إسرائيل كحقل تجارب للقاح كورونا

د. جمال زحالقة

يستبشر العالم خيراً بالشروع بعملية تطعيم واسعة للحماية من جائحة كورونا. وإذ ضمنت الدول الغنية لنفسها الحصول على القسط الأكبر من التطعيمات، بعد أن دفعت ثمنها سلفا، بقيت الدول الفقيرة في انتظار مجيء دورها للحصول على شحنات التطعيم المرتبطة بتوفير مبالغ طائلة لدفع ثمنها، وليس لدى معظم هذه الدول إلى الآن ما يكفي لتغطية تكلفة التطعيمات اللازمة لمواطنيها، وهناك بعض التوقعات بأن لا تصل التطعيمات بعض الدول قبل عام 2024.

وإذ تنبّأ البعض، بعد تفشّي الجائحة، أن يكون هناك تعاون دولي في مكافحتها، وأن يتوسّع هذا التعاون إلى مجالات أخرى، ليرتفع شأن الشراكة والتضامن على المستوى الكوني، جاء السباق المحموم بين الدول للحصول على لقاحات كورونا، لينسف الآمال بغلبة التعاون والعمل المشترك على المنافسة والمزاحمة. لقد انتشر وباء كورونا في أرجاء المعمورة كافة، ووصل إلى أكثر من 210 دول، ولكن توزيع التطعيم ضده يجري بعدم مساواة صارخ بين الدول الفقيرة والدول الغنية.

اللقاح بين الفعالية والنجاعة

إن تطوير اللقاح بهذه السرعة، هو إنجاز عظيم للعلم وللطب، ودليل على قدرة العلماء على ترجمة المعرفة العلمية المتوسّعة باستمرار، إلى حلول عينية لتحديات تتعلق باحتياجات وصحة ورفاهية الجنس البشري، وأجناس أخرى. أما الادعاءات بأنّ اللقاح غير فعّال، أو بأنه ضارّ وحتى بأن له غايات لا تتعلق بالصحة وبالعلاج، فهي ادعاءات واهية لا سند علمي لها، ويمكن لكل واحد أن يذهب بتصوّراته وبكلامه إلى حيث يشاء، إذا كان هو وخياله الخصب، وليس العلم والطب، مرجعية الادعاءات. أعرف شخصيّا عن قرب كيف تتم عملية المصادقة على أدوية جديدة، فأنا أحمل شهادة الدكتوراه في الصيدلة، وقد تعاملت في الماضي مع مسار تطوير دواء (لم يصادق عليه في النهاية). هناك، بالطبع، تساؤل منطقي ومشروع حول سرعة المصادقة على التطعيمات، حيث جرى ذلك خلال عدة أشهر مقابل عدة سنوات في حالات مماثلة في الماضي. والجواب هو أن السرعة كانت ضرورية، لمحاربة انفلات الجائحة، وأن تقصير الوقت جاء على حساب الإجراءات البيروقراطية الطويلة والمعقّدة، وليس على حساب التجارب العلمية الصارمة. لن أسرد هنا البراهين على فعالية التطعيم، الذي أقرّته الهيئات الصحية المخوّلة، واكتفي بالقول إن العلماء الذي فحصوا وصادقوا هم في أعلى المستويات المهنية في العالم، ولم نسمع عن أي عالم مهم وضع علامات استفهام على هذه المصادقة. كل المعلومات، التي بأيدينا تشير بوضوح إلى أن التطعيم فعّال وآمِن، وعلينا أن ننصح به كل من استطاع إليه سبيلا.

كل قرارات المصادقة على اللقاحات المختلفة، هي قرارات مصادقة مؤقّتة، وتستند إلى قاعدة «الفعالية» التي جرى إثباتها، بشكل مُرضٍ، في تجارب في الحقل، بمشاركة عيّنة من عشرات الآلاف من البشر، ووصلت فعالية لقاح شركتي «فايزر» و»مادونا» ما يقارب 95% والتطعيم الروسي حوالي 91%. لكن «الفعالية» في مجال التطعيم ومكافحة الأوبئة بالأخص، لا تعني «النجاعة» التي تستقي مصداقيتها من السيطرة على الجائحة والقضاء عليها، في مجتمع فعلي يضم ملايين البشر. الفرضية هي أن التطعيم سيكون ناجحا في المجتمع الواسع، كما كان في مجموعات العيّنة الصغيرة نسبيّا، لكن هذه الفرضية بحاجة لإثبات. هناك حاجة للتأكّد من أن التطعيم الفعّال في تطوير مناعة الأفراد، ناجعٌ أيضا في حماية المجتمعات والقضاء على الجائحة.

لماذا إسرائيل هي الأولى في التطعيم؟

هناك تساؤل يتردد، لماذا إسرائيل في المكان الأوّل في العالم في سرعة التطعيم؟ الأرقام واضحة، فقد وصل عدد الذين تلقّوا التطعيم ما يقارب 1.5 شخص، ما نسبته حوالي 16% من مجمل السكّان، وهي النسبة الأعلى في العالم بفارق كبير جدّا عن دول العالم الأخرى، حتّى الغنية والمتطوّرة منها. إنّها ظاهرة غريبة بعض الشيء، وتحتاج إلى تفسير. فورا بعد الانتشار الأولي لجائحة كورونا، بدأ معهد الأبحاث البيولوجية الإسرائيلي العمل على تطوير تطعيم ضد الجائحة. كل ما يقوم به هذا المعهد هو نشاط سرّي في طي الكتمان، وقد جرت في الماضي محاكمة وسجن أحد كبار علمائه لأنّه أفشى ببعض أسراره إلى عميل روسي. لكن وفي المراحل الأولى لتطوير اللقاح «الإسرائيلي» أقام نتنياهو الأرض ولم يقعدها مدّعيا بأن إسرائيل ستكون الدولة الأولى التي تطوّر تطعيما فعّالا وناجعا. بعد مدّة قصيرة، تبين أنها لن تكون كذلك، وهذا التطعيم، الذي يعتمد الطرق الكلاسيكية، سيكون جاهزا، في أحسن الأحوال بعد سنة من الآن. في المقابل راهنت إسرائيل على تطعيم شركة «موديرنا» ودفعت سلفا ثمن ملايين وجبات اللقاح. موديرنا، كما هو معلوم، لم تكن السبّاقة في إدخال لقاح لكورونا إلى الأسواق. وسوف تصل الشحنات الأولى للقاحها بعد وصول ملايين وجبات تطعيم من شركة «فايزر» التي كانت الأولى في الإعلان عن نجاحها في تطوير تطعيم فعّال وآمن، فسارع نتنياهو إلى الاتصال بمديرها، وأجرى معه مفاوضات لم تخل من اللعب على أوتار أصوله اليهودية من مدينة سالونيكي اليونانية، التي جرت فيها عملية إبادة منظمة لليهود في الحرب العالمية الثانية. وكان نتنياهو مستعدّا أن يفعل المستحيل لتكون لإسرائيل الأولوية بالحصول على تطعيم «فايزر» رغم انّها دخلت على الخط متأخّرة وسبقتها دول كثيرة في التعاقد وعقد الصفقات.

قام نتنياهو بتحرّك محموم للحصول على تطعيم «فايزر» اعتقادا منه أن نجاحه وسقوطه الشخصي، في الانتخابات، يتعلّق كثيرا بالسيطرة على جائحة كورونا، التي تفجرت مؤخّرا لتصل إلى مستويات عالية وخطيرة جدّا، والبدء في تحريك عجلات الاقتصاد، التي غاصت عميقا في وحل الركود والانكماش والبطالة. لقد نجح في التوصّل إلى اتفاق مع «فايزر». وأثار هذا النجاح سلسلة من التساؤلات عن أسبابه وملابساته، ورغم سريّة تفاصيل هذا الاتفاق، فإنّه من الممكن الاستدلال من السياق، ومن التسريبات المختلفة على طبيعة الصفقة وحيثياتها المهمة:
أولا: دفعت إسرائيل ثمنا مضاعفا للتطعيم للحصول على أولوية وبكميّات كبيرة من التطعيم، بناء على المعادلة التي اعتمدتها شركة «فايزر» وهي انه كلما تأخّر المشتري عليه أن يدفع أكثر.
ثانيا: هناك مؤشّرات إلى أن إسرائيل وافقت على السماح لشركة فايزر بالاطلاع على معلومات من الملفات الطبية للسكّان كافة، وهذه معلومات تساوي في الواقع أكثر من الثمن المضاعف، الذي دفعه نتنياهو. وحتى لو قدّمت المعلومات إلى فايزر بلا أسماء، فهي تساوي الكثير من الناحية التجارية، خاصة أن هذه السابقة ستضطر دولا كثيرة للخضوع لطلب فايزر مراقبة الملفات الرقمية لصحة المواطنين كافة، بادعاء التأكّد من نجاعة وفعالية اللقاح، ومن أعراضه المحتملة. لقد تلقت دول أخرى، ومنها اليونان وبريطانيا، عروضا بمبادلة المعلومات الصحية للمواطنين بخدمات مجانية ورفضتها جملة وتفصيلا، ما قامت به إسرائيل سيسهّل طمع شركات الأدوية بالحصول من دول مختلفة على معطيات تفيدها تجاريا، خاصة إذا اقترن ذلك بنجاح نموذج سيطرة على الجائحة يشمل مراقبة مباشرة على صحة الناس، خلال عملية التطعيم الجماهيري الواسع، وفي إسرائيل تحديدا.

إسرائيل قوّة محتلة تمارس الأبرتهايد الصحّي، وتتهرّب من مسؤوليتها حتى في مجال مكافحة الوباء

ثالثا: وهذا الأهم، أن شركة «فايزر» وبعد أن برهنت فعالية اللقاح في توفير المناعة للأفراد، أرادت إثبات النجاعة في مكافحة الجائحة، ويلزم ذلك دولة عندها ما يكفي من المال لاقتناء جرعات لقاح تغطّي كل السكّان، ولديها جهاز طبّي متطوّر وناجح وقادر على تطعيم جميع السكّان بشكل منظم وبسرعة، واستنادا إلى قاعدة بيانات مركزية قبل وبعد التطعيم، بحيث يكون من الممكن متابعة سير العملية وفحص نتائجها. ولهذا الغرض المطلوب دولة صغيرة الحجم، تأتي بنتائج سريعة تمكن الشركة من زيادة المبيعات والأرباح. وقد وقع الاختيار على إسرائيل، التي تتوفّر فيها هذه الشروط: المال الكافي والمعلومات المتاحة والجهاز الطبي المنظم والناجع. هكذا أصبحت إسرائيل حقل تجارب لنجاعة لقاح الكورونا، ووصلت تبعا لذلك إلى المكان الأول في العالم في تطعيم مواطنيها. يعتمد الجهاز الصحي في إسرائيل على ما يسمى صناديق المرضى، وهي أجهزة خدمات صحية جرى تأسيسها كجزء من المشروع الكولونيالي الصهيوني في عهد الانتداب البريطاني، الذي منحها الدعم والرعاية. ويعود هذا النظام إلى التوجهات التاريخية لليسار الصهيوني، الذي نظّر ونفّذ العمل الجماعي المنظّم كأداة ناجعة في بناء الأمّة ومواجهة «العدو» الفلسطيني والعربي. وقد تطوّر هذا الجهاز كثيرا في العقود الأخيرة وله انتشار واسع في كل المناطق والبلدات وليس عنده مشكلة في تطعيم الملايين، خلال فترة وجيزة.

لم يتخلّص الجهاز الصحي الإسرائيلي من طابعه الكولونيالي، ونجاحه في تطعيم الملايين، يزيد من هذا الطابع، لأنّ هذه الملايين لا تشمل الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال الإسرائيلي، الذين تتحمّل إسرائيل وفق القانون الدولي مسؤولية توفير الحماية الصحية لهم. هي تتنصّل اليوم من هذه المسؤولية، بادعاء أن اتفاق أوسلو استبدل القانون الدولي، وأعطى السلطة الفلسطينية، في الضفة وفي غزّة، المسؤولية عن صحة مواطنيها، وكأنّ الاحتلال قد انتهى. وحين تلوّح إسرائيل أمام العالم بأنّها مثال ونموذج للنجاح في مكافحة الجائحة، التي اكتسحت العالم، يجب أن نطرح أمام العالم حقيقة أنها قوّة محتلة تمارس الأبرتهايد الصحّي، وتتهرّب من مسؤوليتها حتى في مجال مكافحة الوباء، وهي تعتقد أن انتشار الوباء في الضفة وغزّة لن يصيب مواطنيها، الذين يحملون «المناعة» الكافية.

*رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي


تصميم وبرمجة: باسل شليوط