ما حدث للبامية واللوبية والعلت

 

عندما تأخر المطر، أعلنت سلطة المياه أنه عام محل، وتباكوا كالعادة على مستوى منسوب المياه في بحيرة طبريا.

صلى المسلمون واليهود والمسيحيون ووزير داخلية إسرائيل صلوات الاستسقاء، الوحيد الذي لم يُصلِّ صلاة الاستسقاء، هي الشركات التي تبيع المياه للناس بأثمان فضائية، وطبعًا شركات صناعة واستيراد المياه (السيرمة) التركية و(الأكوا) الإيطالية. أمطرت السماء بضعة أيام متواصلة، وفرح الناس، فخرجوا لالتقاط صور السيلفي على ضفاف الأودية التي فاضت، وعند مصبات الشلالات، وصوروا الفيديوهات وهم يقودون السيارات والمسّاحات شغالة، وسحبت المياه الكثير الكثير من قاذوراتنا الصيفية التي يتألف معظمها من البلاستيكيات، وظهرت في نشرات الأخبار الكثير من السيارات المتورطة في السيول في مناطق عدة، وقوات إنقاذ تسحب المحاصرين بالحبال في اللحظات الأخيرة قبل أن تجرفهم المياه إلى حتفهم.

المهم أن المرجعية الدينية العظمى لإسرائيل، الراب يسرائيل لاو، طاش على شبر ماء، وطالب الناس بتشغيل الكوابح والتوقف فورًا عن صلوات الاستسقاء خشية من الفيضانات أو الطوفان، بإيحاء للجمهور، بأن صلاته هو وجمهوره هي التي فتحت حنفيات السماء، وربما قصد القول إن هطول الأمطار لم يكن بفضل وزير الداخلية آرييه درعي رجل السياسة الملوثة، بل بفضله هو رجل الدين التقي النقي.

بعد أسبوع ماطر، تمضي معظم المياه إلى البحر، فلا يبقى منها سوى القليل في بعض برك تجميع المياه في الموشافيم والكيبوتسات التي لديها أرض مروية أصلا ولا تعتمد على الزراعة البعلية ولكن للتوفير. بعد يوم صحو واحد تغيض السيول والوديان كأنها لم تكن، وذلك بفضل قنوات تصريف المياه العريضة على جوانب الشوارع والوديان المصبوبة بالباطون، المياه لا تبقى في السهل سوى ساعات قليلة، بعد أن يتوقف المطر بأيام قليلة بإمكانك أن تدخل الأرض فلا تغوص بها قدماك. في الماضي الذي أذكره، كان الأمر مختلفًا، كانت القنوات طبيعية، تمضي المياه إلى الوديان ببطء شديد، تبقى المياه في السهل حتى الربيع، والرطوبة تبقى في الأرض حتى الصيف، ولهذا كانت البامية وسائر الخضار في سهولنا تنمو بصورة عجيبة، كان ارتفاع بيت البامية يصل إلى ارتفاع أكثر من قامة الرجل وهو مثقل بالثمار، وحبة التين تملأ القبضة، والزيتون كأنه التمر.

لما كان يزرعه الفلاحون، فالأرض كانت تعطي موسما غنيًا من النباتات البرية التي كانت أمهاتنا تطهوها، مثل الهندباء والعلت والسلق والسمميخة والخبيزة والقرصعنة وعشرات الألوان من الأعشاب الصالحة لغذاء صحي ولذيذ وزهيد الثمن.

كان اليهود الأشكناز يسخرون منا، ويقولون إن العرب يأكلون الأعشاب مثل الماعز، بعد عقود صاروا ينافسوننا عليها، ولحقت الخبيزة والعلت والسلق وغيرها بركب المأكولات الإسرائيلية.

صاروا يزرعون الهندباء والخبيزة وغيرها في مزارع خاصة مروية ويبيعونها في أسواق الخضار.

تلاشى موسم البامية والتين والذرة واللوبية والقثائيات والبقوليات وصار هزيلا جدًا، وذلك لأن المياه لا تبقى في الأرض إلا لساعات قليلة وتنسحب، هذا يعني أن معظم ما تبقى من الأرض العربية لا هي مروية من الطبيعة ولا بنظام ري عصري، ولهذا أصبحت الأرض الزراعية زهيدة جدًا، خصوصًا تلك التي لا أمل لها بأن تضم إلى مسطحات البناء، وما دامت زهيدة فبيعها أولى من التمسك بها، أو المبادلة بها بنسب ظالمة مقابل قسيمة بناء، هذا ما دخل ويدخل في وعي كثير من الناس.

هذا جزء من المشروع الكبير والأصلي الذي يهدف إلى الإجهاز على علاقتنا بالأرض، وتحويل مناطقنا السكنية إلى تجمعات بشرية هجينة، فلا نحن ريفيون ولا مدنيون، فلا أرض مروية لنكون ريفا، ولا منطقة صناعية، هي أول وأهم مركبات المدينة.

طبعا لا أدعو إلى إغلاق قنوات تصريف المياه من الباطون، لأن قرانا ستغرق، ولكن يجب الحصول على بديل ،هي مياه الري بأسعار مخفضة.

لقد نجحت السلطات بإشغالنا في قضية المسكن الذي يحتاجه الإنسان قبل الحاجات الأخرى، وصار نضال مجالسنا وبلدياتنا وأعضاء الكنيست ولجنة المتابعة هو تحويل ما تبقى لنا من أرض زراعية إلى مناطق للبناء، وهذا يعني أن نفقد نهائيا كل علاقة لنا بما تبقى لنا من الأرض، وهذا عمل ليس ذكيًا ولا نضالا عظيمًا، لا أتهم أجدا، فكلنا نتحمل المسؤولية، طبعا بعد مسؤولية السلطة التي عملت وتعمل للوصول إلى هذه النتيجة.

العظيم بالفعل، هو أن نُحصّل مياهًا للري من وزارة الزراعة وسلطة المياه بأسعار متهاودة جدا للفلاحين حيث بقيت أرض، كي يستفيد أصحابها منها ويحافظوا عليها، ومن جهة ثانية النضال لأجل الحصول على أراض من الدولة للإسكان ولإقامة مناطق صناعية عليها، والتوقف عن تدمير ما تبقى من بيئة خضراء حولنا في طريقها للانقراض، علينا أن نثير هذه التفاصيل حتى ولو وصلنا إلى المؤسسات الدولية كي لا تتحول بلداننا إلى معسكرات، نهجرها صباحًا إلى العمل ونعود إليها في المساء للنوم.

 


تصميم وبرمجة: باسل شليوط