع العرب وأنماط سلوكهم السياسي ووضع التعليم العربي ونسب الولادة عند العرب ويحضرها عرب لا يرسلون أخبارا وبيانات إلى وسائل الإعلام العربية خلافا لعادتهم. بالمجمل لا يتوقف التخطيط الصهيوني ضد العرب ولا حتى ساعة واحدة. وهذا يعني ان تنظيم العرب على أساس وطني وقومي وإقامة مؤسسات لهم حتى في المدن المختلطة تفضح وتقاوم هو قضية وجودية من حيث الأهمية. 

والجديد هو تبين صيرورة التطور كعملية تحويل القرى العربية كلها إلى نوع من أحياء الفقر تشكل هامشا للمدن اليهودية القريبة.

القرى والبلدات العربية كأحياء فقر:

لقد باتت ظاهرة إنتشار العنف الفردي الموجه نحو الداخل في المجتمع العربي ظاهرة مزعجة ومثيرة للقلق، فهو يجسدا تحييد للأخلاق وللعقل وتحييد للمجتمع كرابطة ولمميزات الإنسان التي يفاخر بأنها ترفعه عن مملكة الحيوان.  وتتخذ هذه الظاهرة شكلين أساسين: عنف الجريمة وعصاباتها التي تزداد انتشارا في المجتمع العربي مع مكافحتها في الوسط اليهودي من ناحية، والعنف دون مناسبة من ناحية أخرى، والمقصود هو انتشار شخصية عنيفة مغرورة متباهية متبجحة فارغة من الداخل، تفتعل رد فعل عنيف، أو تنفعل بعنف عند أي شجار أو احتكاك وكأن الموضوع هو تأكيد الشخصية واثبات الذات لشخصية مهزومة أمام المشروع الصهيوني.

 ولا يمضي يوم الا ويسمع عرب هذه البلاد عن حالات صدام دموي في إحدى قراهم ومدنهم بدأ كشجار فردي وتبعته فزعات وتضامنات عائلية او طائفية.

ولا يذكر احد جذورا تاريخية لهذه الظاهرة، أو سوابق لها في عادات العرب في هذه البلاد.

لم تتم هجرة من الريف إلى المدينة تنفس الاحتقان الناجم عن نهاية الاقتصاد الريفي. ولكن القرية التي  تضخمت دون هجرة  منها الى المدينة لم تعد قرية، فلا هي مجتمع زراعي ولا هي مجتمع تقليدي، ولا ردعت فيه البنية الاجتماعية العنف الفردي بشكل مطلق.

 تحللت البنية التقليدية الاجتماعية الرادعة للعنف الفردي، وبقيت منها عموما روابط مصالح من نوع

تحويل العائلة إلى رابطة انتخابية فأصبحت بذاتها مصدر عنف.  تضخمت القرية وازدحمت، وهي مجتمع مهمش لا متنفسات له للهجرة والإبداع في المركز المديني، فالمدينة ليست عربية. والبطالة منتشرة في بلدة تشكل مأوى للأيدي العاملة الأجيرة دون اقتصاد محلي في أفضل الحالات وللعاطلين عن العمل في حالات أخرى

نحن أمام قرى وبلدات تتحول أمام أعيننا ن قرى وبلدات الى أحياء فقر مكتظة لا أساس اقتصادي لها، وتشكل ضواحي فقيرة لمراكز مدينية وحتى زراعية يهودية.

ولم يستعض المجتمع بحكم القانون عن تحلل البنى التقليدية، او بقائها وتغير وظيفتها من أهلية إلى تعبير عن مصالح فردية. وبالعكس، الدولة غائبة فيما هو غير جباية الضرائب وتقديم الخدمات التسكينية لفقراء في التأمين الوطني وفيما عدا العنف السياسي. وهي ربما تنظر بعين الرضا الى مظاهر العنف والجريمة في المجتمع العربي.

والسياسة العربية المحلية بدل أن تهذب الجمهور تتملق له في الانتخابات، ولا تلوم إلا الآخرين على العنف والتخلف. كما أن القيادات المحلية في تنافسها لا تعطي مثلا مختلفا للمجتمع عن حسم القضايا بالحوار وبالاحتكام بشكل ديمقراطي إلى رأي الأغلبية. بل هي تعطي مثلا لا يقل تخلفا في الكثير من الحالات عن التبجح والمباهاة التي تميز المراهقين في خصامهم، كما يظهر في حملات الانتخابات المحلية والقطرية من عنف كلامي وجسدي ونشر للافتراءات والإشاعات والفرية الطائفية والعائلية.

يمكن تشجيع ما تبقى من زراعة عربية ودعمها. وقد بدأت الحركة الوطنية مبادرات بهذا الخصوص، في إطار تأسيس اتحاد المزارعين وغيره. لا يمكن استعادة المجتمع التقليدي الزراعي. وحتى يحقق العرب نوعا من الإدارة الذاتية ذات قاعدة اقتصادية بالحد الأدنى يتحملون فيها مسؤولية مجتمعهم بمؤسساتهم هم، وحتى يقوم مركزهم المديني الذي يضم مؤسساتهم، لا بد من رؤية أهمية الانتماء الوطني وأخلاقياته. وهذه المؤسسات، أي الانتماء الوطني وأخلاقياته، لا تعوض عن كل شيء، ولكن الاستهتار بدورها مدمر فعلا. فالانتماء الوطني والقومي يعوض كمرجعية أخلاقية عن البنى المحلية المنهارة ويربط أبناء الشعب الواحد بعضهم ببعض في تجاوز للجماعات المحلية وحتى لحدود القرية والبلدة إلى مدينة افتراضية هي الرابطة القومية ومؤسساتها، ويمنح الفرد معنى يتجاوز إثبات الذات في عملية تنافس في شوارع قرية مزدحمة. ولكن هذا يحتاج إلى مؤسسات. وليس المقصود جمعيات متنافسة، إنما مؤسسات وطنية عامة ذات جذور قاعدية، يجري بناؤها بتواصل بين القاعدة والقمة وتجمعها هوية وطنية وبرنامج وطني نضالي وتنموي.

نحن نراقب مجتمعا يتحول أمام أعيننا إلى مجتمع عنيف في دولة لا تعتبر مكافحة الجريمة والعنف الفردي فيه من مهامها، وتاريخها مع هذا المجتمع لا يمنحها أصلا الشرعية للقيام بذلك. لأنها دولة قامت بالعنف على خرائب مدنية الشعب الأخر، شعبنا، ويرتبط نوع العنف الذي نشأ فيه بوجودها ذاته. ولذلك، وبنظرة تاريخية، ليس لهذا المجتمع من ملجأ إلا ذاته. على الحركة الوطنية أن تنبه قيادة المجتمع ونخبه وهيئاته لأن تبحث عن طرق تقوي فيها مؤسساته، وان تقنع المجتمع أن يجتمع على عقدٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍِِِِِِِِِِِِِِِِِِ يسلم فيه بضرورة قيام مؤسسات ذات سلطة وهيبة، وحتى قدرة على التنفيذ، عندما يتعلق الأمر بمكافحة العنف الفردي. 

حول المسألة البلدية

لقد استولت السلطة المحلية البلدية، المؤسسة الوحيدة التي تستحق الذكر في القرية العربية، على غالبية اهتمام 'أهل البلد' وأحاديثهم ومواقفهم في الشأن العام. لم تبق بلدة عربية واحدة دون خلاف مستمر على البلدية او المجلس المحلي بدرجات متباينة من العنف  الكلامي او حتى الجسدي

وأصبحت البلدة مقسمة إلى معسكرات، معسكرين غالبا يدور في فلكهما حلفاء. وخلافا لما يروج أحيانا فإن البلدية او السلطة المحلية هي مؤسسة إسرائيلية تابعة لوزارة الداخلية الإسرائيلية كما هو معلوم، حتى لو ترأسها عضو ينتمي الى تيار عربي وطني أو حركة إسلامية. ويستطيع وزير الداخلية حلها وإقالة رئيسها.

قبل أن يتحول المواطنون العرب في هذه البلاد إلى مواطنين لديهم حق اقتراع بشأن انتخاب بلدية أو مجلس محلي البلدي كانوا مجتمعات منظمة بواسطة بنية عائلية تقليدية ومخاتير وحارات. والمجلس المحلي لم يأت ليحل محل البنية العشائرية أو الحمائلية القائمة محولا أعضاء الحمولة أو العشيرة إلى مواطنين أحرار الإرادة لديهم حرية الاختيار عبر الانتخابات. فالمساحة ضيقة والناس تعرف بعضها شخصيا والخلاف على البلدية ليس إيديولوجيا بل على من يدير مقدرات مادية: وظائف، مشاريع، ضرائب وإعفاءات من الضرائب. والبلدية هي المشغل الأكبر، والمؤسسة الأكبر في البلدة...هذا ناهيك عن المكانة والمنزلة التي يمنحها المنصب، خاصة في مجتمع كانت فيه المنزلة على تواضعها تتوارث. وقد فتح انتخاب البلدية او المجلس المحلي المجال للتنافس على منزلة لم تكن في الماضي خاضعة للتنافس، وأصبح بالإمكان مواجهة العائلة الكبيرة بتحالف عائلات صغيرة دون تغيير في العقلية العائلية ،بل بالعكس عبر تأجيجها.

الأهم من هذا كله أن رسالة المجلس المحلي المنتخب التاريخية لم تكن التحديث مقارنة بما كان، وذلك خلافا لما اعتقد بعض المعجبين بتطور المجتمع في ظل الحكم الإسرائيلي. فالمجلس المحلي لم يتحول إلى مؤسسة تساهم في تحديث المجتمع أو في تحويل أفراده إلى مواطنين ذوي إرادة حرة، وهو لم يتحول إلى ميدان تنافس حر بين مواقف وأفكار مختلفة معروضة على المواطنين كي يبتوا في كيفية إدارة البلد، كما لم يحرر الفرد من العصبية العائلية التي كانت تميز البنية التقليدية، بل بالعكس. فقد حول العائلات إلى روابط مصالح وسيَّسها بالمعنى المحلي للكلمة، وأحيانا حتى بالمعنى القطري. لقد استعرت العصبية العائلية على خلفية الصراع على السيطرة على المجلس المحلي والبلدية بدل أن تخبو، وجرى تفريغها من مشاعر التعاضد والمحبة وأصبحت علاقة عصبوية محكومة بمصلحة جافة وباردة. وقد تنقسم العائلة إلى بطون متنافسة من المصالح وتشهد انشقاقات على هذه الأساس. ونشأت صفقات مع الأحزاب بنموذج: 'أعطونا أصواتكم في البلدية نعطيكم في الكنيست'، أو العكس. وساهم هذا في مع بعض الأحزاب، بما فيها الفاعلة بين العرب، من تطوير فروع حزبية، غير عائلية طبعا، أو تتجاوز الانقسام البلدي وتسمح بقيام هيئة مجتمعية مدنية هي فرع حقيقي للحزب. فالعائلية السياسية البلدية تحاول ان تصبغ كل شيء بطابعها وان تحدد موقفا من كل شيء بناء على هوية المسؤولين في الحزب عليه هل هم من هذا المعسكر أم ذاك.

ولا يستوي الحديث عن العنف والحالة الاجتماعية العربية دون ذكر البلديات والمجالس المحلية. فهي في حالات عديدة مصدر للعنف لا ينضب له معين، ومبعث للتوتر الاجتماعي داخل جيتوات وأحياء فقر تسمى قرى وبلدات. وإذا أردنا صياغة ذلك بلغة أكثر ايجابية لقلنا أنها شاغل الناس، وهاجسهم الأول بامتياز، وحلم السياسة المحلية وغايتها القصوى. وما ان تنتهي معركة انتخابية على البلدية وقبل انقضاء أيام على إعلان النتائج تنشغل البلدة في الانتخابات المقبلة. فرئيس وأعضاء البلدية المنتخبون يعملون في مشاريع وفي فصل وتعيين الموظفين من أجل الانتخابات المقبلة. والخاسر يبدأ بالتشكيك بالنتائج والتحضير للانتخابات المقبلة، وقد يعني التحضير للانتخابات المقبلة تشويش عمل السلطة المنتخبة الحالية.

ولا علاقة بين حسن أو سوء إدارة السلطة المحلية وبين احتمال انتخاب رئيسها من جديد. بل بالعكس، فقد يكون سوء الإدارة عاملا مساعدا في إعادة الانتخاب إذا لم تتدخل السلطة المركزية والمحاكم قانونيا.

ولو كان لدينا ميل إلى نظرية المؤامرة لقلنا ان المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة قررت إشغالنا بالسلطات المحلية نبذر فيها كافة طاقات المجتمع السياسية وطموحات أفراده وقيادييه بحيث يتم تنفيسها وإجهاضها داخل القرية قبل أن تخرج منها. وبحيث ينشغل المجتمع العربي كله في صراع داخلي على ما لا يتجاوز نصف بالمائة من ميزانية الدولة، نصرف عليها كل هذا الجهد الفردي والمجتمعي، في حين يبقى العرب خارج التنافس على كل ما تبقى. لا شك لدينا انه بالتجربة والخطأ تبين لإسرائيل مدى فائدة إشغال المجتمع العربي بهذا كله، ومدى فائدة اعتبار هذا الجمع من قيادات محلية منتخبة على أساس غير سياسي عنوانا لعرب الداخل بشكل عام. 

ورغم ما نقوله ليس لدينا شك بوجود إدارات مخلصة ومتفانية تعيش بين نار التمييز العنصري السلطوي ونار قلة جباية الضرائب البلدية من السكان وكثرة الطلبات، إدارات ترى بعملية الإدارة النظيفة دون واسطة ومحسوبيات رسالة تخلص لها، وتنهمك في جهد جبار لا يكل لتحصيل الحقوق من وزارة الداخلية وغيرها من الوزارات.

وهذا ليس دعوة للأحزاب وغيرها لمقاطعة انتخابات المجلس المحلي. فما زلنا نعتقد انه على الحزب الا يترفع عن قضايا الناس وقضاياهم ومصائبهم اليومية وانه من المفيد وجود قائمة او قائمتين غير عائليتين لعضوية البلدية ولو تمثل كل مهما بعضو واحد،  فالمصوتون في هذه الحالة هم نواه لبديل ولسلوك اجتماعي مختلف. ولا بديل عن هذه النواة إذ تمنح الحركة السياسية مرتكزا اجتماعيا مستقلا إلى حد ما عن العائلات والعشائر يمكنها الانطلاق منه لعملها السياسي القطري. ولا يجوز أن يغيب الحزب السياسي محليا.

هذه مسألة تحتمل اجتهادات عديدة، المهم ألا يقع الحزب السياسي في محظور المقاطعة الكاملة للواقع الاجتماعي من جهة، أو الاستسلام الكامل له من جهة أخرى. وغالبا ما يكون نمطا السلوك وجهين لعملة واحدة هي عملة الاستسلام للواقع الاجتماعي في الجيتو الذي يسمى قرية ولم يعد فيه من مزايا القرية غير العائلية، والأخيرة أيضا تم تحويلها إلى رابطة انتخابية ففقدت هي أيضا ريفيتها. 

المشاركة (مشاركة الحزب) في الانتخابات البلدية:

أمام هذا الوضع تقف الحركة الوطنية موقفا صعبا إن لم نقل شبه مستحيل، فأخطر ما في الأمر أن تجد الحركة الوطنية نفسها مساهمة في ترسيخ العائلية والطائفية والإنتهازية في مثل هذه المعارك وهي على قناعة تامة أن الذي ترسخ يصب في مصلحة المؤسسة بعيدا كل البعد عن مصلحة الناس الحقيقية في الغالب من الحالات. 

عاد التجمع الوطني الديموقراطي وعلى ضوء تجربته القصيرة كحزب في هذا المجال وناقش الأمر عشية الانتخابات المحلية الأخيرة، وخرج بموقف حاول فيه أن يوفق بين المتناقضات في هذه المعركة موجها فروعه العمل على حسبه، مفاده:

' من منطلق عدم التخلي عن مثل هذه المعركة الهامة، يخوض الحزب المعركة حيث إمكانيات النجاح متوفرة وبقوائم حزبية أو تحالفية وطنية للعضوية والرئاسة، مع إعطاء الفروع شبه استقلالية تامة في الخيار، وكل ذلك شرط الحفاظ على وحدة أعضاء الحزب'.

هذا الموقف الصحيح والذي ما زال كذلك في شقه الجوهري، لم يشكل البوصلة للكثير من فروع الحزب مما عرض بعض الفروع لهزات جدية ما زالت تبعاتها قائمة على تلك الفروع، كما انعكست على معركتنا في الانتخابات القطرية الأخيرة وعلى الحياة الحزبية للفرع في شتى أوجهها.

حتى الآن جرى إتخاذ القرار أعلاه في هيئات الحزب القياديّة، ورغم أن هذه لم تخطيء في التوجه، لكن نظرا لأهمية هذه المعركة واسقاطاتها علينا كحزب تنظيميا وسياسيا وانتخابيا، ولكونها تمس صلب معركتنا الكيانية، من الضروري أن يضع المؤتمر القادم الخط العريض:

' على الحزب ان لا يتخلى عن الإنتخابات البلدية ويجب أن يشارك فيها وليس بالضرورة أن يخوضها. وفي الحالتين يجب ان تقوم بوصلته، أولاً وقبل كل شيء، على قاعدة وتوجه وطنيين دعامتهما وحدة الفرع وان يتشاور مع الهيئات المركزية، وفي حال عدم توصل الفرع إلى موقف موحد تكون هيئات الحزب المركزية هي صاحبة القرار النهائي، وأي خرق لقراراتها يعتبر مسا  بدستور الحزب'

هذا المبدأ يجب أن يرافق بضوابط:

** تشكيل لجنة لمتابعة الإنتخابات البلدية من المكتب السياسي واللجنة المركزية من ذوي التجربة.

** تهيئة الرفاق المرشحين.

** تسييس المعركة ومجابهة العائلية والطائفية.

** معارضة مخططات الدمج.

** التميّز في ممارسة مهام المنتخب.

** أن نسعى لتحالفات حزبية ضد المرشحين للرئاسة من عملاء السلطة.

** عدم الدخول في ائتلافات مع الرؤساء من أحزاب المؤسسة الحاكمة في 'المدن المختلطة'.

** الحفاظ على المجالس المنتخبة أمام مخططات الحل واللجان المعيّنة.

** أن نهدف إلى إيصال أكبر عدد من الأعضاء،  ولكن ليس بكل ثمن وبدون صفقات رخيصة. الإنطلاق للموقف من الرئاسة كخطوة ثانية وبما لا يمسّ العضوية.

حول انتخاب القيادة والمؤسسات العربية

بحثنا مسألة البلديات والمجالس المحلية العربية وكيفية انتخابها. كما عالجنا دور هذا الانتخابات في تسييس البنية التقليدية في المجتمع العربي في الداخل، وسوف نعالج في هذا الباب مسألة وجود هيئة قيادية وطنية قطرية للمواطنين العرب.

ولا شك أن بعض المؤسسات الحاضرة قد قام بدور في تأسيس نواة لقيادة تتجاوز ما تفرده المؤسسات المركزية الإسرائيلية القائمة من حيز في فضائها السياسي للعرب بصفتهم مواطنين. ونذكر منها أساسا اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية ولجنة المتابعة التي تشكلت بعدها والمؤلفة أساسا من النواب العرب في الكنيست ومنتخبين آخرين في هيئات إسرائيلية واللجنة القطرية للرؤساء وممثلي الأحزاب. وتطورت لجنة المتابعة بالتدريج وبالتجربة والخطأ إلى هذه الصيغة. ولا يجوز الاستغناء عنها بصيغتها هذه حتى التوصل إلى صيغة جديدة أكثر تمثيلا لتصور العرب كشعب، أو كجماعة وطنية ذات هوية قومية. فهذه هي الهيئة العربية القطرية الوحيدة التي يجتمع فيها العرب على اختلاف تياراتهم ويتشاورون، بل ويقررون أحيانا.

 ولكن الحاجة لهذا الإطار بشكله الحالي ما زالت معنوية على أهميتها، وما زالت تفوق أهميته العملية التنفيذية. فهو لا يملك جهاز موظفين ولا تمويل ولا سلطة قسر ليفرض على المواطنين ما تفرضه أية سلطة عادة بحكم القانون وبحكم احتكارها لأدوات تنفيذه.

والعوائق أمام تحول لجنة المتابعة إلى هيئة قيادية تمثيلية وذات قدرات تنفيذية من أي نوع هي عوائق بنيوية. فهي تتألف من هيئات إسرائيلية خاضعة لضوابط وكوابح مثل البلديات، ومن شخصيات انتخبت غالبا على أساس تقليدي محلي ولا تتحمل مسؤولية وطنية قطرية وهي ليست ملزمة بتقرير تجاه العرب في هذه البلاد ككل، بل تجاه القرية، وغالبا تجاه المؤسسات التقليدية في القرية. همومها هموم محلية. وغالبا ما تلتقي هذه الهموم عند الحديث عن مواجهة سياسة التمييز القومي. ولكن مرجعيتها تبقى مرجعية محلية. هذه هي حدودها وهذه هي إمكانياتها.

ويختلف حال الأحزاب من هذه الزاوية. ونحن نتكلم بالطبع عن الأحزاب التي تستحق هذه التسمية، أي انه يتوفر لديها برامج غير إيصال شخص بعينه إلى البرلمان، وقواعد حزبية تتجاوز حاشية ومرافقين. فهي تحضر كأجسام قطرية ذات طابع وطني غالبا، ولديها برامج تقدمها للجمهور وأفكار يحملها أعضاء هذه الأحزاب.

ولكن كل الأحزاب تحضر لجنة المتابعة بتمثيل متساو. وتقاس قوتها فيما عدا ذلك بموجب تمثيلها البرلماني، أو بموجب تمثيلها في الهيئات الإسرائيلية الأخرى مثل الهستدررت.

هنالك نوعان من التمثيل في هذه المؤسسة، محلي وقطري، حزبي وغير حزبي. ولا توجد إمكانية فعلية لاتخاذ قرار ملزم بالتصويت بالأغلبية، إذا لم يرغب طرف بإنجاح تنفيذ هذا القرار. ولذلك يفضل البحث دائما عن الإجماع. كما لا تتوفر آليات للتنفيذ.

لم تتجاوز محاولات أصلاح بنية لجنة المتابعة حتى الآن توسيع وإعادة توزيع هيئاتها بتواز دون ان تكون فيها سلطة لهيئة على أخرى، ودون ان تنتخب هيئة الهيئة الأخرى بحيث تخضع لها. لأن المنطق الذي يحكم تعيين أعضاء كل هيئة هو منطق آت من خارج لجنة المتابعة. فالحديث هو عن منتخبين لأجسام أخرى غير لجنة المتابعة يجتمعون بصفتهم هذه كمجلس عام مثلا، وآخرون يجتمعون كسكرتارية دون ان تنتخب هيئة الهيئة الأخرى.

 كما لم تتجاوز محاولات الإصلاح حتى الآن اقتناص عدد اكبر من الممثلين لهذا الحزب أو ذاك. مما زاد من الفرقة والارتباك ومن شل عمل لجنة المتابعة. فبعض الأحزاب يحاول ان يسجل نفسه باسمين ليحصل على تمثيل مضاعف في المجلس العام، دون زيادة قوته السياسية، ودون زيادة في نجاعة عمل لجنة المتابعة ذاتها. ولذلك لم تنجح أي من محاولات الإصلاح ولم يتم الاتفاق عليها. فما دامت هيئة المتابعة لجنة تنسيق لا يهم كيف تكون بنيتها المهم ان يحضر ممثل عن كل حزب ويجتمعون جميعا مع سكرتارية اللجنة القطرية للرؤساء. إنها لجنة تنسيق بين قيادات  منتخبة لغرض متابعة قضايا الجماهير العربية. وهي ليست بذاتها هيئة قيادة منتخبة.

ولم تتجاوز محاولات التمويل حتى الآن عقلية الجمعيات. وهي تقزيم واختزال لقوة ونفوذ قيادة تمثل شعبا. فالجمعية هي إطار للعمل الأهلي في أفضل الحالات، ودكان خاص في أسوئها. ولا قيادة الشعب ولا هيئاتها التنظيمية تنظم كجمعية. وقيادة شعب هي قيادة يمولها الشعب بالأساس قبل البحث عن مصادر أخرى. ولا توجد طريق أخرى غير جباية الرسوم. ولن تجبى الرسوم طالما لا ينتخب الشعب القيادة. وما دامت لا توجد أدوات قسر لجمع الضرائب فإن الفكرة الوحيدة التي تخطر بالبال هي مساهمة المواطن المالية عند اكتتابه لانتخاب لجنة المتابعة مرة كل اربع سنوات مثلا. وربما رسوم أخرى نابعة من الإيمان بقدرتها على تنفيذ بعض المشاريع المجتمعية مثلا في مكافحة العنف أو في المساهمة في تعيين مختصين لبحث برامج تعليم بديلة وغيره.

وقد تحولت بعض لجان المتابعة الفرعية بسبب تسجيلها كجمعيات إلى جمعيات فعلا. وهي لا تختلف عن الجمعيات الأخرى، لا بنمط عملها ولا بغياب ديمقراطيتها الداخلية. وقد يسيطر عليها حزب من الأحزاب بموجب تركيب هيئتها العامة. ويستطيع مؤيدو كل حزب ان يؤسسوا جمعيات موازية للجان المتابعة الفرعية لو توفرت لديه النية لذلك، والحس بالمسؤولية هو فقط ما يمنع هذا. وهو غير متوفر

لدى جميع الأحزاب كما يبدو. فالبعض يراهن على حس المسؤولية لدى البعض الآخر.

 رغم هذا نقول انه لا يصح ان الإستغناء عما هو قائم والبقاء دون هيئات قطرية. ولكن لا يجوز أيضا ان يستمر الوضع على هذا النحو.

لقد طرحنا في الأبواب السابقة قضايا مثل التخطيط الاقتصادي ومواجهة العنف وغيرها من قضايا لا يمكن التصدي لها ومعالجتها دون هيئات منتخبة وممولة من قبل الجماهير ولديها قوة تنفيذية شرعية شعبية لتنفيذ وفرض قراراتها أحيانا. ولا يمكن ان يتم ذلك دون قيادة وطنية منتخبة مباشرة من جمهور يكتتب ويدفع رسوم في انتخابات قطرية نسبية تتنافس فيها أحزاب. والتنافس بين أحزاب تحت سقف وطني ينهي بحد ذاته إشكالية نفوذ الأحزاب الصهيونية. 

هل يتناقض هذا الكلام مع تمثيل العرب في البرلمان الإسرائيلي ومع علاقتهم بالسلطة المركزية؟ الجواب القاطع هو لا. بل وبالإمكان خوض كل انتخابات، بما فيها البرلمان الإسرائيلي وهذا الاقتراح بند في برنامجنا. 

نحن لا نطالب هنا بأكثر مما لإقليم كويبك في كندا بل بأقل بكثير. نحن نطالب العرب أنفسهم أن يتصرفوا كشعب. وعملية بناء الشعب هي عملية بناء المؤسسات. لا يجوز ان يبقى الانتماء القومي مسألة معنوية مرتبطة بجاذبية العالم العربي وتنفير إسرائيل، بل يجب أن يقوم على مؤسسات تؤطره.

ليس ما نطرحه انفصال في برلمان للمواطنين العرب بل أن ينتخب الشعب مؤسساته الوطنية بموازاة مع انتخاب المواطنين أنفسهم لمؤسسات الدولة المركزية إلى حيث يرسلون ممثليهم لطرح قضاياهم، وتمثيلهم في عملية سن القوانين، وإقرار الميزانية، وموقفهم من عملية إدارة الدولة ككل وتمثيل مصالحهم، والتعبير عن مواقفهم السياسية. يتبع ذلك مطالبة الدولة بالاعتراف بصلاحيات هذا الجسم القيادي في مسائل وقضايا تخص جمهوره العربي ويتفق عليها مع مؤسسات الدولة المركزية.

وهنالك طبعا إمكانيات عديدة للجمع بين الشكلين، أي أن يتم تمثيل رؤساء البلديات ونواب ونواب الكنيست في لجنة المتابعة إلى جانب إنتخاب ممثلين بشكل مباشر من قبل الجمهور من بين مرشحي الأحزاب المتنافسة على تمثيلها في هذه الهيئة. وقد تكون هي نفس الأحزاب المتنافسة في الكنيست، وأخرى تضاف بموجب قانون داخلي يتفق عليه. كذلك يجب الإتفاق على نسبة الحسم لغرض التمثيل في هذا الجسم.

ويمكن الحديث عن مجلسين متوازيين احدهما ينتخب محليا ويشمل رؤساء البلديات ويمثل مصالح البلديات وهمومها المشتركة تجاه وزارة الداخلية، ويمثل قطاعا اجتماعيا هاما في لجنة المتابعة ويعمل بتواز مع مجلس سياسي يجري إنتخابه مباشرة من الجمهور في تنافس بين أحزاب. هكذا تكون الهيئات التي تستحق تسميتها قيادة منتخبة لأقلية قومية.

ونرى أن اقامة هذا الجسم المنتخب يجب ان تسبق الاعتراف به. فكما فرضت لجنة المتابعة الحالية بوضعها الحالي كإطار تمثيلي يحسب له حساب، كذلك يمكن فرض هذا الإطار قبل الاعتراف رسميا به.

  وعلينا أن نذكر أن التجمع كحامل راية استراتيجية كهذه يجب الا يسمح بتحويل الموضوع لقضية تكتيكية ولممحكات حزبية، أو الى غطاء عند البعض لعدم وجود مهمة سياسية أو حزب عندهم. ومن لديه فكرة من هذا النوع يتحمل أيضا مسؤولية الإجابة على أسئلة مثل كيف نمنع تحويل هذه الانتخابات، كما في حالة البلديات، إلى مرتع للتجييش الطائفي أو الجهوي أو غيره، وكيف نضبط مثل هذه الأمور دون قانون ومؤسسات تطبق القانون على هكذا نزعات، وكيف نعد مباديء وضوابط وطريقة انتخابية حزبية تمنع هذه النزعات السلبية، بما في ذلك منع التنظيمات ذات الطابع المذهبي او الجهوي من المنافسه، والإصرار على الطابع الوطني للانتخابات. كل هذه قضايا تحتاج إلى مناقشة وحوار بين الأحزاب وإعداد البنية وطريقة الانتخابات بعقلية دستورية تتجاوز المناكفة. 

تقييم دور التجمع في جهود إعادة بناء لجنة المتابعة

لقد بادر التجمع الى اقتراح إعادة بناء لجنة المتابعة في العام 1997 وتقديم صيغ خطية لذلك. ومنذ أن اتفق وأعلن عن فرز لجنة الصياغة التي تمثل كل القوى السياسية المنضوية في لجنة المتابعة في عام 1997 بهدف إعادة بنائها، وبعد أن جرت سلسلة طويلة من الإجتماعات الدورية، لم يطرأ تغيرٌ جوهري لا في مبناها ولا في دورها السياسي والقومي الثقافي. ولم تتحول الى مرجعية وطنية او سياسية ذات ثقل أخلاقي بين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. بل ظلت عنواناً لإعلان الإضرابات العامة حين تحضر الحاجة لذلك. وهناك من يفسر خطأ، او بنية سيئة، نتائج استطلاعات الرأي حول موقف المواطنين العرب من لجنة المتابعة فيخلط بين تأييده لوجود جسم عربي تمثيلي بصورة عامة وبين لجنة المتابعة بتركيبتها الراهنة وأدائها الحالي، وكأنه تأييدٌ لمبناها ودورها وأدائها. فالحقيقة الساطعة هو تزايد النقد وعدم الرضى عنها. ان المواطن العربي يؤيد وجود إطار قومي يمثله ويعبر عن هويته ويواجه الإجماع الصهيوني. وإلا كيف يمكن تفسير تأييد معظم العرب لمبدأ انتخابها؟

    لقد كان التجمع المبادر لإعادة فتح موضوع إعادة بناء لجنة المتابعة وهو مطلب كان مطروحاً قبل عام 1996. الجديد في مبادرة التجمع هو أنها اشتملت على تصور مكتوب وذات بعد سياسي وطني نبع من مشروع التجمع الثقافي السياسي القائم على إعادة تنظيم الجماهير العربية الفلسطينية في إسرائيل على أساس قومي والألية لذلك هو إجراء الإنتخايات المباشرة التي تخوضها الأحزاب والقوائم الوطنية حسب صيغة يتفق عليها الجميع. 

كيف يمكن تقييم دور التجمع في مجال إعادة البناء وبعد مرور عشر سنوات من الجهود؟ هل نقول ان كل الجهود التي بذلها خلال كل هذه الفترة الطويلة منذ نشأته ذهبت سدى في ضوء بقاء لجنة المتابعة على واقعها القديم وتراجع دورها السياسي؟

    بهذا المعنى يمكن القول أن التجمع لم يستطع دفع المشروع الى الأمام على المستوى العملي حتى الآن. لكن هل ينطبق هذا التقييم على المستوى النظري؟ أو هل يجوز تقييم الأمور خاصة فيما يتصل بالتغيير السياسي والمجتمعي بمقياس حصول نتائج عملية أو عدمها في فترة زمنية محددة؟ اليست التحولات النظرية التي اصبحت ملموسة ومتداولة بين النخب السياسية والأكاديمية مقدمة لتحولات عملية لاحقة؟

    مع ذلك يجب الإشارة مرة أخرى الى أن الطرف المعرقل لمشروع إعادة البناء هو موقف الجبهة التي شاركت في عملية الصياغة، صياغة البنية الهيكلية دون ان تتزحزح عن رفضها لموقفين مبدئيين هما من ضمن المعالم أو الشروط الأساسية للوجه الوطني لأي قيادة وطنية تمثيلية لدى عرب الداخل. وهما : إنتخاب هذه القيادة بالإقتراع المباشر والثاني: رفض تمثيل الأعضاء العرب من الأحزاب الصهيونية داخل اللجنة. هكذا عجزت قيادة الجبهة الحزب الشيوعي حتى الأن، رغم تغيّر في اللهجة السياسية عند بعض قياداتها عن الفكاك من أسر فكرة الإندماج المناقض لفكرة تحقيق بناء الشعب (الأمة) بمفهومها الحديث.

لقد أحدث التجمع تأثيراً سياسياً وفكرياً كبيراً وساهم في خلق إصطفاف عملي ونظري منذ السنوات الأولى لعملية البحث في إعادة البناء. إنّ المداولات المطولة التي دارت داخل لجنة الصياغة كانت بمثابة عملية تعرف من جانب أطراف مركزية على الأدبيات السياسية المتعلقة بالحقوق الجماعية للجماعات القومية الإصلانية وترجمتها عبر تنظيم هذه الجماعات قومياً.

لكن لماذا لم يستطع التجمع حتى الأن نقل التقدم النظري في مشروع إعادة البناء الى المستوى العملي، ولماذا لم ينجح في تشكيل جبهة فاعلة من القوى المؤيدة للمشروع، والى اي مدى يتحمل هو المسؤولية، وكذلك القوى الأخرى، وهل كان بإمكانه ان يحقق إنجازات أفضل؟ وماذا كان دور الظروف الموضوعية؟

لا يستطيع التجمع التعامل مع الواقع السياسي والإجتماعي بصورة إرادوية أي كن فيكون. وفي الوقت ذاته واجبنا أن نراجع دورنا، وإذا ما كنا نستطيع القيام بدور اكبر، اي اذا قصرنا، واين أخفقنا او ماذا أغفلنا؟

ربما كانت تقديرات التجمع الأولية لقدرته في فرض نفسه كقوة مؤثرة أولى وفي تسريع وتيرة التقدم بالمشروع القومي الثقافي مبالغا فيها وغير دقيقة. لقد كان حماسنا للتجديد ولكسر الركود وثقتنا بالرؤية السياسية الجديدة كبيرين. وكان ذلك على حساب توفير المقومات العملية: التنظيمية والإجتماعية والمادية الكافية لتحقيق هذا المشروع. كما أننا أخطأنا في تقدير قوة القوى الأخرى وقدرتها على إعادة لملمة صفوفها وتحصين نفسها ولو بصورة نسبية ضد الجديد. 

لقد لجأت تلك القوى الى الردّ على الطروحات الجديدة عبر التعرض لأصحابها ومبادرتهم الذين وصفتهم بالمتعالين او القومجيين، بل ذهبت أبعد من ذلك الى حدّ تجاوز الخطوط الحمر وأسس النقاش الحضاري. كان هذا سبباً رئيسياً في تحويل الإختلاف السياسي الى أشبه بالتنافر الذي وصل الى حد العمل المنهجي في الإنتخابات البرلمانية الى تصفية التجمع.

يحصل ذلك في كل مرة قبل أن تقوم نفس القوى بتبني أجزاء من خطاب التجمع دون الاعتراف بذلك. 

هل كان على التجمع أن يكون اكثر تفهماً لمخاوف القوى الأخرى من هذا الجديد المنافس؟ ربما. ولكن هل هذا فعلاً هو السبب الرئيسي في عرقلة إعادة تنظيم العرب قومياً والتعامل بصورة جدية مع تطلعات المواطنين العرب؟ ولماذا لم يستطع التجمع أن يصبح القوة الأولى في غضون عشر سنوات من عمره، حتى يستطيع ان يدفع بهذا المشروع؟ وهل كان أصلاً بالإمكان موضوعياً أن يصبح كذلك في غضون هذه الفترة؟. وهل من الضروري على التجمع ان يواصل الطموح بالتحول الى القوة المركزية ليس كهدف بحّد ذاته بل كوسيلة لتحقيق التغيير السياسي والمجتمعي عند عرب الداخل. اليس من الممكن عبر الحوار الجدي والمثابر مع القوى السياسية الأخرى أن يتم الوصول الى صيغة عملية لمستقبل العرب في الداخل. فأيهما ممكن اكثر؟ وأيهما اكثر منطقياً، مواصلة الإنشغال بالذات لحين تعزيز الأداة السياسية المطلوبة بمستوى يسمح بإحداث إنقلاب على المستوى العملي. أو الجمع بين الأمرين عبر مواصلة العمل الحزبي الجدي من جهة، وعبر تبني الحوار ووضع برنامج حقيقي وتصور لكيفية البدء به والإستمرار والإنتهاء منه؟ اي ان يكون الهدف النهائي هو الوصول الى نتائج مع هذه القوى. صحيح أن التجمع توجه بصورة مستمرة الى القوى الأخرى للحوار وكان صادقاً في ذلك، ولكن لم تظهر أي من القوى المركزية جدية في الحوار لا معنا ولا مع بعضها. وفقط مؤخراً، تظهر بوادر بإتجاه إنتظام الحوار المنشود بين القوى الرئيسية عبر رؤسائها. ويسعى التجمع بقوة وإخلاص لتعميق هذا الحوار وجديته لكي يكون مثمرا.

العلاقة مع القوى السياسة المختلفة:

قسّم التجمع الخريطة السياسية لقوى الوطنية عند عرب الداخل الى ثلاثة تيارات منذ عام 1999 وهي تشمل أربعة أحزاب رئيسية: 

     التيار القومي الديمقراطي (التجمع )

     التيار الجبهوي.

     التيار الإسلامي. ( بشقيه ) 

من الصعب تحديد ملمح ثابت ومستقر لنوع او طبيعة العلاقة بين التجمع واي حزب أخر مثلما هو الحال بين كل الأحزاب السياسية. فالتوترات وظاهرة المدّ والجزر ميّزت العلاقة بين الأحزاب المختلفة. غير ان اكثرها توتراً كانت بين حزب التجمع والجبهة، وأحياناً بين التجمع والحركة الجنوبية وحلفائها أثناء المعارك الإنتخابية البرلمانية والبلدية.

ولسنا بصدد تقييم مفصل لعلاقتنا مع الأحزاب العربية الفاعلة والتي تستحق اسم الحزب، لأن هذا يعني تقييم هذه الأحزاب وسياستها ومسلكها. وهو جهد قد يفهم :انه إثارة مبادر إليها لنقاش في توقيت غير مناسب، خاصة والتجمع يسعى الى تعززي التعاون مع الأحزب رغم الجروح التي تركتها المعركة الانتخابية والطريقة التي تم فيها خوضها ضد التجمع. وقد سبق وان قيمنا العلاقة والتنافس والصراع مع رد فعل الجبهة على قيام التجمع كحزب وكفكر. 

أما الحركة الإسلامية الشمالية، ولكونها لا تخوض الإنتخابات للكنيست، فلم تشهد العلاقة بينها وبين التجمع وبينها وبين الجبهة تنافراً او خلافاً مكشوفاً. بل أثناء اعتقال قيادة الحركة الإسلامية الشمالية جرى تضامن من قبل كافة القوى السياسية حولها واختفى أي مظهر من مظاهر النقد أو الخلاف. ولكن لا يمكن تجاهل الغمز واللمز من جانب قيادات الشمالية على القومية والتيار القومي عموماً والتجمع خصوصاً. وهو عداء إخواني قديم للتيار القومي تحررت منه أوساط هامة من قوى الإخوان والإسلام السياسي في العالم العربي. والحركة الإسلامية الشمالية لم تستجب لطلب التجمع لحوارات ثنائية منذ أربع سنوات.

اما الحركة الإسلامية الجنوبية، فقد عوضت عن 'اعتدالها السياسي' تجاه إسرائيل والمؤسسة الحاكمة بتطرف طائفي شعبوي مجتمعي داخليا. وقد لجأت هي وحلفاؤها الى التحريض الطائفي المنهجي وبصورة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الداخلية بين عرب الداخل. كان التحريض يجري في السابق في البيوت اي ليس علنياً. ولكن في الإنتخابات الأخيرة انزلقت بعض القيادات الى التحريض الطائفي بشكل غير مباشر مُفسحةً المجال لقواعدها البسيطة لإرتكاب هذا ' الإثم ' الوطني الأخلاقي على نطاق واسع.

صحيح انه ليس جميع قيادات الحركة الجنوبية طائفية، بمعنى انها لا تكره الطوائف الأخرى، إذ أن استعمالها للتحريض الطائفي كان لدوافع إنتهازية الهدف منه الحصول على تمثيل في الكنيست الإسرائيلي بأي ثمن. الخطورة في الأمر أن القواعد التي أفسح لها المجال لإعتماد التجييش الطائفي ليست بمستوى ثقافة بعض قيادات الجنوبية التي تدرك علاقة العروبة بالإسلام وبعضها مستعد للتحالف مع اوساط قومية. كل ذلك يؤكد الحاجة الى الحوار الصريح مع هذه الحركات والأحزاب وعلى أهمية الوصول الى ميثاق شرف أو عقد اجتماعي مشترك ينظم العلاقات فيما بينها لدعم مشروع النهوض الوطني والمجتمعي للعرب الداخل.

أهم المعيقات أمام إنجاز مشروع إعادة البناء للجنة المتابعة منذ انطلاق المبادرة:

أولاً: هيمنة النهج السياسي الإندماجي لفترة طويلة ومراوحة أصحابه في هذا النهج، وعدم إقتناعهم بضرورة التكيف مع التطورات الإجتماعية والثقافية والسياسية العميقة التي طرأت على المجتمع الفلسطيني ونخبه في إسرائيل. ومعارضة تيار الجبهة المستمر لتطوير لجنة المتابعة من لجنة تنسيق بين النواب ورؤوساء المجالس المحلية العربية إلى هيئة تشكل تنظيما وقيادة لشعب، ونقصد مؤسسة قائمة على أساس قومي. 

ثانياً: غياب التنسيق المنهجي والثابت بين القوى التي اقتنعت بضرورة إعادة البناء، على أساس الإنتخاب المباشر وبلورة الهوية القومية والوطنية، لأسباب تتعلق بتلك القوى وليس بالتجمع.

ثالثاً: قصور التجمع في الخروج بحملة منظمة ومنهجية واسعة لتوعية المواطنين العرب على أهمية الإنتخاب وإعادة بناء اللجنة، مع ما يعنيه ذلك من خطوة هامة في الطريق الى تحقيق الحقوق الجماعية. لقد ظلت حملته التي لعبت دوراً هاماً في تعريف النخب بمدلولات إعادة البناء، في نطاق ضيّق ومحدودة جماهيرياً. وذلك يعود الى نقص الأدوات التنظيمية القوية المطلوبة لهذا الغرض.

رابعاً: تخوف قيادة الحركة الإسلامية الجنوبية من ردّ متطرف من السلطات بعد هبة القدس والأقصى. إذ علقت موافقتها على مبدأ الإنتخاب خلال السنوات الست الماضية.

خامساً: الصراع والتنافر بين جناحي الحركة الإسلامية حول صحة نهجيهما الديني والسياسي مما أعاق عملية التنسيق والإتفاق على مبدأ الإنتخاب المباشر.

ما العمل؟

أولاً: على التجمع أن يعيد تأكيده على أهمية إعادة البناء على أساس الإنتخاب المباشر باعتبار هذه العملية مسألة سياسية قومية ومصيرية بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل وليست مصلحة حزبية، وهي تعزز ايضا ثقافة الديمقراطية في المجتمع العربي بحيث يزداد إرتباط الناس بالجسم الذي إنتخبوه مباشرة. وعلى التجمع أن يقوم بتحضير صيغة تفصل آليات الإنتخاب المباشر وشرح المقدمات الممهدة لهذا الإنتخاب، ومن ثم القيام بحملة إعلامية منظمة وواسعة تصل الى أوسع قطاع من المواطنين العرب والمؤثرين في صياغة الرأي العام. كما أن على التجمع ان يتنازل بالتفصيل مخاطر الانتخاب المباشر وخطورة تحوله الى انتخابات طائفية او جهوية وكيفية مكافحة ذلك. وإمكانية  ان تكون نسبة التصويت لهيئة طوعية لا تقدم خدمات اقل حتى من نسبة التصويت في الانتخابات البرلمانية.

ثانياً: الإتصال بالقوى المعنية والمتفقة على مبدأ الإنتخاب المباشر والعمل على تحركها بهذا الإتجاه. والى جانب هذا القيام بحملة إعلامية منهجية ووفق خطة كاملة لتثقيف الناس حول أهمية المدلولات الإستراتيجية لانتخاب لجنة المتابعة وما يعنيه ذلك من خدمة لا غنى عنها لمستقبل المواطن العربي والمجتمع العربي على حدّ سواء.

ثالثاً: صياغة موقف مفصل يشمل الأهداف والآليات لكيفية الحوار بين القوى السياسية الرئيسية وأن يقوده رؤساء الأحزاب يتعلق الحوار والأساس في المسائل الإستراتيجية وكيفية تطوير نقاط الإتفاق وكيفية إدارة نقاط الخلاف. يجب أن ينطلق التجمع من قناعة راسخة بأهمية الحوار وعدم إتاحة المجال للقوى الأخرى بالتهرب من حوار كهذا. ويساعد في توضيح أهمية الحوار إشراك الناس، وخاصة النخب والفعاليات الأساسية، عبر الإعلام والندوات وغيرها من وسائل الإتصال مع الجمهور.

حول نشر الموقف الانتهازي الناقد للسياسة والساعي للتحلل منها

لم تعترف إسرائيل لفترة طويلة بهوية المواطنين العرب القومية العربية الفلسطينية. ولم تتعامل معهم إيجابيا من ناحية الحقوق كقومية، بل سلبيا لغرض التمييز. وتعاملت معهم كطوائف دينية أقلياتية من جهة، وكمواطنين درجة ثانية، بل كرعايا من جهة أخرى. ومن ناحية أخرى فإن إسرائيل لم تنكر هوية العرب الوطنية لكي تعترف بهم كمواطنين متساوين مندمجين من جهة أخرى.

 يجب أن تذكر الحركة الوطنية ذلك خاصة في مواجهة الأصوات التي تؤكد على التناقض بين الهوية الوطنية والمواطنة المتساوية، والتي تطالب الحركة الوطنية بالتركيز فقط على المواطنة خشية التناقض. فهم مخطئون ليس لانه لا يوجد تناقض، بل لأن إسرائيل ليست دولة ليبرالية ترغب في إنشاء أمة من المواطنين على حساب الهويات القومية المختلفة، بل هي دولة شديدة التمسك بهويتها اليهودية ولا ترغب بإقامة أمة من المواطنين، أي تتعارض فيها المساواة الكاملة مع إيديولوجيتها الرسمية الصهيونية.

من الناحية الثانية تزامن الوعي بحقوق المواطنة وتصعيد المطالبة بالمساواة عند العرب في الداخل مع ازدياد الوعي الوطني وليس على حسابه. لم تأت الوطنية على حساب المطالبة بالمساواة بل تكامل المطلبان وأغنى أحدهما الآخر في فكر التجمع الوطني الديمقراطي لكي لا يتحولا إلى عنصر هدم في الصيرورة التاريخية، خاصة بسبب وجود أكثر من تناقض بينهما على مستوى المفهوم...ولا شك أن المواطنة الإسرائيلية قد قامت على أنقاض الانتماء الوطني الفلسطيني...وان هنالك حالات من التشوه الثقافي والسياسي والأخلاقي ناجمة عن هذا التناقض. 

 وبعد أن جرى الإعتراف بهويتنا جزئيا حاولت المؤسسة السياسية والأمنية ان تضبط الهوية العربية ك'عربية إسرائيلية'، أي كهوية متعايشة مع الصهيونية وتقبل بأقل من المساواة، وكهوية دونية تحول مفهوم مواطن الدرجة الثانية إلى ثقافة وأخلاق دونية،  وتقبل بالانفصال عن الموقف الوطني الفلسطيني، وتحاول الانتماء إلى ثقافة المحتلين. ووجدت ثقافة الهامش هذه من يتبناها، ومن يربط مصلحته بالمؤسسة الإسرائيلية السياسية والأمنية: ثقافة تفاخر بنصف هوية عربية ونصف مساواة كمقدمة لاكتفاء الإنسان بنصف شخصية إنسانية. 

 ومع نشوء الحاجة إلى ضرب هوية المواطنين العرب الوطنية تبنت إسرائيل ومعها الحالة الإسرائيلية في المجتمع العربي في الداخل مجموعة آليات للتعامل مثل: العودة إلى وسائل قديمة ومجربة لتفسيخ الوعي الوطني بواسطة إحياء نفوذ ممثلي النعرات الطائفية والعشائرية. هؤلاء لا يمكنهم ان يبرزوا بالموهبة او الموقف أو بالحوار الديمقراطي داخل مجتمعهم بل فقط بتسعير النار ضد الآخر داخل نفس المجتمع وإخمادها ضد السلطة الحاكمة. هؤلاء لا يستفيدون الا من إلحاق الضرر بمجتمعهم اذ يبرزون فقط كممثلي طوائف او عشائر متصارعة أو متآخية حسب ما تمليه مصلحتهم 

كذلك تلجأ إسرائيل الى آليات أخرى منها وضع حدود قانونية جديدة للعمل السياسي العربي، ومنها أيضا إطلاق النار على المتظاهرين ومحاولة ردع وترويع الناس ثم إقامة لجنة تحقيق لاحتوائهم ثم  عدم احترام نتائجها، ثم إثارة نقاش حول عدم احترام نتائجها، ثم إلقاء اللوم على الضحية وهكذا... ولكن الطريقة الجديدة التي بزت قريناتها هي محاولة التأثير على مستوى الثقافة السياسية والسلوك السياسي والأخلاق والقيم السائدة.

فبحجة النزعة الواقعية والعملية يتم نشر وتكرار تصور يختزل الناس إلى مجرد كيانات منفردة وصولية انتهازية ساعية لتحقيق مآرب فردية تتزامن مع تحويل المجتمع العربي إلى مجموعة من أحياء الفقر الاقتصادي والثقافي، بما في ذلك من تشويه للإنسان... وهؤلاء يقيسون نجاح ممثلي السياسة العربية بمدى الخدمات الفردية التي يقدمها السياسي على مستوى نظام 'الواسطة' أو

العلاقات مع الوزارات وتفاخر نزعة المحاسبة هذه بالأنانية الفظة وترفعها إلى قيمة مجتمعية سياسية ومعيار تقييم للعمل السياسي. وهو معيار كفيل بتحطيم اية مصلحة عامة وأي مجتمع، وليس فقط مجتمع أقلية قومية مضطهدة.

 ليست القيادة السياسية أداة لتحقيق رغبات هذا الفرد أو ذاك، في إطار ومن خلال تكريس التمييز العنصري القائم. ويقاس عملها حسب الظرف التاريخي بقدرتها على إثارة قضايا ومعالجتها بموجب الخط السياسي الذي جرى انتخابها على أساسه، وبقدرتها على المطالبة بتحسين ظروف وحياة الناس وفضح سياسية التمييز، وتنظيم النضال ضدها وطرح بدائل لها، والحفاظ على الموقف الوطني والعقلاني في آن. القيادة السياسية هي قيادة سياسية أولا. ولكن نزعة الحياة على الهامش كنصف عربي وبنصف حقوق تؤدي أيضا إلى نزعة العزوف عن السياسة إلى درجة طرح السؤال: 'وما حاجتنا إلى قيادة سياسية؟'. معيار الخدمات الفردية يفضي إلى هذا التساؤل، والعكس صحيح.

يجوز انتقاد ممثلي الجمهور العربي، بل من الواجب انتقادهم. ولكن ليس على ما يُدَّعى بل على عكسه، أي على قلة التسييس وعدم العمل في إطار مشروع وطني عام وتصور شامل لواقع ومستقبل العرب في هذه البلاد. كما يجوز انتقاد الانتهازية والوصولية وغياب الإستراتيجية وغيره. ولكن لا وجود لمجتمع منظم وحديث دون قيادة سياسية، فكم بالحري وهو مندمج اقتصاديا في دولة تدعي أنها ليست دولته ويواجه فيها سياسة تمييز رسمية من قبل قيادة تتبنى إيديولوجية تنفي مواطنته المتساوية ووجوده القومي. هنا تصبح مسألة وجود قيادة سياسية وطنية وواعية مسألة وجود.

العرب كموضوع بحث والتصدي للاستعمار الذهني:

لم يتعرض جمهور لما يتعرض له المجتمع العربي داخل إسرائيل من حيث تعقيد وتركيب وسائل الهيمنة والسيطرة عليه لإخضاعه لسياسات تقترب بطبيعتها من ان تكون استعمارية، بأنها حالة استعمار داخلي. ففي الوقت الذي تنتشر فيه معلومات عن توصيات مجلس الأمن القومي الإسرائيلي بترحيل 40 ألف عربي من مناطق سكنهم في النقب، تجري الجامعات الإسرائيلية أبحاثاً عن تطرف القيادات العربية واعتدال الجمهور وتوقعاته من القيادة والفجوة بين القيادة ممثلة بالنواب المنتخبين وتوقعات الجمهور منها. 

العرب في الحالتين هم موضوع للسيطرة، مرة كموضوع بحث ومرة كموضوع ترحيل، تارة كموضوع استطلاع، وطورا كموضوع اقتلاع.

 من الطبيعي أنه إذا تعرض شعب للترحيل والاقتلاع والاضطهاد والتمييز في الحقوق بسبب انتمائه القومي المخالف لتعريف الدولة لذاتها ولأهدافها أن يصطف وراء قيادة وطنية او أن يؤلف قيادة وطنية في مواجهة هذه السياسات، خاصة أنها جاءت على خلفية انتمائه الوطني او بسبب هذا الانتماء. 

ومن الطبيعي ان تقوم السلطة التي تمارس سياسات التمييز العنصري ببحث ردود فعل من تميز ضده وان تستطلع أنماط سلوكه السياسي المتوقع لكي تحسن تخطيط سياستها ضده، ولكي تحكم الهيمنة عليه. أما في إسرائيل فيتم طرح هذه الأبحاث التي تقوم بها المؤسسة في خدمة الهيمنة وكأنها أبحاث علمية وأكاديمية في مصلحة المجتمع العربي. هكذا يتحول الإعلام الإسرائيلي اعلام المؤسسة الحاكمة المضطهدة، وهكذا يتحول الباحث الإسرائيلي لصالح المؤسسة الحاكمة بقدرة قادر إلى مدافع عن الجمهور العربي ضد قياداته ذاتها. ويتم استحضار مشهد إعلامي كامل يتوقع من قيادات عربية أو من ممثلي الجمهور العربي الذين انتخبهم أن يجيبوا باحثا إسرائيليا أو صحفيا إسرائيليا على ملاحظات الجمهور العربي منقولة على لسانه.

الأحزاب الحاكمة تتناقش فيما بينها فقط على طبيعة سياسات التمييز العنصري ومدى حدتها وتختلف على حجم وجبات التمييز العنصري ضد العرب، وهل تفيد سمعة إسرائيل أو تضرها وهل تؤدي هذه السياسات إلى رد فعل عربي عنيف وكيف تؤدي إلى استكانة العرب بدل المقاومة.

وتكمن المأساة في التسامح والعادية غير المحتملة التي يتم فيها التعامل مع ادعاءات صادرة عن ممثل حزب صهيوني، قائم على نهب الأرض والتمييز، أن النواب العرب لا يخدمون مصالح شعبهم وأنهم يهتمون بقضايا أخرى، في حين يهتم هو بقضايا العرب لضمان ألا تحل أية قضية أو لغرض تعقيدها. وغالبا ما لا يحضر جلسات اللجان البرلمانية التي تعنى بشؤون المواطنين العرب إلا العرب أنفسهم وقد يحضرها غيرهم لغرض إفشال اقتراح قدموه لصالح العرب لأنه يكلف بعض الميزانية، أو لأنه يحتوي عنصرا من عناصر الوعي الوطني. 

كما تكمن المأساة في مجرد الاستماع لمثل هذا الكلام والسماح به مع أن القائل هو من حزب صهيوني قائم على أنقاض العرب. وينسى الكثيرون أن هنالك ممثلين عرب في أحزاب صهيونية، إما يدعون أنهم ليسوا عربا، أو لشدة إخلاصهم لحزبهم او ائتلافهم الحكومي لم يفعلوا شيئا لحل قضايا المواطنين العرب، او صوتوا ضد اقتراحات طرحها نواب لصالح المواطنين العرب.

الاستعمار المعنوي والروحي هو استعمار الضمائر والقلوب وهو اخطر أنواع الاستعمار. تستطيع أقلية قومية مضطهدة ان تناضل من اجل المساواة وللحفاظ على هويتها القومية والوطنية وتطويرها، ويستطيع سكان البلاد الأصليين ان يطرحوا مواطنتهم كأمر مفروغ منه نابع من وجودهم على هذه الأرض عبر السنين والأجيال، وأن يدافعوا بكبرياء وانتماء عن حقوقهم كمواطنين ولو كان ذلك في إطار مواطنة فرضت عليهم. ويستطيعون ان يتناقشوا فيما بينهم حول أفضل السبل لمواجهة الواقع الذين يعيشونه ولتنظيم مجتمعهم وقياداته... ولكن يقبلوا المشاركة في مناقشة المؤسسة الحاكمة السياسية الإعلامية وممثليها، ان يسلموا بأن يساهم بالنصح والمشورة باحثون صهاينة، وأن يعتبروا شرعيا تقديم خريجي أجهزة الأمن الإسرائيلية نصائح للعرب في كيفية اختيارهم لقياداتهم... هو استعمار العقول والأذهان بعينه. وقبول هذا كله هو قبول للاستعمار الداخلي وهزيمة للنفس والروح والضمير. والمهزوم نفسياً وضميرياً وروحياً هو حطام إنسان وليس بوسعه لا ان يدافع عن نفسه ولا عن حقوقه. 

تجري منذ انتفاضة القدس والأقصى في أكتوبر 2000 حملة منسقة متزامنة على مستوى المؤسسة البحثية الإسرائيلية والإعلام للتحريض السياسي ضد القيادة العربية يردد أصداءها بعض العرب المهزومين لإثارة أجواء من اليأس والإحباط في الشارع العربي. إنهم يحاولون بأكثر وسائل الاستشراق الاستعماري بدائية ان يقولوا للعرب من هم وان يبحثوا علاقاتنا بأنفسنا وان يقترحوا علينا كيف نتعامل معهم ومع أنفسنا. إنهم يقومون بتيئيس المواطن العربي من ضرورة وجود قيادة عربية وهوية عربية، وذلك لنصبح مجموعة من الطوائف والعشائر والأفراد المتناحرين على حظوة ومكانة لدى السلطة الحاكمة. انهم يحاولون ان ينفوا عنا صفة الشعب. 

في هذه الظروف التي يجري فيها شن هذه الحملة  غير المسبوقة على المواطنين العرب، يفترض ان تستنفر الهمم في المواجهة. لا يجوز الجلوس في البيت والاستماع إلى تنظيرات الصهيونية لنا وعنا في مثل هذه الظروف. 

القيادة العربية في غالبيتها من الناس بايجابياتها وسلبياتها من الناس, وعلى الناس ان يتحاوروا معها حول أفضل السبل لتحسين الإداء. ولكن المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة ليست طرفا في هذا الحوار، ولا المسألة مسألة وعظ وسجال. الظاهرة القائمة هي تعبير عن أزمة عمل سياسي في الداخل، والأداة الأساسية في مواجهتها هي تقوية الحركة الوطنية وإطارها الحزبي القادر على طرح مشروعه الوطني والمجتمعي. 

هذا غيض من فيض العبث الذي نضطر إلى التعاطي معه تحت سقف الهيمنة الصهيونية على الإعلام والخطاب الإعلامي. وتحت سقف ضبط إيقاع النقاش وإثارة المواضيع من قبل السلطة و'مثقفيها' العرب واليهود المعتاشين على بحث قضية العرب في الداخل صناعةً أو تنصتًا، المخبرين العرب من أبناء المؤسسة الإسرائيلية في الثقافة وفي سقف الطموحات المهنية، المتلبسين بلباس الباحثين في أحوال شعبهم والمختبئين خلف سلسلة لا تنتهي ولا تميز حلقاتها بين الراديكالية الزائفة، المتجلية في مهاجمة 'القيادات العربية' فقط وحتى صناعة التعايش في جمعيات وغيرها.

وإذا أضفنا إلى ذلك مراكز الأبحاث المتخصصة بالمواطنين العرب وعرب المراكز الإحصائية الإسرائيلية التجارية الذين يفصلون نتائج استطلاع الرأي العام حسب الطلب أحيانا، وإذا أضفنا ما يقال منقبل نفس الأشخاص بالعبرية ضد 'القيادات العربية' أنهم منشغلون بالقضايا السياسية ولا يخدمون قضايا الناس، ثم بالعربية بنبرة وطنية راديكالية تدعو لمقاطعة الانتخابات، ندرك مدى انعدام المسؤولية الوطنية.

في ظروف أقلية وطنية أصيلة يقف المثقفون الوطنيون في صف من يدركون أن الحاجة إلى قيادة وطنية هي حاجة تتماثل وتتطابق مع عملية بناء شعب والحفاظ على هويته. ويدركون الحاجة إلى نقد القيادة وتنقيتها قدر الإمكان من الانتهازية. ولكنهم يدركون بتواضع أن من يعمل يخطئ وأنهم بأنفسهم غير معصومين، بل هم أكثر ميلا لنقد الذات من نقد من يعمل في السياسة. كما يقف المثقفون الوطنيون مع الموقف الواقعي الذي لا يزايد على القيادة على عدم نضاليتها ليتملق هدوء وسكون وعدم نضالية الجماهير في مراحل الإحباط بعد ذلك مباشرة.  ويساهم المثقفون الوطنيون مع القيادة في تعميم النهج النضالي في القضايا المطلبية في دولة ليس لمواطنيها؟، ويشاركونها التفكير في الهم الكبير في كيفية طرح القضايا والهموم الوطنية في خضم الدفاع عن حقوق الناس اليومية وهي حقوق إسرائيلية. 

لكي نعالج مسألة العلاقة بين الحقوق المدنية وضغط الناس من أجل الحقوق والخدمات مع ضرورات البناء والحفاظ على مؤسسات ترسخ الهوية الوطنية، نحتاج إلى فئة واسعة من المثقفين النقديين والوطنيين. ونحن نعتبر انه من مهمات التجمع الأساسية كسب فئات واسعة من المثقفين النوعيين لصالح العمل النضالي المسؤول وللانضمام للحزب والدفاع عن الحركة الوطنية ولإنتاج ثقافة وطنية نوعية قادرة دائما على التصدي للاستعمار الذهني الذي تحدثنا عنه.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط