فوز ترامب وصعود اليمين يفتحان مجددا السؤال الاشتراكي-سؤال العدالة الاجتماعية

منذ الأزمة المالية الرأسمالية لعام 2008، عاد السؤال الاشتراكي أو سؤال العدالة الاجتماعية ليكتسب شرعية أو يكتسب زخماً ملحوظاً في أوساط واسعة من القوى الساعية للتغيير والباحثة عن بديل أخلاقي، اقتصادي- اجتماعي- سياسي عن النظام النيولبرالي المتوحش.

 لقد سبق هذه الأزمة بدايات الإفاقة من صدمة سقوط النموذج السوفيتي الذي ظن الكثيرون أنه النموذج الاشتراكي المثالي، خاصة بعد انفلات الوحش الإمبريالي الأميركي المنتشي بالشعور بالنصر على خصمه الأيديولوجي، في خوض حروب لهدم دول، ولتكريس هذا 'النصر' نهائياً على الخصم، ولتدشين 'نهاية التاريخ'.

وكانت بدايات تجلّي هذه الإفاقة، منذ أواخر التسعينات، في انطلاق حركة مناهضة العولمة الرأسمالية، والمطالبة بعولمة بديلة إنسانية وأكثر عدلاً، والتي لم تنجح في التبلور كحركة منظمة لأسباب مختلفة، ولكنها لم تكن فشلاً مطلقاً.

 كما بدأت هذه العودة، أو اليقظة تتجلى في سلسلة الانتصارات المتلاحقة لليسار في دول أميركا اللاتينية، التي شكلت حتى تلك اللحظة حديقة خلفية، وساحة سيطرة من جانب الإمبريالية الأميركية.

إن اليسار في دول أميركا اللاتينية، يواجه حالياً تحديات شديدة الخطورة، داخلياً وخارجياً، وليس واضحاً ماذا سيكون مصير الحكم اليساري في فنزويلا، وكذلك في البرازيل. ولكن مع ذلك، فإن الفكر اليساري القائم على قيم المساواة والعدالة الاجتماعية والتضامن الداخلي، ومناهضة الحروب الاستعمارية، يزدهر ويُعبّر عنه في الميدان، وفي مئات المواقع الإلكترونية اليسارية الجدية التي تظهر تباعاً على الأثير. وهو ما قد يساهم في بلورة بديل نظري، يساري أو أخلاقي مُنقح، يقوم على العدل والمساواة والديمقراطية والحريات الخاصة واحترام حقوق الشعوب.

وبعد فوز دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وفي ظل صعود اليمين الشعبوي في دول أوروبية غربية وشرقية الذي يسعى لكسب نفس الأوساط الشعبية المهمشة ولكن بحلول وهمية، تستنفر ليس فقط القوى اليسارية والحركات الشعبية، بل أيضاً يسار الوسط، ويمين الوسط وأوساط في اليمين اللبرالي للتصدي لقوى الرجعية العائدة، للأيديولوجية القومية العنصرية الآخذة في الانتشار، على خلفية الأزمة الرأسمالية وفساد نُخبها.

 تصبّ هذه المعركة الاجتماعية - الديمقراطية المتجددة، في مصلحة الطبقات العمالية والفقيرة والمهمشة وأوساط واسعة من الطبقة الوسطى المتآكلة في مستواها الاقتصادي والاجتماعي في الساحة الأميركية والأوروبية وغالبية دول العالم، آسيا، أفريقيا، وأميركا اللاتينية.

وبطبيعة الحال، فإن هذه الحركات اليسارية والاجتماعية التقدمية، وأوساط من القوى الديمقراطية هي ضد الاستعمار الكولونيالي، سواء في شكله القديم كالاستعمار الصهيوني الفلسطيني، وضد الإمبريالية الاقتصادية بقيادة أميركا.

إن قضية فلسطين كقضية استعمار كولونيالي، هي من إفرازات المشروع الاستعماري القديم والمشروع الإمبريالي الحديث. وبالتالي فإن شعب فلسطين له مصلحة مباشرة، في الانخراط في هذه المعركة التحررية الإنسانية العالمية، وينتظر من الحركات والأوساط اليسارية والديمقراطية الفلسطينية الالتحام مع هذه القوى وأن تطور نضالها المعولم، والذي نرى ثماره في العشر سنوات الماضية في حركة المقاطعة BDS.  

إن ضرورة التواصل المنظم، الفكري والسياسي، مع قوى اليسار والحركات الاجتماعية الصاعدة تنبع أيضًا، من كوننا كفلسطينيين نواجه نظامًا كولونياليا وحشياً يقوده تيار يميني شعبوي منتش بفوز دونالد ترامب وما يمثله من توجهات قومية شوفنية خطيرة، ومن دعم غير متحفظ لهذا النظام الكولونيالي.

عودة الجاذبية للاشتراكية

لم يغب الجدل، والبحث، والتنقيب، عن مخرج لأزمه اليسار، منذ انهيار الكتلة الشيوعية، بقيادة الاتحاد السوفيتي أوائل التسعينات وهو بحث عن البديل الأخلاقي؛ السياسي- الاقتصادي الأفضل والأكثر أمناً للبشرية. ولكن تحت تأثير صدمة الانهيار، وتبدد حلم كبير، حقيقي أو وهمي، انهار الكثيرون، أحزاباً وحركات، وأفراد (مثقفون)، ولحقت أوساط واسعة منهم بتيارات اليمين، المحافظ، واليمين الشعبوي. في حين أحزاب أخرى غيرت اسمها، دون أن تغير أيدولوجيتها أو تتخلى عن دوغمائيتها.  في حين اقتضى التصدي بمنظور نقدي جدي، ومن موقع اليسار، مجموعات وأكاديميون، وأساتذة جامعات من خارج التيارات اليسارية التقليدية.

لقد سقطت الستالينية كنظام، وتلقت ضربة قوية كأيدولوجيا، أو كفعل سياسي زعم أنه يمارس الاشتراكية لصالح طبقات العمال والفئات المسحوقة، وتبين فيما بعد ما كان يكرره يساريون وماركسيون نقديون (سواء تروتسكيون، أو ماركسيون لينينيون) من أن ما كان قائماً في الاتحاد السوفيتي هو بيروقراطية رأسمالية دولة وليس اشتراكية. وأذكر أنه في بواكير الشباب، (أواخر السبيعنات) وبعد فترة قصيرة من تعرفي على أصول الفكر الماركسي، وانبهاري به وانحيازي للاتحاد السوفيتي، ولكن نائياً بنفسي عن الحزب الشيوعي، لأسباب قومية وروحية، اقتنيت كتاباً بعنوان 'الإنسان الاشتراكي'، على ما أذكر، لإسحاق دويتشر، ينتقد فيه البيروقراطية السوفيتية والتشويه المدمر للاشتراكية. وعرفت لاحقاً، أنه ينتمي للفكر التروتسكي. وفي جلسة نقاش مع شيوعيين في بلادنا، تعرضت للهجوم الحاد، بادعاء أني متأثر بكتاب من تأليف عميل ألـ CIA، تبيّن لي لاحقاً، أن هؤلاء الشيوعين، كانوا لأول مرة يسمعون بالكاتب ـ ولأول مرة يسمعون نقداً على النموذج الستاليني.

لماذا تعلقت الشعوب، وقطاعات واسعة من الشباب، وطلاب الجامعات في مختلف أنحاء العالم ونحن منهم، وخاصة في بلدان العالم الثالث، التي كانت خاضعة للاستعمار، أو الخارجة لتوها من الاستعمار بالاشتراكية، بالاشتراكية، كفكرة، جاذبيتها وسحرها خاصة عندما تكون مقرونة بكفاحات ونضالات وبطولات شعوب. لأنها تعني ببساطة أن يكون الإنسان متحرراً وحراً، وأن يكون متساوياً مع الآخرين. المساواة هي روح الاشتراكية. وليس صدفة أن اشتراكيي القرن التاسع عشر، تحدثوا عن علاقة الاشتراكية بالديمقراطية قبل أن تتحول الاشتراكية إلى أحزاب وأنظمة حكم شيوعية شمولية زعمت أنها تمثل طبقة العمال، في حين أنها كانت تمثل حزباً، ومن ثم مجموعة صغيرة في حزب، وصولاً إلى دكتاتورية الزعيم. ولهذا السبب، أي لغياب الديمقراطية، ولغياب التجديد وحرية النقد وما رافقه من قمع رهيب للمعارضين حتى من داخل الحزب الشيوعي السوفيتي، وأحزاب شيوعية حاكمة أخرى، انهار الاتحاد السوفيتي، رغم كل التطور العسكري الهائل والدعم الذي قدّمته لحركات التحرر الوطني، والانجازات التعليمية الكبيرة التي حققها على المستوى الداخلي.

ليست فكرة المساواة جديدة. ولم تخترعها الماركسية التي قدّمت تحليلاً فذاً للنظام الرأسمالي. إنما الفكرة كانت قد حضرت قبلها، في مجتمعات قديمة كاليونان القديمة، في الصين القديمة. وايضاً حضرت في الأديان السماوية كالإسلام والمسيحية. ليس صدفة أن باحثين يساريين اجتهدوا في قراءة نصوص المسيحية والإسلام ليجدو فيها قيم المساواة بين البشر والعدالة، وعقدوا رابطة بين أفكار اليسار الحديثة مع قيم العدل والمساواة، التي تضمنتها هاتان الديانتان، في العالم العربي. وفي مصر تحديداً عرف مصطلح باليسار الإسلامي، كتب عنه حامد أبو زيد وربما قبله محمد عمارة، وحسن حنفي. كما ظهر في أمريكا اللاتينية في الستينات والسبعينات ما عرف بلاهوت التحرير وضد الأنظمة الاستبدادية المدعومة أمريكياً.

كل ذلك كان ولازال يُجسد تعطش الإنسان للعدل وللحرية، وللعيش بكرامة وتعاظم بعد الثورة الصناعية في أوروبا، القرن السابع عشر والتاسع عشر، وتطور النظام الرأسمالي، وما ترتب عليه من استغلال فاحش للشعب، وطبقات العمال، وزج العمال في حروب استعمارية خارجية، بحثاً عن مواد الخام والأسواق لخدمة الطبقة الرأسمالية الجشعة.

في هذه الحقبة اتسعت المطالبة بإنهاء حالة الاستغلال، وانهاء حالة البؤس الفظيع الذي لحق بغالبية الناس وفي مقدمتها الطبقة العاملة، ناهيك عن شعوب القارات الأخرى، التي تعرضت للغزو والنهب والسيطرة.

انتفض العمال، والفلاحون، وأوساط من الطبقة الوسطى الدُنيا. وظهر مفكرون منحازون للمساواة، وضد الاستغلال، ليتصدوا نظرياً لمبنى الرأسمالية وطبيعتها الاستغلالية. وظهر قادة وثوريون يقيمون نقابات، وحركات، وأحزاباً، وتحالفات، خاضت كفاحاً دموياً مريراً، بهدف تفكيك بنية الاستغلال والسيطرة، ولضمان حياة كريمة لمعظم الناس.

حقق الثوريون انتصارات مبهرة في ساحات كثيرة خاصة في القرن التاسع عشر والعشرين. وقامت دول على أساس الشيوعية، أو على أساس الاشتراكية، أو على أساس الاشتراكية الديمقراطية، وهي كلها أشكال مختلفة من الاشتراكية. وتختلف الشيوعية عن الاشتراكية الديمقراطية، بأن الأولى تقوم على الشمولية، أي على تفرد حزب العمال (الشيوعي) بالسلطة وضرورة تحقيق الثورة بالقوة. في حين أن الاشتراكية الديمقراطية، تؤمن بانتقال الدولة أو المجتمع إلى الاشتراكية بالطريقة الديمقراطية. هي لا ترفض السوق ولكنها تضبطه وتضع له معايير، مع اجراءات اجتماعية تضمن أكبر قدر من المساواة في المجتمع. ولكن من تناقضات الاشتراكية الديمقراطية أنها كانت شريكة في الحروب الاستعمارية.

لقد ظهر النموذج الاشتراكي الديمقراطي الذي اتبع في اوروبا الغربية، وبشكل خاصه في الدول الاسكندنافيه، كنموذج ناجح وجذاب بعد انكشاف ازمه الكتلة الشيوعية، وخاصة في انهيارها.

غير أن هذا النموذج، يواجه في العقدين الأخيرين، خاصة في فرنسا وبريطانيا، والآن ألمانيا، تحديات حقيقية. بسبب التوجهات الاقتصادية نحو السوق والعولمة على حساب دولة الرفاه، الأمر الذي بدأ بفرز فجوات اجتماعية آخذة في الاتساع، تستفيد منها قوى اليمين الشعبوي والاتجاهات القومية العنصرية.

وحشيه المعسكر المنتصر وموت الديمقراطية

يعيش العالم الآن، وبعد سقوط وهم الانتصار الأخلاقي للعولمة والرأسماليه المتوحشة خاصة بعد الأزمة المالية لعام 2008، نتائج هذا الوهم الذي حفّز اغراؤه الكاذب المعسكر الرأسمالي (الأمريكي تحديداً) إلى استنشاق الحروب الوحشية ضد دول وشعوب (افغانستان والعراق) بقيادة الإمبريالية الأمريكية. فبدل الوعود التي نشرها بتحويل العالم إلى قرية صغيرة، تنعم بالتطور والتقدم والرخاء والسلام، أطلق آلته العسكرية الوحشية الضخمة في محاولة لنشر نموذجه، الذي في هو في الحقيقة تعبيراً عن مصلحة الشركات الكبرى، التي باتت تؤثر تأثيراً حاسماً في سياسات الدول الرأسمالية، الغربية خاصة. ومع مرور الأيام باتت بديلاً عن المؤسسات الديمقراطية كالبرلمانات بحيث بات السوق أو الشركات ترسم سياسات الحكومات، الداخلية والخارجية. ولذلك شهدنا كتابات من مفكرين غربيين في العقدين الأخيرين عما أسموه بموت الديمقراطية أو موت السياسة.

والمقصود أن المواطن ومؤسساته المنتخبة ما عادت مشاركة في تسيير دفة الحكم، بل المجمعات العسكرية والاقتصادية والمالية، التي لا يهمها سوى الربح. فالربح أولاً وأخيراً.

وهذا يعني اغتيال الديمقراطية الليبرالية التي قامت عليها هذه الدول، بعد ثورات دموية على مر ثلاثة قرون. وهو مما فتح المجال أمام تحولين: عودة ظهور اليمين الشعبوي، وعودة اليسار بشقيه الشعبوي والواقعي.

هكذا، وفي غياب معسكر، أو تحالف، يحمل نموذجاً يسارياً، أو منظومة قيم مركزها رفاهية الإنسان، حتى ولو رسمياً، وفي ظل تخلي المعسكر الرأسمالي عن قيم كانت تشكل جزءاً اساسياً من شرعيته، تصبح البشرية، أمام السؤال الجديد والقديم كيف يتحقق السلام، العدل، والأمن، بل كيف نمنع التدهور والانحلال الكلي للنظام العالمي. كيف تُستعاد مركزية الإنسان، كيف نحميه من آفة الفقر والحروب والبطالة. وكيف نحميه من سطوة النموذج الاستهلاكي، والفردانية، وضعف التضامن الجماعي. كيف نحقق المساواة بين المرأة والرجل، كيف نواجه الفقر والجريمة، كيف نحمي البيئة من الجشع الرأسمالي.

لا يوجد اليوم أي قطب أولي يحمل 'أوتوبيا' للبشرية أو منظومة أخلاق. فحتى الصين العظمى، عن كيفية شيوعيتها مع السوق، مع الحفاظ على نظامها الشمولي. لقد تحولت إلى قوة اقتصادية عظمى هي الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن هذا تم على حساب الملايين من العمال الصينين، الذين يتقاضون أجوراً منخفضة وعلى حساب البيئة التي تتعرض لمخاطر التلوث الهائل.

ربما بعضنا نحن العرب، كنا نتمنى للدكتاتوريات العربية، أو للأنظمة الشمولية في وطننا العربي أن تنجح في بناء دول كالصين او ماليزيا أو غيرها، ولكن الطغاة العرب فشلوا في كل شيء، لا في بناء مجتمع أو أمة، ولا بناء اقتصاد منتج، ولا حرروا أوطانهم من التبعية ولا استعادوا أو أي جزء من أراضيهم أو فلسطين من الاستعمار الصهيوني. لم ينجحو لا في ممارسة دكتاتورية حديثة، ولا في تحقيق الديمقراطية. الشيء الوحيد الذي 'أبدعوا فيه' ومعهم الجهاديون الفاشيون ومعهم أيضاً 'يساريون' سابقون أيضاً، سواء الذين تحالفوا مع الاستبداد أو الذين ارتموا في أحضان الامبريالية الأمريكية، هو في ذبح شعوبهم وقمع تطلعاتهم ودفن الأمل بالتغيير لأجيال قادمة.

أما روسيا، الخارجة من بين أنقاض الاتحاد السوفييتي المنهار، وهي الضربة التي وصفها الرئيس بوتين بأنها أكبر كارثة استراتيجية، تسعى إلى اعادة القومية الروسية واستعادة مجدها. غير أن الامبريالية الامريكية، التي أرادت التفرد بالكامل بحكم العالم، سعت إلى تطويق روسيا ومنع تمدد نفوذها في محيطة، مما وضع روسيا في ديناميكية المواجهة مع الغرب الاستعماري إما كتخطيط مُسبق، أو كتطور موضوعي. نحن نشهد عودة روسيا كدولة قوية، تتبلور كقوة امبريالية وحشية، لا تقيم وزناً للإنسان، خارج الوطن ولا للديمقراطية داخله. وبالتالي أصبحنا أمام قوتيين امبرياليتين ليس في ميزانهما الأخلاقي، سوى المصالح والنفوذ. والأنكى من ذلك، فأن روسيا تصبح حليفاً قوياً، إضافة إلى الولايات المتحدة، لنظام الاستعمار الكولونيالي الصهيوني، وتنسق معه في سماء سوريا، في ضرب أي شحنة أسلحة يُعتقد أنها تذهب إلى حزب الله.

ما العمل ازاء هذا الفراغ الاخلاقي

شكل فوز دونلد ترامب برئاسة الدولة الامبريالية الكبرى، تتويجاً لمسار الانحدار السياسي والأخلاقي والتراجع الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية، وتراجع الديمقراطية اللبرالية. أما في أوروبا الغربية، فأن ميزات دولة الرفاه، تمر في عملية تآكل سريعة أمام زحف اليمين المتطرف واليمين المحافظ والشعبوي. وكانت إسرائيل قد سبقت هذه الدول في ظاهرة صعود اليمين المتطرف والشعبوي إلى الحكم، ليصبح نظام الأبارتهايد الصهيوني أكثر عسرياً من أي وقت مضى.

ليس من السهل التنبؤ في كيفية انعكاس فوز ترامب على السياسات الخارجية المستقبلية، ولا آفاق تطور المشهد اليميني الجديد الآخذ في التشكل في أوروبا الغربية، آخر معاقل الاشتراكية الديمقراطية، وثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية. ولكن هناك خوف حقيقي من هذا التطور المفاجئ في أوساط دول وأنظمه، وتيارات شعبية، تختلف في توجهاتها السياسية والايدولوجية.

ولكن، كيف نحن، الذين ننتمي لليسار، وللقوى الديمقراطية التقدمية، في العالم وكيف نحن في فلسطين، ننظر إلى هذه التطورات، وكيف علينا أن نتصرف، فكرياً، وسياسياً، وميدانياً.. في مواجهة تيارات اليمين التي فازت، والتي قد يفوز بعضها في الحكم في دولها. وهي تيارات أو أحزاب، إذا ما واصلت صعودها إلى الحكم، ستعني أيضاً مزيداً من الدعم لنظام الأبارتهايد الكولونيالي في فلسطين.

لا يجوز أن يحجب فوز ترامب وتقدم حركات اليمين المحافظ والشعبوي، في دول أخرى، الأنظار عما يدور منذ سنوات من نهوض متجدد لتوجهات يسارية، ولقوى ديمقراطية اجتماعية في الساحة الأمريكية والتي عبر عنها أثناء المعركة الانتخابية المرشح الديمقراطي بيرني ساندرز، وفي بريطانيا، القائد اليساري لحزب العمال البريطاني جيرمي كوربين الذي تمكن من الفوز بقيادة الحزب رغم كل حملات التشويه التي قادته وسائل الإعلام ومعظم قيادات حزبه (جماعه توني بلير).

هناك أيضا حركات يسارية قوية في اليونان (بقياده يانس وورفسكي، وزير المالية المستقيل من حزب سيريزا بسبب خضوع رئيس الحزب، الكسيس تسيبراس، لشروط الاتحاد الاوروبي (المذلة)، وكذلك حركة بوديمس في اسبانيا. ويقود وورفسكي حركة 'ديم 25 Diem' يسارية أوروبياً هدفها دمقرطة الاتحاد الأوروبي.

وإذا أضفنا الثورات اليسارية في أمريكا اللاتينية التي اجتاحت القارة منذ أواخر التسعينات، رغم أن بعضها، خاصة في فنزويلا والبرازيل، تواجه تحديات خطيرة، من الداخل والخارج، نستطيع القول إننا أمام عودة اليسار وأن بأشكال مختلفة، الذي تحدى السياسات النيولبرالية المتوحشة.

لا أحد يستطيع أن يتنبأ أو يستشرف مسار هذه التحولات الاجتماعية الثورية، نظراً لقصور في إدارة الثورات أو لعدم تبلور صيغة اشتراكية مثالية وناجعة حتى الآن، وأيضا لتعاظم محاولات التخريب الخارجي خاصة من قبل الإمبريالية الأمريكية. ولكن الجميع يُشخص أن قطباً تقدمياً من الحركات الاجتماعية والشعبية يعود إلى المشهد قد ويشكل تحدياً جدياً للنموذج النيولبرالي الإمبريالي، ولكنه غير منظم حتى الآن. وربما الأمر المتفق عليه من كل هؤلاء هو أن لا ديمقراطية بدون عدالة اجتماعية. وأن النموذج النيولبرالي، أخفق اخفاقاً ذريعاً في تخفيف طموحات الناس، وفي وقف الحروب وفي تقليص الفجوات الاجتماعية سواء داخل الوطن أو على المستوى العالمي.

على هذه الأرضية، تزدهر مجدداً أفكار اليسار. وقد اتسعت الحركات التي تستوحي أفكار اليسار، كالمساواة، والعدالة الاجتماعية، واحترام الحريات والمساواة بين المرأة والرجل، وحماية البيئة، في الولايات المتحدة، ودول اوروبا الغربية.

أما في الدول العربية، فقد انفجرت الانتفاضات الشعبية بعد وصول الاستبداد إلى مستويات فوق قدرة الناس على الاحتمال. ولكن غياب الحزب الثوري، والبرنامج الثوري، أو الحامل السياسي- الاجتماعي المنظم، مكن الأنظمة العربية المتوحشة ومعها القوى الخارجية من تدمير الثورات.

راهناً، وخاصة بعد فوز ترامب، يدور نقاش وحوارات في المواقع الاجتماعية وبين مختلف المنخرطين في الحراك السياسي والاجتماعي المناهض للرأسمال، من حركات ومجموعات، ومثقفين وأكاديميين، حول كيفية الاستفادة من المناخ الجديد الذي ولدته الحملة الانتخابية للاشتراكي الديمقراطي، بيرني سندرز.

إن الكثيرين، من ذوي الاهتمام بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية، يتابعون هذا الحراك وهذا النقاش الهام، ويتطلعون لأن يكونوا جزءاً منه، في إطار البحث عن بديل سياسي واجتماعي، وبديل أخلاقي عن منظومة الحكم التي اختطفتها الشركات الكبرى.

أما في بريطانيا، هناك أيضا المفاجأة. هناك يصل إلى قيادة حزب العمال، رجل يساري ناسفاً كل توقعات الإعلام السائد التابع لرجال الأعمال، مدعوماً من قاعدة حزب العمل، من الشباب والعمال والفقراء.

صحيح أن ساندرز لم يصبح مرشح الحزب الديمقراطي، ولكن حملته الانتخابية تتجاوز جلب الأصوات. أنها حملة سياسية اجتماعية وفكرية غير مسبوقة في حملات الانتخابات الأمريكية. لقد تغلغلت مضامين الحملة التي استهدفت علاقة المال بالسياسة، وروجت للمساواة والعدالة، ولتغيير الموقف الأمريكي الرسمي من إسرائيل لدى أوساط واسعة من الشباب الأمريكي. وهناك من يرى أنه لولا ظهور حركة Occupy Wall Street التي انطلقت بعد الثورات العربية في عشرات المدن الأمريكية، والتي سحقتها إدارة أوباما، لما كان هذا التأثير الذي اكتسبته حملة ساندرز.

كما أن وصول جيرمي كوربن إلى قيادة حزب العمال لا يعني بالضرورة الفوز برئاسة الحكومة البريطانية عام 2008. إنما ما أحدثه حتى الآن داخل حزب العمال هو انقلاب على أفكار توني بلير، النيولبرالية، وإعادة الآمال بعودة السياسة- السياسة الاشتراكية. ناهيك عن موقفه الصارم والواضح ضد الصهيونية والاحتلال الاسرائيلي.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط