شيء ما يحدث في إسرائيل

أعلن اليمين عن اليوم الذي مر به قانون 'التسوية' لتبييض جميع البؤر الاستيطانية 'كيوم تاريخي'، وربما كان هو الوحيد الذي أعطاه معناه وقيمته السّياسيّة الحقيقية. إذ لا يعبر هذا اليوم عن 'تبييض مستوطنات' غير شرعية وفق القانون الإسرائيلي نفسه، بل يعبر عن انتقال إسرائيل من مرحلة إدارة الصراع إلى مرحلة حسمه من جهتها.

القانون الذي مر لا يشرعن جميع البؤر الاستيطانية فقط، بل يضمن توسعها، وليس بأقل أهميّة أنّه يمهّد سياسيا و'نفسياً' لمخططات مصادرة وتوسيع الكتل الاستيطانية الكبيرة، المحيطة بالقدس، وإغلاقها تماما بالاستيطان، كتلك بين القدس وبيت جالا مثلاً.

لكن الجديد فيه، ليس السلب والنهب، فعلى وطننا الفلسطيني المنهوب أقيمت الدولة العبرية وبنت مدنها وبلداتها، والمشروع الاستيطاني هو جوهر الدولة، وآليّة وجودها. والمشروع الاستيطاني برمّته هو جريمة حرب، و'عامونا' وغيرها، سواء بنيت على أرض خاصة أو أملاك غائبين أو ' أراض دولة'، فهي تبنى بالسرقة على أرض فلسطينية.

لقد قلنا دائما أنّ الدولة العبرية هي ذراع من أذرع المشروع الاستيطاني الصهيوني، وهي ليست مستقلة عنه، ولم تستقل يوما لا فكريا ولا أخلاقيا ولا عمليا عنه، لا في جهازها القضائي ولا الإعلامي ولا الأكاديمي ولا في أجهزة التخطيط والبناء والتعليم وغيرها، هذه أجهزة تتمتع باستقلال قانوني ورسمي، لكن جميعها مُسخرة إمّا لتنفيذ مشروع استيطان إحلالي: سلب وطرد، وإما لشرعنته ولتطوير منظومة قيم وأخلاق متجانسة معه. وقد احتاج المشروع الاستيطاني الصهيوني دائماً لمؤسسات الدولة لبناء شرعيته عالمياً وداخلياً. 

 لكنّ 'قانون التسوية' هذا هو الشرخ الأكبر بين النخبة الإسرائيلية التي أقامت الدولة (على مشروع استيطان) وسيطرت عليها طيلة العقود الماضية تقريباً، فحرصت على التوافق بينهما، وبين نخبة لم تشارك عملياً في بناء الدولة العبرية، وحملت المشروع الاستيطاني دون فذلكات الدولة ورسمياتها وقيودها الهامشيّة.

فجاء هذا القانون ليس ليعبر فقط عن تغير النخب في إسرائيل، وعن انتصار الثانية على الأولى، بل ليعيد تحرير مشروع إسرائيل  الكبرى من قيود الدولة التي تحسب حسابات الشرعية الدولية.

نرى هذا ' التحرر'، أيضاً في سياسات التعليم وفي دخول مئات الجهات الاستيطانية والتوراتية للمدارس اليهودية لتشكل جزءا مهماً من برنامج التعليم.   

هذا هو ما يجعل الدولة العبرية تتخلى عن 'رسمياتها'، تتخلَّى عن مؤسّساتها التي كثيرا ما عملت لتغطية مشروعها الاستيطاني، ليتجلّى هذا المشروع عارياً، حتى من رموز هيبة الدولة مثل المحكمة العليا، التي عملت على تقييد الاستيطان وعلى إعطائه الشرعية الأساسية في نفس الوقت.

لقد فرض هذا القانون سيادتين، سيادة المشروع الاستيطاني على الدولة العبرية، وسيادته على الضفة الغربية معلناً بداية عملية لضمها.  

شيء ما يحدث في إسرائيل، مستغلاً تحوّلات وتخبطات في العالم العربي، ومستغلاً انسداد أفق المشروع الوطني الفلسطيني وتحوّل السلطة الفلسطينية لوكيل تهدئة وسيطرة على ثورة وتمرد الشارع الفلسطيني وشبابه.

لكن الصراع لا يحسم داخل برلمان القامع ولا عبر قوانينه ولا داخل حكومته، بل يحسم في الميدان حيث يقرر المقموع أن يتمرد، وحيث يرى المقموع أنّه أولى في حسم الصراع، فإدارة الصراع هي إدارة للقمع، وتلك لم تكن أبدا من مهمة المقموع ولا من مصلحته.

وبدايات حسم الصراع تكمن في تدفيع المحتل بشكل مستمر ثمن الاحتلال وتكلفته، سياسياً واقتصادياً ومعنويّاً، حتّى عندما لا نستطيع تحقيق انتصارات كاملة. وهذا بمقدور شعب قدّم، وما زال، من التضحيات الكثير، وقضية نجحت عدالتها وتفوقها الأخلاقي في منحها دعم أحرار العالم. وهو ما سيساعدنا على ملاحقة نتانياهو وتقديمه للمحاكمة الدوليّة فعلاً.

أمّا ما يعنيه ذلك بالنسبة لدورنا نحن ضمن المشروع الوطني الفلسطيني، فهو أنه يكمن في طرح أنفسنا كقوة سياسية هي البديل الديمقراطي الوحيد الذي يتّسع لكل ديمقراطي مناهض لمشروع السيطرة الصهيوني.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط