تأملات من خارج أقفاص الفكر والعصبيات

 

بنظري، إن اختزال اتجاهات العمل السياسي عندنا بثلاثة تيارات رئيسية، هي الشيوعي والقومي والإسلامي، قد بات توصيفا مستهلكا ومفارقا للحقائق الميدانية، ولم يعد مقبولا بالمجمل ولا بالتفصيل، وذلك لما ينطوي عليه من تمويه وتسطيح لمعنى ووظيفة المرجعيات الفكرية في الحياة الخاصة والحزبية والعامة.

فرغم أنه لم يتبق من الشيوعي سوى رزمة محفوظة غيبا من الشعارات، وهام القومي على وجهه وتقطعت به السبل، وزلزلت الأرض بالإسلامي وانسد الأفق... إلا أن قطاعا مهما في تلك الأحزاب والتشكيلات، ما زال يعيش حالة محزنة من الغفلة والإنكار الساذج، فنراه ممسكا بتلابيب تلك العناوين والتصنيفات كما حدد لها منذ النشأة الأولى، لا تزعجه ضوضاء الحقيقة في كهفه التنظيمي، ولا تجفله الوقائع والمعطيات المعاكسة في نومته الهانئة.

فضلا عن ذلك، فإن تلك التصنيفات المتخشبة تمارس خداعا سياسيا وأخلاقيا حينما تكاد تطابق خصائص وجنوح الفرد بهوية انتمائه، فتعمق الانقسام وتمنع التثاقف المنشود، وتحاصر محاولات الانفتاح والإصلاح والتغيير، مثلما توفر الحماية الفورية لأبنائها من المارقين وطنيا واجتماعيا، وتقوي شوكة التوجهات العدمية والمتصهينة في الحيز النقيض، وبالتالي تسهم في تشويه وتشتيت عملية تركيم العقل الجمعي وتشكيل المخيال المجتمعي ورموزه الموحدة.

تعيدني هذه الصورة العبثية لحالة ثقافية علمية كانت مهيمنة على عقول علماء الطب العربي الإسلامي، بعد أن تبنوا النظرية الطبية اليونانية التي تعتمد مقولة الأخلاط الأربعة والتوازن فيما بينها أساسا لفهم كافة اشتقاقات الأمراض وعلاجاتها. وقد شكلت هذه النظرية أيضا القاموس المصطلحي العلمي في تلك الأزمان، والمنهج البحثي الصارم لاكتشاف أدوية وعقاقير متجددة لمكافحة الأسقام المختلفة ومنع انتشارها.

وكشأن أية نظرية وصفية، فقد تحولت لاحقا إلى حاجز معرفي خطير أمام تطور الطب في تحقيق فتوحات علمية كبرى، وكانت على مرمى حجر من التحقق، لولا تلك الهالة التقديسية التي أحيطت بها. مع ذلك، ورغم أن أهم المساهمات الطبية جاءت فعليا من خارج حدود هذه النظرية، فقد ظل آباء الطب والصيدلة وقتها يتناقلونها بإذعان، حتى ولو من باب رفع العتب وطلبا في إضفاء الهيبة العلمية، وهم يدركون تماما بواطن ضعفها وتهالكها.

وعودة بنا لموضوعنا الأساس، فنتساءل بكثير التعجب: ما فائدة تلك المسميات الفكرية واليافطات السياسية المزركشة إذا كان أصحابها أنفسهم هم أول من يخالفها في الممارسة والتثقيف والقدوة؟ وما نفعها إن لم تكن صادقة وقادرة على تقديم تصورات عقلانية جاذبة ومنسجمة مع قواعد ثقافتنا المحورية، ومفيدة في اجتراح الحلول الجدية لمحنتنا واحتياجات الناس، وضامنة لحماية وعي أجيالنا الصاعدة؟! لماذا لا نعترف جميعا بحقيقة تآكل مرجعياتنا الفكرية وانحباس فعاليتها، كي نسعى موحدين في تحديد الأهم والأحوج لنا كمجتمع، وتطوير المشاريع الملائمة والمؤثرة، بدلا من المكابرة العمياء والتناطح الأرعن؟

هذا الوضع البائس ما زال يفتك بكل مساحة خضراء، رغم أن جميعنا يدري أن الفكر وبما يعبر عنه الخطاب، ليس حقيقة مطلقة وثابتة حتى يحظى بشرف إقامة حلقات الذكر الصوفية والتبجيل الأعمى. وعلى ذكر الحلقات الصوفية، فإن جلال الدين الرومي نفسه يصف الكلام 'بظل الحقيقة وذريعتها'... و'الكلام' المقصود، وبلغتنا المعاصرة، هو الخطاب والنتاج الفكري والمناقشة. فإذا كان للحقيقة ظل، فذاك معناه أن الحقيقة ليست منيرة ومضيئة بذاتها.

ما قصده الحكيم المتصوف ولم يقله صراحة، هو أن الحقيقة تصبح ذات معنى وفعالية نسبية حينما ندركها ونعبر عنها كلاميا، فيما يبقى كلامنا يقارب الحقيقة ولا يطابقها، وأنها، أي الحقيقة، لا تدرك إلا بانكشافها لنور المعرفة حتى يصبح لها ظل هو كلام نتداوله في مجالس الثقافة والسياسة ودهاليز الحياة. كذلك هي الأفكار، فحينما تخرج من محبسها العقلي إلى نور الحياة الواقعية، وتجد من يحتضنها ويتبناها، ربما تتمرد بدورها على صاحبها وتتنكر لأفضاله، فتبحث عما يشاطرها المعنى والدلالة، وقد تجتمع بدلالة جديدة تختلف تماما عن بداية ولادتها.

هذا هو تحديدا ما يخشاه أصحاب اليافطات الأيديولوجية، وبالذات بعد ملاحظتهم للنتائج المترتبة عن تهاوي المرجعيات الفكرية التقليدية، وما استولدته من تذبذبات عنيفة في سلوك الأحزاب وطبيعة خطابها، حيث انعكس بوضوح في تميع وتشتت مساراتها وخياراتها، وضمور قيمها ولحمتها وحضورها الشعبي، وتشوش هويتها الفكرية، مترافقا مع انحسار في منسوب العصبية الحزبية حتى بين أبناء ذات الإطار.

تلك التطورات فتحت المجال واسعا أمام نشوء تقاطعات في المواقف والرؤى فضلا عن تقاربات شخصية، كانت تبدو مستحيلة في السابق، بين أفراد وقطاعات عابرة للأطر والتشكيلات، فيما بدأت الأحزاب والحركات تتشظى لأحياز متخالفة، وتحولت مرتعا خصبا للجمعيات ومواقع للنفوذ والمصالح والنجومية، يكاد الفكر فيها يجرد من قيمته، والأفراد من هويتهم السياسية.

ليس من قبيل المصادفة أن يكون المتعلقون الأشداء بحبال إعادة صيانة وتلميع اليافطات الحزبية المهترئة، هم الأكثر صدامية مع 'الآخر'، وكذلك مع الوافد الثقافي الجديد في بيتهم الحزبي، والأعلى صوتا وجعجعة والأقل إنتاجا وطحنا، والأهم هو انتظامهم في خيط أصولي طفولي مشترك، يكاد يربط أرجل أصحاب هذه العقلية المستغلقة في كافة الأحزاب. لا غرابة في هذا التحديد الذي أقدمه هنا، لأن اليسارية الطفولية في الفكر الماركسي، والعلمانية الأصولية في الفضاء القومي تمثلان الحالة المرادفة للسلفية النصية في الفكر الإسلامي، من حيث أنها جميعا تتعاطى مع النصوص المؤسسة ودلالاتها بمستوى منطوقها الحرفي، وبعيدا عن حركة الواقع وتبدلاته وغناه.

ما أسوقه لكم ليس رثاء للعمل الحزبي المنظم، أو وداعا لحبيب قضى نحبه... بل هو دعوة إلى استدراك القادم الخطير، واستباق آثاره التدميرية عبر الهجران الواثق، بل الطلاق بالثلاثة، لأنماط التعامل السائدة، وإعادة ترتيب أولوياتنا، بحيث يكون في صلبه مهمة تثبيت الرموز الوطنية الجامعة وتحصين مجتمعنا، والناشئة منه على وجه الخصوص، من أعراض العدمية القومية المتفشية وفقدان البوصلة الموجهة... وهذا هو الامتحان الأعظم لصدق النوايا وجدارة القيادة.

لم يترك لنا الراهن العربي البائس والمتهالك وتبدد مشروع النهضة، أي مجال للترف الكلامي، وصار يلقي بأبنائنا إلى مدارك اليأس والتطرف والضياع، وغالبا ما يدفع ببعضهم لتبني نظرة دونية تجاه أمتهم وأنفسهم، حيث يعبرون عن ذلك بازدراء مأساوي لتاريخهم وثقافتهم... وصولا لاتهام العقل العربي ذاته بالقصور المعرفي، بل وباشتماله بنيويا على طبيعة بدائية متوحشة عصية على التمدن والانفتاح والتجدد.

كذلك، علينا ألا ننسى أن التغيير المجتمعي، بوجه عام، وبناء العقل الجمعي الواعي، بوجه خاص، هي عملية تراكمية مضنية، وتبدأ بقبول شرعية وضرورة الرأي والحضور الآخر، بل واعتبار مساهمة تيار المتخالفين معك جزءا هاما من الإرث المجتمعي الشامل الذي يحيا به الناس، وتتغذى منه عملية انبناء المتخيل المشترك وخلق الرموز والقدوة.

بكلمات أخرى، هو عقلنة صراع الرؤى والآراء، وانضوائه تحت سقف المصلحة الوطنية العليا وتحريكه وفقا لقاعدة الوحدة والصراع، لا أن تصبح مهمتنا تحطيم المتخالف والقضاء المبرم عليه، واستبعاد إنجازاته من دوائر الشرعية في مسيرة نفي مطلقة تحرق الأخضر واليابس. هذا ما حصل على طول تاريخ الأمة بعد التأسيس، من خلال اعتماد نهج اغتيال القدوة ومنع عملية تراكم الإنجازات، وهو ما نشهده اليوم في كل الساحات.

وأخيرا أقول: عندما كتب أمير الثقافة الفلسطينية المقاومة، الشهيد غسان كنفاني، دراسته الشهيرة حول الشهيد الرمز عز الدين القسام، فقد كان بلا ريب، عارفا بكافة جوانب الضعف التنظيمي والعسكري والفكري التي اعترت التجربة القسامية الثورية برمتها، بل ودون أن تقفز حتى عن شخصه ورفاقه الأحرار الميامين .... لكن عين غسان البانورامية الثاقبة، وكدأب النسور المتيقظة في عليائها، التقطت الجوهرة الأهم في هذا الكنز الوطني الملهم، وأعرضت عن الانشغال بالتفاصيل التي يعشقها الثوريون الطفوليون (وما أكثرهم اليوم بيننا)، فأحسن في تمجيد مناقب تلك التجربة وإعلاء شأن قائدها، بعيدا عن ثرثرة بعض المثقفين المفتونين بذكائهم وقوالبهم المطهرة، مدفوعا بوعي وطني حكيم للمساهمة في تثبيته رمزا وطنيا جامعا، وقدوة نضالية عظيمة الفعالية لشعب كامل في نضاله الباسل في وجه الاحتلال والمستعمرين. هكذا يتصرف المناضلون والمثقفون الحقيقيون الذين يقبضون بقوة على العصب الأخطر في عملية خلق وتمجيد رموزهم الوطنية الجامعة، وتنشئة أجيالهم المتعاقبة على احترام وتقدير إرثهم الكفاحي وفرسانه... وهذا حصرا هو المطلوب.

 


تصميم وبرمجة: باسل شليوط