تجديدنا نحن في وجه الاستعمار المتجدد

 

عندما نطرح مسألة التحرر الوطني فلسطينيًا للتطبيق، فلا ينبغي أن تُعامل بمفهوم قومي ضيق، أي اختصارها بطرد الغرباء نقطة وانتهى؛ ولا بمفهومٍ دينيّ ضيّق، وكأنها إنهاءٌ لسيطرة الفكر الديني وأفراده على المجتمع والإنسان؛ ولا حصرها بتخريجة اشتراكية ضيقة، تنادي بالقضاء على الرأسمالية والاضطهاد الطبقي بكافة أشكالهما.

إنّ صيرورة التاريخ تؤكد غير ذلك، بل وتنفيه، وتجزم بجدلية العلاقة بين المحاور الثلاثة: فحركة التحرّر لا يمكن أن تُقولَب في قوالب متباعدة ومراحل منفصلة، كما أن وزنَ الأشياء وضرورات كل مرحلةٍ يفرضون أنفسَهم. ولعل معضلة حركة التحرر الوطني الفلسطينية تنبع من سياق كينونتها أولًا، وأهدافها وهويتها التي تشكلت نقيضًا للاستعمار الصهيونيّ في فلسطين ليس إلا، فيما كلٌ يضيف إليهما -الأهداف والهوية - كيفما يشاء وعلى هواه.

يتحتم علينا في هذه المرحلة التاريخية تحديد نظريتنا الثورية في وجه الاستعمار المتجدد، لا أن نبقى ساكنين. إنّ النظريّة الثورية ليست بحاجة إلى برهنة تاريخية، فهي ماثلة للعيان وما علينا سوى استنباط خصائصها المحلية والتعاطي المنهجي والإبداعي نحو تنظيم أركان الطبقة المضطهدة كي تستكمل صراعها في وجه الاستعمار وأذرعه، الناعمة والخشنة، ومن ثم انعطافة التاريخ نفسه. إنّ الواقع يحتاج وضوحًا ومزيدًا من الوضوح حتى تكتمل ركائز نظرية تغييره، بينما في الحالة الفلسطينيّة فقد كان الأمر معكوسًا -أو مشوشا، بمعنى أن الواقع هو ما فرض نظرية النضال وحاصرها، وكانت ظروف كل مرحلة تضع قيودها على عقلية القيادة الفلسطينية، وكان التراجع والانكفاء هو التكتيك الذي بات إستراتيجية حتى ولدت اتفاقية أوسلو كحالة إجهاض لنضال الشعب الفلسطيني. ولا أقصد هنا أن النظرية الثورية يجب أن تأتي من خارج الواقع، إذ في هذه الحالة ستصطدم به وتتحطم، بل أقصد أن الطبقة الثورية لا يمكن أن تخوض صراعها وهي خاضعة لشروط القوى المسيطرة عليها، أو قل إنّ القوى الثورية تقوم بفعل تاريخي حين تكسر قيود واقعها، تماما كما يقول أحد الحكماء: "علينا أن نخرج رؤوسنا من الواقع لا أن نخرج الواقع من رؤوسنا".

لو نظرنا إلى الاستعمار الصهيوني لوجدناه منطويا على فكرة شاملة لكل الخصائص والمقومات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية لترجمة مشروع الدولة العبرية، أمّا فكرة الدولة الفلسطينية فإن طابخيها عزلوا وعيهم ومصالحهم عن جوهر المجتمع الفلسطيني وحقوقه، فكانت (الفكرة) أول ضربة فعليّة لثوابتنا الوطنية التي أساسها اللاجئون الفلسطينيون، والحق في تقرير المصير دون خصخصة المصلحة الوطنية العامة لفئة محددة بعينها، ولعل ما مهد لهذا هو نهج القيادة المتنفذة في منظمة التحرير فيما حجر أساسه الفردانية.

لقد تم على مر عقود الصراع عزل القوى الشعبية عن دورها التاريخي، فوضعت بمحل الإسناد للقيادة البرجوازية/ المتنفذة، وهذا ما يسمى بـ"الذيليّة"، فقد كانت البنية التحتية مجرد تابع ميكانيكي غير فعال للبنية الفوقية - في الهرم السياسي والاجتماعي الفلسطيني - بمعنى أن الجماهير لاءمت نفسها لخطاب القيادة، وفي هذا غلطٌ وخلطٌ وعكسٌ للأمور. وكنتاج طبيعي لهذا شُرذم مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، بينما ألقيت مسؤولية تصحيح المسار على عاتقنا نحن، الذين نصطدم يوميا بإفرازات المرحلة السابقة... وإزاء كل ذلك ما العمل؟ خاصة وأننا نعيش اليوم مرحلة ما بعد موت نهج المفاوضات رسميا، فهل ولدت الثورة من جديد؟ أم أن هذا فصلًا آخر في استمرار نحرها بسكين سلطة أوسلو وأصحاب القرار الفلسطيني المرتبطين عضويًا بالاستعمار، والمستفيدين منه بطبيعة الحال، حتى بات ضربهم ضربا للاستعمار نفسه؟

إنّ نظريّة التحالف والصراع التي أطلقتها قوى اليسار الفلسطينية لا تنطبق على راهننا، من حيث المبدأ، ومن وجهة نظري على الأقل، إذ لكل مرحلة محدوديتها الفكرية وأدواتها النضالية وتكتيكها الخاص. فقد قامت تراكمات الصراع الفلسطيني الصهيوني بتشكيل حالة جديدة في المجتمع الفلسطيني. بمعنى أن الشعب الفلسطيني عندما انتكب عام 1948 أصبح يشكل طبقة مضطهدة وحالة شعبية ثائرة، حيث هُجرت كافة مركبات المجتمع الفلسطيني الطبقية. وفي العقود الأخيرة، تشكلت طبقة، أو فئة، في المجتمع الفلسطيني تسعى لتعميم وعي انهزامي جديد يفضي إلى الشلل. هذه الطبقة التي ساهم في خلقها الاستعمار هي التي يجب أن ينفجر في وجهها مشروع التحرر الفلسطيني الجديد، فالطريق إلى القدس بات واضحا أن أحد محطاته مقر سلطة أوسلو، ولا رجعة عن هذا.

عندما نتحدث عن التجديد، فلا يمكن تجاهل ذاك الهوس الديني وما يرافقه من موجات هستيرية شعبوية والتي أضاعت من جهد ووقت حركة التحرر بما فيه الكفاية. إننا نريد الثورة لأننا بحاجتها، ولسنا بحاجة إلى فتوى دينية كي نشرعن الثورة، بمعنى أننا لا ننتظر شرعية دينية لحركة التحرر كمبرر لوجودها، بل انخراط التيار الديني رافدًا مساهمًا لا محتكرًا. ولعل التفكير الديني قد ساعد القوى البرجوازية والرجعية في مدّ جسور "الهوى" - عبر المنابر خاصّةَ - نحو الطبقة العاملة، المضطهدة على كافة الأصعدة ومن كل الأطراف والمحاور، بهدف استمالتها وتخديرها وإبعادها عن منابع وعيها الطبقي، كما مد جسور النار للفئات الثائرة. فقد تم عرض وتناول النظام الاشتراكي والبعثي والدكتاتوري والسعوديّ والملكي والطائفي وهلم جرّا بمفاهيمَ وأدواتٍ دينيةٍ مشوهة، وبالذات في خضم تعاظم حركة التحرر الوطنية العربية بشكل عام، التي كان لها أثر جسيم على النضال ضد الاستعمار الصهيوني الإحلالي في فلسطين.

مراجعة أثر الفكر الديني على حركة التحرر الفلسطينية، خاصة بعد علو شأن الحركات الأصولية الإسلامية وانحسار حضور قوى اليسار الثورية، سنجد أثره ماثلًا في تشويشٍ لحقيقة الصراع الفلسطيني الصهيوني، واختصاره في المسجد الأقصى المبارك مثلا، أو كأن الصراع قائم بين اليهودي والمسلم، أو مقولة "الإسلام هو الحل" وفي هذا انحراف خطير يهدف أصحابه إلى استثمار سياسي بحت لقضية وطنية جامعة. لقد تحولت ساحات المسجد الأقصى إلى مكان اجتماعي تربوي نفرض من خلاله إرادتنا الفلسطينية في وجه عنجهية الاستعمار، وليس هو الإرادة ذاتها. وإن الحل يكمن في تبني مشروع تحرر فلسطيني يشمل أبناء الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجدهم. هذا لو أردنا الرد على الجملة بمثلها، لكن الرد طويلٌ وطائلٌ ومطولٌ.

لعلنا اليوم نستطيع القول، وبعد معاينة الممارسات السياسية للمجتمعات الإسلامية في مسيرة نضالها ضد قوى الاستعمار، إن تجاهلا في العلاقة المتبناة بين الفكر المتبنى من جهةٍ، وبين الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة من جهة أخرى يدور في عقل المسلم، أو لنقل إنه يقلبه. ذلك لأن الفكر ليس مستقلا ولا يسبح في فراغ موهوم فوق الواقع والتاريخ، بل إنّه مُشكل عبر هذه الظروف الاجتماعية والصراع السياسي بالذات. إن جوهر مشكلة الممارسة الدينية السياسية هي التركيب الميكانيكي لثوابت دينية على الممارسة السياسية ذاتها، الأمر الذي يحول دون فهم طبيعة الصراع القائم، بل ويمنع دراسته بعناية موضوعية، خاصة وأن الفكر الديني، بطبيعة الحال، يخضع كل ظاهرة إلى مرجعية دينية شمولية.

هذه الممارسة السياسية للإسلام تمثل تجاوبا مع تضليل الأيديولوجيا الاستعمارية الذي يهدف إلى تضليل القوى الثورية وحيلولتها دون فهم حقيقة الصراع القائم وتحليله تحليلا علميا لمواجهته مواجهة ثورية.

كما قلنا إن الحركات الإسلامية – الأصولية، خاضعة لتضليل السيطرة الاستعمارية، ومن جهة أخرى، فإنها في ممارستها السياسية الذاتية تماثِل الاستعمار كطرف مجابه له في بنية واحدة، بمعنى أن الإسلامَ السياسي يطمح لاحتلال مكان الاستعمار كقوة مسيطرة وليس إلغاء سيطرته، وفي هذا ضرب لضرورة وجود أي حركة التحرر.

في حديث آينشتاين عن الجنون قال: الجنون هو إعادة تكرير التجربة مرة أخرى بذات الأدوات والظروف وانتظار نتائج مختلفة. وفي حديث غسان كنفاني عن الظروف قال: إذا كانت الظروف هي التي تصنع الإنسان فعلى الإنسان أن يصنع ظروفا ملائمة له. ولو أردنا أن نصنع ظروفنا الخاصة علينا أولًا، أن نشخص الظروف الحالية وخصائصها بعمق. ولعلنا نستطيع أن نقول إن عقود الانبطاح والمفاوضات كانت، بمفهوم ثوري، فترة قد قامت بدور التمهيد، في اللاوعي، للجزم "بأن ولادة التاريخ لما يحمل في أحشائه من جديد لا تتم بلا ألم وبشكل طبيعي، بل بالقوة كانت وتكون، هذه القوة السياسة هي العنف الثوري" بتعبير مهدي عامل، بمعنى أنها قامت بدور مزدوج في محاولة لضرب الثورة ومن ثم إحيائها دون قصد، وأعتقد أن الشعب الفلسطيني شخّص هذا، إذا استثنينا قياداته المتنفذة، بشكل صحيح.

لقد عرضت في مقالتي هذه العديد من الأمور التي تناولتها الكتب والأبحاث، حول حركة التحرر ومبرر وجودها، ومن هنا وجب القول والتنويه، إن التجديد يعترف بالتجارب السابقة ويستفيد من خطأها وصوابها، كما يدرك دور الإطار الزماني المحدد لأدوات النضال وينفض الغبار عما أكله الدهر وشرب عليه. ولمزيد من التوضيح، فلا بد من التأكيد أنني لا أضرب عرض الحائط حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، أو تفكير المجتمع الفلسطيني المرتبط بتراثه، بل أحاول أن أضع ما ذُكر في سياقه الصحيح، نحو تجديد وتطوير للنهج النضالي الفلسطيني.

 


تصميم وبرمجة: باسل شليوط