في ذكراه العاشرة: إرث الحكيم

 

لا ندري أذا كانت مفارقة أم خاصية بنيوية مرتبطة بطبيعته ومنشأه هي التي تجعل مساهمة اليسار في الفكر السياسي الفلسطيني تفوق مساهمته في الفعل السياسي. ولا نقول ذلك للتقليل من قدر أحد، لا سمح الله، وإنما لأن نتاج الفعل الفلسطيني أيضا هو غير كاف في أحسن تقدير، ولا يتناسب مع كمية التنظير السياسي الفلسطيني والعربي الذي سبقه ورافقه والمكتبة الضخمة التي انتجها.

يبقى عزاؤنا أنه رغم قلة الانجازات العملية للنضال الفلسطيني الحديث، فإنه راكم إرثا سياسيا وفكريا هائلا، يمكننا والأجيال القادمة الاستفادة من صالحه في ما تبقى من مشوارنا الكفاحي، نحو التخلص من الواقع الكولونيالي وبناء المجتمع الديمقراطي في فلسطين.

نستذكر ذلك في الذكرى السنوية العاشرة لرحيل واحد من أهم الرموز الوطنية والقومية لليسار والنضال الفلسطيني عموما ومن أبرز أعلامه الفكرية والسياسية، وهو مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحكيم الثورة وضميرها، الدكتور جورج حبش.

لقد شكل الدكتور جورج، الذي قرن الفكر بالعمل الثوري بجدارة، ركنا أساسيا من أركان اليسار العربي والثورة الفلسطينية المعاصرة، حيث ساهم من خلال حركة القوميين العرب، التي أسسها بعد النكبة، ومن خلال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي أسسها بعد "النكسة"، في صياغة معالم طريق التحرير الفلسطيني والانعتاق العربي من الاستعمار الكولونيالي والتبعية، وربط بشكل خلاق بين المهمتين عبر شعاره الشهير " تحرير فلسطين يمر عبر عمان ودمشق والقاهرة وغيرها من العواصم العربية".

لقد آمن حبش بأن تغيير الواقع الفلسطيني والعربي، الذي أدى إلى ضياع فلسطين، هو وحده الكفيل بتحريرها وأن الفلسطينيين ليس فقط لا يستطيعون وحدهم تحرير فلسطين، بل أنه لا حياد عربي في صراع يستهدف العرب مثلما يستهدف الفلسطينيين، الذين جرى أصلا استعمار بلادهم لتشكيل رأس حربة في الصراع الاستعماري ضد العالم العربي، ولذلك فان العواصم التي لن تكون مع الفلسطينيين ستكون بالضرورة مع أميركا وإسرائيل.

وبدون شك أن التنازل عن شعار "تحرير فلسطين عبر عمان والقاهرة ودمشق"، واستبداله من قبل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بشعار "عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول العربية"، والتحول من حالة العداء المطلق لأنظمة الرجعية العربية، باعتبارها أحد أركان ما أسماه حبش بـ"الثالوث الدنس"، الذي تآمر على ضياع فلسطين، "الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية"، إلى سياسة "بوس اللحى مع زعمائها" تحت يافطة السياسة والتكتيك، هذا التنازل هو أحد الأخطاء والخطايا التي وقعت فيها حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وكان لها القسط الأكبر في ذبح المقاومة في عمان واقتلاعها من بيروت وملاحقتها في دمشق وتونس.

وهو الذي ساهم في تحرير الأنظمة العربية التي اتخذت من "عدم التدخل في شؤونها" و"القرار الفلسطيني المستقل" من التزاماتها تجاه فلسطين، وشكل مبررا لتمرير صفقات الصلح الانفرادي مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها.

ويكفي لإدراك نتائج هذا التنازل (التحول) في الواقع الحالي، مشاهدة نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، الذي قاطعه الفلسطينيون احتجاجا على إعلان ترامب عن القدس عاصمة لإسرائيل، يستقبل في القاهرة وعمان وكأن شيئا لم يكن، في حين لا تجرؤ القيادة الفلسطينية حتى الطلب من تلك العواصم عدم استقبال بينس احتجاجا، ولا تتخذ منها أي موقف بسبب استقبالها له. هذا ناهيك عن أن القيادة الفلسطينية لم تتخذ أي موقف من النظام السعودي، الذي أصبح يطبع مع إسرائيل جهارا نهارا، بل ويهدد باستبدال تلك القيادة إذا لم تقبل بصفقة ترامب الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية.

في الذكرى العاشرة للحكيم، جدير بالذين يسعون إلى مواصلة المسيرة معاودة تقييم التجربة وإعادة الاعتبار لبعض من فكره السياسي ومعاودة "اكتشاف" شعاراته الثورية التي لم تسقط بالتقادم وتتأكد صحتها كل يوم من جديد. فهل كنا بحاجة لإعلان ترامب لنكتشف أن أميركا هي "وسيط غير نزيه" بل هي "راس الحية"، أم لظهور ولي العهد محمد بن سلمان في السعودية لنكتشف التواطؤ المكشوف لأنظمة الرجعية العربية مع اسرائيل، أو لظهور الطغمة الفلسطينية التي تربطها مصالح مشتركة مع إسرائيل، لنتأكد من صحة شعار الحكيم، "أيها الفلسطينيون ناضلوا فلن تخسروا سوى القيد والخيمة"، الذي أعطى المضمون الطبقي للنضال الوطني.

الثوريون لا يموتون أبدا، قالها حكيم آخر، لأن أفكارهم تعيش في عقول الأجيال القادمة وربما سيقتصر دورنا على نقل هذه الأفكار.

 


تصميم وبرمجة: باسل شليوط