مع الضحايا أينما كانوا؛ في بولندا أو فلسطين

 

أثار قرار الحكومة البولندية جدلا كبيرا، وأقصد قانون معاقبة كل من يحمّل البولنديين مسؤولية الكارثة التي حلت باليهود إبان الحرب العالمية الثانية على الأرض البولندية.

وبحسب مصادر عبرية إسرائيلية، ومنها ما هو مقرر لامتحانات البجروت، فقد تراوحت علاقة البولنديين اليهود مع غيرهم من بولنديين مسيحيين بين مقبولة وجيدة وجيدة جدا، ولم يذكر أنها كانت سيئة جدا بصورة شاملة بأي حقبة بين 1919 إلى 1939، وشهدت فترة حكم اليساري يوسف بلودسكي ازدهارا كبيرا ومشاركة لليهود في إدارة البلاد والتعاون معهم.

إلا أن قانون منع الذبح الحلال الذي سن في أواسط الثلاثينيات من قبل الحكومة اليمينية القومية أضر باقتصاد حوالي 150 ألف أسرة من اليهود، حيث شرع البرلمان البولندي (السايم) قانونا يمنع فيه المسالخ للذبح الحلال على الطريقة اليهودية، والسبب الأساسي بهذا محاولة لتلافي الأزمة الاقتصادية، حيث أن اليهود كانوا شبه مقاطعين للقطاع الغذائي الذي ينتج بدون ختم (الكشروت) سواء كان ذلك في القطاع الخاص أو الحكومي، وذلك أن أكثرية الجالية اليهودية في بولندا كانت متدينة.

شكل اليهود في بولندا قبل الحرب العالمية الثانية حوالي 10% من مجموع السكان، فقد كان عددهم حوالي ثلاثة ملايين إنسان، لكنهم شكلوا 30% من سكان المدن، لأن أكثرهم عاش في المدن الرئيسية.

عاشت الجالية اليهودية حياة مزدهرة سياسيًا واجتماعيا وثقافيا في بولندا، وكان لهم أحزابهم ومجلسهم الأعلى، يجري انتخاباته بانتخابات سرية عامة للجالية اليهودية وأحزابها ومنها عمال صهيون والحزب الشرقي ويهدوت هتوراة وغيرهم (أرقى من تنظيم الفلسطينيين العرب في إسرائيل). وكان لهم حركات شبابية مثل (بيتار) وحركة (هشومير هتعسير) ومؤسسات مثل (أورط) للتأهيل المهني، وكلها لها امتدادها حتى يومنا في دولة إسرائيل. إلى جانب هذا أقام اليهود منذ العشرينات قائمة انتخابية مشتركة لدخول البرلمان حوت معظم الأحزاب اليهودية، اتسع تمثيلها من انتخابات إلى أخرى، كذلك جرت تحالفات مع أقليات أخرى.

شكلت الأقليات حوالي 35% من سكان بولندا، فإضافة لليهود كان حوالي ثلاثة ملايين أوكراني وثلاثة ملايين ألماني، كان هذا نتيجة تقسيمات الحرب العالمية الأولى، فالأقلية الألمانية معظمها قرب الحدود مع ألمانيا، وهذه شكلت جزءا من دعاية هتلر الذي تحدث عن استعادة الأراضي الألمانية من الحكم البولندي.

اتفق اليهود مع الحكومة البولندية عام 1926 على منحهم حكما ذاتيا مقابل تخليهم عن التحالف مع أقليات أخرى من خلال القائمة المشتركة، إلا أن الاتفاق لم يطبق بسبب مناكفات وتلاعبات برلمانية.

شكل طلاب الجامعات اليهود 22% من عدد الطلاب العام، أي أكثر من ضعف نسبتهم من السكان، وذلك حتى العام 1935، ولكنها انخفضت في السنوات التالية التي بدأ فيها التحريض ورياح اللاسامية تغزو أوروبا والركود الاقتصادي.

كان لليهود أكثر من 150 مطبعة تطبع باللغة اليديشية التي اعتبرت لغة اليهود الأساسية، وقليل منها طبع بعض النشرات بالعبرية، وكان لليهود 12 صحيفة يومية.

استبيانات الرأي عام 1933 أظهرت أن أكثر من 90% من اليهود اعتبروا أنهم يهود قبل أن يكونوا بولنديين، وقال أكثر من 80% أن لغتهم الأم هي اليديشية، وقال 8% أن لغتهم الأم هي العبرية وحظيت البولندية كلغة أم على أقل من 10%.

اعتداءات على اليهود قبيل الحرب العالمية الثانية، ولكن الحكومة البولندية استنكرت هذه الأعمال وجرّمت مرتكبيها، وحسب المصادر اليهودية قتل 79 يهوديا خلال ثلاث سنوات من 1935 إلى 1937 نتيجة اعتداءات عرقية أو دينية.

إلا أنه في العام 1939 ومع احتلال بولندا وتقاسمها بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي، صدرت أوامر من قبل الحكم العسكري النازي في مناطق نفوذه بتجميع اليهود في معسكرات عمل للمساهمة بالمجهود الحربي، فاستخدموا بالقوة في شق الطرق وإقامة الجسور والاستحكامات على الجبهة السوفييتية، ومات كثيرون منهم مرضًا وجوعًا، وهذه سبقت عمليات الإبادة الجماعية لليهود.

مع بدء الحرب على السوفييت في حزيران 1941، واجتياح كل بولندا وأوكرانيا من قبل النازيين، بات اليهود ملاحقين من قبل النازيين ومن قبل عصابات محلية يمينية متطرفة من بولنديين وأوكرانيين، ولكن في المقابل كان هناك بولنديون وأوكرانيون ويهود حلفاء في حرب المقاومة (البرتيزان)، إلى جانب خدمة اليهود العسكرية في الجيش الأحمر، وقد قتل على الأرض البولندية حوالي 30 ألف جندي ألماني بفعل مقاومة الأنصار حسب مصادر بولندية.

في مركز (ياد فاشيم) مركز تخليد ضحايا المحرقة النازية، يوجد أسماء لستة آلاف بولندي مسيحي أسهموا بإنقاذ يهود من براثن النازيين، وهناك عائلات بولندية تعرضت للإبادة على يد النازيين لأنها تستّرت على يهود.

من المعطيات العبرية نفسها نجد بونا واسعًا جدًا بين الممارسات النازية الهتلرية المعتمدة على أيديولوجية عرقية مصدرها نظرية داروين التي تقول بأن البقاء للأقوى، ولهذا يجب إبادة الضعفاء أو استعبادهم، وبين ممارسات البلطجة الفردية التي قامت بها عصابات من الزعران المحرَّضين من البولنديين المتأثرين بالدعاية النازية.

صحيح وقعت اعتداءات على أسس عرقية ضد اليهود وممتلكاتهم، ولكن وحسب كل المصادر العبرية، فهي أقل بكثير من اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين وممتلكاتهم وأرواحهم في الضفة الغربية على مدار سنين.

ما يلفت النظر في هكذا موضوع هو أن إسرائيل سنت قانونا يمنع تعليم النكبة ويعرض من يدرّسها للعقاب والحرمان من الميزانيات.

كذلك فإن اتهام نتنياهو للعرب بإشعال حرائق الكرمل هي فرية دموية رددها وراءه كثيرون من اليهود وحتى بعض سفهاء العرب، أضف إلى ذلك الممارسات الاحتلالية اليومية في إذلال الشعب الفلسطيني ومحاصرة جزء كبير منه في قطاع غزة وحرمانه من أبسط مقومات الحياة من غذاء وعلاج وعمل وسفر، ثم قتل كل من يحاول خرق هذا الحصار.

بلا شك أننا نشعر بآلام الضحايا اليهود الذين تعرضوا للمذابح والتنكيل، ولكن هذا لا يعني أن يدير اليهود أو غيرهم مؤخراتهم لآلام الآخرين وحرمانهم حتى من حق التألم ومعرفة ما جرى في عام النكبة، فالشعب الفلسطيني دفع ثمنا باهظا نتيجة الممارسات النازية، وهو قيام دولة إسرائيل على أنقاضه، وتجاهل هذه الحقيقة لا يلغيها، وسوف نسجل ويسجل التاريخ من يُحرّض على القتل والتشريد والدمار ومن يسعى للسلام والاحترام بين الشعوب.

 


تصميم وبرمجة: باسل شليوط