عن مقاطعة الكنيست والقائمة المشتركة والدولة الواحدة


أثار إعلاني عن موقفي الشخصي بعدم المشاركة في التصويت في الحملة الانتخابية القادمة للكنيست، ردود فعل مختلفة ومتباينة، تراوحت بين عدم الارتياح، والاستغراب، والتأييد. وقد جاء توقيت هذا الإعلان، بتاريخ 21 شباط/ فبراير الماضي، عبر صفحتي الشخصية على موقع فيسبوك، على أثر تزايد الحديث عن احتمالات تبكير الانتخابات على خلفيه تكاثر الدلائل على تورط رئيس حكومة الأبارتهايد الكولونيالي، بنيامين نتانياهو، بالفساد.

وطالبني العديد من الأصدقاء والمواطنين وبعض الأكاديميين بتوضيح خلفيه هذا الموقف وشرح حيثياته، ودوافعه وغاياته، لإزالة ما قد ينجم عنه من لبسٍ، وتساؤل.

وكان الصحفي البارز، جاكي خوري، في وقت سابق، وعلى هامش النشاط التضامني الذي نظمه التجمع الوطني مع المناضل والقيادي باسل غطاس عشيه دخوله السجن الصيف الماضي، بادرني بالسؤال، مستهجناً، عن تصاعد انتقادي لوضع القائمة المشتركة، وللجنه المتابعة، بعد استقالتي من رئاسة الحزب، وبعد تجميد نشاطي في سكرتاريا لجنه المتابعة. وفوجئت أنه يجهل، أو ربما يتجاهل، موقفي التاريخي من مسألة الكنيست والدولة الواحدة، وعن ضرورة مأسسة لجنه المتابعة، وأنني كنت أكتب بهذه الروح طيلة الوقت حتى أثناء إشغالي الأمانة العامة لحزب التجمع منذ أواخر التسعينات.

أما مؤخراً، وفور ظهور الموقف على صفحتي، فقد أرسل السيد أيمن عودة، المرشح الأول في القائمة المشتركة، رسالةً، الى مركبات القائمة لمناقشة ما كتبتُه عن مقاطعتي الشخصية لانتخابات الكنيست معرباً فيه عن قلقه، وربما خوفه من ان يتحول الى دعوة للمقاطعة الشاملة، مع أني أكّدتُ أن هذا الموقف ليس دعوة للمقاطعة (حتى الآن)، لاعتقادي أن قرار المقاطعة الشاملة يحتاج الى دراسة داخلية، داخل الحزب، وداخل سائر المؤسسات الوطنية.

ويعلم أيضًا، النائب أيمن عودة، احتفاظي بخيار الدولة الديمقراطية الواحدة، دون أن يشكل ذلك تصادماً مع البرنامج الرسمي لحزب التجمع الذي يدعو الى تفكيك البنية الصهيونية لإسرائيل، كشرط لتحقيق المساواة لكن دون الدعوة الى حل الدولة الواحدة.

وخطاب التجمع متقدمٌ عن برامج الأحزاب الأخرى، ولكن تطويره نحو خيار الدولة الواحدة، صراحة، بات مطلوباً في ظل التحولات السياسية والديمغرافية، وفي ظل سقوط وهم حل الدولتين، وفي ظل الحاجة القصوى الى وحده الشعب الفلسطيني أينما تواجد، وحشد طاقاته حول رؤية واحدة، وإذا ما تم التوصل الى قناعة بإعلان تبني هذا الخيار، فستكون المقاطعة تحصيلا حاصل.

وقبل ان أخوض بشرح الخلفيات والغايات، لا بد من التأكيد على أن المسألة ليست شخصيه، فالموضوع هو قضيه مصيرنا في وطننا، و حقوقنا الراسخة فيه، وماهية دورنا السياسي والوطني كجماعةٍ وطنيه في تطوير عمليه بقائنا، وكيفية إنقاذ، والحفاظ على الانجازات الثقافية والسياسية والتعليمية والوطنية التي حققها شعبنا، في وطنه، والتي تتعرض للتهديد بتقويضها من قبل نظام الأبارتهايد، وبسبب الوهن الداخلي.

الموضوع هو كيف نحمي هذه الانجازات، كيف نحمي شعبنا في وطنه، كيف نحمي شبابنا، أبناءنا وبناتنا، هذه الأجيال الشابة التي تنمو عددًا، وتزداد تعليمًا، في ظل تفاقم النزعة العدوانية الصهيونية، ومع زيادة البطالة والفقر والعنف والجريمة. وكيف نوفر لهذه الأجيال المثال الذي من المفروض أن يكون مُلهمًا لطريقٍ يقود إلى المعنى، وإلى تحقيق طموحاتها. وكيف نفرمل صيرورة تفتت المجتمع الى أفراد، تستحوذ عليهم النزعة الفردانية المنعزلة عن مصالح المجموعة، مع وقوع أوساط واسعه منهم في فخ الحمائلية، والتعصب الديني، وضعف الانتماء الوطني، والذي يُسّهل الانخراط في "الخدمة الوطنية الإسرائيلية (المدنية)"، وأسرلة الأجيال الشابة.

إننا جميعًا، شعبًا، وأحزابًا، وفصائل، ومؤسسات تمثيلية، نعيش مرحلة خطيرة، قد تكون من أشد المراحل خطورةً على الإطلاق، في ظل تغوّل نظام الأبارتهايد الإسرائيلي الكولونيالي ضدنا، في الجليل، والناصرة وحيفا والطيبة والنقب، وفي القدس ومخيمات وبلدات الضفة الغربية، وفي مخيمات ومدن قطاع غزه المحاصر والمجوّع، وأهلنا في مخيمات اللجوء في المحيط العربي.

ويكتمل الخطر في ظل التحضيرات التي يقوم بها الحلف الإمبريالي الصهيوني والرجعي العربي بتصفية قضية فلسطين، وفي تفكك ما تبقى من المنظومة الأخلاقية العالمية، وفِي ظل السقوط الأخلاقي المدوي والإفلاس الكامل للنظام العربي الرسمي القاتل، الذي يتباهى بانتصاره على شعوبه، ويتهافت بعضه نحو التحالف مع نظام الأبارتهايد الاستعماري في فلسطين.

والكثيرون منا، بل أكثرنا، يعيشون حالة قلق كبير، بسبب ما يمكن أن يجري من ترجمة لهذه المخاطر دون ظهور بدائل عملية، واستراتيجيات كفاحية، ومبادرات وحدوية حقيقية للتصدي لها.

خلفية تاريخية، ووقائع راهنة، وآفاق مستقبلية

أحاول أن أحدد كل هذا في الشرح التالي على شكل نقاط:

أولًا: إن التجمع الوطني الديمقراطي (وعبر مركباته التنظيمية والفردية الأولى، وتحديدا حركة أبناء البلد، ميثاق المساواة، الحركة التقدمية، وحركات وطنية محلية ونشطاء أفراد)، هو الحزب الوحيد الذي ناقش مسألة المشاركة أو عدم المشاركة في انتخابات الكنيست، عند انطلاقه عام 1995، وقبل مشاركته في الانتخابات لأول مره عام 1996، كان هناك رأي يقول بضرورة أن يكون الجسم الوطني الجديد، حركة شعبية غير برلمانية، غير أن الانهيارات السياسية العالمية والعربية والفلسطينية، في أوائل التسعينات، وخصوصية موقع فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948، الذين نجوا من النكبة، ويعيشون تحت المواطنة الإسرائيلية، أملت علينا جميعًا حسم الأمر باتجاه المشاركة ولكن بشرطين:

الأول، المشاركة ببرنامج يتحدى البنية اليهودية الصهيونية والجوهر الكولونيالي للكيان الاسرائيلي. والثاني، أن يظل خيار المقاطعة مطروحا للمراجعة، إذا ما وصلنا يوما ما الى وضع تصبح فيه المشاركة عبئا على الحركة الوطنية، أو معيقة لتطورها نحو أفق وطني أوسع وأرحب. وكان هذا خلافا لنهج القوى التي كانت تخوض انتخابات الكنيست منذ النكبة، وقبل أن يجف دم الشهداء.

ثانيًاشخصيًا، كان موقفي ومازال، ومنذ اليوم الأول، عدم التنافس مطلقًا على عضوية الكنيست، إذ فضلت أن يكون دوري في الحزب الوطني الجديد، تنظيميًا وميدانيًا وكتابة وكان هذا الامتناع ينسجم مع قرار حركه أبناء البلد التي كانت شريكاً أساسياً في بناء حزب التجمع، وهي الحركة التي ثابرت على مقاطعة انتخابات الكنيست إلى أن تم تأسيس حزب التجمع، بعد اتفاق أوسلو، فانخرطت الحركة بكافة قياداتها وكوادرها في الحملة الانتخابية.

نعم لقد ساهمتُ بنشاط، إلى جانب رفاقي في الحملات الانتخابية لقناعتي أن تلك المرحلة كانت تقتضي ذلك. وقد خفف من شعوري بالتناقض الكامن في تمثيل الحزب في الكنيست، وأراحني، كما أراح جميع الرفاق، نجاح عزمي بشارة، أبرز مؤسسي الحزب، الذي كان الممثل الوحيد للحزب حتى عام ٢٠٠٣ (عندما زاد تمثيل الحزب في الكنيست الى ٣ أعضاء) في تحويل منبر الكنيست الى ساحة صراع أيدلوجي ضد الصهيونية، من خلال فضح بنيتها الداخلية المتناقضة مع الديمقراطية والقيم الإنسانية الكونية، مقدما بذلك، أيضا، مادة تعبوية لفلسطينيي الـ 48، تُعزز الاعتزاز بالانتماء الوطني والشعور بالتحدي. لكن حتى هذا لم يغير موقفي الشخصي.

في أوائل عام 2007، وقبل فتره وجيزة من مؤامرة المخابرات الإسرائيلية ضده، على خلفية اتهامه بالتعاون مع حزب الله اثناء الحرب، التي أدت به الى المنفى، جاء عزمي بشارة ليقدم استقالته من عضوية الكنيست الى المكتب السياسي، قائلا: لقد استنفذت دوري في الكنيست، وقد حان الوقت لأتفرغ أكثر للكتابة، وللعمل التنظيمي داخل الحزب، نقوي الفروع القائمة ونبني فروعا جديدة ونبني مؤسسات وطنية، وأضاف: ليأتي أحدكم مكاني.

وتحدث في حينه عن تزايد الحقد الصهيوني وتحوله الى أكثر شخصية عرضة للتحريض الحاقد في أوساط أعضاء الكنيست والوزراء والإعلام وغيرهم، موضحا استحالة تحقيق إضافات جديدة على اداء العرب في الكنيست. صحيح أنه لم يدع الى المقاطعة، وقال إنه يمكن القول إن ما تبقى من أهمية لوجودنا في هذا المنبر هو في كونه منبرا إعلاميا نوصل كلمتنا الى العالم، وكذلك الى شعبنا.

لكنه كان يُجسّد في خطوة الاستقالة هذه، وفِي قوله هذا، روح الحركة الوطنية الأولى التي أعدنا بناءها عام 1995. بكلمات أخرى، أعادت هذه الخطوة التأكيد على أن وجودنا في الكنيست هو المساهمة في بناء الحركة الوطنية الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وليس لنصبح مجرد أعضاء في كنيست إسرائيل ونكرر بعض سلبيات تجربة المخاتير منذ أيام السبعينات، بلباس عصري، أي دور الوسيط.

ثالثًا: منذ عام 2009 تصاعد النقاش داخل الحزب، حول جدوى التمثيل في الكنيست، خاصة بعد أن تكرر تعرّض الحزب عشية كل انتخابات لمحاولات شطب، والاضطرار للذهاب الى المحكمة لنظهر في حالة دفاع عن النفس، وظهرت آراء تقول بألا نلجأ الى المحكمة في المرة القادمة في حال صدور قرار آخر من لجنة الكنيست بشطب الحزب، فقد تحول حزب التجمع الى أكثر الأحزاب العربية، التي تخوض الانتخابات، كرهًا وملاحقةً من قبل المؤسسة الصهيونية، وتتواصل الحملة على الحزب وعلى نوابه في الكنيست بلا هوادة حتى اليوم، وملاحقة كوادره وشبيبته.

ومنذ هذه الفترة أيضًا، بدأنا بفتح نقاش خيار الدولة الديمقراطية الواحدة بين البحر والنهر، وكتبتُ ورقة مطولة للجنة المركزية بهذا الخصوص أواخر عام 2009، وحولت الورقة لاحقا الى كُتيب يصدر باسمي، وليس باسم الحزب، على أثر اقتراح جاء من عزمي بشارة.

لا شك أن هذه المعارك الأيدلوجية، والسياسية، سواء التي دارت داخل منبر الكنيست أو في أروقة المحاكم، التي كانت تبث مباشرة عبر الأثير وتصل الى كل بيت تقريبًا، ساهمت مساهمة كبيره في تعبئة الشارع وفي تطوير الثقافة السياسية عند جيل كامل، وأسقطت الكثير من الأوهام عن إمكانية تحقيق المساواة بدون التمسك بالهوية القومية، وبدون تفكيك البنية الصهيونية والكولونيالية للكيان الإسرائيلي، وتُرجمت هذه المعارك الى حراك ميداني، ومواجهات شعبية، في مواجهة هدم البيوت، ومصادرة الأرضي، والحروب الدموية على شعبنا الفلسطيني في الضفة والقطاع والقدس، وذلك حتى فترة قريبه، وتمارس قانونيون ومحامون عرب في هذه المعارك، واكتسبوا خبرات في المعارك القانونية والأيدلوجية ضد البنية القانونية التي تستند إليها الدولة اليهودية، ومحاكمها.

رابعًا: عشية انتخابات الكنيست عام 2013، وبعد أن فشلت محاولات إقامة قائمة مشتركة، بسبب رفض الجبهة – الحزب الشيوعي الأيدلوجي لفكرة الوحدة الانتخابية، كتبتُ مقالًا مطولًا، في صحيفة فصل المقال، وفِي موقع عرب 48، قلتُ فيه أنه لم يبق أمام فلسطينيي الداخل سوى خياران، الأول: خوض الانتخابات بقائمة مشتركة، والثاني: مقاطعة الكنيست.

وكتبتُ بوضوح تام، أنه كان علينا أن نخوض الانتخابات (لعام 2013)، بقائمة واحدة بمحض إرادتنا، وتعبيرًا عن خياراتنا الحرة والوطنية، لأننا في الانتخابات القادمة، وعلى ضوء النقاش داخل المؤسسة الإسرائيلية حول التوجه المؤكد لرفع نسبة الحسم، سنختار خوض الانتخابات بقائمة واحدة مرغمين.

يجب أن أشير إلى بعض ما حصل في جلسة حضرها ممثلو كل الأحزاب العربية، والتي عُقدت في مكتب النائب مسعود غنايم، في مدينة سخنين أوائل عام 2013، لبحث فكرة خوض الانتخابات بقائمة واحدة، حين خرج أيمن عودة غاضبًا من الجلسة، بعد ان اقترحتُ إصدار بيان يُظهر أن كل الأحزاب موافقة على القائمة المشتركة باستثناء الجبهة. كان هدفي من إصدار البيان الضغط على قياده الجبهة لتغير موقفها، وكنت أهدف أيضًا، إلى تعريف الناس، أن العقبة أمام خوض الانتخابات في قائمة واحدة، ليس سببه الصراع على المقاعد بين الأحزاب، بل بسبب موقف أيدلوجي لحزب واحد في الأساس.

نعم هذا موقفي آنذاك عام 2013، بأنه لن يبقى معنى لانتخابات الكنيست إلا إذا تم خوضها بقائمة مشتركة، لأن المصوتين العرب كانوا يتناقصون في كل انتخابات، وكان على الأحزاب مناشدة الناس، إلى حد الاستغاثة، للنزول إلى صناديق الاقتراع.

كان مطلب الوحدة مطلبا شعبيا، إذ كان الناس يحتاجون الى الشعور بالقوة، ولأن الوحدة تمنح المضطهدين الشعور بالقوة، والشعور بالأمل.

خامسًا: وبالفعل، وبعد سقوط الحكومة الاسرائيلية عام 2015، خاضت الأحزاب العربية الانتخابات بقائمه مشتركة لأول مرة في تاريخها بعد أن مرّ قرار رفع نسبه الحسم، وأجبر قرار المؤسسة الإسرائيلية هذا، قيادة الجبهة -الحزب الشيوعي، على قبول خوض الانتخابات بقائمة واحدة وأسقط محاولات الحركة العربية للتغيير، التملص من قبول الفكرة. ورغم المعاناة التي رافقت تشكيل القائمة، إلا أنها ظهرت كإنجاز سياسي مهم، وغير مسبوق مقابل الحالة العربية والفلسطينية الرثة والمتشظية. وساهم هذا الإنجاز في رفع معنويات الناس، متجاوزا تأثيره المعنوي، الحدود الجغرافية التي يعيش ضمنها فلسطينيو الـ 48.

وبالفعل ارتقت مكانة "المواطنين العرب في إسرائيل" عالميًا، وهذا الإنجاز لم يأتِ من فراغ ، إنما هو تتمة لنشاط متواصل على الحلبة الدولية، قام به نشطاء وطنيون متحدِّين القوالب الإسرائيلية منذ التسعينات. والحقيقة هي أن الدور الأهم والاكثر تأثيرا في نقل قضيتنا الى العالم، وتعريف الوطن العربي بواقعنا، يعود الى الهبة الشعبية البطولية العارمة في أكتوبر عام 2000، وإلى دماء الشهداء والجرحى. في الوقت ذاته ندرك أن هذا الاهتمام الجديد بفلسطيني الـ 48 يأتي في إطار النظرة الغربية الخاصة، الاستعمارية، إلى إسرائيل.

والمثير للسخرية أنه من أعاق إقامة القائمة ومأسسة المتابعة لأكثر من عشرين عامًا، ومن يهدد وجودها، يقولون إنهم "أبوها وامها"!!.

طبعا لا يصدق أحدٌ هؤلاء، والحقيقة أنه إذا كان هناك أب وأم، على المستوى الأيدلوجي، فإنه التجمع الوطني الديمقراطي ذا البرنامج القومي الداعي الى توحيد العرب قوميًا.

وبغض النظر عن كيفية النظر إلى أهداف هذه القائمة من قبل بعض مركباتها، إلا أن التجمع رأى فيها مقدمة لخطوة استراتيجية، تتمثل في البدء على التعوّد على العمل المشترك، والمضي نحو وحدة قومية تؤسس لمشروع وطني جامع للأقلية القومية الفلسطينية داخل الخط الاخضر، ويجري التعبير عن ذلك بمأسسة لجنة المتابعة العليا، وفِي صلبها إقامة الصندوق القومي .

سادسًا: القائمة المشتركة تمر في حالة تآكل، وهبوط في مكانتها الشعبية، وهو انحدار بدأ حقيقة قبل فضيحة التملص من تنفيذ التناوب، والسطو على مقعد التجمع، الذي عكس الهبوط الأخلاقي في سياسات الأحزاب العربية. بدأ هذا الانحدار في خطابها السياسي المتهافت منذ الأشهر الأولى، ومن ثم في الصراع الشخصي بين أيمن عودة وأحمد طيبي على النجومية، الذي وصل الى الإعلام، بما فيه الإعلام العبري (ريشت بيت كرست نصف ساعة عن هذا النزاع الشخصي). اما فضيحة نقض العهود من قبل العربية للتغيير ومن ثم الجبهة، فإنها بمثابة ضربة خنجرٍ في خاصرة القائمة، وضربة لمصداقية سياسات الأحزاب العربية، بعد أن كانت هذه السياسات قد بدأت تتعافى بعد النجاح في تشكيل القائمة المشتركة. إنني اسمح لنفسي بالقول إن هذا السلوك هو خيانة لمبدأ الشراكة، وتهتُّك قيمي، وسلوك صغار.

وقد كنت اقترحتُ على رفاقي في قيادة التجمع قبل أشهر، بسبب وصول الأمر الى هذا المنحدر، ونظراً للضرر الشعبي الخطير الناجم عن ذلك، الى الإعلان عن التخلي عن المقعد، وتحميل الآخرين مسئولية هدم المشتركة، والشروع بإعادة ترميم العلاقات الوطنية على أسس جديده، وإن كانت مهمةً ليست سهله.

وأقترحُ الآن، ان تُعاد الأموال التي سرقها الحزبان من حصة التجمع، وتبلغ أكثر من نصف مليون شاقل، (150 ألف دولار، وتوزع على مؤسسات خيرية في الداخل، أو في مدينة القدس المنكوبة، رغم حاجة الحزب لها). نحن نحتاج الى استعادة المصداقية الاخلاقية، أو ما تبقى منها في العمل السياسي الوطني. لأنه لا يجوز أن يوضع الجميع في سلة واحده من حيث المسئولية، إذ أن الناس العاديين ليس بوسعهم متابعة التفاصيل.

سابعًامنذ فتره يتدحرج دور المشتركة، من قائمة كان يفترض أنها قائمة سياسية وطنية توازن بين الهوية القومية والمواطنة، إلى دور يُوغل في مسارٍ ينزع السياسة عنها، عبر التكيّف مع شروط نظام الأبارتهايد في التعامل مع مطالب المواطنين العرب وتفادي مواجهة جوهر هذا النظام العنصري الكولونيالي، والميل المتزايد الى حصر هذه المواجهة في الخانة الاقتصادية، مثل الحصول على ميزانيات للسلطات المحلية وغيرها من المؤسسات، على حساب المطالب المتمثلة في حاجة المواطنين العرب للأرض، وانتزاع الحق في التخطيط الوطني، وبإقامة المؤسسات الثقافية والتعليمية الوطنية ، العليا، والتطوير الاقتصادي المستقل.

وتزداد خطورة هذا النهج على المدى البعيد، في ظل انكماش دور لجنة المتابعة العليا بصوره غير مسبوقة في مجال النضال الشعبي، وفي مجال التقدم في مجال المأسسة، وصولاً الى التكيّف مع قمع حركات سياسية كبيرة وزج قادتها في السجون دون سببٍ وجيه، والتسليم بنتائج هذا القمع الكارثية، والأخطر هو التواطؤ مع مهزلة العبث والمقامرة في مكانة ومصير القائمة المشتركة.

ثامنًا: نظرًا لكل ما سبق، أي الهبوط في مصداقية المشتركة، واختزال المشاركة في الكنيست إلى صراع على المقاعد في إطار لعبه إسرائيلية، وبسبب الانغماس المفرط في الكنيست، على حساب العمل الشعبي واستراتيجية البناء المطلوبة، وعلى حساب مهمة بناء المشروع الوطني الجامع المتمثل بمأسسة لجنة المتابعة، ونظرًا لعدم الاكتراث بواجب بناء استراتيجية كفاح شعبي متواصل ومنهجي ، تقوده لجان شعبية في كل قرية ومدينة، لمواجهة مخطط تدمير البيوت العربية وحصار الوجود العربي، وقضم ما تبقى من حقوق المواطنة، وحملات التحريض الدموي ، وإفقار الناس، وتفشي جرائم القتل، وقتل الأمل لدى الأجيال الشابة، وتصفية حركات سياسية كبيرة، ووضع قادتها في السجون. نظرًا لكل ما تقدم، فإني أعتقد، كما الكثيرون، أن الكنيست، باتت ساحة مستنفدة، ولا تهدم الأخلاق والقيم الوطنية الاصيلة فحسب، بل أيضاً تهدم أخلاق القائد الفرد الذي تآكلت مصداقيته.

وفِي ظل كل التشريعات العنصرية والمخططات العدوانية، وقضم ما تبقى من المواطنة الشكلية، بات الكثير من الناس ينظرون إلى المشاركة والتمثيل في الكنيست باعتبارها غطاءً لكل هذه السياسات الاجرامية، وكذلك وسيلة لهدم ما تبقى من قيم تضحوية، وتكافل جماعي. وأصبحنا نواجه أسئلة من نشطاء، ومناصري القضية الفلسطينية في الخارج الذين ينشطون في حركة المقاطعة، عن جدوى التواجد في كنيست لنظام أبارتهايد متوحش، لا يسرقنا يوميًا ويهمشنا فحسب، ولا يهدد مواطنتنا فحسب، بل أيضاً بات يُهدد وجودنا الفيزيائي عبر ممارسة الاستعمار الداخلي دون توقف.

تاسعًاإن موقفي الذي أعلنته، عن عدم مشاركتي في الانتخابات القادمة، ليس موقف حزب التجمع، وإن كانت وتيرة الشك والنقاش، في أوساط قواعد الحزب، حول جدوى المشاركة، تزداد. فقد أعلنت هذا الموقف بعد أن قدّمت استقالتي من المكتب السياسي واللجنة المركزية وإعفائي من المهمات القيادية، في الثامن من شهر شباط/ فبراير الماضي (وإن كان طلبي هذا لم يُبحث حتى الآن).

وكنت، قبل عامين، قد أعفيت نفسي، من الترشح للأمانة العامة، واستقلت من رئاسة الحزب في وقت حددته لنفسي عند انتخابي لهذا المنصب، انطلاقًا من إيماني بضرورة التجديد، وإتاحة الفرصة لوجوه جديدة، وخاصة الشابة منها، لتبوء المسئولية، مع مواصلة المساهمة في خدمة شعبي، في مجالات أخرى. وأنا أعتبر خطوتي هذه، أي إعفائي من المسئوليات الرسمية، تجسيدًا لمبدأ النقد الذاتي، وتحملي المسئولية، إلى جانب رفاقي، عن النجاحات والإخفاقات وانسجامًا مع ضرورة الصدق مع الذات، فإني لا أستطيع أن أنتقد الأحزاب الأخرى دون أن أمارس النقد على ذاتي، سواء كشخص، أو كحزب.

لكن، ورغم ما يمر به الحزب، من صعوبات وتحديات وحصار، فإن هذا الحزب يزخر في داخله بقوى شابة ومتجددة، بإمكانها أن تقدم مساهمة نوعية في مهمة تجديد الحركة الوطنية ومشروعها، إلى جانب الآلاف من طلائع الجيل الجديد غير المؤطر، والذي ينشط الكثير منه في مجالات الثقافة والأدب والأكاديميا والتعليم، في إطار عملية التحدي للواقع الصهيوني، وإفرازاته التدميرية، والانشغال في تقديم البدائل.

عاشرًا: أنا مشاركٌ (بحدود معينه)، ومساهمٌ، في حراك آخذٌ في التنامي، إلى جانب أفراد ومجموعات، تتبنى تفكيرا بديلا في مقاربة الواقع، باتجاه بلورة رؤية وطنية جامعة للكل الفلسطيني، يندرج في الجهود الجارية من تحت، اي من خارج البنى الرسمية والحزبية والفصائلية، للمساهمة في استرداد الرواية الفلسطينية الواحدة، وإعادة تشكيل خطاب وطني تحرري وديمقراطي يكون بمثابة الرؤية التي تلهم طلائع الجيل الشاب الحالي والقادم. ليست هذه الرؤية مقطوعة عن حزب التجمع، بل تصب في إطار الرؤية الوطنية الاستراتيجية الاصيلة لحزب التجمع الوطني.

هذا الحراك في مسارين لا بد ان يتكاملا، الاول، ولا يزال غير منظم، هو: الدفع باتجاه تبني خيار الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية، التي باتت كلها خاضعة لنظام أبارتهايد كولونيالي لا تنوي حكومته ونخبتها التنازل عن أي قسم منها، ولا تظهر لا في الأفق المنظور ولا المتوسط، أي نية لدى حكام نظام الأبارتهايد في التجاوب مع الحد الأدنى من الحقوق، وبالتالي يحتاج شعبنا لاستعادة أطروحته الأصيلة، وإلى لملمة شظايا روايته، والعمل على تحقيق الوصل بين تجمعاته الديمغرافية، وتبني استراتيجية صمود وبناء ذاتي، جماعي، وحمل خيار الدولة الواحدة في فلسطين التاريخية.

الثاني، وهو الدفع باتجاه تنظيم وتأطير كل الحراك الشعبي والأكاديمي والثقافي والفني والشبابي الجاري منذ سنوات في ساحات كل تجمعات الشعب الفلسطيني. هو حراك أسميه: إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني من الأسفل، ويتمثل هذا الحراك الهام بلجان العودة، ولجنة المهجرين، والحراك الشبابي، وكتابات ومؤتمرات الأكاديميين والمثقفين الذين يُنظِّرون لإعادة توحيد الشعب الفلسطيني من حيث الانتماء التاريخي والثقافي والجغرافي، والانتفاضات المحدودة مثل الحراكات الشعبية من أجل القدس والأقصى وكنيست القيامة، والحراك الشبابي، وحملات المقاطعة التي تقودها هيئة فلسطينية شعبيه، هي لجنة المقاطعة الوطنية. يأتي هذا الجهد وهذا الحراك في ظل انكشاف إسرائيل كمنظومة اضطهاد واحدة وموحدة ضد الكل الفلسطيني، وفِي ظل ما لحق بالرواية الفلسطينية وخطاب التحرر الوطني من تشوه خطير، تحت عجلات مدرسة أوسلو الذي جزأ الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يفرض العمل على تحقيق الوصل بين كل هذه النشاطات وهذه الأطر الوطنية لترسيخ وحدانية الشعب والرواية والتاريخ والمصير. إنها مهمة استراتيجية، ستفرض نفسها على ساحة العمل الفلسطيني في السنوات القادمة.

وأخيرًا ...

ليس هذا الكلام إلا دعوة للتفكر، والمراجعة، والتقييم. لدينا، كشعب، نقاط قوة كثيرة، وأهمها وجودنا الأبدي على الأرض، وتجربة كفاحيه بلورت شعبًا ومؤسسات ثقافية وتعليمية وسياسية، ولدينا طلائع جيل اكتسب وعيًا وطنيًا كبيرًا. ولكن استمرار هذه الإنجازات ليس أمرًا مفروغًا منه. لأنه إذا توقف العامل الذاتي عن الفعل، والأهم، عن التجديد والمراجعة والابتكار، وإذا استحوذت الذاتية والنرجسية على القادة، واستحكم الجمود الفكري على الحركات والأحزاب، يصبح كل شيء مهددا. لا يعني أن مجرد استمرار الحركة كيفما اتفق، يوصل إلى المرتجى.

إن أكثر من يتنبه إلى هذه الحقيقة، هي الأجيال الجديدة: المثقفون، وطلاب وخريجو الجامعات، والعمال المثقفون، وبالتحديد الأوساط الأكثر وعيا منها، والأكثر انفتاحا ومرونة على مجتمعهم، والأكثر حساسية تجاه معاناة أفراده، وهمومهم اليومية.

 


تصميم وبرمجة: باسل شليوط