القائمة المشتركة: هي موقف؛ قبل الموقع

لم يرَ التجمع الوطني الديمقراطي في القائمة المشتركة منذ تأسيسيها سنة 2015 مجرد قائمة محاصصة للمقاعد إطلاقا، فهي موقفٌ وموقع معا كما فهمناها نحن منذ البداية، والموقف هنا يسبق الموقع بالتأكيد من ناحيتنا كتجمع، وكان رفع نسبة الحسم إلى 3.25%، والخوف من 'السقوط'، من أهم الدوافع الأساسية التي أدت لتشكيلها عند المعظم ولكنه ليس الدافع الوحيد بالطبع، لبعضهم على الاقل، ومهما حاول البعض 'أدلجة' أو فلسفة 'التضحيات' الخارقة 'في سبيلها، فقطعا لم تكن بهدف صهر الوعي القومي الوطني التحرري من هناك، ولا هي بؤرة 'وهج' نحن الثورة والغضب كما  يحاول البعض أن يوهم نفسه، وغيره فيما بعد.

يعشقها البعض بدافع ضمان المحاصصة في الموقع بغض النظر عن الموقف بل لو كان على حسابه أيضاً، ومبالغة تصوير 'الضغط الشعبي' للمحافظة عليها لمجرد المحافظة على الجسمٍ، كونه إطارا جامعا فقط، بمفهومه السطحي الساذج حتى حين تصل بعض مركباتها حد التناقض فيما بينها، هي نوعٌ من محاولة بث الوهم الموهوم هو كذبة بحد ذاتها وعلى الذات قبل الغير.

طبيعة الحالة التناقضية التي وصلت إليها حال المشتركة اليوم لم تعد مطلبا شعبيا لدى كثيرين، خصوصا لمن يضع الموقف قبل الموقع، وقد اصبح الفرز الواضح مطلبا وواجبا في آن وبات من الواضح أيضا أن 'التحالفات' القائمة داخلها أشبه برقصة الأعرج والأعمى في الظلام، ومحاولة إعادة بنائها من جديد بمجرد 'صلحة عرب'، لن تتعدى محاولة إنعاشٍ بالضربة الكهربائية يأسا، بعد جلطة دماغية قاتلة أصابتها وفي أحسن حال هي محاولة توليدٍ بعمليةٍ جراحيةٍ قيصرية قد يخرج فيها المولود حياً وقد تفيد الشك هنا ولكن في أحسن حالاته سيولد معاقاً مشوها أو سليما معافى بعامودٍ فقري معطوب، يتعايش مع الإنحناء كقدرٍ ربانيّ، لا يقوى بفعله على رفع الهامة.

لا يحكم العلاقة الداخلية للمشتركة من قبل البعض سوى ديمومة البقاء للمعظم في 'الوكر' الذي يتصارعون للوصول اليه، فالموقع هو الأهم وهو الأساس والموقف مجرد تفصيل هامشي مجرد لدى بعضهم.

توافقت مركبات المشتركة على برنامجٍ حد أدنى، يجمع ما بين هوية الانتماء وحقوق المواطنة وقلع الاستيطان وإنهاء الاحتلال ويستند إلى حق شعبنا في الحرية والسيادة، والنضال العنيد ضد المشروع الصهيوني واليمين الفاشي العنصري الذي يستهدفنا كأصحاب الوطن الاصلانيين، كما يستهدف هويتنا الوطنية الجامعة كعربٍ لا طوائف كما يستهدف الرواية التاريخية معا.

إن هذا النهج الغريب و'نظرية' التفكير خارج الصندوق، الذي تبناه النائب الدكتور منصور عباس والذي يقود بزخمٍ مقلق لشرعنة اليمين العنصري ورمزه الأبرز 'نتنياهو'، بحجة الحصول على فتات الميزانيات بشكل غير مسبوق في ساحة العمل الوطني بخطابٍ فيه التطرف الاجتماعي يقابله الليونة السياسة التي تطالب بالحق المدني المشروط بخفض السقف السياسي لا بل بالمقايضة فيه، ما فتح الباب واسعا لهرولة غير مسبوقة من العرب نحو الأحزاب الصهيونية منذ فترة ما بعد اتفاقيات أوسلو وبشرعنة أقرب إلى الإعجاب للنهج المقايض.  

لم تأتِ خطوات النائب منصور عباس من فراغ بالطبع، فالنهج الذي مارسه النائب أيمن عودة كرئيس للقائمة المشتركة لسنوات خلت بالمقابل وبمنهجية مفرطة هي الأخرى في الرهان الخاسر على ما يُسمى بمعسكر اليسار والشعار المُبتذل الذي اجتهد كثيرا لتذويته خلال أشهرٍ ما قبل كل انتخابات بشكلٍ مكثف: شعار 'إسقاط نتنياهو' من دون وضع الفواصل الفارقة بين المنظومة الصهيونية العنصرية والشخص الذي جنى كل رصيده من عقليتها العسكرية بوصفها اليد الطولى والمخالب الأحَّد للمنظومة القائمة على الإجرام، جعلت 'باللا وعي' الشعبي البسيط من 'غانتس' شبه نبي مُنتظر في عقول كثيرين للأسف، و'أدلجت' شرعية الاحزاب الصهيونية لبعض أبناء جلدتنا، ففتحت دون وعي وبتفكير اللحظة الآنبة التي حجبت الرؤية لما هو أبعد من خطوة واحدة إلى الامام، فبدا واضحا أن كثيرين لن ينتظروا وسيطا لجرهم إلى هناك في اللاحق من الأيام فينضمون للركب مسرعين بقناعةٍ من أقنعهم قبل أيامٍ خلت؛ فكيف تلومهم؟!!

قبل سنة بالضبط تقريبا، كنتُ منتخبا جديدا للأمانة العامة، أجرى معي الصديق الصحفي وائل عواد 'لقاءً صحافيا ضمن برنامج لعبة شطرنج، سألني خلالها عن التوصية وقلت له ضمن ما قلت: 'سجِّل عندك عزيزي وائل! كمان سنة في انتخابات، في ناس لن تنتظر وسيطا نحو الأحزاب الصهيونية، ستذهب لوحدها نتيجة الإفراط المبالغ فيه بضرورة التوصية'.

ومن هذا المنطق المعطوب جاءت التوصية على جزار غزة، الجنرال 'غانتس' بهذا الاستسهال القاتل للكبرياء الوطنية، فضربتها في الصميم، ومع أن التجمع الوطني الديمقراطي اتخذ قرارا بعدم التوصية بإجماع أعلى هيئة حزبية، اللجنة المركزية و'توليفة' الالتزام بقرار الأكثرية داخل المشتركة، التي عارضتها بشدة ولا زلت كونها تتعارض مع الموقف والمنطق الوطني في القضايا السياسية الجوهرية وهي ليست خطأً بسيطا عابرا، بل خطيئة قاتلة وأقرب للفضيحة منها إلى الخطيئة وعلينا تقييمها لاحقا كحزب، وتسجيل موقف الاعتذار لحزبنا اولا، ولشعبنا فيما بعد وهي وصمة عار لحركة وطنية بكل حال والأغرب أن هناك من لا زال يعتبرها ليست خطأً فحسب وإنما 'حنكة' سياسة بارعة يا للعجب!!

نهج الرهان على 'اليسار' بحماسة مفرطة فتحت الأبواب واسعةً نحو الأحزاب الصهيونية فيما بعد، نشعر بتسارع وتيرتها يوميا، فمن اجتهد كثيرا لترسيخ وهم 'التأثير' من خلال 'اليسار' بهذا الشكل من المبالغة، التي وصلت حد الابتذال المفرط أتى بمن يستند إلى المنطق القاتل الساذج ذاته وانعطف انعطافا حادّاً في الاتجاه المعاكس نحو  اليمين وإلى 'رأس النبع' مباشرةً دون وساطة وسيط وبمنطق 'التأثير' ذاته .

ألا يجد هذا 'المنطق' آذانا صاغيةً، وشرعيةً ما، في الوعي الشعبي البسيط؟!!! بالمطلق نعم.

ولهذا 'المنطق' آذانٌ كثيرةٌ صاغية بلا شك، مهما حاولنا الانكار أو تغطية الشمس بعباءةٍ او غربال، والآذان الصاغية هذه أقرب إلى الضحية منها إلى 'المذنب'، والأذن التي تسمع قادها عقلٌ يفكر وعاطفة تدغدغها غريزة المشاعر ويغذّيها واقعٌ أليمٌ منهكٌ بالفقر والبطالة والعنفِ وفوضى السلاح، وتحميه مؤسسة أخطبوطية تحاول مقارعتها بما تملك من أدوات ولا تملك سوى الموقف والكلمة.

'منطقٌ' يحاول التأثير ويجتهد ويحاول اجتذاب الوعي، تارةً نحو اليسار وأخرى نحو اليمين، وبالحجة والمنطق ذاته ولكلٍ منطقه وجمهوره، فكيف لا 'تلتمس' رؤياه وخطاه، هذا البسيط من أبناء شعبي؟!!! الوطني بفطرته وهو يتلمس الطريق حاملاً شمعةً أو 'فتيلاً' باحثا عن نقطة ضوء؟!!!

وكيف لعقله ألّا 'يلتمس' ، وقد التمس دماغنا، نحن الضالعون في السياسة منذ زمنٍ طويل؟؟!!!!!

هي اجتهاداتٌ، أتعارض معها بالمطلق وستثبت الأيام حجم الوهم الذي سيحصد سرابا لمن يراهن على منظومة صهيونية، عنصرية الجوهر في مبناها، اقتلاعية توسعية في أهدافها وتطلعاتها وفاشية في أدواتها.   

ومع كل هذا التناقض الحاد في المواقف، نرفض بالمطلق لغة 'التخوين أو التكفير' مع المختلفين في وجهات النظر، حتى حين  تتخطى 'وجهة النظر' هذه حد اللا معقول، فأبناء شعب واحد نبقى وباقون وفي أصعب تصادم المواقف، يبقى تخطي لغة الخطاب في التعامل مع المختلف نحو خطها الأحمر الأخلاقي من المحرمات.

نناقش الموقف لا الشخص، وبكامل أدب اللياقة ولياقة الأدب، ولغة الضاد الجميلة، غنية جدا بالكلمات والمفردات والمصطلحات القادرة عن التعبير والنقد بأحّدِ صورة ممكنة دون التطاول للمس بكرامات الناس كذوات لها حرمتها، كما لا نرضاها لأنفسنا.

في مثل هذا الظرف بالضبط وُلد التجمع قبل ربع قرن من الزمن، من رحم انسداد الأفق فلسطينيا، وحين بدا للبعض وهما، أن حل القضية الفلسطينية لاح في الافق بفعل سراب اتفاقيات أوسلو، تهافت عشرات الآلاف من العرب نحو الأحزاب الصهيونية ومن رحم أزمة المرحلة هذه، وُلد مشروع التجمع الوطني الديمقراطي عام 1995 وانطلق محددا أهدافه في خطواته الأولى بوضوح بجملة: كرامة قومية، خدمات يومية ومواطنة كاملة.

لا تقايض ! نقطة.

ما أشبه ظرف اليوم بظرف النشأة قبل ربع قرن، فهل نحن قادرون على إعادة إنتاج ذاتنا بعقلية النشأة، بظرفٍ أكثر تعقيدا عالميا، اقليميا، عربيا وفلسطينيا؟؟!

أسئلة، هي عنوان المرحلة لنا كتجمع؛ على محاولة الاجابة عليها، لنا تتمة... والبقية تأتي.

*أمين عام التجمع الوطني الديمقراطي


تصميم وبرمجة: باسل شليوط