يوم جعلنا العبوديّة "شَرَفا"

 

قُتلت أنثى أخرى بسبب عدم التزامها بقوانين العبوديّة المتّفق عليها اجتماعيًا وثقافيًا ودينيًا. شرف العائلة، أو البلدة، أو العشيرة، أو الرجل، هي مجرّد كلمات تمويه. لا يوجد ما يُسمّى "شرف" في سياق الحديث عن قتل النساء، وعلينا أن نكف عن إعادة تدوير الكذبة. "الشرف" هي عبارة عن كلمة لوصف تقليد أو ثقافة سائدة، ومجرّد إعادة تدويرها من جديد مع كل مرّة، بات يطبّعها في السياق الاجتماعيّ. في الحقيقة فإن مفهوم "شرف العائلة" أو "شرف القبيلة" هو مجرّد تسميات تافهة وتجميليّة عن غير حق لجوهر ما يحصل فعلًا: العبوديّة. تُقتل النساء حين لا يلتزمن بقوانين السيّد؛ حين يرفضن الانصياع لإملاءات القيّم عليها؛ تقتل النساء حين يحاولن التحرّر من قيود وقوانين بيت السيّد؛ ويُقتل العبد مرّة أخرى حين يبحث عن بيت سيّد يعيش فيه بظروف أفضل... ولكن المشترك لجميع العبيد بغض النظر عن لونهم، أو جنسهم والأسماء التي يحملونها هو حقيقة أن مصيرهم، في جميع الأحوال بيد الآخر.

وعلى الرغم من حقيقة أن كلمة "شرف" توازي العبوديّة من حيث التطبيق الفعليّ والمادّي لها، إلّا أن إعادة تصويب المصطلحات في سياق الحديث عن قتل النساء تحمل في طيّاتها ثلاثة جوانب لا يمكن إغفالها: الحقيقة المجرّدة لبشاعة الثقافة التي تؤدّي إلى القتل؛ والدلالة المخزيّة للعبوديّة مقابل المنحى الإيجابيّ الذي يدلّل عليه الشرف في ذات الثقافة؛ العبوديّة كمتناقض مركزيّ مع التحرّر السياسيّ.

العبوديّة بالاسم: أزمة منذ الولادة

إحدى الروايات التي تم تداولها عن علاقة الفتاة المغدورة أمس مع والدها هي أنّه انفصل عن والدتها منذ أن كانت طفلة. وأنّها في الحقيقة، تربّت على يد والدتها، وأنّه اعتبر صورتها على الفيسبوك "خادشة" للحياء. ومن هنا يمكن توقّع السيناريو التاليّ: هدّد بالوصول إليها "بذبحك"... ومن ثم أخذ معه قريبهم الذي حتمًا كان طيلة الطريق يهدّد ويتوعّد حتّى وصلوا إلى الحرم الجامعيّ حيث أراد أن "يذبحها" لـ"يغسل" سمعته هو، ولـ"يتطهّر" هو، وليحافظ على مكانته الاجتماعيّة هو؛ وليبقى رأسه "مرفوعًا" هو... أمّا هي، فلا حق لديها نهائيًا، على الرغم من حقيقة أنّه لم يتعب في رعايتها، ولم يمنحها أي شيء، ولم يكن موجودًا حين كبرت. هذا كلّه عبارة عن أشياء تافهة، فنحن علينا أن نكون مملوكين بالأسماء والنسب. فهي مُلك منذ الولادة: كجسد وأفكار ومعتقدات وتقاليد. وهذه ليست عبارة عن ظاهرة فرديّة تخص الحالة العينيّة، بل بصورة أدق هي ثقافة عامّة: بنت فلان؛ ابن فلان؛ سوّد وجه أهله؛ رفع راس أهله... إلخ من هذه الثقافة التي تستعبد الأبناء.

وهنا أيضًا، يولد السيّد كسيّد من جديد، وتولد العبدة من جديد. يُصبح كُل شاذ يقوم به عن المتّبع ثقافيًا مفهوما ومبرّرا، ويصبح كل ما تقوم به شاذا عن التقاليد والعادات عبارة عن عار يلحق الابن والأب غير الملتزمين ذاتيًا بالتقاليد.

ودون الخوض كثيرًا في تفاصيل التقاليد، المعروفة للجميع وكتب عنها الكثير، فإنّ هذه المنظومة من العلاقات لا يمكنها أن تكون إلّا علاقة عبوديّة غير تقليديّة: الملكيّة على العبد دون وجوده المادّي. أي أن سلوك العبد يُحسب على مالكه دون الحاجة حتّى إلى علاقة عبوديّة مباشرة. وهذا كلّه يحصل من خلال منظومة تُعيد إنتاج العبوديّة كاملة: بنته "فضحته.. نزّلت راسه.. أبوها محترم"... إلخ من المصطلحات التي يتم تداولها يوميًا في المجتمع بهدف تعزيز البنية التي بات الجميع يعيشها دون أن يراجع ذاته لمرّة واحدة عن المنطق وراء مثل هذا السلوك. وهذا طبعًا، قبل الخوض في السلوك الاجتماعيّ الذي يُقصي ويُعاقب ويُحاسب الأهل على سلوك ابنتهم مثلًا، حيث يغدو القتل نوعا من أنواع الخلاص من الإقصاء الاجتماعيّ.

المرأة والتحرّر السياسيّ: منطق الأولويّات

كثيرًا ما يتم تداول مقولة "أولويّات النضال" أو "عدم الخوض في صراع مع المجتمع مقابل الصراع الأساسيّ مع الاحتلال" وكأن التحرّر الاجتماعيّ عائق أمام التحرّر السياسيّ. ومن مبدأ خيارات، لن أكتب مقولة "الحريّة لا تتجزأ" على الرغم من دقّتها وصحّتها ومنطقيّتها. ولكن، سأحاول أن أفنّد هذا الادّعاء من خلال ذات المنطق الانتهازيّ في التفكير السياسيّ وبعيدًا عن أبجديّات الأخلاق التي باتت هي الأخرى محل نقاش في شرط وخطاب سياسيّ لم يؤد إلّا إلى مزيد من القتل والعنف والتفكّك الاجتماعيّ والسياسيّ.

والأغرب: لا تزال فئات واسعة جدًا من النخب السياسيّة تتمسّك به، دون أي مراجعة لما حقّقه في صراعنا مع الصهيونيّة، ودون أن يمنحوا الفرصة لمراجعته أصلًا. هذا الخطاب السياسيّ الذي لا يزال حتّى يومنا يتمسّك بهذه المقولات: لا وقت لتحرّر المرأة؛ لا وقت لمحاربة التكفير الدينيّ؛ الوحدة الوطنيّة أهم شيء؛ الاقتتال الداخليّ في مصلحة إسرائيل... وإلخ من هذه المقولات التي أثبتت التجربة أنّها لا تقود إلّا إلى المزيد من التفكّك.

تحرّر المرأة من منظومة العبوديّة هذه ليست قضيّة ثانويّة، وليست أيضًا قضيّة المرأة حتّى في التفكير السياسيّ الانتهازي. وإذا كان الهدف فعلًا هو التحرّر من الصهيونيّة والاحتلال، فإن التحرّر لن يتم بنصف مجتمع. نحن نعيش في مجتمع أكثر من نصفه عبارة عن عبيد، مقموعين ومقيّدين. وكأنّنا سنتحرّر من إحدى أكبر وأعتى حركات الاستعمار في التاريخ، بنصف مجتمع في أفضل الحالات إذا لم نضف إلى ذلك الأطفال والأبناء والعجزة.

وما يثير السخريّة أكثر من ذلك: هو مهادنة ثقافة العبوديّة بهدف التحرّر والعدالة. وكانّنا ويا للسخريّة، نستطيع هزيمة الصهيونيّة بربع مجتمع قامع، حيث لا يمكن ولا بأي شكل من الأشكال، تسميّة هذا القامع حُر. فالسيّد أيضًا، يخسر حريّته عندما يعمل ليلًا ونهارًا لأجل الحفاظ على صورة ومنظومة العبوديّة وتتحوّل المنظومة نفسها إلى ذات قامعة لكل المجتمع، الذي يطمح على مستوى الشعار للتحرّر من المُستعمر، في الوقت الذي يتوجّب عليه التحرّر من ذاته ليبدأ خطوته الأولى في التفكير بسبل التحرّر من المستعمر.

 


تصميم وبرمجة: باسل شليوط