لماذا لا تفرج إسرائيل عن وثائق دير ياسين وكفر قاسم؟

 

بعكس دول العالم الثالث ودكتاتورياتها العسكرية "الهمجية" المعادية للكاميرا والتوثيق، فإن الدول العصرية التي "تتشرف" إسرائيل بالانتساب إليها مغرمة بالصورة والتوثيق باعتباره وسيلة لصيانة حاضر وحفظ التاريخ ببياضه وسواده، ويتجلى ذلك في التعامل مع تاريخ الصراع الفلسطيني العربي- الإسرائيلي بفصوله ووقائعه المختلفة لا ينفك الأرشيف الإسرائيلي يشكل فيها مرجعا أساسيا للباحثين والمؤرخين، مقابل غياب شبه كامل لأرشيف فلسطيني وعربي.

فما زلنا نعتمد على هذا الأرشيف في قراءة وفهم ما حدث في حرب 73 وحرب 67 ونكبة 48 وغيرها من الأحداث الفاصلة في تاريخ الصراع، وأدهشنا المؤرخون الجدد عندما أتحفونا، بعد رفع الحظر الإسرائيلي عن وثائق عام 1948، بيوميات بن غوريون التي اعتمدوا عليها، وسجلت وقائع الأحداث يوما بيوم، ناهيك عن سجلات رابين ودفاتر غولدا ويغئال ألون وغيرهم، إضافة إلى محاضر جلسات وقرارات "الهاغاناه" والمنظمات الصهيونية الأخرى، بينما لم تصلنا أية محاضر ويوميات لمنظمات وقادة فلسطينيين من ذاك العصر، وهو أمر ينطبق على الدول العربية وحروبها المتتالية مع إسرائيل.

ويبدو أن الاختلاف يعود إلى كون إسرائيل تدرج نفسها ضمن منظومة تعتبر، بلسان مدير "أرشيف إسرائيل" د. يعكوف لزوبيك، منتخبي الجمهور والموظفين والجنود والدبلوماسيين والجواسيس يعملون باسم مواطني الدولة ولأجلهم، ولذلك من المهم كشف أعمالهم تلك أمام المواطنين لإبداء آرائهم فيها.

وهو ما جعل المدير المذكور يشن نقدا لاذعا على مواصلة إخفاء وثائق وسجلات مضى عليها أكثر من 50 عاما بادعاء أنها تمس بأمن الدولة. وكشف في هذا السياق عن قيام إسرائيليين بارتكاب جرائم حرب هنا وهناك، وعن تدخل الشاباك في جهاز التعليم العربي، وعن قمع العرب بصورة لا تليق بـ"دولة ديمقراطية"، مشيرا إلى أنه إذا كانت إسرائيل تقوم بأعمال غير مشروعة من قبل المحاكم الإسرائيلية والدولية، فمن حق مواطنيها معرفة ذلك ليقرروا إذا كانوا يوافقون على تلك الأعمال أم لا.

صحيفة "هآرتس" التي أيدت أقوال د. لزوبيك، أشارت إلى رفض إسرائيل الكشف عن صور لمذبحة دير ياسين التي مر عليها 70 عاما، وبروتوكولات تخص مذبحة كفر قاسم التي مر عليها ما يزيد عن الـ 60 عاما، كانت ا قد انضمت قبل سنوات إلى التماس قدمته مخرجة إسرائيلية طالبت بالكشف عن صور المذبحة.

في حينه، قرر قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية الذين أمعنوا النظر في صور مذبحة دير ياسين، رفض الالتماس الذي قدمته الفنانة الإسرائيلية، نيطع شوشاني، مخرجة فيلم "ولد في دير ياسين"، والذي طالبت فيه بتحرير هذه الصور المفروض عليها حظر نشر حتى اليوم. العليا سوغت رفضها بالادعاء أن نشر تلك الصور من شأنه أن يمس بعلاقات إسرائيل الدولية وبكرامة الأموات.

وكانت شوشاني التي حاولت عبثا العثور على صور من المذبحة دون جدوى، قد التقت في "أرشيف الهاغاناه" رجلا تسعينيا يدعى شراغا بيلد، كان يعمل في حينه في الخدمات الإعلامية التابعة للمنظمة، الرجل أخذها جانبا، وأسر لها بأنه أرسل مزودا بكاميرته بعد المذبحة مباشرة لتوثيق ما حدث في دير ياسين.

"الصورة الأولى التي شاهدتها لدى وصولي إلى دير ياسين كانت شجرة كبيرة جرى حرقها، بعد أن ربط إليها رجل عربي، لقد ربطوه إلى الشجرة وحرقوهما معا"، كما يقول شراغا، الذي يكشف أنه قام بتصوير عشرات القتلى الذين جرى تجميعهم في كسارة تقع إلى جانب القرية، وقام بتسليم الفيلم إلى المسؤولين عنه ومن يومها لم ير الصور.

ويورد الفيلم أيضا شهادة مكتوبة بخط يهودا فيدر، والمعروف باسم "غيورا"، وهو أحد أفراد عصابة "ليحي" الذين شاركوا في المذبحة يقول فيها: "قتلت مسلحا عربيا وفتاتين بجيل 16- 17 سنة قاما بمساعدته، أوقفتهما إلى جانب الحائط وأفرغت بهما باغتين رصاص من سلاح "تومي غن" الأوتوماتيكي".

قائد عصابة "ليحي" في القدس، يهوشوع زطلير، الذي ظهر في الفيلم قال: "كنا ندخل بيتا بيتا نضع فيه المتفجرات ونقوم بنسفه، وخلال بضع ساعات دمرنا نصف القرية". وعن حرق جثث الضحايا قال زوطلر: "كان هناك بعض الأخطاء التي قام بها رفاقنا والتي أغضبتني، حيث جمعوا جثث القتلى في كومة وأحرقوها، لم يكن ذلك سهلا!".

أما الوزير وعضو الكنيست السابق من ميرتس، يائير تسبان، ققال في شهادته التي وردت في الفيلم، إنه أرسل مع رفاقه في "الجدناع"، في حينه، لدفن جثث القتلى وإخفاء اثار الجريمة، خوفا من وصول الصليب الأحمر في أي لحظة.

وعن مشاهدته هناك يقول تسبان: "رأيت الكثير من الجثث، ولا أذكر أنني صادفت جثة واحدة لمقاتل، ما أذكره أنها كانت جثث نساء وشيوخ".

وأضاف تسبان في شهادته أنه رأى مواطنين تعرضوا لإطلاق نار في الظهر، نافيا ادعاء المشاركين في "العملية" بأن القتلى سقطوا خلال تبادل إطلاق النار بقوله إن وجود مسن وامرأة يجلسان في ركن غرفة والرصاص يخترق ظهريهما، لا يمكن أن يكون قد جرى في حمأة القتال.

إذا، لدى إسرائيل الكثير مما تخفيه من مجازر وجرائم حرب وتطهير عرقي، وهي جرائم لا يغسل دماءها الزمن، ولا تسقط بالتقادم، وهي لن تكون معنية بتحرير وثائق ربما تشكل أدلة دامغة ضدها وضد قادتها في محكمة الجنايات الدولية.

 


تصميم وبرمجة: باسل شليوط