خطاب الحقوق كأساس لمشروع التأثير

لم يكن معيار التأثير على صناعة القرار في إسرائيل معيارا أساسيا في عمل الأحزاب العربية في الكنيست على مدار عشرات السنوات، كونها، أي الأحزاب العربية، تعي محدودية التأثير على صناعة القرار بسبب طبيعة النظام السياسي القائم وحدود المنظومة الحزبية والسياسية.

الأحزاب العربية طرحت مشاريع وبرامج سياسية تتعامل مع خصوصية حالة المجتمع العربي وكانت دائما تناور وتتحايل وتراوغ على قواعد اللعبة وتسعى إلى توسيع هامش الديمقراطية، بحيث عَرَفت ذلك كهدف إستراتيجي يضعف المشروع الصهيوني وربما يساهم، على المدى البعيد، في تغيير طبيعة الدولة اليهودية.

وبالتوازي مع ذلك، طرحت الأحزاب العربية أهدافا إضافية للعمل البرلماني مشتقة من خصوصية مكانتها وحالة الموطنين العرب في البلاد، أبرزها التنظيم السياسي للفلسطينيين في الداخل؛ الحفاظ على الهوية والانتماء؛ استعمال منبر الكنيست للنضال والدفاع عن حقوق العرب وإبراز ظلمهم؛ محاولة تقليل العنصرية والتمييز تجاه المجتمع العربي؛ استخدام البرلمان للوصول إلى منصات دولية لعرض عنصرية إسرائيل تجاه المواطنين العرب.

منذ إقامة القائمة المشتركة عام 2015 بدا واضحا أن هناك حاجة لإعادة تعريف طبيعة وأهداف العمل البرلماني للأحزاب العربية، نتيجة لزيادة عدد النواب العرب من جهة، وبدايات أزمة سياسية في المنظومة السياسية والحزبية الإسرائيلية من جهة أخرى. زيادة عدد النواب العرب إلى 13 ومن ثم إلى 15 في العام 2020 رفع من قدرتهم على العمل البرلماني وزاد من توقعات المجتمع العربي والأحزاب العربية نفسها، ومن قدرة المناورة داخل البرلمان وفي عمل اللجان، وتغيرت مكانة الأحزاب العربية في وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية وتحوّلت القائمة المشتركة إلى لاعب جدي في المنظومة السياسية، خاصة على ضوء هيمنة مشروع اليمين الفاشي العنصري وفشل أحزاب "اللا يمين" عرض بديل سياسي إيديولوجي حقيقي. هذا الحال ازداد تعقيدا على إثر تورط نتنياهو في ملفات فساد وانقسام المجتمع الإسرائيلي بين مؤيد ومعارض لنتنياهو وعدم قدرة نتنياهو على تشكيل حكومة مستقرة، الأمر الذي أدى إلى إعادة الانتخابات لأربع مرات متتالية خلال عامين. صحيح أن عنوان الأزمة الأبرز هو نتنياهو ورغبته بالاستمرار في الحكم للتهرب من المحاكمة، لكن لا يمكن أن نتجاهل المنافسة بين معسكر اليمين الاستيطاني الفاشي ورغبته في استمرار الهيمنة والحكم وتنفيذ مشاريعه، وبين التيار الصهيوني الليبرالي الذي يتفق إلى حد بعيد مع اليمين الاستيطاني في جوانب الاحتلال وهوية إسرائيل، لكنه يختلف معها حول مكانة جهاز القضاء وحدود الديمقراطية والحريات الفردية ومكانة الدين في الدولة.

في ظل الأزمة المتواصلة في المنظومة السياسية الإسرائيلية والتحولات في مكانة الأحزاب العربية والقائمة المشتركة، طُرحت مقاربتان أساسيتان لدور ووظيفة القائمة المشتركة والأحزاب العربية، الأولى ترى أن المهمة الأساس هي إسقاط نتنياهو وتحقيق إنجازات مدنية للمجتمع العربي، لذلك يجب أن تكون القائمة المشتركة جزءا من معسكر "اللا يمين" البرلماني المناهض لنتنياهو، والثانية ترى أن الهدف الأساس للعمل البرلماني هو تحقيق إنجازات مدنية عينية للمجتمع العربي، وبالتالي لا مانع من التعامل مع معسكر اليمين أو "اللا يمين" بغية تحقيق هذه الأهداف دون ربطها بمصدرها المتمثل بالعنصرية البنيوية تجاه المواطنين العرب. بهذا المعنى، تقبل المقاربة الأولى السقف السياسي الذي يضعه "اللا يمين"، المتمثل بالمطالبة بإنهاء الاحتلال والمساواة، كشرط للعبة التأثير، والثانية تقبل حتى بالسقف السياسي الذي يضعه اليمين بحيث تتنازل عن المطالب السياسية الجماعية وتكتفي بالحقوق المدنية المعيشية.

خطاب التأثير في كلا المقاربتين لم يحقق أي اختراق حقيقي أو نتائج تغيّر بشكل جدي واقع المجتمع العربي، ولم تنتزع حقوق أساسية للمجتمع العربي لغاية الآن. حتى ولو تحققت بعض المطالب ووضعت بعد البرامج الخاصة للمجتمع العربي في المجال الاقتصادي ومكافحة العنف، فهي تندرج، على أهميتها، في إطار تغيير السياسات وترميمها دون أن تؤدي إلى تغيير مستدام وجوهري في مكانة المجتمع العربي، وتبقى رهينة قرار الحكومة ورضاها. بينما يحتاج المجتمع العربي إلى تغيير جوهري في مكانته وتحوّل بنيوي في السياسات الحكومة. لذلك، المطلوب في هذه المرحلة هو إعادة ترتيب أدوات التصدي للهيمنة والاستعمار الصهيوني، وتعريف أدوات النضال المتاحة للمجتمع الفلسطيني في الداخل، وعلى رأسها إعادة توضيح وتعريف أداة العمل البرلماني، كجزء من نضال أوسع وأشمل لتغيير الواقع المدني والقومي، وطرح مشروع الحقوق الجماعية للعرب كسكان أصليين وأصحاب وطن كمشروع جماعي تتفق عليه الأحزاب العربية وترجمته لأدوات عمل برلمانية، بالتوازي لخطاب الهوية والانتماء ومنهم تشتق أهداف وأدوات التأثير.

نعم نريد التأثير والتغيير، لكن شرط أن يكون لنا مشروع جماعي مناهض للصهيونية وللاستعمار ويعمل على توضيح حقوقنا الجماعية المرتبطة بهويتنا وانتمائنا وكوننا أصحاب الأرض الأصليين. الحق في المساواة والكرامة، والحق التطوير الاقتصادي والحق في العمل، والحق في الأرض والمسكن والحق في التعليم والحق في الأمن والأمان جميعها حقوق جماعية لأقلية وطن أصلانية، وكذلك الحق في الإدارة الذاتية للثقافة والتعليم.

من هنا يجب أن نستغل الأزمة السياسية التي تعيشها إسرائيل ومأزق أحزاب "اللا يمين" ورغبتهم في إنهاء حكم نتنياهو إلى أبعد حدود ونسعى إلى تحقيق تغيير جوهري وحقيقي ومستدام. على كافة الأحزاب الإسرائيلية التعامل مع مشروعنا ومطالبنا الجماعية والاعتراف بها، لا أن تضع هي السقف المقبول للمطالب السياسية. طرح هذه الحقوق لا يعني بطبيعة الحال قبولها وتنفيذها الفوري، لكنها قد تنقل العمل البرلماني والجماهيري إلى مرحلة مختلفة تكون فيها بوصلة النضال والعمل السياسي هي الحقوق الجماعية والحفاظ على الهوية والانتماء، ويكون معنى حقيقي للتأثير والمناورة البرلمانية والسياسية.

المساواة وتغير الأحوال الفردية والجماعية للفلسطينيين في الداخل لا تتحقق من خلال ترميم الظلم أو التمييز والعنصرية، بل من خلال تغيير طبيعة النظام وإعادة تقاسم القوة. نريد أن نترجم حقوقنا الجماعية وتحسين ظروف الحياة للمواطنين العرب وإنهاء الاحتلال، لكن دون أن تأتي نتيجة مقايضة بالموقف السياسي أو التنازل عن الهوية والانتماء، بل أن تكون ترجمه لحقوق جماعية طبيعية.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط