نشأة التجمع وتطوره

نشأة التجمع 

لم يكن تأسيس التجمع عملية سهلة أو مسألة عادية في تاريخ تشكل الأحزاب على ساحة الجماهير الفلسطينية في منطقة 48، فلم تكن العملية شبيهة بولادة حزب كنتيجة لحالة انشقاق أو انفصال ميكانيكي عن الحزب الأم لأسباب تنظيمية داخلية أو مبدئية، وليس مجرد محاولة مجموعة مبادرين مخلصين يبدأون بمشروع سياسي ثقافي من نقطة الصفر، أو أفراد لا يستطيعون الجلوس متفرجين لكونهم فقط أعضاء سابقين في أحزاب سياسية عانت من أزمة حادة في العلاقة مع شعبها. وحتى اختمار الفكرة نفسها وقبل أن يُشرع في ترجمتها، لم تكن مسألة سهلة إذ جرى في أجواء من التدهور المعنوي العام الناجم عن الإنهيارات المتتالية في الحالة العربية والفلسطينية ومنظومة القيم التي آمنا بها. كان على المبادرين أن ينهضوا من هذه الحالة التي طالتهم أيضاً ويواصلوا الطريق متجاهلين الأصوات المشككة بل والمستهزئة بإمكانية نجاح المبادرة لأنهم آمنوا أن ذلك كان تعبيراً عن رغبة أوساط شعبية ومثقفة من أبناء شعبنا خاصة في الجليل والمثلث والنقب، في وقف خطر التدهور والإنهيارات الأخلاقية والخروج بشيء جديد وخلاق يوفر لهم شروط حقيقية لا وهمية للقبض على مصيرنا ومصير أبنائنا وبناتنا.

وقد شكلت إفرازات إتفاق أوسلو (عام 1993)، الذي اعتبر قضية الفلسطينيين في إسرائيل شأناً إسرائيلياً داخلياً، حافزاً إضافياً بالإضافة الى الحاجة الموضوعية، للمضي قدماً بمشروع إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية في منطقة 48 في ظروف المواطنة الإسرائيلية، من دون التخلي بطبيعة الحال عن قضية شعبنا الكبرى وقضايا الأمة العربية، وإنما تعزيز هذا الإرتباط ضمن رؤية جديدة.

كانت أزمة الحركات والأحزاب السياسية جميعها قد وصلت أوجها في أواخر الثمانينات حتى أوائل التسعينات بعد توقف الإنتفاضة الفلسطينية دون تحقيق أهدافها المتمثلة بإزالة الإحتلال الإسرائيلي  من الضفة والقطاع وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وبعد انهيار الإتحاد السوفييتي بالكامل، والهجوم الأمريكي الإمبريالي والعربي الرجعي على العراق وتحطيم قوته الصاعدة التي كان من شأنها أن تُعيد بعض التوازن للإنسان الفلسطيني والعربي في مواجهة إسرائيل، وتمده من جديد بالشعور القومي المفقود.

كان أكثر المتضررين على ساحة الأقلية الفلسطينية من هذه التطورات والإنهيارات في معسكر الأصدقاء على الصعيد الدولي وفي المعسكر العربي وفي التجربة الوطنية الفلسطينية، التيار الوطني القومي على اختلاف ألوانه الذي ربط نفسه إستراتيجياً بمنظمة التحرير الفلسطينية أو الحركة الوطنية الفلسطينية – مثل حركة أبناء البلد، والحركة التقدمية والتيار القومي في الحزب الشيوعي والجبهة الذي حاول إقامة حركة ميثاق المساواة، وحركات وطنية محلية أخرى.

هذه الحركات؛ أبناء البلد، التقدمية، وميثاق المساواة ومن ثم حركات محلية بادرت بعيد اتفاق أوسلو وبالتحديد في أواسط عام 1994 الى بلورة فكرة إقامة تجمع وطني فلسطيني يجمع جميع التيارات القومية القطرية والمحلية وأوساطاً وطنية أخرى – على أساس برنامج وطني واقعي ومتطور يتعامل مع المواطنة الإسرائيلية والإمكانات الكامنة فيها بجدية بعيداً عن الإندماج المشوّه أو الإنزلاق الى هوة الأسرلة، لوقف التدهور الوطني والأخلاقي الذي تجلى آنذاك في الهرولة الجماعية الى الأحزاب الصهيونية مع ما يعني ذلك من تعميق التبعية لهذه الأحزاب وما تمثله من سياسة عنصرية ضد المواطنين العرب، وبالتالي تعميق التهميش وعرقلة تحقيق حقوقنا المدنية والقومية وفقدان الهوية الوطنية والخصوصية الثقافية للأقلية العربية الفلسطينية. لقد تحولت بذلك قيادات الحركة الوطنية من حالة الإنشداد الى والتركيز على القضية الفلسطينية بصورة عامة الى الإهتمام بنفس القدر بظروف الأقلية الفلسطينية في إسرائيل وطرح برنامج وطني وعملي يتصل ويعنى بحياتهم اليومية والقومية دون أن يتعارض ذلك مع الطموحات الفلسطينية العامة – وضرورة استمرار الصراع مع الصهيونية وكل ما تمثله من تمييز واستيطان وهيمنة على الواقع الفلسطيني.

لقد كان من شأن الإبقاء على الإنشداد نحو الخارج أو التركيز على الوطني العام وتجاهل الواقع والحاجات اليومية أن يؤدي الى إنفضاض الناس كلياً عن التيارات الوطنية الفلسطينية وأن يدفن الحركة الوطنية ويبقي الساحة حكراً على تياريّ التأسرل والأصولية.. مع الفارق السياسي بينهما.

لقد بدت الفكرة أو المبادرة في البداية لتأسيس تيار قومي في فلسطين في الواقع الإسرائيلي، خيالية وغير واقعية حتى لبعض المبادرين، ولكن الإصرار والشعور القومي إنتصرا في النهاية وخرجت الفكرة الى النور بعد حوالي ثلاثة أعوام من العمل والإتصالات والتحضيرات بعيداً عن الأضواء والإعلام.. ليخوض التجمع الإنتخابات للكنيست، في تحالف مع الجبهة، بعد أن حُسِم النقاش داخل حركة أبناء البلد لصالح أهمية خوض التجمع لهذه الإنتخابات التي كانت مرفوضة مبدئياً من قبل الحركة.. وقد كان حسم هذه المسألة من العوامل المساعدة الأساسية لنجاح فكرة التجمع.

التيار القومي العربي في منطقة 48

الحديث عن التيار القومي العربي داخل منطقة 48 (إسرائيل) في فترة الخمسينات حيث كان المشروع القومي الناصري في بداياته الذهبية، والأمور كانت واضحة وبسيطة، ليس نفسه في فترة التسعينات. فالمساحة الزمنية الممتدة بين تلك الفترة حيث انتظر الفلسطينيون التحرير من الخارج من خلال هذا المشروع، والفترة الراهنة التي تحتضن نتاج التجربة والصراع مع المشروع الصهيوني، تحمل في ثناياها تعقيدات هائلة ناجمة عن ترسخ هذا المشروع وتحوله الى أمر واقع على شكل دولة حيث يحمل فيها مليون فلسطيني المواطنة الإسرائيلية ويبحثون فيها عن معادلة قادرة على التعبير عن الحد الأدنى من طموحاتهم المتمثلة في تجسيد هويتهم الثقافية وبناء كيانهم القومي بالحد الذي تسمح به الإمكانات الكامنة في الواقع القائم، وهي مهمة ليست سهلة أبداً.

أدت حرب عام 48 الى تدمير الكيان الفلسطيني وتشتيت قياداته ومثقفيه وبالتالي الى قطع الحلم الفلسطيني وإقامة مشروعه السياسي. هكذا كان حال الشعب الفلسطيني بعد توقف القتال واستكمال الجريمة الكبرى على يد الحركة الصهيونية، ومع أن البقاء في الوطن في تلك الظروف، يعد إنجازاً كبيراً بالمقارنة مع حالة الإقتلاع والتهجير أو الهرب التي طالت حوالي 700 الف (نصف الشعب الفلسطيني) – فإن الـ 150 الف فلسطيني الذين بقوا داخل حدود اسرائيل (48) – إنطوى على مخاطر عديدة – أهمها تدمير هويتهم الثقافية وكل المقومات المادية (الأرض والعمل) الضرورية لتطورهم الطبيعي كجزء من شعب.  

لم يتوقع أحد، لا الإسرائيليين ولا العرب ولا حتى الفلسطينيين أن يتحول هؤلاء الذين مثلوا في البداية أقلية مقطعة الأوصال لا حول لها ولا قوة، بدون قيادات ولا مؤسسات، الى جزء حي وفاعل (نسبياً) من الشعب الفلسطيني بفعل جملة من العوامل الموضوعية والذاتية وقادر على بناء وتطوير أدواته السياسية لمقاومة مصادرة الأرض وسياسة التمييز القومي. وأن كان أقصى ما سعت اليه قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية الى الإستفادة منهم هو أن يتصرفوا كقوة احتياط لما يسمى بقوى السلام الإسرائيلية وذلك بعد تحول مشروع التحرير الى مشروع لدولتين ابتداء من السبعينيات وبعد أن أصبح الإعتراف بالمنظمة من قبل اسرائيل هدف القيادات المتنفذة بمنظمة التحرير الفلسطينية.

وقد اساءت الحركة الوطنية في المراحل الأولى فهم واقع العرب في إسرائيل، وفيما بعد اساءت تقدير إمكانياتهم في النضال الوطني وانتظرت منهم أن يقوموا بدور أكبر لا يتلاءم مع واقعهم.  في المراحل الأولى من قيام إسرائيل نشط بعض العرف الفلسطينيين في إطار الأحزاب الإسرائيلية اليسارية – مثل الحزب الشيوعي ومبام - ضد سياسة التمييز والإضطهاد التي بدأتها اسرائيل ضد العرب الباقين، مثل مصادرة الأرض، وغيرها، وقد ازداد نشاط الحزب الشيوعي، أو بالأساس الشيوعيون العرب بعد توحدهم مع الشيوعيين اليهود الذين قاتل بعضهم الى جانب العصابات الصهيونية في حزب شيوعي إسرائيلي واحد. وقد اعترف الحزب الشيوعي بإسرائيل فور إعلان إقامتها وعلى أساس أنها تمثل حق تقرير المصير لليهود وأنها دولة يهودية صهيونية – وفي المقابل طالب بتحقيق حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، في حين اكتفى داخل اسرائيل بالنضال ضد التمييز بحق الفلسطينيين في إسرائيل ومن أجل المساواة.

لم تكن هذه المحاولة الوحيدة بين العرب لمواجهة الوضع الجديد، فقد ظهرت محاولات أخرى قام بها مدرسون ومهنيون على أساس قومي.

الذين شكلوا ما عرف بالجبهة الشعبية – تحالف بين الشيوعيين والقوميين عام 1958 – للنضال ضد الحكم العسكري ومختلف أشكال الإضطهاد، غير أن هذا التحالف لم يعمر طويلاً وذلك على خلفية الصراع بين نظام عبد الناصر القومي ونظام عبد الكريم قاسم الذي دعمه الشيوعيون. حيث أيد كل من الطرفين النظام الأقرب الى مبادئه ومنطلقاته السياسية والفكرية. وقد خسر الشيوعيون ثلاثة مقاعد في انتخابات الكنيست التي جرت عام 1959. بسبب معاداتهم لنظام عبد الناصر وللتيار القومي في العالم العربي، الأمر الذي عكس فهمهم الفج للمسألة القومية.

وعلى أثر ذلك، شكل القوميون العرب، حركة قومية عربية بوحي من مشروع عبد الناصر الوحدوي – تحت اسم حركة الأرض… وأصدرت عدة مجلات غير مرخصة، وقد حظيت هذه الحركة بتعاطف شعبي كونها عبّرت عن مشاعرهم القومية غير أن هذا التعاطف لم يتحول الى حركة قومية منظمة ومؤطرة في مؤسسات وهيئات سياسية وثقافية، تتلاءم والبيئة التي عملت فيها، الأمر الذي سهّل قمعها وتشريد قادتها وبالتالي إخراجها عن القانون حتى حين حاولت خوض انتخابات الكنيست متخلية عن قرارها السابق، وذلك بهدف النجاة.

لقد حاولت قيادة حركة الأرض تجسيد التواصل الحضاري والثقافي والسياسي مع الأمة العربية باعتبار أن الشعب الفلسطيني بما فيه هذا الجزء منه، جزء من هذه الأمة وتطلعاتها نحو الحرية والوحدة والإشتراكية والتحرر من الإستعمار بكافة أشكاله. وقد كانت تلك المحاولة إستجابة لحاجة موضوعية لمواجهة سياسة الحكم الإسرائيلي، وعدم ترك الساحة لتيار سياسي واحد أو أكثر مهيمن في الشارع العربي – يشتق منطلقاته في العمل السياسي من مبدأ الإعتراف بإسرائيل كتعبير عن حق تقرير المصير لليهود ومن كونها دولة يهودية كما أعلنت وتعلن عن نفسها. غير أن هذه المحاولة لم يكتب لها النجاح كما ذكرنا سابقاً، إذ أقدمت سلطات الحكم العسكري على حل الحركة عام 1964 مؤكدة سياسة إسرائيل الرافضة لأي شكل من أشكال التنظيم القومي المستقل. للعرب الفلسطينيين في إسرائيل.

حتى عام 67 تميّزت العلاقة بين المواطنين العرب الفلسطينيين والدولة اليهودية بالخوف، غير أن مشاعرهم القومية بقيت حاضرة في قلوبهم بفضل إذاعة صوت العرب في ظل النظام الناصري.

أعقبت هزيمة حزيران، تطورات عديدة في المنطقة – منها ظهور المقاومة الوطنية الفلسطينية بشكل مستقل، وانتصارها في معركة المقاومة من جهة وبدء مرحلة من التطور الإقتصادي في إسرائيل على أثر الإستثمارات الأجنبية التي انهالت عليها بعد احتلالها لبقية فلسطين ولأراضي سوريا ومصر، وقد انعكست هذه المستجدات وبالتحديد ازدياد قوة المقاومة الفلسطينية وتعزيز الشخصية الوطنية الفلسطينية في الخارج على الفلسطينيين في إسرائيل الذين أصبحوا على إتصال مع إخوانهم في الضفة والقطاع بعد احتلالهما، حيث بدأت تتبلور في أوساطهم حركات سياسية تجسد هذه الهوية وتحارب الأسرلة. وقد كان أول هذه الحركات – حركة أبناء البلد تلاها بعد ذلك حركات وطنية في الجامعات الإسرائيلية، جمعها رفع لواء الهوية الوطنية الفلسطينية وعدم الإعتراف بإسرائيل والدعوة الى إقامة دولة علمانية ديمقراطية في كل فلسطين على غرار برنامج منظمة التحرير الأصلي.

وقد دخلت هذه الحركة في بدايات تكونها عام 1969 في صراع مع عملاء ومخاتير السلطة، ومن ثم في نقاش حاد مع برنامج الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي اعتبرته برنامج للأسرلة وتشويه الهوية الوطنية للعرب في إسرائيل.

وقد أدى الصراع مع السلطة، والتنافس الحاد بينها وبين الفروع الطلابية للحزب الشيوعي في الجامعات الى بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية لمئات الطلاب العرب وذلك خلال التنافس على مقاعد لجان الطلاب العرب. وقد تبوأت الحركة رئاسة اللجان عدة مرات في الجامعات الإسرائيلية متغلبة على فروع الحزب الشيوعي – على مدار السبعينات والثمانينات.

وقد يكون هذا أهم إنجاز نجحت به حركة أبناء البلد أي إثارة النقاش حول الهوية في صفوف الطلبة العرب بما فيه المؤيدين للحزب الشيوعي، وصقل كوادر تحمل فكراً وطنياً وقومياً أخذت دورها فيما بعد في قيادات تيارات الحركة الوطنية، ولكنها أخفقت في التحول الى تيار سياسي جماهيري واسع له تأثير فعلي على عملية اتخاذ القرار في الهيئات العربية القطرية، ويعود ذلك الى هيمنة العناصر الطلابية على قيادة الحركة والتي أخفقت في فهم التطورات الإقتصادية - الإجتماعية التي كانت تجري داخل الأقلية الفلسطينية، وبالتالي فهم الحاجة الى برنامج يأخذ بالإعتبار حاجات الناس اليومية الضرورية ايضاً لبقائهم وتطورهم في ظل الدولة اليهودية.

ولكن من ناحية أخرى ظهرت حركة وطنية أخرى تشدد على الهوية الوطنية عام 1978، ما لبثت أن تحولت في الثمانينات الى حزب جماهيري مركزي على ساحة الأقلية، عبّر عن نتائج التطورات الداخلية المتجلية في ظهور شريحة من المهنيين والأكاديميين وطبقة وسطى ارادت أن تعبّر عن نفسها وعن مزيد من الوعي بالحقوق المدنية. وقد خاضت الحركة الكنيست في تحالف مع قوى يهودية سلامية، غير أن أسباب موضوعية وداخلية أنهت الحركة في انتخابات عام 1993. حيث فشلت في تجاوز نسبة الحسم. وقد جوبهت هذه الحركة حين قررت خوض انتخابات الكنيست عام 1984، بعملية تحريض من السلطة الإسرائيلية، التقت بحملة مشابهة من الحزب الشيوعي الذي دأب على محاربة كل حركة تقوم على أساس قومي منذ إقامة إسرائيل بحجة أن ذلك يتناقض مع النظرية الشيوعية والأممية ويشكل مبرراً للسلطة الإسرائيلية لتصعيد قمعها ضد العرب.

ومع سقوط الحركة التقدمية، التي انحازت الى التيار المركزي في منظمة التحرير الفلسطينية (فتح)، وانكماش حركة أبناء البلد التي انحازت الى التيار اليساري (بالتحديد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) في ظروف مع بعد حرب الخليج وتوقيع اتفاق أوسلو، بقي في الساحة الحزب الشيوعي محتفظاً بحضوره النسبي بقوة الإستمرار المستمد تراثه التنظيمي الطويل. الى جانب صعود النزعة التقليدية والعشائرية التي تجلت في الحزب العربي الديمقراطي وتغلغلت في تحالفات الحزب الشيوعي للإنتخابات البلدية.

باختصار – شهدت السنوات الأولى من التسعينات شبه انهيار لتيارات الحركة الوطنية وردة اجتماعية. مضافة الى ذلك تعمق أزمة الحزب الشيوعي ووصوله الى حالة جمود كاملة انعكس في انفضاض جماعي عن صفوفه القاعدية والقيادية.

في هذه الأثناء كانت قد بدأت تتبلور مساهمات نظرية جدية للتأسيس لرؤية سياسة خاصة بالأقلية الفلسطينية. أهمها التي قدمها عزمي بشارة، الى جانب سعي حركة أبناء البلد لإقامة ائتلاف وطني بين مختلف القوى السياسية – انقطع بعد حرب الخليج ليستأنف بصورة جماعية مع جناح الحركة التقدمية وميثاق المساواة.

وقد جرى ذلك كله تحت شعار إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية داخل اسرائيل – في تيار قومي عربي أعاد التوازن بين الإنتماء الوطني الفلسطيني والإنتماء القومي العربي في ظروف المواطنة الإسرائيلية – والذي اتفق على تسميته بالتجمع الوطني الديمقراطي.

الإمتحان العملي الأول للتجربة

واجه التجمع إمتحانه الأول عشية إنتخابات الكنيست الرابعة عشرة عام 1996، وبالذات على خلفية التنافس على قائمة الترشيح للكنيست. وعلى الرغم من الخروج باتفاق وخوض معركة الإنتخابات البرلمانية بنجاح، إلا أن الجرح ظل نازفاً لأشهر طويلة حتى أصيب العديد من المنتسبين بخيبة أمل، وقد ساهم في نشوب هذا الخلاف غياب صيغة واضحة للعضوية مما دفع ببعض المرشحين الى التجنيد بصورة غير منضبطة. كانت المشكلة الأساسية في حينه عدم وجود تنظيم حزبي ومؤسسات تسمح بقرارات ديمقراطية بالأغلبية داخلها. بعد ذلك حزمنا أمرنا لإقامة حزب سياسي بمؤسسات.

وبعد النجاح في إنتخابات الكنيست التي خاضها التجمع الوطني بالتحالف مع الجبهة ومن خلال الجهود والنشاط الذي بذله الجميع بحماس كبير، واجه التجمع مشكلة تنظيمية جديدة، هي مشكلة غياب مؤسسات منتخبة ديمقراطياً، لم يجرِ إنتخابها في الإجتماع العام في أم الفحم، بسبب الخلاف الذي نشب. وقد تميزت هذه المرحلة من عملية البناء التنظيمي للتجمع الوطني بالصراعات والخلافات والفوضى أحياناً وأخذت في كثير من الأحيان بعداً شخصياً وفئوياً. وكان من أسباب ذلك غياب الوضوح حول التركيبة أو الصيغة التنظيمية المطلوبة والملائمة لحزب التجمع الوطني الديمقراطي والتقديرات الخاطئة وغير الصحيحة لطبيعة مركبات التجمع. لقد كان بعض المبادرين والذين انضموا فيما بعد من فئات محلية، مثقلين بمخلفات التجربة السابقة في أحزابهم وحركاتهم المختلفة والمتناقضة أحياناً، فقد خاض هؤلاء في السابق حين عملوا في حركات وأطر متنافسة حملات سياسية عنيفة ضد بعضهم في سياق معركتهم ضد الصهيونية وسياساتها. كان هذا الإختلاف نابعاً أيضاً من طبيعة اللقاء الأول في ميدان الممارسة والتنفيذ والتعرف على المزايا الخاصة للأفراد الذين جاءوا من خلفيات سياسية وفكرية مختلفة. وكانت مرحلة البناء تحتاج الى مزيد من الصبر والتحمل والنفس الطويل، الأمر الذي لم يتوفر لدى البعض.

مرحلة بناء مؤسسات الحزب

لم يكن بالإمكان بناء حزب وأخذ دوره السياسي والتعبوي بدون مؤسسات منتخبة. فبعد أن جرى تطويق الخلافات في المرحلة الأولى عقد إجتماع عام في نهاية عام 1996 جرى فيه إنتخاب الهيئات الحزبية – اللجنة المركزية، لجنة مراقبة ومكتب تنفيذي.

لقد شكلت هذه الخطوة بداية مرحلة هامة ونوعية في تاريخ الحزب، وإن كان رافق هذه الخطوة مشكلة داخلية أخرى تتعلق بموضوع حركة أبناء البلد، على خلفية الشكل التنظيمي لوجود الحركة في التجمع وموقعها في مؤسساته.. وبغض النظر عن النزعة الذاتية التي لعبت دوراً في تصعيد الخلاف بين الحركة ومركبات التجمع الأخرى فإن الطرفين يتحملان المسؤولية عن تفاقم الخلاف الذي أدى الى انسحاب جميع أعضاء الحركة من المؤسسات التنفيذية لحوالي ثلاثة أشهر جرت بعدها محاولة ناجحة لحل الإشكال، ولكن ما لبثت أن عادت الخلافات وتجددت بسبب إصرار عناصر قيادية في الحركة على تغيير صيغة العضوية في التجمع – أي العضوية الفردية - وتضخيم بعض الإختلافات المنهجية والسياسية. على أية حال إن مراجعة هذا الجانب من مسيرة التجمع، على الرغم من أهميته، قد تكون سابقة لأوانها، ومع ذلك فإن الباب بقي مفتوحاً ولا يزال لكل من يريد أن يعود الى التجمع طالما يؤيد ويلتزم ببرنامج التجمع الوطني الديمقراطي ونظامه الداخلي.

مشكلة أخرى نجمت عن عملية إنتخاب الهيئات المركزية، هي نجاح أشخاص في الوصول الى هذه الهيئات دون أن تكون لديهم تجربة قيادية سياسية أو حزبية سابقة، حيث استقال بعضهم بعد وقت قصير حين أدركوا ثقل المسؤولية ومتطلبات العضوية في الهيئات العليا للحزب. وقد انعكس ولا يزال، ذلك سلبياً على أداء الهيئات المركزية.

على أية حال، قياساً بالفوضى التنظيمية التي استمرت على مدار ستة أشهر تقريباً، من تاريخ انتهاء انتخابات الكنيست – حزيران عام 1996 – حتى كانون أول من نفس العام، يمكن القول أنه أصبح بمقدور التجمع اتخاذ قرارات وإجراءات تنظيمية وسياسية بطريقة أفضل. ويمكن بالطبع المناقشة والإعتراض على كيفية معالجة بعض القضايا التنظيمية والسياسية التي واجهت التجمع وهيئاته المركزية. ولكن المسألة الأساسية والأهم هي وضع البداية لتثبيت المؤسسات وضبط عملية اتخاذ القرار والحد من المزاجية والتصرف كحزب، واشتملت هذه المرحلة على تطوير الهياكل التنظيمية للحزب وصياغة نظام داخلي بضبط العلاقات الداخلية، وإقامة نظام المناطق. ويجدر هنا الإشارة الى روح الإصرار التي تحلى بها المسؤولون في الهيئات القيادية على المضيّ قدماً نحو مواصلة تطوير بنية الحزب والتغلب على الصعاب والعقبات الناشئة.

وبطبيعة الحال، يدخل الحزب بعد انتخاب هيئاته في تجربة الخطأ والصواب والتعلم من الأخطاء والتقدم الى الأمام.

تجربة التحالف مع الجبهة

لا يمكن، وليس صحيحاً، إستكمال تقييم مسيرة التجمع التنظيمية والسياسية واستخلاص النتائج للمستقبل، بدون التوقف أمام تجربة التحالف مع الجبهة، نظراً لارتباط دور هذا التحالف مع ظهور التجمع على الساحة البرلمانية والسياسية.

كما هو معروف خاض الفلسطينيون في اسرائيل الإنتخابات البرلمانية لعام 1996 في تحالفين أساسيين احداهما الجبهة والتجمع. وهذه هي المرة الأولى التي تنشأ ظروف خارجة عن إرادة وسياسة الحزب الشيوعي الإسرائيلي أو الجبهة تضطرهما للتحالف مع حزب سياسي مستقل وقومي وطني، وليس مع أفراد كما هي تركيبة الجبهة.

لم يكن بمقدور الجبهة آنذاك، التي كانت تعاني من أزمة حقيقية (ولا زالت) تجلت في ابتعاد وانسلاخ أوساط كثيرة مؤيدة لها، مقاومة ضغط بعض القواعد الحزبية وأصدقاء عديدين للتيار الوطني رغبوا بإقامة هذا التحالف الإنتخابي كتحالف وطني علماني مقابل التيار اليميني المحافظ المكون من الإسلامية والحزب الديمقراطي العربي. فقد خشيت قيادة الجبهة (وليس كوادرها) قبل بدء تحركات القواعد والمؤيدين، أن يشكل التحالف مع التجمع دعماً لتيار قومي، ولكن بعد تصاعد المطالبة بالتحالف التي نبهت الجبهة الى عمق أزمتها أصبح واضحاً لها أن خوض التجمع الإنتخابات لوحده يشكل خطورة أكبر عليها، إذ أنه سيسحب أوساطاً واسعة من مؤيديها. وفي الواقع فإن الطرفين كانا بحاجة لهذا التحالف وكان من الصعب على أي منهما خوض الإنتخابات منفرداً.

ولكون التجمع تياراً ناشئاً وكان بحاجة لأن يُثبّت نفسه على الساحة فقد اضطر لقبول الشروط غير العادلة بسبب تعنت الجبهة، الأمر الذي خلّف شعوراً بالإستياء وعدم الرضى في أوساط التجمع. ولم يكن من الممكن تحقيق النتائج الإنتخابية الهامة، (129000) صوت، بدون هذا التحالف.

لقد كان من شأن تقبّل هذا التحالف عن قناعة وقبول الندية والإحترام المتبادل وتوفر رؤية وطنية واسعة ورؤية اجتماعية حقيقية لهذا التحالف، من جانب قيادات الجبهة، أن يساهم في تطوير التحالف بدل دفنه.

ولكن، للأسف، تعاملت قيادات الجبهة مع هذه النتيجة وكأنها إنجازها لوحدها متجاهلة دور التجمع تماماً وذلك في أول بيان تقييمي لنتائج الإنتخابات صدر بعد أسبوعين من انتهاء الإنتخابات وصدر في جريدة الإتحاد. وفي الوقت ذاته، أعربت أوساط قيادية داخل الجبهة عن ندمها على قبولها التحالف مع التجمع لأنه حسب إدعائها، كان على الجبهة ألا تعطي دعماً لحزب ينافسها على جمهورها!! وهي نظرة فئوية ضيقة.

وهنا التقت النزعة الفئوية للجبهة المقنعة أحياناً والسافرة في أحيان أخرى، مع رغبة وحاجة التجمع الوطني في تأكيد ذاته وإظهار تميّزه وشخصيته المستقلة كحزب من نوع جديد أمام الشارع العام، هذه الحاجة كانت قد أثارت امتعاض الجبهة حتى أثناء الحملة الإنتخابية.. حين كان يحتاج خطباء التجمع توضيح هوية ومبادئ الحزب الجديد وإصدار نشرة إنتخابية خاصة به الى جانب النشرة المشتركة.

وفي الحقيقة كان من الطبيعي أن يبقى التجمع لأشهر طويلة غير معروف كحزب مستقل في غالبية الأوساط الشعبية والقرى النائية، بسبب ارتباطه مع الجبهة في البرلمان ولأسباب تنظيمية أيضا، وهذا بالطبع لم يكن يقلق قيادة الجبهة بل بالعكس كان من مصلحتها أن تظل صورة التجمع على هذا الحال – هذا مع أن رصيد القوى الوطنية والأفراد الذين شكلوا التجمع كان معروفاً وشكل سنداً استراتيجياً كبيراً للتجمع.

لكن في المقابل فإن التجمع صاحب الرؤية الجديدة والقدرة على التأثير والاستقطاب حتى داخل صفوف الجبهة، ربّما لم يدرك هذه الحقيقة، وبالتالي بنى سياسته على قطف ثمار التأييد بصورة متسرعة من خلال الإنجرار أحياناً وراء استفزاز الإتحاد، وبذلك فهو أساء تقدير قدرة الجبهة على إعادة ترتيب صفوفها وحشد كوادرها ضد التجمع، والمراوحة في دائرة الجمود والتكلس الفكري والسياسي وحرمان هذه الكوادر من فرصة الإصغاء للأفكار الجديدة التي تهبّ من التيار الجديد. بكلمات أخرى، لو اعتمدت قيادة التجمع تكتيك أو نهج التأثير البطيء وعدم التسرع في قطف الثمار من العلاقة  مع الجبهة (أي من خلال التأثير في قواعدها ونشر التفكير السياسي والثقافي الجديد بينها) ربما كان بالإمكان تجنب كثير من النتائج السلبية للصراع مع الجبهة. ففي الوقت الذي كانت كوادر عديدة في الجبهة تقف حائرة بين الإنتماء للجبهة وبرنامج التجمع الوطني، تطور الخلاف الى صراع حقيقي أدى موضوعياً في النهاية الى إختفاء هذه الحيرة لصالح الجبهة ورسم الحدود نهائياً بين الحزبين. لقد كان ذلك في صالح قيادة الجبهة التي شعرت بالتهديد الحقيقي من بروز وصعود نجم التجمع.

لقد أدى فعلاً الإختلاف الحاد مع الجبهة الى رسم استقلالية التجمع بصورة واضحة، لكن السؤال الذي يسأل هو:  ألم يكن بالإمكان إنجاز ذلك بدون تضييع فرصة التأثير بصورة أوسع في قواعد الجبهة وتفويت الفرصة على قيادات الجبهة المأزومة في إعادة حشد وتعبئة القواعد ضد التجمع وفكره القومي؟ نحن نترك هذا السؤال مفتوحاً لرفاق الحزب لمناقشته وللإستفادة من التجربة العملية من أجل المستقبل.

إنتخابات السلطات المحلية

شكلت إنتخابات السلطات المحلية أول إمتحان حقيقي أمام التجمع لفحص قوته ومدى تطوره تنظيمياً وتوسعه جماهيرياً، والأهم مدى التزامه بمبادئه في أثناء الممارسة.. باعتباره حزباً قومياً ديمقراطياً عصرياً يناهض التعصب العائلي والطائفي باعتبارهما عقبة أمام تطور الفرد والمجتمع العربي الفلسطيني والنهوض بالوعي القومي والوعي الإجتماعي التقدمي. كانت انتخابات السلطات المحلية أول معركة إنتخابية يخوضها التجمع لوحده.

لقد بيّنت هذه الإنتخابات ونتائجها مدى تأخر التجمع في بناء جهازه التنظيمي وفروعه.. وكشفت أن سمعة التجمع لدى أوساط شعبية واسعة تعود الى حدّ كبير الى النائب عزمي بشارة وأدائه البرلماني والإعلامي والى جاذبية طرح ولغة التجمع السياسية.

لقد كان التجمع أكثر الأحزاب التي اجتهدت وكرست الجهد الفكري لبلورة معايير وأسس أخلاقية وعصرية لخوض الإنتخابات البلدية بكونها غير مفصولة عن عملية التأثير الإجتماعي. وذلك من خلال الأيام الدراسية والتثقيف في الفروع وكتابة المقالات في فصل المقال والتعاميم الداخلية. ودعت هذه المعايير الى تسييس المعركة الإنتخابية ومحاربة التعصب العائلي والطائفي وفي الوقت ذاته الإنفتاح على الناس والإبتعاد عن الإنغلاق والتشنج بهدف تحقيق نجاحات انتخابية نظيفة وبعيدة عن التحالفات العائلية أو الطائفية.

وكان واضحاً منذ البداية وجود أكثر من توجه فيما يتعلق بشكل وطبيعة التحالفات الإنتخابية في أوساط قيادات التجمع. فالبعض دعا الى عدم التشدد والإنفتاح حتى على تحالفات عائلية  والبعض الآخر دعا الى التشدد في تطبيق المعايير العصرية. وسار النقاش باتجاه الجمع بين التشدد والمرونة والأخذ بعين الإعتبار تركيبة مجتمعنا التي لا يمكن التعامل معها أثناء الإنتخابات كما يتم التعامل مع مجتمع عصري. ولهذا الغرض شكلت مرجعية للعمل البلدي، وحُدّدت مهمتها بوضوح ألا وهي: أن تكون مرجعية قيمية وليس فقط فنية وعملية. أي أن الهدف الأساسي هو توجيه الفروع لإقامة تحالفات نظيفة والنجاح في المعركة الإنتخابية. وعند القيام بالتحركات لتشكيل القوائم والتحالفات في القرى والمدن العربية، تبيّن كم هذه المهمة عسيرة، وأنها تحتاج الى حزب منظم تنظيمياً حقيقياً وتتمتع قيادته بانسجام تام حول منهج التفكير إزاء طريقة خوض الإنتخابات بالإرتباط بعملية التغيير الإجتماعي، كما وتحتاج الى فروع فيها كوادر ذات مستوى نوعي تتمتع بعلاقات طيبة مع قطاعات واسعة من الناس – ليس بالضرورة مع كل أهالي القرية والمدينة، وكذلك بمستوى كاف من التفكير السليم والإنفتاح على الناس. غير أن هذا للأسف، لم يكن متوفراً في غالبية الفروع إذ اتضح أن التبلور التنظيمي والحياة الحزبية دون المستوى المطلوب بكثير. وإذ أخذنا بعين الإعتبار البيئة الإجتماعية وصعوبة العمل السياسي فيها، واعتماد جميع الأحزاب والأطر الإجتماعية الأخرى نهج التحالفات العائلية، يمكن عندها تخيّل أية نتائج يحققها تيار مثل التجمع بخوض الإنتخابات بطرح سياسي متميّز وفي غالب الأحيان بقيادة كوادر جزء كبير منها لا يحظى بشعبية في قريته أو مدينته. على الرغم من نظافتها الوطنية.

لقد تبين أن استكمال بناء حزب قومي وعصري، كان يحتاج الى فترة زمنية أطول، تتراكم فيها التجرية العملية المتعلقة بكيفية التحرك والتقدم في مجتمع تقليدي وفق المعايير الإجتماعية التقدمية.

ونتيجة لذلك، وكلما تقدمت الأيام واقترب موعد الإنتخابات، وتعذّرت التحالفات النظيفة، تبدأ عملية تراجع عن المبادئ وتآكل في المواقف السابقة تحت ضغط الرغبة في النجاح والخوف من الفشل وتحت دعوى أهمية تحقيق تمثيل في السلطة المحلية وعدم ترك الساحة للقوى والأطر العائلية والرجعية. وهكذا وجدت نفسها بعض فروع التجمع، في مواقع رئيسية، تحذو حذو القوائم الأخرى في شكل تركيبة القائمة، وتزول الفوارق بيننا والآخرين. وهكذا فإن المعايير التي أعلن التجمع عن تمسكه بها تمّ خرقها من قبل بعض الفروع والأنكى من ذلك فإن الهدف الذي سعت اليه بعض الفروع من وراء خرق هذه المعايير تحت دعوى المرونة والإنفتاح، ألا وهو تحقيق إنجاز انتخابي واجتماعي، لم يتحقق. وبذلك فإن معظم الجهود التي بذلت لصياغة معايير وتشكيل مرجعية ذهبت سدى، بل أن المرجعية نفسها كانت منقسمة على نفسها بين نهجين، هذا فضلاً عن أنها لم تعمل بصورة منظمة نظراً لانشغال أعضائها بعشرات المهمات في وقت واحد ناهيك عن عدم وجود جهاز حزبي وعدد كاف من المتفرغين (ستة فقط).

وقد شكل الإخفاق في الناصرة. الضربة الأساسية للتجمع الوطني، وتأتي بعد ذلك الرينة. أما بالنسبة للناصرة فإن إنقسام المدينة طائفياً على خلفية قضية شهاب الدين منع تحقيق إنجاز انتخابي للتجمع – موقف التجمع السياسي إزاء هذه القضية كان صحيحاً للغاية. كانت هنالك أخطاء في الترشيحات ولكنها لم تكن العامل الأساسي وراء النجاح أو الفشل.

فقد تقزمت كل الأخطاء الممكنة أمام مراهنة الأحزاب الأخرى على الطائفية والإنقسام الكارثي الذي حل بالبلدة. وقد ثبت أن موقف التجمع في الناصرة كان الموقف الصحيح سياسياً وبات حالياً موقف جميع القوى، لكن الإنقسام الطائفي منع تحقيق أي نجاح في حينه، يضاف اليه الضعف التنظيمي الخطير الذي عانى منه فرع الناصرة والأخطاء التي تمت في عملية الترشيح .

باختصار، على الرغم من أن غالبية المواقع (17) التي خاض فيها التجمع جرت بصورة معقولة ومنسجمة الى حدّ ما مع برامج ومبادئ التجمع – إلا أنه خرج من هذه المعركة بصورة عامة خاسراً حيث تفاعلت إفرازاتها فيما بعد وتجلت في أثناء عملية التحضير لانتخابات الكنيست. وقد ساهم الفوز برئاسة المجلس البلدي في كفركنا في تخفيق وقع الإخفاق العام – (فرع التجمع اضطر لدفع ثمن مقابل هذا الفوز في الجولة الثانية).

خرج التجمع خرج من هذه المعركة الإنتخابية خاسراً، مما مسّ بصورته وبمكانته كقوة ديمقراطية عصرية أعلنت منذ البداية رفضها مهادنة العائلية والطائفية. أو يمكن القول أن التجمع لم يظهر بعد هذه الإنتخابات كقوة قدمت شيئاً مميزاً على صعيد الممارسة الإجتماعية. لا يجوز التقليل من الإفرازات السلبية لهذه الإنتخابات بالنسبة للتجمع الوطني ولا بد، إذا كان التجمع عازماً على أخذ دور إصلاحي إجتماعي مميّز، من إعادة تحديد المعايير والخط الإجتماعي والإلتزام به مع إجراء نقد صريح لممارسته في عدد من المواقع التى خاض فيها الإنتخابات، والتي تناقض مبادئه. ولكن في الوقت ذاته لا يجوز أيضاً التعتيم على إنجازات بعض الفروع ونجاحها في خوض انتخابات نظيفة – وإن كانت بالنسبة للتجمع هي إنجازات متواضعة جداً ولكنها من المفروض أن تشكل بالنسبة للتجمع النموذج الصحيح فيما يتعلق بطريقة خوض الإنتخابات البلدية ومفهوم التغيير الإجتماعي المترافق مع عملية خوض الإنتخابات.

هنالك مواقع فشل فيها التجمع بتحقيق تمثيل على المستوى البلدي ولكنه حقق إنجازاً رائعاً في انتخابات البلدية (المقصود عدد الأصوات) رغم ذلك، وكان هذا الإنجاز مقدمة لإنجاز سياسي كبير في انتخابات الكنيست ومثال ذلك هو فرع حيفا.

إن الطريقة الأضمن لخوض انتخابات بطريقة عصرية وناجحة انتخابياً هو العمل المنظم والمتواصل وإدارة علاقات سليمة مع الناس وبشكل خاص كافة قطاعات المجتمع التقدمية – غير العائلية وغير الطائفية وعلى مدار السنة.

إنتخابات الكنيست 99

لا تزال هناك أسئلة مطروحة من جانب أعضاء كثيرين في التجمع حول ملابسات معركة إنتخابات الكنيست والتحالفات التي شكلها لخوض هذه المعركة. ويميل البعض الى التركيز على موضوع التحالف بدون معالجته في سياق مسيرة التجمع وكيفية إدارته. إن معالجة الموضوع من هذا الباب لن تقود الى تشخيص وفهم صحيحين لوضع الحزب.

لقد داهم الإعلان عن حل الكنيست الإسرائيلي التجمع الوطني الديمقراطي وهو لا يزال يلعق جراحه بسبب نتائج انتخابات السلطات المحلية التي جاءت لتؤكد عدم اكتمال البناء التنظيمي وقصورات في بعض جوانب التخطيط والتنظيم الحزبي التي تتحملها القيادات القطرية والمحلية بتفاوت ناهيك عن الظروف الموضوعية التي نشأ في وسطها والإمكانيات المالية المتواضعة.

لقد كان واضحاً للجميع أن نتائج الإنتخابات البلدية وضعت التجمع موضوعياً، لأسباب ذاتية وموضوعية، في وضع غير مريح على صعيد العلاقات مع القوى السياسية الأخرى وبين شرائح اجتماعية جرى تحريضها طائفياً ضد التجمع. والمقصود هو تفاقم حالة التشرذم والإنقسام الحمائلي والطائفي بصورة لم يسبق لها مثيل، وهي مظاهر جاء التجمع بالأساس لمحاربتها من خلال العمل على توحيد العرب الفلسطينيين في البلاد قومياً.

والمقصود ان البيئة الإجتماعية التي يعمل فيها التجمع ويسعى الى التأثير فيها تحولت في أجزاء منها الى معادية للتجمع إما موضوعياً بسبب الإنسحاب الى قوقعة الطائفية والعائلية، وإما بسبب التحريض المباشر من قبل القوى السياسية الأخرى – الإسلامية والجبهة اللتان جمعهما العداء للفكر القومي المعتمد من قبل التجمع.

في ضوء هذا الوضع، كان على التجمع أن يستنفر صفوفه لإعادة بعض من التوازن الذي اهتز بدرجة غير قليلة بسبب نتائج الإنتخابات البلدية، فكان المؤتمر الثاني الذي أريد منه أن يشكل تظاهرة حزبية وسياسية كبيرة تترك الأثر الإيجابي على الناس وبالذات على جمهور التجمع واستعادة الثقة لديهم. وبالفعل كان الإفتتاح تظاهرة حقيقية بهرت الخصوم قبل الأصدقاء وأبرز الإمكانيات الكبيرة في التجمع وحجم الإلتفاف الشعبي حوله خاصة حين تتجند الكوادر للعمل بحماس كبير، غير أن ما جرى في اليوم التالي وبالذات عملية انتخاب قائمة العضوية للكنيست كشف مرة أخرى عن نواقص جدية في عملية التحضير للمؤتمر التي جرت بطريقة متسرعة نظراً لقرب موعد انتخابات الكنيست، خاصة فيما يتعلق بضم أعضاء جدد على خلفية التنافس على قائمة العضوية بحيث سمح لهؤلاء ليقرروا تركيبة هذه القائمة. وكان هذا خطأ تنظيمي استراتيجي لم يُقدّر المكتب جيداً عواقبه. هذا ناهيك عن ان القيادة لم تأت الى المؤتمر موحدة حول قائمة قادرة على توفير النجاح في معركة مصيرية بالنسبة للتجمع هي الأولى التي يخوضها لوحده، وحتى لا تتهم بتحضير طبخة من وراء ظهر المؤتمر. وكان هذا مفهوم فج للديمقراطية الحزبية كأن الديمقراطية هي العفوية من القواعد دون تجنيدها. ونظراً لذلك، فان على قيادة الحزب أن تتحمل المسؤولية في المستقبل وأن تطرح رأياً واضحاً ولو بأغلبية أصواتها يكون هو موقف القيادة وتوصيتها قبل عملية التصويت في المؤتمر. كما يجب أن توضع معايير واضحة من قبل الهيئات المركزية عند عملية الترشيح أو انتخاب ممثلي التجمع في مختلف الهيئات.

لقد كانت المفاجئة حين فاز أحد المرشحين في الموقع الثالث، الذي كان من المفترض أن يكون لشخصية مركزية في التجمع –لتكون القائمة أكثر جاذبية ووزناً في أعين المصوتين وأكثر حظاً في تحقيق الإنتصار. لكن، وإذا كانت هذه النتيجة شكلت مشكلة بالنسبة للتجمع، فإن رد القيادة (عدم الرضى) عليها – أي على النتيجة زاد الطين بلة وأظهر لمندوبي المؤتمر وللحزب بشكل عام أن نكسة حقيقية قد حصلت في حين كان يمكن بقدر معيّن من الإنضباط والتوازن الخروج من هذا المؤتمر بأضرار أقل وبث روح التفاؤل والثقة بالإنتصار حتى بهذه القائمة.

ولهذا السبب بالذات شعرت قيادة التجمع أن الحاجة لتحالف ما أصبحت أكثر إلحاحية، ويذكر أن التجمع كان قد بدأ اتصالات متبادلة بين جبهة الوحدة الوطنية والتجمع لإقامة تحالف.. ولكن كان لا يزال هناك تحفظ شديد لدى التجمع من شخص هاشم محاميد، لأسباب معروفة. غير أن رغبة القواعد وخاصة الغالبية المخلصة والصادقة لقواعد جبهة الوحدة الوطنية، التي انسلخت عن الجبهة، كانت تدفع باتجاه التحالف مع التجمع. وفي هذه الظروف بالذات، أي بعد أقل من أسبوع بعد عقد المؤتمر، طرح عزمي بشارة الذي كان قلقاً جداً من إمكانية فوزنا بالقائمة التي فرزها المؤتمر، موضوع التحالف مع الطيبي اذا لم تكن هنالك امكانيات أخرى وفقط كبديل أخير في إجتماع المكتب التنفيذي ولكن الإقتراح رفض من غالبية أعضاء المكتب بصورة مطلقة لأسباب مبدئية واضحة، وقد فسر عزمي اقتراحه على أساس ان هذا التحالف يشكل ضمانة أكيدة للنجاح.

وبعد هذا الرفض، بدأ التحرك باتجاه أكثر من خيار، لإقامة تحالفات بما فيها مع الجبهة وذلك بضغط من القواعد الحزبية والشعبية، وكان تحرك التجمع مترافقاً أو مدفوعاً بقلق حقيقي حول مدى فرص نجاحه لوحده.. على الرغم من نتائج الإستطلاع التي كانت في غالبيتها تؤكد النجاح.

ومن هذه الخيارات، القائمة المشتركة التي كانت طرحت من قبل التجمع بصورة غير رسمية قبل عام من الإنتخابات كحاجة وطنية لتوحيد الجماهير الفلسطينية، كحاجة وطنية لتوحيد الجماهير الفلسطينية، غير أن قيادة الحزب الشيوعي رفضت هذا أما قيادة الموحدة فتعاملت مع الفكرة بطريقة سطحية وكأنه تكريس لفكرة القائمة الموحدة المشكلة من الإسلامية والعربي الديمقراطي، والأسوأ من ذلك تعاملها مع التجمع كقوة ثالثة بعد الحزب العربي الديمقراطي مما دفع التجمع الى رفض الإنضمام إليها. في الوقت ذاته كانت تجري محاولات للتفاوض مع الجبهة، وكذلك مفاوضات مع الجبهة الوطنية الموحدة. وبعد أن تأكد رفض الجبهة التحالف مع التجمع، تقدمت المفاوضات مع الجبهة الوطنية الموحدة وتوجت بتوقيع اتفاق رسمي موقع. غير أن إصرار هاشم محاميد على الإنضمام للموحدة حتى لو على حساب تهميش التجمع، الأمر الذي رفضه التجمع، دفعه الى فض الإتفاق ضمن مؤامرة جرى طبخها وتنفيذها ثم توجّت نهائياً في مدينة أم الفحم بتدخل أحد رجالات السلطة الفلسطينية. في هذه الأثناء، اشتدت المعركة وازدادت شراسة الخصوم على خلفية تكشف المؤامرة التي شارك فيها الآخرون لفض التحالف مع جبهة الوحدة الوطنية "وبتر" التجمع. وقد كشف لنا عن تفاصيل هذه المؤامرة، الإخوة في حركة الوحدويين الذين رفضوا الإنسياق وراءها وأصروا على التمسك بالإتفاق، الأمر الذي شكل أحد العوامل المساعدة الهامة في معركة التجمع ضد المتآمرين.

كما استخدم ترشيح التجمع لعزمي بشارة لرئاسة الحكومة مادة تحريضية من قبل الخصوم متهمينه بالخروج عن الإجماع في حين أن الهجوم على هذه الخطوة دافعه الفئوية ومحدودية الرؤية السياسية للقوائم الأخرى ولنهج التبعية لحزب العمل. وقد تبين فيما بعد أن خطوة الترشيح لرئاسة الحكومة كانت من أجرأ وأهم الخطوات التي قام بها التجمع من حيث الأداء السياسي العربي وكانت تحدياً لطبيعة إسرائيل الصهيونية.

كل ذلك أشاع أجواء من العداء والشكوك من جانب القوى الأخرى ووقوع جزء كبير من الشارع الشعبي تحت تأثير هذه الأجواء، أي عدم إمكانية عبور نسبة الحسم. وانتشر هذا الإنطباع بين بعض الأوساط المؤيدة للتجمع والتي أصبحت تتردد في التصويت له خوفاً من حرق أصواتها.

لقد كانت قيادة التجمع متأكدة من قدرة التجمع على النجاح وحده ولكن كان من الصعب إقناع فئات واسعة من حوله بذلك – وكانت تقديرات قيادة التجمع في حينه لعدد الأصوات لو خاض الإنتخابات وحده، قريبة جداً من النتيجة التي حققها في النهاية.

هذه الأجواء المعادية والمتشككة طال تأثيرها قواعد الحزب في العديد من المواقع خاصة في الجليل وشمال المثلث بحيث أصبحت هذه القواعد جاهزة لعدم التدقيق في التحالفات إذا كان من شأنها مساعدة التجمع على خوض الإنتخابات كتيار ثالث على الساحة وذلك بهدف استعادة الثقة لدى المتشككين ولقد وصل الوضع ببعض هذه الكوادر وببعض قادة الحزب الى الشعور بأن خوض التجمع الإنتخابات لوحده فيه مغامرة كبيرة.

في هذه الأجواء بالذات، تسارع الحديث والنقاش حول التحالف مع الطيبي.. الذي ووجه بمعارضة شديدة من بعض قيادات الحزب نظراً للمخاطر السياسية التي يشكلها هذا التحالف علينا وعلى صورتنا الوطنية.

مما لا شك فيه أن التحالف مع الطيبي كان بمثابة هزة عنيفة بالنسبة للتجمع نظراً للموقف المعروف من هذا الشخص، لكن كان هناك تقدير في أوساط قيادية وقاعدية داخل التجمع أن هذه الهزة تظل أقل خطورة من هزة السقوط والإختفاء عن الخارطة السياسية.

لقد كان التأييد للتجمع قائماً وكافياً لإنجاحه ولكن فرية حرق الأصوات التي نشرها خصوم التجمع السياسيين دفعت الى ضرورة ايجاد تحالف لإقناع الناس بقدرتنا على النجاح.

وتجدر الإشارة الى أن ضغوطات كثيرة ومكثفة وحملات إقناع مورست على التجمع لقبول هذا التحالف، وكان من بين هؤلاء فئات مستقلة وشركاؤنا في حركة الوحدويين والحركة التقدمية وغيرهم الذين كانوا أيضاً قلقين جداً على مصير التجمع.

ببساطة كان يعني استمرار الموقف المعارض والتمسّك به، الذهاب الى المعركة بجنود وضباط يعتريهم شك كبير بالنصر.

بطبيعة الحال، لا يستطيع أحد أن يجزم مئة بالمئة بعدم قدرتنا بالفوز بدون التحالف المذكور، وكذلك لا يستطيع أحد أن يجزم بحصول العكس. ولكن لا شك أن ضرراً سياسياً لحق بالتجمع نتيجة لهذا الإئتلاف الإنتخابي، هنالك حاجة لتقليل حجم هذا الضرر وتحديده. وهنا تجدر الإشادة بروح المسؤولية العالية والحرص على وحدة الحزب، كما تجلت في ممارسة المؤيدين والمعارضين لفكرة التحالف.

وبغض النظر عن التقديرات المختلفة، فقد وقع التحالف وفاز التجمع بقوته وبأصواته خاصة وقد تبين أنه لا توجد حتى قواعد متواضعة لأحمد الطيبي ناهيك عن غياب أي تنظيم أو مؤسسات. وعلينا الآن، كحزب يطرح مشروعاً كبيراً، ألا نبحث ونمحور كل نقاشاتنا في الخطوة العينية هذه، التي هزت قناعات العديد من كوادرنا، بل كيف ولماذا وصلنا الى وضع نضطر فيه الى اللجوء الى خطوة أو خطوات تمس مبادئنا. والى أي مدى أثرت هذه ا لخطوة على هيبة التجمع وصورته.. وكيف يمكن تجاوز آثارها السلبية واستثمار إيجابيات الفوز في الإنتخابات.

لقد نشأ إجماع على أن استمرار الإئتلاف والعلاقة مع الطيبي يلحق الضرر بالتجمع، خاصة بعد تصرفاته في الموضوع المالي والسياسي، وعليه فإن التخلص من هذه العلاقة أصبح أمراً ملحاً. ولا توجد أية علاقة سياسية أو تنظيمية تربطنا به اليوم اللهم إلا علاقة الكتلة البرلمانية قانونياً.

لقد تم التوصل الى هذا التقييم والقرار في اجتماع المكتب التنفيذي في 5/8/1988 – وصادقت عليه اللجنة التحضيرية للمؤتمر في اجتماعها المنعقد بتاريخ 2/10/99.

الترشيح لرئاسة الحكومة

 لقد كان قرار التجمع خوض الإنتخابات لرئاسة الحكومة قراراً مسؤولاً وجريئاً في الوقت ذاته. ولم يشترط التجمع أن يكون المرشح عضو تجمع بل اقترح أن يكون المرشح الأول في أي قائمة موحدة هو المرشح لرئاسة الحكومة. ولم يبدأ التجمع بحملة جمع التواقيع لمرشحه لرئاسة الحكومة الا بعد أن رفضت كافة القوائم العربية الفكرة واصطفت بالكامل والمطلق وراء مرشح حزب العمل دون شروط.

لقد كانت حملة التواقيع لتزكية مرشح التجمع أكبر تظاهرة وحدة وتعبئة جماهيرية قام بها التجمع حتى اليوم. وقد عمل مئات نشيطو ونشيطات التجمع تطوعاً وبتفان، ليلاً ونهاراً حتى وصلوا الى أكثر من 65 الف توقيع صالح في أقل من عشرة أيام. وقد عجزت عن ذلك أحزاب كبيرة جيدة التنظيم والتمويل.

وأدخل التجمع عبر هذا الترشيح أسلوباً جديداً في طرح قضايا الجماهير العربية وجسد عبره برنامجه السياسي والفكري الذي تحدى الطبيعة الصهيونية لدولة اسرائيل. فمن الواضح أنه لا يمكن أن تمثيل عربي منصب رئيس الحكومة الا اذا فقدت اسرائيل طبيعتها الصهيونية.

وقد استخدم التجمع هذا الترشيح: 1) لطرح قضايا الجماهير العربية محلياً وعالمياً وعلى مستوى الرأي العام الإسرائيلي بشكل غير مسبوق. 2) للتميز السياسي عن موقف حزب العمل ومناقشة مواقف مرشحه السياسية الأمر الذي أكسب التجمع احترام كافة القوى الوطنية والقومية في كافة أنحاء فلسطين والوطن العربي. لقد ناقشنا باراك حين اصطفت وراءه كافة القوائم العربية الأخرى دون نقاش وتبين الآن صحة نقاشات التجمع وادعاءاته ضد باراك فيما يتعلق بقضايا الحل الدائم فلسطينياً. 3) لبلورة الهوية القومية وروح التحدي لدى جيل كامل من الشباب العرب بالتميز عن معسكري الليكود وحزب العمل. فالأقلية العربية في اسرائيل لا تنتمي كما أظهر التجمع ذلك اما الى حزب العمل واما لليكود. 5) لتثبيت مفهوم المواطنة المتساوية لدى الرأي العام اليهودي والعربي على حد سواء.

لقد كان الترشيح، كلما كان توقيت الإنسحاب، خطوة جبارة قام بها التجمع وسيكون لها أعظم الأثر على التفكير السياسي والسلوك السياسي العربي خاصة اذا ما أحسن التيار القومي تنظيم ذاته والإستمرار على هذا النهج وتطوير اساليب عمله بشكل خلاق. ولا نبالغ اذا قلنا أن هذا النمط من التفكير السياسي الخلاق والتعامل الجدي مع الأدوات الديمقراطية يلقى تجاوباً لدى أوساط واسعة عند أمتنا العربية.

عوامل نجاح التجمع

تقدر أوساط واسعة في التجمع أن نجاح التجمع بالنسبة التي حصل عليها كان مضموناً دون تحالفات ولكن أوساط أخرى ترى أن التحالف كسر أجواء التشكيك بنجاحنا في الإنتخابات، وأعطى ثقة لدى جزء من مصوتي أو مؤيدي التجمع بقدرته على الفوز، على الرغم من أن قوته الإنتخابية محدودة جداً. وهذا ما كان مأمولاً من خطوة التحالف. إذ أن عدد الأصوات التي حصلنا عليها هو العدد الذي قدرناه قبل أشهر طويلة لو خاض التجمع الإنتخابات وحده.

إذاً ما هي عوامل النجاح؟

يمكن التقدير الآن، بعد انتهاء المعركة الإنتخابية. أن التحالف مع الطيبي لم يكن إلا عاملاً مساعداً في الظرف العيني الذي جرى فيه التحالف، إذ أنه في الوقت نفسه لا يمكن تجاهل الأصوات التي أبعدها هذا التحالف وإن كان من الصعب تقدير عددها.

ويمكن تلخيص العوامل الحاسمة التي أدت الى فوز التجمع وحصوله على مقعدين – وعلى 66،000 صوت (أي ما يقترب من ثلاثة مقاعد) على النحو التالي:

 مصداقية التجمع في ثلاث سنوات مكثفة من العمل الوطني والبرلماني بشكل خلاّق لم يشهده الوسط العربي سابقاً وجاذبية طرح وبرنامج التجمع – وهذا ذخرنا الأساسي.

الحملة الإنتخابية التي خاضها التجمع والتي كانت مميزة وجذابة، والتي تمثلت في عشرات الإجتماعات الشعبية الحاشدة والحلقات البيتية والإعلام المكثف والصحيح.

ترشيح عزمي بشارة لرئاسة الحكومة والطريقة التي سحب فيها ترشيحه، الأمر الذي أوصل كلمة التجمع الى المزيد من البيوت والناخبين وعزز بصورة جدية فرص نجاح التجمع.

دور الحلفاء وخاصة حركة الوحدويين الذين اندمجوا مؤخراً وأصبحوا أعضاءً في حزب التجمع.

استنفار كوادر وأصدقاء التجمع في مختلف المدن والقرى وشعورهم بأنهم يخوضون معركة مصيرية على وجود ومستقبل التجمع. وعلى سبيل المثال لا الحصر، الدور الرائع الذي لعبه فرع حيفا في التنظيم والنشاط والإندفاع في جلب المصوتين الى صناديق الإقتراع وقدرة فرع الناصرة على تجاوز آثار الإنتخابات البلدية بسرعة. كما وانعكس هذا الإصرار في نجاح كوادر التجمع في جمع التواقيع المطلوبة وأكثر للترشيح خلال أقل من أسبوعين.

شعور قطاع واسع من شعبنا بأهمية حزب التجمع. كتيار قومي علماني على الساحة الى جانب التيارين الآخرين – الشيوعي والإسلامي.

هنالك مناطق بأسرها أصبح فيها التجمع القوة الأولى: منطقة قرى وادي عارة ما عدا أم الفحم، منطقة القرى الشمالية، معليا، فسوطة، ترشيحا، قلنسوة، الطيبة وجت وباقة الغربية، يجب تحويل هذه المناطق الى قلاع للتجمع لا تتزعزع.

لقد تحقق هذا النجاح الإنتخابي على الرغم من غياب تجربة متراكمة لدى التجمع في الإنتخابات البرلمانية، حيث أن تجارب أفراد الحزب في هذا المجال كانت متفاوتة في مستواها، بين الغياب التام لدى البعض وتوفرها بمستوى متواضع لدى البعض الآخر، الأمر الذي انعكس على شكل قصورات في الجهاز الإنتخابي الذي تمت إقامته بصورة متسرعة في الوقت الذي تبقى.

مما لا شك فيه أن هذه الإنتخابات أضافت الى تجربة التجمع الكثير سواء في مجال إدارة الإنتخابات وإدارة عملية التنافس مع الآخرين، أم في مجال العلاقات مع الناس والمؤيدين… وهي نتيجة ستنعكس إيجابيًا على عملية بلورة البنية التنظيمية للحزب وعلاقاته الجماهيرية في المستقبل.

المؤسسات والعامل الذاتي

منذ عشية الإنتخابات البرلمانية وخاصة حين وجدنا أنفسنا محاصرين وبدأنا نسعى لائتلافات مع أية قوى سياسية أخرى ترتضى بالحد الأدنى لشروطنا، بدأ يطرح العديد من أعضاء التجمع سؤالاً وجيهاً: لماذا بالضبط وجدنا أنفسنا وسط هذا الحصار؟

هذا السؤال ينطوي على الإعتقاد أنه بالإضافة الى الأسباب الخارجية والموضوعية المتمثلة في عدم ارتياح القوى التقليدية والمحافظة من وجود التجمع، هناك عوامل ذاتية كامنة في الهيئات القيادية.

تجب الإشارة الى أن الحزب الذي يلقي بكل إخفاقاته على الآخرين، لن يكون قادراً على الحياة والإستمرار. فوراء الإخفاقات بصورة عامة أسباب تتراوح بين طبيعة هذه القيادة ومميزاتها وإمكانياتها الطبيعية وبين مدى تجربتها الحزبية والسياسية واستعدادها للتعلم من أخطائها وقدرتها على تفعيل مهاراتها ومواهبها بالاتجاه الصحيح. وبغض النظر عن مستوى القدرات والإمكانات الطبيعية للقيادة، تبقى هناك حاجة لمراكمة التجربة في عملية التنظيم وإدارة المعارك السياسية والإنتخابية في إطار جديد جمع الكثير من التناقضات في داخله نظراً لتركيبته التنظيمية وتميّز طرحه السياسي، والتجمع لا يعدم القدرات المتميزة بل أن هذا ما يميّز التجمع عن الأحزاب الأخرى. والقيادات التي لا تراجع أداءها ولا تصغي الى ملاحظات القواعد لن يكون بإمكانها الاستفادة من التجربة أو إغنائها ومن ثم تحسين أدائها لما هو صالح الحزب وأهدافه. وبطبيعة الحال، هذا الأمر مطلوب ليس من القيادات المركزية فحسب بل أيضاً من قيادات الفروع التي يتعيّن عليها أن تسعى الى إبتكار الصيغ المناسبة والناجعة في عملية تطوير الحزب. وتمشياً مع روح هذا التوجه، فإنه يمكن القول في إطار المراجعة الذاتية، أن المؤسسات المركزية قد تكون أساءت تقدير قوة القوى الأخرى التي تلعب على نفس الساحة، ففتحت عدة جبهات، تحت ضغط المزاج الشعبي العام المستاء من الوضع السائد والراغب في التغيير، دون ان تُجري تقدير قوتنا الذاتية بصورة صحيحة.

لقد كان ظهور التجمع بمثابة انقلاب في التفكير السياسي على ساحة الأقلية العربية الفلسطينية. وكان هذا يغرينا بالاندفاع نحو فرض التغيير في التفكير والأداء القيادي لدى الأحزاب الأخرى التي كانت وصلت الى طريق مسدود ومثلت خطاً فكرياً-سياسياً محافظاً وتقليدياً. ربما لم تدرس قيادة التجمع حقيقة الساحة بصورة جيدة وتصورت أنه  بالإمكان تحقيق هذه الأهداف بسهولة وبسرعة.

وعلى الرغم من صدق وصحة أهدافنا وتشخيصنا لأوضاع القوى السياسية والهيئات التمثيلية، إلا أن الطريقة التي مارسنا فيها دورنا أدت الى استنفار القوى التقليدية والماضوية وتجميعها ضد القوى الجديدة بحكم غريزة الدفاع عن النفس بسرعة لم نتوقعها.

قد يقول البعض. أنه في كل الأحوال. لن تقبل تلك القوى التغيير بسهولة. وهذا صحيح، ولكن التجمع قام بذلك قبل أن يستكمل البناء التنظيمي وبناء مؤسساته ولم يطرح هذه القضايا للبحث والنقاش المعمق قبل تبنيّها وممارستها، ناهيك عن انشغاله في حينه في مشاكله الداخلية المتمثلة في انسحاب جزء من أبناء البلد من التجمع وما رافق ذلك من هجمات عليه أغرت آخرين مثل صحيفة الإتحاد بفتح باب الهجوم عليه على مصراعيه. ولذلك فإن هذه الظروف لم تتح لقيادات التجمع او من أمسك بزمام الأمور فرصة الدرس والتفكير المتأني في خطوات هامة جرى ممارستها فانعكست بصورة سلبية على التجمع.

لقد اعترى عمل مؤسسات الحزب ثغرات وقصورات بعضها جدية، التي يتحملها بطبيعة الحال، وبصورة رئيسية أعضاء المكتب التنفيذي، ورسمياً سكرتير اللجنة المركزية ورئيس الحزب (بالممارسة). ويذكر أن المكتب المركزي وبالتحديد سكرتير التجمع عمل لفترة طويلة وعلى مدار ساعات طويلة يومياً بدون طاقم إداري أو مساعدين – للمساعدة في توجيه عملية البناء التنظيمي وتشكيل الجهاز التنظيمي، مما شتت القدرات على مهام كثيرة ليست دائماً ذات أولوية، فغاب أحياناً عن عملية التوجيه السياسي لصالح الإنكفاء نحو الداخل التنظيمي الزاخر بالمشاكل والصعوبات. هذا ناهيك عن غياب الفاعلية والجدية لدى بعض أعضاء المكتب التنفيذي واللجنة المركزية وتكرار غيابهم عن الإجتماعات وعدم قيام بعضهم بأي دور تنظيمي (تنظيم الفروع) في منطقتهم، بل أحياناً حتى في فروعهم. كل هذا أدى الى القاء المزيد من الأعباء والمهام على عدد قليل من أعضاء المكتب، بالإضافة الى مسؤولي المناطق الـ3 وعدد قليل جداً من سكرتيري الفروع النشيطين. وفي ظل غياب رؤية تنظيمية متجددة وعصرية، وإمكانيات مالية كافية، ونتيجة لظروف المجتمع الاستهلاكي وعزوف الكثيرين عن العمل الحزبي وتقاعس العديد من الكوادر الحزبية عن أخذ دورها واكتفائها بالتنظير والثرثرة، يمكن تفسير تأخر تبلور بنية تنظيمية صلبة وديناميكية للحزب ووقوعه في بعض الأخطاء الجدية. وهذا ما يفسر ايضاً بعض حالات التوتر التي كانت تنشأ بين الحين والآخر بين المكتب التنفيذي وأعضاء فيه، وعزمي بشارة الذي يميل الى المبادرة والتحرك بوتيرة أسرع من وتيرة الجهاز الحزبي، الأمر الذي كان محط نقاش وخلاف حول تفسير هذا التوتر، أي إذا ما كان هذا التوتر يعود فقط الى وجود فجوة تنظيمية أم الى ميل عام للتحرك احياناً خارج الأطر التنظيمية وتجاوزها.

لقد لعبت قوة الطرح السياسي للتجمع وجاذبيته وحاجة قطاعات واسعة من شعبنا لهذا التيار دوراً مركزياً في عملية الإستمرار وإيصال هذا الطرح الى هذه القطاعات، وإبقاء قدراً معقولاً للالتفاف الشعبي حول التجمع. غير أن هذه الجاذبية لم تعد قادرة على التأثير من تلقاء نفسها، بل تحتاج الى بنية تنظيمية صلبة وديناميكية لتطوير التجربة وترسيخها في قواعد الحزب. وهنا يأتي دور جميع الكفاءات داخل الحزب لتصعيد دورها ومساهمتها الفكرية والتنظيمية والعملية.

العمل الجماهيري

شارك التجمع، قيادات وفروعًا، في النشاطات النضالية والمعارك اليومية التي تخوضها الأقلية العربية الفلسطينية ضد سياسة مصادرة الأراضي، وهدم البيوت، وكافة أشكال التمييز والإضطهاد. وكانت مشاركته بارزة ونوعية في معركة أم السحالي وفي المواجهات التي دارت على أرض الروحة ومداخل أم الفحم وفي أحداث اللد التي لعب فيها فرع التجمع هناك دوراٌ قيادياً وأصيب خلالها عدد من أعضاء وأنصار التجمع وعزمي بشارة بجراح برصاص مطاطي.

كما وكان للتجمع دور مميّز الى جانب لجنة الأربعين في التصدي للإعتداء على قرية القيسي (جانب نحف) في صيف عام 98، وساهمت قياداته وكوادره في إعادة بناء البيت المهدوم الذي أقدمت عليه السلطات الإسرائيلية في ظل حملتها لترحيل أهالي القرى غير المعترف بها.. وفي وقت غابت جميع الأحزاب وقيادة لجنة المتابعة عن هذا الحدث.

كما وأثار التجمع الوطني القضايا العينية التي تهم المواطنين العرب في العمل البرلماني بصورة عامة من خلال النائب عزمي بشارة، (أنظر كراس العمل البرلماني – 1999) ضمن تجربة خاصة ومتميزة لم يعهدها العرب في البلاد.

كما وكان للتجمع الوطني دوراً في النشاط التضامني مع شعبنا في العراق. فأثناء عملية تجديد حملة التضامن مع أطفال العراق التي بادرت اليها القوى القومية والشعبية في العالم العربي في أواخر عام 1997، كان التجمع سباقاً في تنظيم مهرجان ضخم حضره حوالي ألف شخص، وذلك انسجاماً مع الخط القومي وتجسيداً للإرتباط الحضاري والثقافي مع الأمة العربية. كما وقام التجمع بحملة تبرعات لصالح اطفال العراق.

فرض خطاب جديد على الساحة

استطاع التجمع الوطني الديمقراطي وفي فترة قصيرة نسبياً أن يصبح تيارا مستقلاً ومؤثراً وأن يحدث تحولاً نوعياً في الخطاب السياسي السائد على ساحة الأقلية العربية الفلسطينية، وهذا الإنجاز الأهم حتى الآن لكونه يمهّد الأرضية النظرية والفكرية والنفسية لمرحلة جديدة من العمل تقوم على الإنتقال من حالة ردّ الفعل على سياسة التمييز العنصري والإضطهاد الى المواجهة المنهجية والمدروسة لهذه السياسة. ليس هذا فحسب بل الى مرحلة البناء وبلورة الكيان الثقافي القومي لمليون عربي فلسطيني.

ويقوم الخطاب السياسي الجديد الذي اصبحت تقلده القوى السياسية الأخرى وإن بطريقة سطحية، أو الرؤية التجمعية على أساس إعادة صياغة شكل العلاقة مع الآخر على نحو ينفي التهميش ويطالب بإحداث تغيير جذري في المكانة القانونية والسياسية للجماهير الفلسطينية وتحقيق المساواة الكاملة من خلال التأكيد على الإنتماء القومي وصيانته وتطويره عبر تنظيم الجماهير العربية قومياً وبناء المؤسسات الثقافية والتمثيلية المنتخبة، ونبذ نهج التذيل للآخر.

لكن ينتظر من التجمع الوطني وهيئاته المتخصصة تحويل هذه الرؤية المتقدمة والقائمة على الفهم الخلاق لواقع الصراع الذي نعيشه الى برامج عملية حتى يتحول التعاطف الشعبي معه الى علاقة ثابتة وواعية وهذه إحدى المهمات الأساسية المنوطة بالمؤسسات المركزية التي ستنبثق عن المؤتمر.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط