في النظر في محاكمة نتنياهو

قبل أقل من نصف ساعة من بدء محاكمته، وقف بنيامين نتنياهو على بسطة الدرج في بناية المحكمة المركزية الإسرائيلية، في شارع صلاح الدين في القدس، ووقف خلفه عشرة من وزرائه يرتدون الكمامات. تحدّث نتنياهو إلى وسائل الإعلام، وشنّ هجوما كاسحا على النيابة العامة والشرطة ووسائل الإعلام، واتهمها بالاجتماع على حياكة مؤامرة لتصفيته سياسيا، بهدف ضرب اليمين الإسرائيلي كما قال. كانت كلماته نارية وهجومية وشعبوية، أثارت لدى الكثير من الإعلاميين والمحللين، خوفا وخشية من أن يؤدّي هذا الهجوم إلى زعزعة قوة ومكانة «أجهزة القانون والعدالة في إسرائيل».

بعد أن أنهى نتنياهو خطابه اتجه مع محاميه إلى قاعة المحكمة، ليمثل أمام ثلاثة قضاة، ولكن كلامه لم يترك مجالا للشك: هو يريد أن يحسم المحكمة خارج المحكمة، مستغلا قوته السياسية، ومكانته كرأس للدولة في إسرائيل.

كان أول ما خطر ببالي، حين استمعت إلى خطاب نتنياهو، وإلى تقارير الإعلام من داخل وخارج بناية المحكمة، وهو بناية المحكمة نفسها. فهذا الصراع الإسرائيلي بين رئيس وزراء فاسد وأجهزة فرض القانون، يدور فوق أرض هي أصلا وقف إسلامي، وفي بناية أقامتها السلطات الأردنية كمحكمة في منتصف الستينيات. وحين احتلت القدس الشرقية عام 1967، استولت إسرائيل على البناية. وبعد أن قررت دولة الاحتلال، لنفسها بنفسها، أنّها وريثة الحكم الأردني في القدس، وضعت يدها على البناية واستعملتها، كما هي وكما كانت جاهزة بلا إضافة وبلا تغيير (حتى اليوم)، كمحكمة مركزية في «أورشليم». لقد استولت إسرائيل أيضا على البناية المقابلة، التي أقامها الأردنيون كمقر لمحافظة القدس، وقامت بتحويلها إلى مقر لوزارة القضاء الإسرائيلية. وبعد الاستيلاء على المكان قامت إسرائيل الدولة ببسط «العدالة» في المحيط. المحكمة نفسها التي قامت على السطو، تصدر القرارات بإخلاء الناس من بيوتها في الشيخ جرّاح، ووادي الجوز وسلوان وغيرها. المحكمة نفسها القائمة على السرقة تحاكم السارقين، المحكمة نفسها التي أنشئت عبر الدوس على العدالة، تأتي الآن لتحاكم نتنياهو بمشهد «عدالة» بمستوى رفيع. لو جرت محاكمة نتنياهو في دولة عادية، لاستحقّت الاحترام والتقدير، باعتبار أن سيادة القانون الحقيقية هي أن لا أحد خارج سلطة القانون حتى رأس الدولة. لكنّ إسرائيل ليست دولة عادية، وهناك حاجة دوما لنزع الأقنعة عن المشهد، الذي يخفي خلفه جريمة ما، تعمل إسرائيل دوما على محو آثارها. إنّه الهوس الفلسطيني بالمكان وقصّة المكان، الذي ينقذ السردية من طي النسيان، ونحن في حاجةإلى هذا «الهوس» حتى لا تضيع الحكاية ومعها الأمل في الوطن. هاكم المحكمة المركزية الإسرائيلية في القدس، جاءت محمّلة على مصفّحات الجنود، الذين احتلوا البلد، لتقوم عنوة في شارع صلاح الدين في قلب المدينة، فوق ارض وقف إسلامي في بناية هي ملك عام لأهل القدس الفلسطينيين، وفق هذا كلّه تدعي إقامة العدالة وحماية القانون. فقط المشروع الصهيوني يتحمّل كل هذه المفارقات ويتعايش معها بانسجام وتناغم، عبر آلية طمس المعالم وصناعة النسيان عند الضحية، واختلاق الذاكرة التاريخية عند المستعمرين.

إسرائيل ليست دولة عادية، وهناك حاجة لنزع الأقنعة عن المشهد، الذي يخفي خلفه جريمة ما، تعمل إسرائيل على محو آثارها

لكن المكان ليس المفارقة الوحيدة في مشهد محاكمة نتنياهو، فقد حضرتني خلال متابعة التغطية الإعلامية لمحاكمة نتنياهو، مشاهد فيلم براين دي بالما «غير القابلين للمس» (The Untouchables) الذي يعرض القصة الحقيقية للشخصية الأسطورية، آل كابوني (1899 ـ 1947)، رئيس المافيا في شيكاغو في الثلاثينيات، الذي ارتكب الجرائم والموبقات وأعمال القتل والنهب والتخريب بالجملة، ولم تستطع السلطات الأمريكية تقديمه للمحكمة سوى في موضوع «التهرب من الضرائب»، حيث حكم عليه بالسجن 11 عاما. هكذا نتنياهو، الذي أصدر الأوامر بقتل 2200 فلسطيني في غزة عام 2014، وهو المسؤول عن أعمال قتل وهدم وسطو، لا تعد ولا تحصى، ثم يحاكم الآن على فساد مالي. قد تثبت إسرائيل عبر هذا الملف أنّها دولة قانون، قانونها هي، لكنها في المقابل تدين نفسها بأنّها تدوس العدالة: تبيح القتل وتمنع الفساد. وهنا وجه آخر للشبه بين إسرائيل الدولة والمافيا. عصابات العالم السفلي تسمح وحتى تطلب من أعضائها ارتكاب الجرائم ضد الآخرين، ويعد ذلك نوعا من البطولة يستحق المجد والتمجيد، لكنّها تفرض أشدّ العقوبات على من يخالف نظامها الداخلي المتعارف عليه، وإذ أن السرقة والنهب والسطو مسموحة ومحبّذة في عرف العصابة، فإنّ المس بمال العصابة يعتبر خيانة تستحق العقاب. خرق القانون العام هو جزء من قواعد العمل في العصابات، لكنّ من يخرق قوانينها الداخلية يتعرّض للمحاسبة ويدفع الثمن غاليا. عقلية العصابة هي التي تحكم إسرائيل، فالأشخاص الذين يصفون تورّط نتنياهو في ملفات الرشوة والفساد، بأنّها مخالفة لا تغتفر، وحتى خيانة ويطالبون بمعاقبته على اعتبار انه خرق القانون المتعارف عليه، ومدّ يده للاستفادة الشخصية من المال العام، هم نفسهم يمدحونه على قصف غزة وقتل الآلاف ويطالبون بالمزيد. إسرائيل هنا تنضم إلى نظام الليبرالية المزيّفة وازدواجية القيم، والذي بان جليا في «ووترغيت» نيكسون، الذي ارتكب الجرائم والمجازر الفظيعة في فيتنام، ولوح على «التنصّت» على مكاتب الحزب الديمقراطي.

في النظر في محاكمة نتنياهو من الممكن أن نغرق في التفاصيل وهي كثيرة جدّا ومثيرة جدّا، ومن الممكن أيضا أن نقع في مطبّ الوهم بأنّ «طوشة» في العصابة تؤدّي إلى تفككها، كما في الأفلام، وكما في «دليل» كتابة سيناريوهات الأفلام. النظام الإسرائيلي، مع الأسف، متماسك جدّا ولن يتأثّر بالضربات التي يوجهها نتنياهو لبعض أركانه المهمة، وبالأخص الشرطة والنيابة العامة والإعلام. هدف نتنياهو هنا ليس الهدم، بل السيطرة على الدولة العميقة، خدمة لمصلحته الشخصية ولأجندة اليمين، الذي يريد أن ينظّف المؤسسة الإسرائيلية من جيوب النخب القديمة، نخب اليسار الصهيوني والليبرالي، لذا ليس من المتوقّع أن نرى تصدعا جديا في بنية النظام الإسرائيلي.

في النظر في هذه المحاكمة، أكثر ما يهم هو تداعياتها وإسقاطاتها السياسية. لا يحدث شيء في إسرائيل، إلّا وله أثر في القضية الفلسطينية، وكثيرا ما تؤدي أزمة سياسية داخل النظام الإسرائيلي إلى عدوان عسكري، وإلى جرائم فظيعة كمخرج من هذه الأزمة. لعلّ أوضح أثر لقضية نتنياهو هو ارتفاع شعبيته الشخصية، وازدياد قوّة حزب الليكود الذي يرأسه، ويأتي ذلك عكس التوقعات، حيث توهم من هم ضده بأن تقديم لائحة اتهام، وبداية المحكمة ستؤدّي إلى إضعافه. الذي حدث هو أن نتنياهو أحكم سيطرته على الليكود، وبنى استراتيجية مكوّنة من ثلاثة مركبات، نجح من خلالها أن يبقى في الحكم، وأن يقوّي مركزه، على الرغم من التهم الموجهة ضده: الأولى هجوم كاسح ومنظم على الشرطة والنيابة، وبث الإشاعات وتلفيق التهم لها بأنّها تريد ليس إسقاطه فحسب، بل إسقاط اليمين خدمة لأجندة اليسار (غير الموجود في الواقع). والثانية هي اتباع خطاب أكثر تطرفا وأكثر عنصرية، لا يترك المجال ليمين متطرف على يمينه. وقد صرّح عوزي أراد، المستشار السياسي والأمني السابق لنتنياهو، الذي رافقه في محطات كثيرة، بأنّ نتنياهو، المتطرّف أصلا، غيّر لهجته واتبع مواقف وخطابا أكثر تطرفا، بعد بدء التحقيق معه، وقام بجهود محمومة للحصول على «إنجاز تاريخي» مثل الضم. والثالثة، تسويق النجاح في مجالات الاقتصاد والأمن والسياسة الخارجية، والتركيز على ارتفاع مستوى الحياة ومعدلات النمو (قبل كورونا)، والمفاخرة بالهدوء الأمني وبالاعتداءات العسكرية على الأراضي السورية وحتى العراقية. كما لا يفوّت نتنياهو فرصة للتأكيد على إنجازاته السياسية في العلاقة مع الولايات المتحدة، وفي الحصول على خطة ترامب، وللتباهي بعلاقات «ممتازة» مع دول عربية كثيرة.

رغم ازدياد قوّة نتنياهو في المجتمع الإسرائيلي ومن حصوله على أغلبية مطلقة، حسب استطلاعات الرأي الأخيرة، فإنّه يواجه محكمة ليست سهلة قد تؤدّي إلى نهاية حياته السياسية. إنّه ذئب قوي، لكنّه ذئب جريح. وحالة «القوي الجريح» هي في غاية الخطورة، قد تؤدّي إلى حرب على لبنان أو على غزّة وإلى مغامرات عسكرية في أكثر من جبهة. لقد اعتقد نتنياهو بأنّ حصوله على إذن أمريكي بتنفيذ الضم سيؤدّي إلى فوز كتلته بأغلبية مطلقة تمكنّه من تغيير قوانين تعطّل محاكمته. يعمل نتنياهو على الاستفادة قدر الإمكان من مشروع الضم، لكن هذا لن يكفيه، لذا ليس مستبعدا أن يبحث عن خطوات أخرى تساعد في التسويف وفي إطالة محاكمته سنين طويلة، يجد خلالها طريقا للإفلات من عقوبة السجن. نتنياهو في المحكمة في منزلة «القوي الجريح»، وهو تبعا لحجم قوّته وعمق جرحه أكثر خطورة، وقد يلجأ إلى مسارات وخطوات سياسية وعسكرية مدمّرة لإنقاذ نفسه ولو مرحليا.

*رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي


تصميم وبرمجة: باسل شليوط