قضية باسل غطاس تكشف بؤس المواطنة المدجنة

رغم أنّ قضية النائب باسل غطاس من حيث التهم ليست خطيرة نسبيًا، إلا أنّها كشفت في غضون أيام قليلة عن العديد من الأمور الهامّة المتعلقة بكيفية نظرتنا إلى الدولة وعلاقتنا بها، وخصوصا بما يرتبط بمفهوم المواطنة وما يشتق منه من حيث الانصياع للقانون. بل إنّ تأتأة وتخاذُل البعض على ضوء عدم خطورة التهم النسبية وسرعة تراجع الشرطة عن الشق الأمني منها في غضون أيام بالذات، يكشف عن مدى قابلية 'العربي الإسرائيلي' للانكسار نظرا لهشاشة هذه المفاهيم وإفلاس خطابنا السياسي وتراجع هيبة الحركة الوطنية.

فقد أبرز الهجوم الإعلامي والسياسي الصهيوني وبسرعة لافتة إجماعًا صهيونيًا لم يحد عنه أحد، يسارًا أو يمينًا أو غيرها من المسمّيات. وإن أوضح هذا التجنّد المطلق شيئًا، فقد أبان مجددًا أن التصنيفات بين اليمين الذي يريد الإقصاء واليسار الذي يفضّل الاحتواء هي تقسيمات واهمة في نظر كل من يعقل. الفرق بينهما هو في درجة التسامح والتحمّل تجاه العربي لا غير. لذا سيّان أمام هذا الإجماع مدى خطورة القضية. فإذا كانت قضية عزمي بشارة قد نُسجت عنها الأساطير من ناحية أمنية، فها نحن نرى في قضية باسل غطاس، الأبسط نسبيًا، أنّ درجة التحمّل منخفضة جدًا ومن دون مراعاة لأبسط مفاهيم دولة القانون، من حيث افتراض البراءة حتى ثبات التهمة وسلامة الإجراءات، أي أنّ درجة التحمّل الصهيوني انخفضت عبر السنوات باطراد تجاه العرب، بغض النظر عن سلوكهم السياسي، محتجًا كان أم راضخًا.  

ألفنا من هؤلاء رقصة الهندي الأحمر، بكامل ريشه وألوانه، أمام كاميرات الرجل الأبيض

في مقابل ذلك، خرج بعض أدعياء الحكمة والعقلانية والاعتدال العرب يطمئنون هذا الإجماع الشرس، الذي لم يحترم أسس دولة القانون، أنهم يحترمون القانون ويعملون ضمنه ويصرّحون بأنهم لم يتضامنوا مع غطاس في محنته وأنهم يختلفون معه وعنه. وإذا كانوا قد تخلوا عن عزمي بشارة وشمتوا به سريعًا، فها هم يتخلون عن باسل غطاس سريعًا أيضًا، أي أنّ درجة التضامن والصمود العربي انحدرت بمقابل انحدار منسوب التحمّل الصهيوني.

مصدر الغرابة في كل ذلك ليس مجرد ادعاء التعقل، فقد ألفنا هذه الادعاءات وهذه العقلية التي أدت إلى ضياع فلسطين، بالمجمل وبالمفرق، منذ أن أصبحت هناك قضية فلسطينية. ويكاد لسان حالنا يقول لهم ما قاله لأمثالهم إبراهيم طوقان قبل ما ينيف عن نصف قرن: 'في يدينا بقية من بلاد... / فاستريحوا كيلا تطير البقية'. وإن كنا نعيب على أدعياء العقلانية والحكمة فهمهم لها باتجاه واحد لا غير، ينصاع للإجماع الصهيوني المتطرف غير المتعقل وغير المتروي. أليس من التروي والتعقل أن تحجموا عن استنكار ما فعله باسل غطاس حتى تتضح الأمور وتنجلي الحقيقة؟ إذاً، لا علاقة للموضوع بالتعقل بل بسياسة خائبة.

كما نعيب عليهم أنه قد غاب عنهم أنهم في الوقت الذي يساهمون فيه بالتنكر لباسل غطاس قبل إثبات تهمته، إنما يساهمون بالتأكيد على أنهم هم أنفسهم متهمون حتى يثبت استنكارهم لباسل. ونعيب عليهم أنهم لا يفقهون أنهم مهما استنكروا سيبقون متهمين، وسيكون السيناريو حاضرًا في المرة القادمة مع شخص آخر ومع تهمة أقل. 

ليس مصدر الغرابة هو إعادة التأكيد على التقسيم بين المعتدلين والمتطرفين وبين العربي الجيد والعربي السيء، فقد ألفنا من هؤلاء رقصة الهندي الأحمر، بكامل ريشه وألوانه، أمام كاميرات الرجل الأبيض، ولم يعد ذلك يدهشنا بتاتًا. وإن كنا نعيب عليهم عدم رؤيتهم لسيولة هذا التقسيم وللمنحدر المنزلق الذي يُفضي إليه. حيث أنّ سقف العربي يزداد انخفاضا مع تقدم الإجماع الصهيوني يمينًا. ففي هذه الحالة تزداد متطلبات الرقص أمام الكاميرات في طقوس معدّة سلفًا. ومع ذلك، تجد من أبناء شعبنا ومن ممثلينا من هو مستعد للرقص حتى لو اضطر للسير على الزجاج. ونشفق عليهم لأنهم يضطرون للرقص بلغتين. 

مصدر الغرابة الأكبر هو تقمص هؤلاء دور رجل القانون. وهذا يضطرنا إلى التذكير ببعض البديهيات التي قد يتشدقون بها في الأيام العادية، ولكنهم يتناسونها في أوقات الأزمات التي يفتعلها الإجماع الصهيوني ليطالبهم بدفع رسوم الخضوع الدورية. فإذا كان الإنسان العادي قد يخلط ما بين القانون والأخلاق أو يرى واهمًا أنّ القانون تجسيد للعدالة، فكيف يمكن قبول ذلك ممن يجلس في دار التشريع ويعرف مشرّعي القانون بالاسم: ليبرمان وبينيت ونتنياهو؟ إذا كان البعض منا يصرخ منذ سنوات وبعد كل قانون في الكنيست عن ازدياد منسوب العنصرية وعن ما يسمونه 'الفشستة'، كيف يكون مجموع ذلك وتطبيقه في حالات عينية قانونًا يستدعي الاحترام والانصياع؟

قضية باسل غطاس تثير ذلك كله لأنها على صلة مباشرة بإحدى أهمّ قضايا شعبنا وهي قضية الأسرى. وهنا علينا أن نكون واضحين أن هناك نهجًا مرفوضًا يمثله ما نسميه تيار 'الخاصيّة' (وهو نفسه تيار التعقل). فهذا التيار ما فتىء يعلن من على كل منصة أن المواطنين العرب في داخل إسرائيل لديهم خاصيتهم التي تفرّق ما بينهم وباقي أبناء شعبهم. وتحت ستار الخاصية (و'كل يناضل من موقعه') تخلينا منذ زمن بعيد عن العدل الفلسطيني مستبدلينه باستحقاقات المواطنة. ومن منظور هذه الخاصيَة والتعقل والقانونية المفرطة، تجدهم يستنكرون انخراط الفلسطينيين في الداخل في المنظمات الفلسطينية أو قيامهم بأعمال عنف مخالفة للقانون. ولذا ليس غريبًا أنهم يزورون مروان البرغوثي في السجن، ولكنهم لا يزورون وليد دقة أو كريم يونس. ولم يكتفوا بيوم تضامن عالمي مع الشعب الفلسطيني فابتكروا يوما خاصًا للتضامن مع العرب في إسرائيل لوحدهم. وليس مفاجئًا أنهم مع المقاطعة ضد المستوطنات ولكنهم ضد المقاطعة الأشمل للنظام الاقتصادي والسياسي والأكاديمي الصهيوني، ولا أنّهم يصرون على كونهم قوة ثالثة إسرائيلية لا قوة أولى عربية تحافظ على مقومات الصمود، وتنظّم الناس لمقاومة النظام الغاشم.  

هذا الحرص على القانون يكشف عن نظرة هؤلاء للدولة. فاحترام القانون يفترض دولة القانون، أي تلك الدولة التي حازت على الشرعية لأنها عموما تستوفي المقومات الأساسية من حيث ضمان الحقوق والديمقراطية. ومن هنا تصبح الإشكالية ناتجة عن الخلاف مع بعض القوانين الظالمة لا مع مجمل النظام السياسي والقانوني القائم. ولذا يتبع منطقيًا أن الخلاف مع هذه القوانين العينية يتطلب استغلال الموارد المتوفرة داخل النظام لإصلاح نفسه. ولا حاجة لخرق القانون أو رفض الانصياع له، كان ذلك سرًا أم علناً. وهذه وصفة مثبتة لفقدان التأثير.

كينغ هو صاحب نظرية واضحة وراديكالية للعصيان المدني ضد القانون الظالم، ففي نظره متى ما خالف القانون الوضعي حقوق الناس الطبيعية التي منحها الله لهم، أصبح القانون منعدم الصلاحية، أي لا يعتبر قانونا أصلا

لكن هذا المنطق لا يصح في دولة تفتقد لمقومات دولة القانون وفي دولة تكشف عن أنيابها الاستيطانية الاحلالية يوما بعد يوم. الإعلان على رؤوس الأشهاد عن العمل ضمن القانون في إطار قانوني وسياسي ظالم هو تخلٍ عن مواجهة النظام والتوهم بأنّ الواقع هو غير ما هو عليه في حقيقة الأمر. لذا، لا يستطيع أحدهم أن يجمع بين المقولتين: إسرائيل دولة استعمارية والحرص على القانون، في ذات الوقت. هذا لا يعني أن القانون يجب أن يخرق في كل حالة وبكل ثمن. هذه أمور تكتيكية قابلة للنقاش. وقد يفيدنا 'المتعقلون' بها ولكن بعد أن يتخلوا عن الموقف المطلق المتماهي مع القانون الظالم والمواطنة المدجنة.

ومما يثير الإستغراب أيضا، أنّ بعض هؤلاء أطلّ علينا بتفضيل مارتين لوثر كينغ على مالكوم إكس. وكأنّ هذا التفضيل هو تمثيل للتقسيم بين المعتدل الذي يمثله الأول، والمتطرف الذي يمثله الثاني. وبذلك يتم تحويل مارتين لوثر كينغ إلى نسخة مخففة وملطفة. ولكنّ كينغ هو صاحب نظرية واضحة وراديكالية للعصيان المدني ضد القانون الظالم، ففي نظره متى ما خالف القانون الوضعي حقوق الناس الطبيعية التي منحها الله لهم، أصبح القانون منعدم الصلاحية، أي لا يعتبر قانونا أصلا، وبالتالي لا يتوجب على المواطن الانصياع له، بل عليه مقاومته متى استطاع وكيفما استطاع وقبول عقوبة السجن ثمنا لمقاومته الظلم. 

لذا نرجو من هؤلاء ألاّ يزيّفوا تجارب الشعوب، أو أن يستخدموا التعقل أو القانون للتغطية على التأتأة أو الصمت الذي يصيبهم عند كل مواجهة. أما نحن، فنتضامن مع النائب باسل غطاس من دون تأتأة.     


تصميم وبرمجة: باسل شليوط