فقدان البوصلة

كأن الشعب الفلسطيني بحاجه الى مقادير جديدة من شحنات التيئيس، والى خناجر إضافية تُغرس في خاصرته والى المزيد من العصيٍ في دواليبه. لا يمكن وصف خطاب عباس تجاه حركة حماس، والتوعد بفرض المزيد من العقوبات على الحركة، التي هي عمليا عقوبات جماعية على عموم الفقراء والمعدمين في القطاع، سوى أنه خطاب عدمي، بل أكثر من ذلك. إنه خطاب تحايلي يهدف من ورائه إلى التهرب من الاعتراف بالمسئولية عن فشل مشروعه التفاوضي الفاشل والكارثي، واستخلاص النتائج. إنه تعبير عن إحباط عميق يعيشه رئيس السلطة الفلسطينية، جراء اكتشافه متأخرا الخداع الأميركي، وبعد أن تم استعمار الحيّز الذي كان مفترضا أنه مخصص للدولة الفلسطينية. يعيش رئيس السلطة الفلسطينية داخليا الشعور بالخديعة والفشل، لكنه، مثله مثل الحكام العرب ليس مبنيا للاعتراف بالمسئولية. طبعا، ليست حماس بريئة من المسئولية عما وصلت إليه الأمور في قطاع غزه، ولكن الإسراع في اتهامها بأنها تقف خلف محاولة اغتيال رئيس حكومة السلطة، رامي الحمد الله، وقبل انتهاء التحقيق، ليس بريئا، إذ يستبعد المعلقون بغالبيتهم أن تكون لحماس أي مصلحه في التخطيط لجريمة على هذا المستوى. بل ينطوي على نوايا جديدة للتهرب من تحقيق المصالحة.

تجرأ أبو مازن، في السنوات الأخيرة، وتحديدا في ظل حكومة نظام الأبارتهايد الاستعمارية الحاليّة، بزعامة نتنياهو، على وقف المفاوضات، وعلى تصعيد لهجته ضد هذه الحكومة الاستيطانية، وضد طاقم الإدارة الإمبريالية الأميركية الجديدة. ولكن دون اتخاذ خطوات جدية تعكس هذا المستوى من التصعيد اللغوي، ولا أقول السياسي، مثل سحب الاعتراف بإسرائيل، والانخراط في حملة مقاطعة دولية لكيان الأبارتهايد، ووقف التنسيق الأمني، واعتماد مقاومة شعبية واسعة غير مسلحة، التي بات الجميع يميل إلى تبنيها، مما يسحب الذريعة التي دأب أبو مازن على التذرع بها، وهي أن الانتفاضة المسلحة كانت نتائجها كارثية. والمفارقة أن التعامل مع حركة حماس بشكل خاص، وقطاع غزة بصورة عامة، اتسم بالتطرف الجامح ، بل حتى بالوحشية. إذ كيف يمكن وصف فرض قيود على معيشة الناس هناك، أناس يعيشون الحصار الصهوني الوحشي ويموتون كل لحظة! وقد تساءل بمرارة أحد المواطنين في غزه الذي التقته إحدى الفضائيات في الشارع: "على من يفرض العقوبات، إنه يفرضها على أناس ميّتين، ماذا بعد؟". إنه عقاب جماعي ينضم إلى العقاب الجماعي الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، بل إنه أشبه بالمشاركة في التمثيل بجثة، أدماها الحصار الصهيوني .

لقد تمادى أبو مازن، في مخاطبته ممثلي الفصائل، حين اتهمهم بالنفاق لأن العديد منهم يُحمّل الطرفين المسئوليه وليس فقط حركة حماس عن عدم تحقق المصالحة. ويستحق بعض هؤلاء هذا التعامل المتعالي من رئيس السلطة لأنهم يفتقرون أيضا لعمود فقري عقائدي، وموقف سياسي صلب، وجرأة في النقد. هو يريد من الجميع أن يرفعوه على الأكتاف، ويزكون سياساته، التي يتخذها لوحده مع بعض المقربين، بأنها كانت صائبة، ونيته كانت صافية، وأن الأعداء هم الذين خدعوه. إنها عقلية الحكام العرب الذين تفردوا بالقرار، ويحملون الغرب وحده مسؤولية إخفاقاتهم، والذين أقاموا جدراناً، من الإرهاب والتخويف لحمايتهم من شعوبهم التي عادت وفجرت غضبها على حين غرة، وأسقطت جدران الخوف. إنها العقليه نفسها التي لا تعترف بالمسئولية.

في ظل هذا الواقع الفلسطيني والعربي، شديد البؤس والحافل بالسقوط، يضطر القابضون على الجمر، والذين فقدوا الثقة بالنظام السياسي الفلسطيني، المتهالك، والمصرون على مواصلة خوض معركتهم ضد اليأس والتيئيس، إلى قدر هائل من رباطة الجأش، وإلى جهد خارق للحفاظ على روح الرفض، والمضيّ في رسم طريق الأمل. ليس أمرا مفروغا منه، أن يختار أفراد، بمبادرتهم الخاصة، قتال الاحتلال. وليس أمراً مفروغا منه، أن يواصل البعض التحرك، بعيدا عن الأعين، نشطاء في العمل الاجتماعي والتعليمي، ومثقفون، وأكاديميون، وأدباء، في جهد يهدف إلى استرداد الرواية الفلسطينية، التي تربط الأجيال الجديدة بحسً تاريخي جماعي، وشباب وشابات ينخرطون في برامج تواصل مع أقرانهم في جميع تجمعات الشعب الفلسطيني. وليس أمرا مفروغا منه، أن يتفتق عن أذهان أوساطٍ فلسطينية، شعبية وشبابية، في قطاع غزة المحاصر، مبادرات الزحف في مسيرات عودة إلى فلسطين. إنها صرخات العدل والحرية، صرخات الغضب والاحتجاج على تواطؤ النظام العالمي الذي فقد كل ما تبقى من قيم أخلاقية وإنسانية، مع نظام الاستعمار الصهيوني.

شعبنا يستطيع، إذا ما تحرك من تحت، وغير منتظرٍ لأوهام المصالحة، ومتجاوزا مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني الرسمي والفصائلي، أن يراكم فصول من الصمود والتقدم والبناء، وصولا إلى اللحظة التي تستقطب غالبية الشعب، حول قضيته. إن انتظار تحقق المصالحة من فوق هو تضييع لوقت ثمين، وهو قعود عن واجب الابتكار، وكسل فكري وأخلاقي .

لا أمل في الطبقة السياسية الراهنة. ليس فقط أنها لا تريد أن تحرر نفسها، بل لا تستطيع، لأن المصالح التي تراكمت عبر أكثر من عشرين عاما من حياة أسلو، أفرغت الروح الثورية من هذه الطبقة السياسية، وربطتها بقيود ومصالح مع مشاريع الاحتلال. وبالتالي، لا يغير قرار هذه الطبقة بالمناشدة والحوار، بل بالضغط من تحت. وجميع اتفاقات المصالحة التي عقدت بين طرفي الانقسام جاءت من فوق، بضغط أنظمة عربية، وليس من تحت، أي من الأوساط الشعبية. ولهذا، تغدو المبادرات الشعبية، الشبابية، والأكاديمية المستقلة، التي تشهدها الساحة الفلسطينية منذ سنوات لإعادة إطلاق الفعل الثوري الفلسطيني، أشد إلحاحا، وأكثر نفعا.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط