الهبّة والذكرى: الصراع المستمر على الروّاية والذاكرة

زيارة أضرحة الشهداء بالناصرة

مر عقدان منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، انتفاضة القدس والأقصى والتي اندلعت في الضفة والقطاع ولم يستثن الفلسطينيون، مواطنو دولة إسرائيل أنفسهم منها منذ اللحظة الأولى لانطلاقها، بحيث انفجرت الهبّة الشعبية بأوساطهم ضمن عملية التحام طبيعية مع أبناء شعبهم في الانتفاضة التي اندلعت جراء حالة تراكمية منذ أوسلو وصولاً إلى قمة كامب ديفيد الثانية التي حاصرت الموقف الفلسطيني، وانتهاءً برفض فرض السيادة الإسرائيلية على القدس والأقصى متمثلةً باقتحام شارون للأقصى في حينه.

تعود ذكرى مرور عقدين من الزمن على اندلاع الانتفاضة بالتزامن مع حالة سياسية ودبلوماسية تعتمد محاصرة الشعب الفلسطيني في حقوقه التاريخية وتقرير مصيره، من خلال "صفقة القرن" وتنفيذ اتفاقيات تطبيع ما بين إسرائيل والإمارات ومملكة البحرين، والتي تعبّر عن انسحاب هذه الدول من التزاماتها تجاه القضية الفلسطينية ولتشكّل طعنة للفلسطينيين وللموقف العربي الرسمي الجماعي المعلن، بحيث  مكنّ الواقع السياسي الدولي وتنامي الأنظمة اليمنية أوروبياً وأمريكياً إسرائيل من بناء تحالفات استراتيجية تساهم في تفكيك عزلتها، خاصةً التحالف المتين مع الولايات المتحدّة الذي يعمل على تجريم النضال الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية، ومساندة المصالح القومية الإسرائيلية، ضمن تحالف استراتيجي في المنطقة.

د. هبة يزبك

إن إحياء ذكرى الهبّة ضمن التطّورات السياسيّة الراهنّة، يُحتِم التعامل مع مشروع بناء الذاكرة الجماعيّة وتثبيت الروّاية الفلسطينيّة التي يتم محاصرّتها والعمل على محوّها وتشويهها بشكل منهجيّ من قبل إسرائيل وحلفائها، وذلك في محاولة دؤوبة لشرعنة الاحتلال والفعل الاستعماري وجرائمه مقابل تجريم النضال والاحتجاج الفلسطيني العادل وإخراجه خارج الشرعية.

بهذه العقلية تعاملت أيضاً لجنة "أور"، اللجنة القضائية الرسمية التي أقيمت بهدف التحقيق بأحداث أكتوبر ٢٠٠٠ واستشهاد ١٣ شاباً عربياً من المواطنين في الدولة، بحيث أشارت اللجنة إلى المظاهرات والاحتجاجات على أنها "أعمال شغب" وبأنها نتاج تحريض بعض الأحزاب والقيادات العربية التي اعتبرها التقرير على أنها "متطرفة"، وعلى رأسها عزمي بشارة، رائد صلاح وعبد المالك دهامشة، في محاولة لتجريم الضحية وانتزاع حقها بالنضال والتعبير عن ذاتها وعن هوّيتها القوميّة والوطنيّة.

لقد راهنت إسرائيل على أن سياسة الأسرلة التي اتبعتها خلال عقود ستقود نحو تطوير ولاء الفلسطينيين تجاه الدولة أي لضمان "الهدوء"، وتدجين إمكانية التمّرد عليها - طاعةً أو خوفاً - لتأتي الهبّة الشعبية وتحطّم النموذج الإسرائيلي المنشود وتُذكّر بالذاكرة الجماعية والرواية التاريخية التي عملت إسرائيل على مدار سنوات لتذويبها ومحوّها، ليؤكد الفلسطينيون على أن التأريخ الصهيوني الدؤوب لتشويه بقائهم في وطنهم يسقط أمام الفعل الجماعي المّوحد الحيّ والفاعل بين أبناء الشعب الواحد، والذي عملت إسرائيل بجد لمحاولة إعادة تشكيّله، وفشلت! وبهذا لا يمكن قراءة ومراجعة هبّة أكتوبر دون الوقوف عند سؤال الصراع على الذاكرة، الصراع على الرواية، الصراع على الحق والقوة، وهو السؤال الحيّ دائم الحضور ضمن التفاعلات السياسيّة القائمة.

استطاعت هبّة أكتوبر التأسيس لمرحلة جديدة من الصدامية ما بين الفلسطينيين وإسرائيل، الأمر الذي دفع إسرائيل نحو تعزيز استراتيجيات مواجهة المجتمع الفلسطيني بأدوات جديدة- قديمة، من خلال الاستمرار بمحاولات القمع السياسي وتجلياته المختلفة، إلى جانب مسارات "الاحتواء" القائمة على استهداف الجيل الفلسطيني الشاب، وذلك بمحاولة لإصابة المجتمع الفلسطيني في "عصبه الحسّاس"، أي جيل الشباب، بمحاولة للتأثير على الوعي السياسي وعملية تشكّل الرواية والذاكرة وبلورتها من جديد، ضمن عملية "فك الارتباط" مع الانتماء القومي الفلسطيني، وهنا سأتطرق لمسألتين: الخدمة الوطنية الإسرائيلية، وتفشي العنف والجريمة في المجتمع العربي الفلسطيني.

أولاً: إن محاولات تشويه الوعي ما بعد أكتوبر ٢٠٠٠، انطلقت رسمياً مع تشكّل لجنة "لبيد" وتوصياتها، وهي اللجنة الوزارية المشكّلة في أعقاب توصيات "لجنة أور"، إذ من ضمن ما دعت إليه لجنة لبيد- التي هدفت لبلورة خطة حكومية لإيجاد حلول للمشاكل التي يعاني منها المجتمع العربي- هو دمج الشباب العرب في الخدمة الوطنية الإسرائيلية، وهو مقترح قديم جديد، هذا إضافة للعمل على تشجيع الاندماج في الشرطة والجيش. اتباع منهجية "الدمج" بموازاة "القمع"، وليس مكانه. وقد هدف مشروع الخدمة الوطنية أساساً إلى قمع تطلعات الشباب الفلسطيني بالانتماء والهوّية، والربط ما بين الحقوق والواجبات والمواقف السياسيّة، كمحاولة للسيطرة واحتواء الشباب الفلسطيني الذي وضع كمجموعة هدف استراتيجية من قبل الحكومة وفقاً لتوصيات اللجنة.

ثانيا: وفي سياق، يبدو كأنه منفصل، لكنه متصل وملتصق شديد الالتصاق، حالة تنامي في العنف والجريمة ما بعد العام ٢٠٠٠، ليصل عدد الضحايا إلى قرابة ١٥٠٠ ضحية خلال عقدين!

 وذلك ضمن عملية تواطؤ من قبل الشرطة ومؤسسات الدولة، ليتم المسّاس في صميم العلاقات الاجتماعية والحصّانة الداخلية واختراق حالة الأمن المجتمعي وفقدانها بشكل فظ. بمعنى تحويل مركز الثقل نحو إضعاف المجتمع الفلسطيني من خلال مسارات مجتمعيّة داخلية، تعمل على مواجهة الانتماء المجتمعي، مقابل الاستمرار بالسياسات العنصرية المعلنّة والمتبعة، من خلال القمع السياسي، استمرار العنف الشرطي وقتل العرب، إذ قتلت الشرطة خلال العقدين الأخيرين ٤٥ ضحية من العرب، إضافة للتشريعات العنصرية المتوالية لتثبيت الفوقيّة اليهودية وعلى رأسها قانون القومية وقانون كمنيتس.

سارعت إسرائيل من وتيرة السياسات العنصرية تجاه العرب خلال العقدين الأخيرين دون رادع، ومواجهة حالة الانفلات العنصري يتطلب عملية شحن وطني مستمر، تعزيز الحصّانة الوطنية وفي عمادها الانتماء القومي والقيم الإنسانية الديمقراطية التي من شأنها أن تشكّل السياج الواقي لهذا المجتمع.

هكذا هي رسالة هبّة القدس والأقصى، ضمان تحويلها إلى فعل مؤثر من خلال استثمارها سياسياً في مسار العدالة والحق وتصحيح الغبن التاريخي، وتحويلها الفاعل لمسار نضالي احتجاجي يعتمد على الإصرار بتحقيق العدالة ويدفع نحو تغيير في بنية النظام وجوهره.

*نائب عن التجمع الوطني الديمقراطي- القائمة المشتركة.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط