الدولة الواحدة ليست مجرد فكرة

يتردد الكثيرون من المحللين في طرح مشروع الدولة الواحدة لعدة أسباب، منها الواقع الذي لا يبشر خيرا والضبابية في الطرح خوفا من ألا يُفهم أو أنه من الممكن ألا يندرج بين الحلول المقبولة ميدانيا لدى أوساط واسعة بين المركبين المركزيين في هذه البلاد.

لم يعد خفيا على أحد أن أوسلو فشل في طرحه وأنه أجهض العديد من الحلول والإمكانيات التي كانت من الممكن أن تمثل حلا جذريا للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ورغم كل ذلك إلا أن القيادة في حينه اكتفت بالشكليات واختارت أن تذهب إلى بوادر حل الدولتين في حين تستقل الدولة الفلسطينية تدريجيا، إلا أن واقع الحال آل دون حصول ذلك، بل على العكس، عقّد الأمور أكثر فأكثر، وها نحن اليوم نعيد الكرة ونعيش الاحتلال والاستعمار مرتين، تارة قبل أوسلو وتارة بعدها.

وبات واضحا أنه لا أسس ولا أدوات تذكر من التي ممكن أن تسعف الفلسطينيون في بناء دولتهم، لا بل على العكس، تحولت سلطة أوسلو اليوم إلى ذراع سلطوي إسرائيلي، ينفذ قرارات وتعليمات المؤسسة الاسرائيلية دون أدنى معارضة تذكر، والخنوع الفلسطيني بات واضحا وواقعا، كما ولا يجرؤ أحدا على المبادرة لتغيير واقع الحال.

إن الوضع الذي وصلت إليه السلطة الفلسطينية لا يبشر بالخير، حيث بات من يديرها أشخاص من أصحاب النفوذ المحدود، الضمان إسرائيليا. إضافة إلى أنه بات يتماهى بالمطلق مع سياسات المؤسسة الإسرائيلية لدرجة أن السلطة الفلسطينية باتت تجسد ذراعا أشد وطأة وقمعا من المؤسسة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، كما وأن هذا الوضع الأعوج يفي بغرض الإسرائيليين كحل مرحلي أو حتى دائم.

إن الجرأة المطلوبة لاتخاذ أي خطوة لتغيير واقع الحال أكثر بكثير من إمكانيات القيادات لدى الطرفين، خاصة في ظل الظروف والأساسات التي بنت عليها هذه القيادات سياستها ونهجها، ولم يعد من الممكن التعويل على هذه القيادة التقليدية التي لا تجرؤ حتى على التفكير خارج هذا المربع خوفا على مواقعهم.

إن التغيير آت لا محالة، ولكن المرجو أن نكون مهيئين ميدانيا وشعبيا لأي تغيير لاحتوائه ولإنجاحه، حيث لا يمكن أن نتوقع تغييرا في المنهج والسياسة في الوقت الذي يتمترس على رأس الهرم بعض الأشخاص والقيادات التي أبدعت في التصرف بما يتنافى مع الصالح الفلسطيني العام.

لا نقاش حول أن القيادات الحالية لا يعول عليها، لذا بات ضروريا إحداث تغييرات في مواقع القيادة ودمج فكر نير ومتقبل للتغييرات، ليس شرطا أن يكون شابا، بل شرطا أن يكون واقعيا ومتقبلا للحلول الأخرى التي تصب في نهاية المطاف في مصلحة كل من يسكن في هذه البلاد.

إن من بحث عن فلسطين لإقامة كيانا له منذ عشرات السنين، حمل مشروعا أو حجة وتمترس وتمسك بسمفونيته لحماية اليهود من خطر الهلاك خاصة بعد ما حدث لهم في أوروبا، احتل الصهاينة البلاد وأقاموا ما يدعى دولة إسرائيل على أرض فلسطينية حبلى بالفلسطينيين من شمالها إلى جنوبها، أقاموا كيانهم وهم على قناعة أن لا أحقية لأي شعب آخر على هذه الأرض غيرهم، وفي المقابل ناضل الفلسطينيون لعشرات السنين ضد الاحتلال والقمع.

في ظل الصراع طويل الأمد تجاهل الطرفان نشوء واقع جديد لا يمكن محوه أو تجاهله، فالفلسطينيين باقون لا محالة ويتطورون ويبنون مجتمعهم رغم القمع وشح الإمكانيات، وبعيدا عن مقدرات الدولة الإسرائيلية، ومن ناحية أخرى بدأت تنشأ بوادر مجتمع إسرائيلي له خاصيته، إلا أن القيادات حتى اللحظة رأت بهذه المجموعات أرقاما تساوم عليها لبناء مشروعها بعيدا عن واقع الحال ومتجاهلين احتياجات الناس الحقيقية الاقتصادية، الاجتماعية وغيرها من الاحتياجات التي تميز المجتمعات الواعدة المتحضرة.

لا أظن أنه ما زال هناك من يبحث عن رمي غيره بالبحر ولا أظن أنه ما زال من يبحث عن تهجير غيره إلى ما وراء البحار، فالواقع أقوى بكثير من أحلام البعض من قادتهم ورؤياهم النزقة ومشاريعهم المشؤومة، فبتنا اليوم مجتمعا متعدد الحضارات وصاحب امتيازات عديدة، إلا أنه رغم ذلك تتجاهل القيادة هذا الواقع وتجهر مرارا وتكرارا بالعديد من الحلول المؤقتة التي لا تغني ولا تسمن من جوع.

إن مشروع الغيتوات الذي تبنته المؤسسة الإسرائيلية والذي استقته من واقع أليم في أواسط المائة العشرين، بات خطرا محدقا ووجهته العبث، بعيدا عن واقع الشعوب المتحضرة والتي تنادي بحرية الشعوب والعيش بكرامة، حيث من ناحية لا يعقل أن يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في غيتو غزة دون أدنى متطلبات الحياة وبمحدودية تامة وتقييدات لم يعد لها وجود أصلا في أي بقعة بالعالم، ومن ناحية أخرى تقوم بالتغني ليل نهار بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

ولا يعقل أن يتعامل النظام الديمقراطي بانتقائية مع المواطنين على أسس اثنية عنصرية، ولا يعقل أن يتنصل نظام يدعي الديمقراطية من مسؤولياته اتجاه قطاعات واسعة في الضفة لمجرد أنه وضعهم خارج الجدار بعيدا عن مكاتبه ومؤسساته.

لم تعد الكذبة تصدق ولم يعد مكان لأي حجة مثل حجج صراع البقاء والحماية والوصاية. إن واقع الحال لا يبشر خيرا، وإن السياسات المتبناة اليوم تعقد الأمور أكثر وأكثر، لذا يجب العمل كل من مكانه خاصة لدى قطاعات الأكاديميين لدعم الفكرة والعمل على توسيع شبكة المنظرين والمبشرين لهذه الفكرة على أمل إخراجها إلى حيز التنفيذ ولو كان واقع الحال بعيدا كل البعد عن تنفيذها.

المشاريع بأغلبيتها بدأت بفكرة وأصبحت مع الوقت واقعا، وبما أن الواقع أعوج ولا بد من حل الدولة الواحدة مستقبلا، لا بد لنا من أن نكون مهيئين لأي تغيير من هذا القبيل، وهناك العديد من الشخصيات الأكاديمية والميدانية التي بدأت تجتمع لنشر وتبني فكرة الدولة الواحدة لأنها باتت الحل الأمثل في ظل الظروف التي وصلت إليها هذه البلاد.

نعم، إن الواقع لا يبشر خيرا ويبدو وكأنه لا يمكن إحداث تغيير خاصة في ظل تمترس حكومات اليمين على رأيهم وتبنيهم سياسة التفريق والتحريض، إلا أنه بات من الضروري العمل بجدية مع قطاعات اليسار من كلا الطرفين، وتبني فكرة الدولة الواحدة والتي وإن اجتهدنا بالتبشير بها على أوسع نطاق ستكون حلا مثاليا خاصة وأن التخبط الذي تتميز به سياسات الحكومات المتعاقبة والتي لا تتعامل مع الواقع بجدية بل تكتفي بالشكليات لإشباع رغبات بعض القطاعات.

لا يعول على القيادات الحالية، لذا لا بد من أن تنشأ الفكرة من الميدان، في الشارع، الجامعات، الأحزاب، الحركات السياسية وغيرها من المجموعات، وفي الوقت الذي يبرز فيه المشروع بين القطاعات المختلفة، لا بد لمن تمترس لسنوات على رأيه ومشروعه، أن يتنحى جانبا ويفسح المجال لفكرة تعمل على احترام المواطن كإنسان له حقوقه الطبيعية والسياسية بعيدا عن التشبث بنهج أثبت فشله.

مر على مفاوضات أوسلو أكثر من ربع قرن، واجتهد من اجتهد للوصول إلى ما وصلوا إليه، وما زالت الدولة الفلسطينية متطايرة في الهواء، لا بل أكثر من ذلك، قامت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بعد فصل الضفة والقطاع عن مناطق الـ48 بفصل غزة عن الضفة، وتدار الأمور إلى يومنا هذا بصورة عشوائية بعيدة كل البعد عن واقع الدول المتحضرة التي تدعي الحياة بحرية وديمقراطية.

فليستيقظ من كان في سبات للحيلولة دون أن تسوء الأمور لأكثر من ذلك وكي لا تصل الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، وليتجند كل من يرى بالفكرة أملا وليبادر كل من مكانه على أمل أن نبني دولة حقيقية يعيش الإنسان بها بحرية، ديمقراطية وكرامة.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط