أين فشلنا في محاربة العنف والجريمة؟

ننطلق من قاعدة منطقية، قد يتعلق تطبيقها بالقدرة و"الحسابات"، لكن صوابها لا يتعلق بشيء، حيث هي صائبة دائما. القاعدة تقول: إذا لاحظت أنك لا تقترب لهدفك، وأن الواقع يسيء من حولك فاعرف أن أمامك طريقين، إما أن تترك الهدف، وإما أن تغير الوسائل، فالأدوات التي تستعملها يبدو أنها لا تصلح لإيصالك لنتائج أفضل.

من هذا المنطلق أيضا، غليان المعاناة واستمرارها، هو الوقت المناسب بمراجعة الأدوات (هنالك مشكلة طبعا في تضخم قدرتنا على الصبر وعلى تحمل واقع رديء، من هنا الصبر ليس جميلا دائما، أحيانا هو جدا قبيح). وفي قضية العنف والجريمة، الوقت الآن مناسب بل ومطلوب لكي نطرح السؤال: هل فشلنا كقيادات؟ وأين فشلنا؟

طبعا، خطاب المحاسبة الذاتية والحقيقية لأنفسنا كقيادات هو خطاب غير متداول، ولا يشكل جزءا من الثقافة السياسية التي عودنا أنفسنا عليها، أو تلك التي نريدها لأنفسنا، يساعد في ذلك ثقافة سائدة داخل دوائر القيادات السياسية وخارجها، التي تستهتر محاولات النقد السياسي وتتعامل معها من خلال فكر "المناكفات"، ليس لقناعة بذلك، بل بهدف سحب شرعية النقد السياسي بحد ذاته من جهة، وتفريغ النقد السياسي من مضمونه من جهة أخرى، والتعامل مع مختلف السلوكيات السياسية، كـ"اجتهاد شرعي".

ما نحتاجه في هذه المرحلة السياسية الصعبة، كغيرها، هو تشخيص مجالات النقد السليم والصحي والوطني، مثل النقد الذي يتمحور حول سلوكيات هادمة للمفهوم الوطني، مثل التعزية فيمن يخدم في سلك الأمن الإسرائيلي، أو بناء معسكرات سياسية تجعلنا نخوض في نشاطات تطبيعية، أو بناء محور بناء الأوهام حول "استراتيجيات تأثير" تجعلنا نفقد تأثيرنا الحقيقي، وندخل ساحات صنع قرار الأمن القومي الإسرائيلي، أو الغرق بسياق الواقع الإسرائيلي وخوض معارك اجتماعية تجبرنا على تحالفات مع جهات استيطانية وفاشية، أو بناء خطاب "إنجازات"، سطحي ومفرغ للسياسة، دون أن نسأل ما هي طبيعة هذه الإنجازات، وبواسطة أي طرق يتم الوصول لها. بالتالي هنالك محطات لا يمكن الخروج منها بعافية، إلا إذا تم فيها تشخيص مواقع الخلل الذاتي، وقد تكون قضية العنف أهمها، ليس فقط لأننا بصدد موضوع مركزي يتعلق بمعاناة يومية شخصية واجتماعية، بل بسبب أمرين لا نستطيع أن نتخيل ما هو أهم منهما: أولهما، أن هذا الموضوع يكشف خللا بنيويا في بناء مؤسساتنا السياسية التمثيلية المركزية، وثانيهما، أن هذا الموضوع يصب في صلب مفهوم بنائنا الوطني كمجتمع.

العنف والجريمة وفقدان مرجعية وطنية جامعة

لن أسأم من تكرار قناعتي التي حاولت جاهدة تمريرها في السنتين الأخيرتين من خلال أطرنا السياسية: المشتركة، اللجنة القطرية للسلطات المحلية، لجنة المتابعة، بأن الردع هو الإستراتيجية الأولى لمحاربة الجريمة والعنف معا، الردع كعقاب، والردع كرسالة اجتماعية تذوت داخل المجتمع بضحاياه ومجرميه: عواقب الجريمة كبيرة جدا، وأنا "كمجرم" لا أستطيع خسارة حياتي مقابلها.

دون هذا الردع، تتحول الجريمة من مغامرة مهلكة وخطرة، إلى "سلوك عادي"، لا يخل بتوازن حياة المجرم، وإذا لم تخل الجريمة بتوازن حياة المجرم، فستخل بتوازن حياة المجتمع، لأنها ستتحول من حدث استثنائي خارج طبيعة المسار اليومي للمجتمع، لجزء من سيرة حياة المجتمع.

وهذا ما يحدث لمجتمعنا، نحن لا نعاني من الجريمة فقط، بل نحن نعاني أكثر، من روتينيتها، ومن مدى نفوذها في مناحي الحياة المجتمعية. فتصبح الأتاوة (الخاوة)، جزءا من ممارسة يومية على جميع قطاعات حياتنا: على المحلات والمطاعم التجارية في الناصرة، ويصبح الحصول على قطعة سلاح أمرا طبيعيا، وتصبح الجريمة أمرا روتينيا، وتصبح علاقات بعض رؤساء السلطات المحلية مع عصابات الجريمة أمرا طبيعيا، ويصبح التخوف من نفوذ وتسلط عصابات الجريمة على كل مشروع أو مصلحة أمرا عاديا، فيتخوف البعض مثلا من سيطرة عصابات الجريمة في جلجولية على مشروع إسكاني جديد يتعلق ببناء 250 وحدة سكنية، عبر شراء قسائم البناء، وغيرها من المشاريع. ولا يبدو أن محاولاتنا في محاربة ذلك تلقى نجاحا، الأمر الذي يشير إلى واقع من فقدان السيطرة.

واقع فقدان السيطرة هذا يحول الغضب من غضب على المجرمين ودوائر العنف إلى غضب على القيادة، كما يحول هذا الغضب والشعور بالمرارة إلى حالة فقدان ثقة بالمجتمع ككل، وتؤدي حالة فقدان قدرة المجتمع على احتضان الفرد وحمايته، إلى حالة تراخي الشعور بالانتماء وبالعلاقة الصحية بين الفرد ومجتمعه.

من هنا تكمن خطورة عدم التعامل الصحيح مع هذه القضية، إلى إعادة تعريف للعلاقة بين المجتمع والفرد، وقد تساهم بشكل قوي في تقوية عصبيات عائلية أو طائفية أو حتى إجرامية كطرف يستدعى للحماية أو حتى للاحتضان المعنوي (العائلة أو الطائفة)، وذلك بخلاف معارك وقضايا لأخرى كالأرض والمسكن والعنصرية وغيرها.

إدراك التداعيات الاجتماعية الوطنية لقضية العنف، هو أمر غاية في الأهمية، لكن مسؤولية القيادة هي استيعاب دورها والاعتراف بمسؤوليتها عن حالة فقدان السيطرة هذه، وليس فقط إدراك التداعيات الاجتماعية للموضوع.

وهنا نرجع لبداية المقال، إن حالة فقدان السيطرة هذه، ليست حتمية، بل هي نتاج أداء سياسي أوصلنا لهذه النقطة. ولكي يكون هذا النقد وسيلة لتحسين الأداء، علينا ترتيب أوراقنا على النحو التالي:

- الوسيلة الأنجع لمحاربة الجريمة والعنف، هي الردع، وآلية الردع الأساسية، هي العقاب.

- المسؤول الأول عن ردع الجريمة (عقاب المجرمين)، هي الشرطة. ولا يمكن للمجتمع تطوير وسائل عقاب تصل لحد سلب حرية المجرمين وبناء السجون وجمع الأسلحة.

- الشرطة لن تقوم من تلقاء نفسها بمحاربة الجريمة في المجتمع العربي، فهي تجسيد للدولة، تريدنا شعبا مفككا وفي حالة اقتتال داخلي مستمر، وفي حالة استنزاف لطاقاته ولمعنوياته معا.

- ما يمكن الشرطة من حالة التسيب هذه، بل ومن تعاون ونسج علاقات وتفاهمات، مع عصابات الجريمة، هو تمكنها من الالتفاف على غضب الشارع وبعض القيادات، ونسج علاقات طيبة مع بعض رؤساء السلطات المحلية أنفسهم، منها تفاهمات حول "تبادل التغطية"، رئيس السلطة المحلية يغطي على قصور الشرطة، والشرطة بدورها تغطي على علاقات مشبوهة أو سلوكيات مشبوهة لرئيس السلطة المحلية، أو لغيره.

- استمرار رؤساء السلطات العربية باستقبال مديري محطات الشرطة والمفوض العام للشرطة، في جلسات لا تقدم بها الشرطة أي تعهد رسمي بتطبيق خطة عمل واضحة الأهداف، بل تهدف فقط لصيانة العلاقة، والخروج ببيانات وصور، توحي بوجود علاقات طبيعية وجيدة، بين مجتمعنا وبين الشرطة.

يدل ما تقدم، على أننا ما زلنا نتعثر حتى الآن في بلورة خطاب ونهج تعامل ملزم وموحد أمام الشرطة. خطورة هذا الموضوع، أنه لا يتعلق بتعثر يدور حول قضية العنف فقط، بل يتعثر بقضية أكبر من هذه، وهو قضية عدم وجود مرجعية سياسية وطنية موحدة أصلا، تقود مفاصل حرجة، وتفرض هيبتها الوطنية أمام كل من يخرج عن الصف.

ويدعونا ذلك إلى إدراك مدى أهمية أن نأخذ مفهوم "إعادة بناء لجنة المتابعة"، بجدية كاملة، وألا نتعامل معه كشعار "مهني" أو بيروقراطي أو إداري، إنما كشعار سياسي من الدرجة الأولى، وأولى مستحقات إعادة البناء هذه، تكمن في إنتاج هيبة وطنية تخرج عن قدرة كل تيار من التيارات السياسية الرئيسية لوحدها، الشيوعي والقومي والإسلامي. وهو شعار يفرض رؤية تتعدى التنسيق بين الأحزاب، وتتعدى حتى حاصل جمع الإرادات السياسية لهذه التيارات الثلاث.

إنتاج تلك الهيبة الوطنية العامة، التي تستطيع فرض خطاب ونهج تعامل موحد، على الأحزاب والسلطات المحلية والجمعيات والنشاطات السياسية والاجتماعية، وضرب المصداقية السياسية والأخلاقية، لكل من يخرج عن الصف، هو أمر حاسم في نجاحنا في التعامل ليس فقط مع قضية العنف والجريمة، بل مع جميع القضايا السياسية والاجتماعية الشائكة، وهو مؤشر لتعاملنا مع أنفسنا، ولتعامل الآخرين معنا، ككيان قومي متماسك.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط