المؤتمر السادس 2011: البيان السياسي

 

بيان المؤتمر السادس
حزب التجمع الوطني الديمقراطي

القسم الأول:
المشهد الدولي والإقليمي وانعكاساته على المنطقة

* يمرّ المشهد الدولي بتبدلات هامة أهمها وأكثرها تأثيرًا في مجرى السياسة العالمية حصول تراجع في مكانة نظام القطب الواحد، الذي خُيّل لأصحابه وللكثيرين في العالم أنه نهاية التاريخ، يعود الفضل الى ذلك في الأساس الى حركات المقاومة التي تتصدى بنجاح للاحتلال الأمريكي وللعدوان الاسرائيلي ولا تزال مفاعيل هذه التبدلات والتراجع في بداياتها، وهي مرشحة لإطلاق تداعيات نوعية على بنية العلاقات الدولية، وفي إعادة الاعتبار لقيم الحرية والمساواة والعدالة وحق تقرير المصير للشعوب، وتأتي الثورات العربية لتجسد إحدى أهم هذه التداعيات، والمرشحة لتغيير وجه المنطقة العربية وعلاقاتها مع قوى الاستعمار الغربي بما فيها الاسرائيلي.

لقد ساد اعتقاد، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، بأن النموذج الرأسمالي النيوليبرالي الأمريكي هو المنتصر، وهو الذي يجب أن يحتذى به في العالم. وقد اتخذ هذا النموذج شكلاً متوحشًا من التنافس والهيمنة، وعمق الفجوات الطبقية والاجتماعية بين الشمال والجنوب ونشبت خلال هذه الفترة عشرات الصراعات بين الدول وداخل الدول؛ إما صراعات حدود، أو صراعات إثنية ودينية، أو حروب استعمارية.

لقد اتسمت السياسة الأمريكية تجاه العالم بالهيمنة والنهب والاحتكار، وهذه السياسة الإمبريالية هي في صلب بنية النظام والنخب الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية، سواء في الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، وعمر هذه السياسة عقود طويلة من الزمن كلفت البشرية موت الملايين من البشر، وإفقار عشرات الملايين الآخرين. لقد جرى ويجري ذلك عبر تدبير الانقلابات ضد الأنظمة المناهضة للامبريالية الأمريكية بواسطة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الـ CIA، خاصة في الخمسينيات والسيتينيات والسبعينيات وعبر الآلة العسكرية الضخمة، ومن خلال الشركات الاحتكارية العملاقة. وتتحمل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، والطبقة السياسية الاقتصادية-العسكرية المرتبطة عضويًا مع المصلحة الصهيونية، المسؤولية عن استمرار الاحتلال الكولونيالي الاسرائيلي وعن نظام التمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني.

واتخذت هذه السياسة أبعادًا خطيرة جديدة ونوعية، بعد وصول المحافظين الجدد إلى دفة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية بداية عام 2000.. تمثلت في محاولة فرض الهيمنة الأمريكية بالقوة المباشرة وتقسيم العالم الى معسكرين؛ 'معسكر الخير ومعسكر الشرّ' أو 'من ليس معنا فهو ضدنا'.

شنت إدارة جورج بوش حربين في غضون ثلاث سنوات في أفغانستان والعراق تحت شعار محاربة الإرهاب في حين كان الهدف الحقيقي هو إحكام القبضة الأمريكية على الشرق الأوسط والتحكم بمفردها بمصادر الطاقة الرئيسية وفرض أجنداتها حتى على حلفائها في أوروبا وغيرها من دول العالم. وكانت  إدارة الجمهوريين برئاسة جورج بوش الأب قد شنّت حربًا على العراق عام 1990 في إطار نفس السياسة بحجة غزو الأخير لدولة الكويت، قبل أن يُهيمن المحافظون الجدد وفكرهم على الحكم. ولم تكن الحرب الأخيرة على العراق عام 2003 إلا استكمالاً للحرب الأولى بهدف تفكيك دولة العراق وإعادة هندسة الشرق الأوسط بما ينسجم مع المصلحة الأمريكية-الصهيونية. كان الهدف فرض الهيمنة الأمريكية وإحكام السيطرة على مصادر النفط وإخراج العراق من معادلة الصراع مع اسرائيل، وفرض تسوية تصفوية على الشعب الفلسطيني وتكريس هيمنة امريكية – اسرائيلية على المنطقة. كان الهدف أيضاً تذويت الهزيمة نهائيًا في عقول النخب العربية.

المحصول ليس على قدر حساب البيدر

الولايات المتحدة الأمريكية متورطة مباشرة حاليًا في حربين فاشلتين، العراق وأفغانستان، وتورطت بصورة غير مباشرة في الحرب على لبنان صيف عام 2006، وفي الحرب على غزة في شتاء 2009/2008. هذا إضافة الى الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالاقتصاد الأمريكي، وباقتصادات العالم. كل ذلك أدى إلى زعزعة واهتزاز مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم وبين حلفائها عسكريًا، واقتصاديًا وسياسيًا.

لقد جاء سقوط المحافظين الجدد وفوز مرشح الحزب الديمقراطي، باراك أوباما، في انتخابات الرئاسة لعام 2008، حصيلة الفشل الأمريكي في العراق، وحصيلة تحولات ثقافية في المجتمع الأمريكي، جاءت تتويجًا لنضالات حركة الحقوق المدنية منذ الخمسينيات والستينيات، وخيبة أمل المجتمع الأمريكي من سياسات المحافظين الجدد بزعامة بوش الأبن.  أصيب الكثير من العرب (النظام الرسمي وأبواقه) بالنشوة بعد فوز أوباما في الانتخابات وبنوا أوهامًا كبيرة عليه خاصة فيما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية، وهو سلوك عربي أصبح متكررًا منذ أكثر من عقدين، إزاء التغيرات السياسية والمعارك الانتخابية في أمريكا وإسرائيل. وهذا السلوك نابع من سوء فهم آليات الحكم في هذين البلدين، وسوء فهم لرؤيتهما واستراتيجيتهما بخصوص الشرق الأوسط وقضية القضايا – قضية فلسطين. وأساسًا فإن هذا السلوك مصدره الوهن والحالة العربية الرثة وغياب إرادة عربية موحدة ومشروع عربي حقيقي.

لقد شكل ترشح وفوز أوباما تغييرًا هامًا في الحياة السياسية الأمريكية، إذ خلق حيوية ودفعت أوساطًا شعبية واسعة الى المشاركة في الحياة السياسية وفي العملية الانتخابية. وقد أدى هذا الفوز الى تغيّر تكتيكي، ولكنه هام، في العديد من المجالات باستثناء الموقف من القضية الفلسطينية واسرائيل. فالمساندة المطلقة لأمن إسرائيل والارتباط بها ثقافيًا وسياسيًا هو ثابت من ثوابت السياسة الأمريكية. وقد تأكد ذلك من تراجع أوباما أمام نتنياهو فيما يخص مطلب تجميد الاستيطان كشرط لاستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية.

إنّ التغيّر في سياسة الإدارة الجديدة تمثل في الموقف من الأطراف الدولية؛ بحيث أصبح هناك استعداد اكبر للتعاون مع الآخرين بدل مبدأ فرض الإملاءات والأجندات الأمريكية، الذي ميز حقبة بوش الابن في البيت الابيض. كما أن التغيّر الآخر هو تخفيف الصدام مع ما أسمته الإدارة السابقة بمعسكر الشرّ، واختيار الدبلوماسية ثم الحصار والعزل قبل توجيه الضربة العسكرية. وجاء هذا التغيير مترافقًا مع بروز قوى اقليمية جديدة في المنطقة، ومناطق أخرى من العالم تتحدى الهيمنة الأمريكية، وتفتّ في عضد نظام القطب الواحد.

دور المقاومة العراقية واللبنانية في تعطيل مشروع الشرق الأوسط الجديد

يُسجل للمقاومة العراقية ومن ثم اللبنانية ضد الاحتلال الأمريكي الفضل في تعطيل مشروع 'الشرق الأوسط الجديد' الذي أطلقته إدارة المحافظين الجدد كبديل عن الهوية العربية للمنطقة، والذي يعني تفتيت المنطقة إثنيًا وطائفيًا ومذهبيًا لتسهيل تكريس وإدامة السيطرة عليها وعلى مقدراتها. بل كان لها الفضل في منع مواصلة حصار أمريكي لدول أخرى في المنطقة كسوريا، وكذلك في منطقة أمريكا الجنوبية، مثل فنزويلا حيث استطاع الحكم اليساري هناك أن يصمد وأن تنتقل تفاعلاته الى دول أخرى بفضل تورط الولايات المتحدة الأمريكية في العراق.

لقد كانت سرعة انطلاق المقاومة العراقية، بعد فترة وجيزة جدًا من احتلال العراق، قياسية ومفاجئة ليست فقط للمحتلين بل للجميع.

تمكنت المقاومة رغم الملاحظات الكثيرة على وسائل وتوجهات بعض تياراتها، ورغم غياب برنامج سياسي وطني موحد، من توريط القوات العسكرية الأمريكية وإدخالها في حالة استنزاف دائم مما جعلها تعجز عن خوض معارك أخرى ضد أعداء مفترضين لاستكمال مخططها بالنسبة للعالم.

وفي أوج التورط الأمريكي، في العراق وأفغانستان جاءت ضربة أخرى لسياسات الولايات المتحدة ولحليفتها اسرائيل، المتمثلة بالعدوان الفاشل على لبنان عام 2006، والذي كانت الإدارة الأمريكية تأمل منه التخفيف من ورطتها في العراق، وتركيع سوريا والهيمنة على لبنان، وإعادة الروح الى مشروعها الاستعماري 'شرق أوسط جديد'.

خسرت أمريكا معركة الهيمنة العالمية المطلقة بخسارتها معركة السيطرة الأحادية على الشرق الأوسط، فهي تتخبط في أفغانستان ولا تعرف كيف تنسحب من هناك ومن العراق من دون إراقة ماء الوجه، كما أنها لم تنجح في فرض إرادتها في بلد صغير كلبنان لنزع سلاح حزب الله، وفشلت ايضًا في حصار بلد فقير ومحدود الموارد كسوريا. هذه من علامات أفول الإمبراطورية الأمريكية، ولا نقول أفول دولة الولايات المتحدة الأمريكية.

إن تشكيل حكومة وطنية في لبنان ودخول حزب الله فيها، وفك سوريا لعزلتها وعودتها الى دورها التقليدي وتقوية علاقاتها مع تركيا العائدة الى بيئتها الطبيعية وإلى التصالح مع تاريخها، (الثقافي) وأيضًا استمرار عملية التغيير اليساري في أمريكا اللاتينية (الساحة الخلفية للنفوذ الأمريكي) والفكاك من أسر التبعية، كل تلك هي معطيات جديدة ذات أبعاد استراتيجية بالنسبة للقوة الأمريكية وسياسة الهيمنة والتوسّع.

لقد دفع العراق، هذا البلد العربي الهام في معادلة التاريخ والحضارة ومعادلة القوة ضد المشروع الاحتلالي الاسرائيلي، ثمنًا باهظًا، بل أنه تعرض ولا زال لنكبة حقيقية، خسر استقلاله وفقد الملايين من أبنائه؛ شهداء، وجرحى، ومعتقلين ولاجئين.

وعلى الرغم من عدم انطفاء جذوة المقاومة فإن جرح العراق لا زال نازفـًا، وسيتواصل النزف لفترة ليست بقصيرة قبل أن يستعيد كيانه واستقلاله واستقراره، وهذا مرهون بقدرة المقاومة العراقية والقوى السياسية العاقلة بإعادة بناء ذاتها حول برنامج عروبة ووحدة العراق على أنقاض الصراعات المذهبية والطائفية والجهوية المدمرة، والتي كان للاحتلال الأمريكي دور في إيقاظها وتفجيرها.

المشهد العربي والتحولات الإقليمية

تعيش المنطقة العربية منذ بداية هذا العام (2011) زلزالاً سياسيًا كبيرًا تمثل بالثورات الشعبية العربية اتي انطلقت من تونس وانتقلت شرارتها الى مصر ليسقط أيضًا نظامها دون أن تتوقف عدواها الى بقية الأقطار العربية مُنذرة بتغيير وجه المنطقة والمعادلات القائمة؛ سواء على المستوى الداخلي للمجتمع ككل، أو على مستوى العلاقات بين الأقطار العربية، أو على مستوى العلاقة مع القوى الاستعمارية الغربية بما فيها الاستعمار الاسرائيلي.

هذه العلاقات التي اتسمت حتى الآن بالتبعية والفوقية والهيمنة. وقد تحتاج هذه الثورات الى فترة من الزمن لحين إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية وتحقيق جميع أهدافها بالقضاء على تراث حقبة الدكتاتورية والفساد والشمولية والتبعية، وإحلال الديمقراطية وسلطة الشعب، والدولة المدنية، والاستقلال الوطني، وفتح الباب على إعادة تشكيل الهوية العربية الواحدة للوطن العربي.

لا تخلو هذه الطريق من المخاطر ومن محاولات الاحتواء والعرقلة من جانب قوى الثورة المضادة والقوى الأجنبية التي لن تتنازل بسهولة عن علاقات الهيمنة والنظرة الدونية الى الإنسان العربي الذي يُعيد لنفسه الاعتبار ويطلق طاقاته ويستخدم المعرفة التي اكتسبها.

لقد جاءت هذه الثورات، التي فاجأت الجميع، بما فيها الشعوب العربية نفسها، التي اكتشتف فجأة قدرتها على صنع المعجزات، حصيلة تراكم طويل من القمع والهوان والشعور بالهوان وتراكم كبير من المعرفة والوعي السياسي والاجتماعي.

عاش المواطن العربي على مدار عقود من الزمن تحت وطأة الاستبداد والتخلف، ورأى كيف تنتهك سيادة بلده من جانب قوى الاستعمار الغربي المتحالفة مع نظام بلاده.

ورأى كيف تتحالف أنظمته مع العدوان الأمريكي وتتواطأ مع المحتل الاسرائيلي لقمع المقاومات العربية، بدل أن تكون عونًا لها. وفي الوقت نفسه غذّى صمود هذه الحركات المقاومة شعوره بالأمل وبقدرة الشعوب على الانتفاض والتصدي.

لم تكن غائبة عنه قدرة دول إقليمية غير عربية تنمو ويكبر دورها في المنطقة على حساب دول عربية كانت تلعب في السابق دورًا إقليميًا وعالميًا، كمصر، فمسخها نظام السادات ومبارك واختزل دورها الى حماية المصالح الأمريكية والاسرائيلية. وبالمقابل، لم تحقق مصر ولا غيرها ازدهارًا اقتصاديًا ولا ديمقراطيًا، بل تراجعت بصورة حادة على هذه المستويات مقارنة مع نظام عبد الناصر مع كل قصوراته.

لم يتمكن النظام العربي عموماً من ملء الفراغ الذي أحدثه التراجع النسبي لمكانة ولدور الولايات المتحدة في المنطقة العربية نتيجة حروبها الفاشلة. هذا الفراغ يُفسر ما حدث من تعاظم في دور كل من تركيا وإيران وسوريا، وتراجع أدوار الدول العربية والقوى السياسية التي راهنت على السياسات الأمريكية في عهدي بوش وأوباما.

لقد أبرزت الحروب الأمريكية الفاشلة والأزمة الاقتصادية العالمية دور دول إقليمية في منطقتنا وفي مناطق أخرى من العالم.

ففي الوقت الذي خلا فيه موقع القيادة في العالم العربي كانت تركيا تنمو وتتقدم للعب دورًا رئيسيًا في منطقة الشرق الأوسط متجاوزًا الدور الإيراني على أهميته. فبالنسبة للدور الإيراني حالت عوامل مذهبية ودوره السلبي في العراق، وانتهاكه لعروبة العراق، دون اختراقه للعالم العربي، فظل حضوره محصورًا في مواقع محددة.

لقد عادت تركيا الى بيئتها الطبيعية، وأخذت تلعب دورًا في شؤونها (شؤون المنطقة) السياسية والاستراتيجية والاقتصادية. تصالحت مع تاريخها وثقافة شعبها وتراثه وتجنبت الحرب الأهلية المعلنة أو الكامنة التي تعيشها بعض دول عربية بين التيارات الإسلامية الأساسية والأنظمة الحاكمة، التي تمزق المجتمعات العربية وتمنع تكوين إجماع وطني أو حتى أغلبية سياسية يمكن من خلالها إقامة نظام سياسي مستقر قائم على الشرعية الدستورية والاحتكام للشعب.

ليس هناك مخرجًا من هذا الوضع سوى وقف الصراعات الدينيّة والمذهبية، والتقدم نحو رد الاعتبار للقومية العربية كهوية وكمشروع سياسي، والشروع بالعمل لإعادة الاعتبار للفرد والمواطن وللدولة والاقتصاد-المواطنة المتساوية والديمقراطية.

لقد أسقطت الثورة العربية الكبرى العديد من المسلمات والفرضيات، عن إمكانيات التغيير في المجتمعات العربية، وأولها سقوط المقاربة الثقافوية والانتريولوجية التي رأت بالإسلام وبالفجوة الحضارية من معيقات التغيير الديمقراطي بين الشعوب العربية.

ثانيًا؛ ثبت أنه بالإمكان تغيير الأنظمة العربية بدون التدخل من الخارج، وعبر ثورة شعبية عارمة، أعادت الثقة بقدرة الإنسان العربي.

ثالثًا؛ سقوط فزاعة الإخوان المسلمين التي كان يستغلها النظام العربي لضمان البقاء في الحكم ولضمان الدعم الغربي له. وخاصة بعد أن قاد الشباب ومعهم عموم الشعب الدور المفجر للثورة الكبرى، ناهيك عن التجديد الذي تمر به تيارات الإسلام الوسط، والمتجه نحو قبول الدولة المدنية، كبديل عن الدولة الدينية أو العسكرية.

رابعًا؛ سقوط عقلية التبعية للخارج وفتح الطريق نحو الاستقلال الوطني واتباع نهج ومبدأ توازن المصالح في العلاقات بين الدول.

خامسًا؛ وجهت الثورات العربية، خاصة ثورة مصر وتونس ضربة سياسية واستراتيجية لسياسة الاستفراد بالعرب التي اعتمدتها اسرائيل والإدارات الأمريكية، في إطار مخططاتها الهادفة الى تكريس السيطرة على القرار العربي والثروة العربية، وتكريس احتلال اسرائيل للأراضي الفلسطينية والعربية.

 

القسم الثاني:

واقع الحركة الوطنية الفلسطينية وآفاق الخروج من المأزق

لا تزال الحركة الوطنية الفلسطينية تعيش أزمة غير مسبوقة وصلت ذروتها في الانقسام المأساوي الجغرافي والسياسي والاقتتال الذي تفجّر بين أكبر فصيلين في صيف عام 2007، ولا يكف الشعب الفلسطيني عن الأمل بوأد هذا الانقسام والانطلاق مجددًا في مسيرة التحرير الوطني وصولاً إلى الحرية و الاستقلال والعودة. لم يأت الانحدار الى الاقتتال الداخلي وارتكاب ممارسات بشعة خلال هذا الاقتتال نتاج صراع عائلي أو جهوي، بل نتاج ضغط خارجي وصراع بين نهجين في التعامل مع الاحتلال الاسرائيلي وصراع بين رؤيتين وهدفين، أحدهما تمثله سلطة بدون سيادة تحت الاحتلال، وتعتمد المفاوضات كخيار واحد ووحيد، وبين حركة حماس كحركة مقاومة رفضت المفاوضات. هذا قبل أن تحدث تحولات في رؤية حماس السياسية ونهجها كحركة مقاومة وكسلطة.

ولم تكن دوافع انفجار هذا الاقتتال وحدوث الانقسام معزولة عن رغبات ومصالح قوى اقليمية ودولية، وبالتحديد الولايات المتحدة وحلفاؤها من عرب وغير عرب. بل لقد شكل  فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006 نقيضًا لما يسمى 'العملية السلمية' ، التي رعتها وعولت عليها قوى إقليمية ودولية. فجرى حصار حماس عربياً ودولياً، وشنّت إسرائيل حربًا عليها لإسقاطها لإعادة تأمين الطريق أمام نهج المفاوضات العبثي. كما أن مشروع الوحدة الوطنية الذي جرى السعي للوصول اليه منذ عام 2006 –إتفاق القاهرة- واتفاق مكة عام 2007، لم يكن ايضًا منسجمًا مع الرغبة الاسرائيلية-الأمريكية ولا رغبة بعض الأنظمة العربية، فجرى إفشاله ووأده.

سبقت هذه المخططات، أي التآمر على حماس، مخططات التآمر على حركة فتح ومحاولات تفريغها من مضمونها ومن قيم حركة التحرر، وهي الحركة التي شكلت العامود الفقري في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة والتي كان لها الفضل الأكبر في إحياء الكيانية الفلسطينية عبر تقديم آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى والأسرى. لقد وجد أصحاب هذه المخططات الخارجية من يستجيب لها من داخل الحركة، وبالذات بعض قياداتها التاريخية، بعد حصار واغتيال رئيس منظمة التحرير وقائد حركة فتح التاريخي، الشهيد ياسر عرفات الذي شكل عقبة في وجه هذا المخطط. إن ما يجري من تنسيق أمني ومن إعادة بناء وهيكلة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفسطينية تحت قيادة جنرال أمريكي هو جزء من خطة أمريكية وإسرائيلية وأوساط عربية لوأد المقاومة وتدمير حركة فتح أو إفراغها من قيمها الكفاحية.

مأزق القيادة الحالية

تواجه القيادات الحالية للسلطة الفلسطينية مأزقًا حقيقيًا ومعها حركة فتح بأكملها لأن الشوط الذي قطعته باتجاه تكييف نفسها مع متطلبات التسوية، طال العمق؛ في الأمن والاقتصاد والسياسة والثقافة، وإلى حدّ ما المجتمع، بحيث اصبحت السلطة أو الطبقة السياسية مرهونة كليًا بما يُسمى ب'العملية السلمية' وبالمعونات التي تنفقها الدول الغربية وأمريكا وبعض دول الاعتدال العربي. نتيجة ذلك يبدو لها الخيار الآخر، خيار المقاومة الشعبية بكافة اشكالها متعذرًا وغير متاح، لمواجهة نتائج وصول التسوية الى طريق مسدود، أو اقتراب فكرة الدولتين من الموت المحتم بسبب التعنت الاسرائيلي. وتشتد أزمة هذه القيادة بعد خضوع الإدارة الأمريكية الجديدة التي راهن عليها العرب والفلسطينيون، أمام حكومة نتنياهو، وتعرض السلطة الفلسطينية إلى ضغط هائل لقبول استئناف المفاوضات المباشرة بدون التعهد بوقف أو تجميد الاستيطان، أو الاتفاق على مرجعية لهذه المفاوضات قوامها القرارات الدولية التي تعتبر احتلال الضفة والقدس أرضًا محتلة وغيرها من القرارات التي تؤكد على حق العودة للاجئين الى ديارهم..

يقظة متأخرة وغير مكتملة

استفاقت قيادة السلطة الفلسطينية الحالية متأخرة من دوامة المفاوضات العبثية التي جرى في ظلها تسارع كبير في خطر المشروع الاستيطاني بعد خمسة أعوام من المفاوضات العبثية، وهي فترة جرى فيها تجربة المجرّب على مدار (18) عامًا تقريبًا خاضتها القيادة الفلسطينية السابقة بقيادة الشهيد ياسر عرفات. ولكن هذه اليقظة غير مكتملة لأن المراجعة لمجمل نهج أوسلو ونتائجه الكارثية غير مطروحة.

جاءت حكومة الائتلاف اليميني المتطرف بقيادة بيبي نتانياهو، والذي كان قد عمل طيلة فترة حكمه السابق، 1996-1999 على إفشال عملية أوسلو، وإغلاق الباب أمام الانتقال الى المرحلة النهائية ولبحث القضايا الكبرى لتفاقم أزمة القيادة الفلسطينية الحالية وتضعها أمام مأزق أشدّ. فقد جرى في السابق، تأجيل التفاوض على كافة القضايا الكبرى: القدس، الحدود، السيادة، المستوطنات واللاجئين من أجل الوصول إلى وضع لا تعود هذه القضايا قابلة للتفاوض بعد فرض وقائع على الأرض غير قابلة للتغيير. هذا ما أرادته القيادة الاسرائيلية، وما زالت تعمل لأجله.

لم تقبل إسرائيل براغماتية الرئيس الفلسطيني أبو مازن، ولا تنازلاته، وساهمت في زعزعة مكانته كشريك للمفاوضات وأصحبت تنظر اليه، وكأنه يكرر 'خطأ عرفات' بالتشدد على الحدّ  الأدنى من المطالب الفلسطينية – أي الانسحاب إلى حدود 67 ومن القدس. هم يعرفون أن أبا مازن يبدي مرونة كبيرة في مسألة حقوق اللاجئين. والحقيقة أن هذا الجزء من الشعب الفلسطيني (اللاجئون) الذي إنطلقت منه الحركة الوطنية المقاتلة أخرج مؤخرًا من المشاركة في القرار ويعيش في الكثير من مواقعه حالة من البؤس الشديد، وتعمل لجان العودة المنتشرة في الشتات، خاصة في أوروبا لإعادة طرح موقع ودور وحقوق اللاجئين على الأجندة الفلسطينية والعالمية، بعد أن كادت مخططات التسوية ومستلزمات المفاوضات العبثية أن تدفع هذه القضية إلى دهاليز النسيان.

أزمة قضية التحرّر الوطني

إذًا تواجه القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني حالة من التحلل بسبب الأخطاء التاريخية التي وقعت فيها قيادتها. وتتمثل هذه الأخطاء في: تحويل الاعتراف الاسرائيلي بمنظمة التحرير في أوسلو إلى إنجاز، واعتماد لغة حقوقية، والقبول بإثبات الأهلية في إدارة السلطة كشرط للتفاوض ومنح الحقوق، والأخطر القبول بسلطة تحت الاحتلال بدون سيادة، وتجزئة الشعب الفلسطيني. لقد تمّ اختزال القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني وتحقيق الاستقلال وحق تقير المصير وحق العودة إلى صراع على حدود كيان فلسطيني افتراضي. كما تم تكريس فصل البعد العربي عن قضية فلسطين، التي هي في الأساس قضية بلد عربي تم احتلاله والسطو عليه عام 1948.

في انتخابات المجلس التشريعي، التي جرت في الضفة والقطاع عام 2006، انتخبت حكومة فلسطينية ترفض هذا النموذج. هذه الحكومة بقيادة حماس عارضت التفاوض ولكنها كي تتمكن من الحكم انتدبت رئيس السلطة للتفاوض، أي انتدبت من تعارض خطه السياسي ، من دون أن تجد آلية إو مرجعية فعلية تلزمه فعلاً في المفاوضات. فلا هي فاوضت ولا حولت رفض التفاوض الى موقف ملزم. ووقعت تحت حصار مستمر وقاس وغير مشروع يهدف إلى قلب نتائج الانتخابات. ودخلت في نقاش حوّل الفرق بين عبارة 'قبول الاتفاقيات' و 'احترام الاتفاقيات' التي وقعتها م.ت.ف مع اسرائيل في أوسلو الى قضية مبدئية. كان ذلك عشية اتفاق مكة، ونشأ عنها انطباع أن فتح تصرّ على هذا الشرط للتصالح. فنشأ انطباع أن حماس قبلت المبدأ وبقي النقاش على السعر.

وكان قد نشأ بعد اتفاق مكة وضع بين فتح وحماس لتشكيل حكومة وحدة وطنية يفتح مجالاً لاستراتيجية موحدة تشمل إعادة بناء م.ت.ف، كما تشمل وضع العرب أمام مسؤولياتهم لرفع الحصار عن غزة وتنفيذ قرارات محكمة لاهاي بشأن الجدار، إلا أن هذا الاتفاق لم يتم لأن قوى دولية واقليمية واطراف فلسطينية عملت على إفشال الاتفاق بعد توقيعه مباشرة.

كان تسلم حماس السلطة في ظل الاحتلال خطأ فادحًا . لأن التوفيق بين حركة مقاومة وسلطة أمر غير ممكن في ظل الاحتلال وفي ظل اتفاق أوسلو الذي ناهضته وناهضت السلطة التي أفرزها.

هذا ناهيك عن لجوئها في غزة الى قمع معارضيها وتقييد حرية العمل السياسي، ومحاولة فرض بعض القيود على مظاهر الحياة المدنية والحريات الفردية باسم الدين أو الأمن. كل ذلك ساهم في إضعاف مكانة حماس كحركة مقاومة.

أزمة اليسار الفلسطيني

لقد لعب اليسار الفلسطيني، دور تاريخيًا هامًا في النضال الوطني، وأضفى حيوية فكرية وسياسية وثقافية كبيرة على الحياة السياسية داخل حركة المقاومة الفلسطينية. وتألقت بعض رموزه فلسطينيًا وعربيًا وبل عالميًا فترة طويلة قبل أن تدخل الحركة الوطنية في أزمتها، وكان أبرزهم الراحل جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذي وصفه الشهيد ياسر عرفات بأنه ضمير الثورة الفلسطينية – وحكيم الثورة.

كما أن حركة فتح عرفت قيادات ذات توجه يساري في صفوفها أبرزهم الشهيد ماجد أبو شرار.

لقد سقط من صفوف اليسار الفلسطيني شهداء كثيرون، من الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية بشكل خاص، (الحزب الشيوعي الفلسطيني لم يكن حتى فترة قريبة منضويًا في إطار منظمة التحرير الفلسطينية لمعارضته الكفاح المسلح ولموقفه السياسي، وتركـّز جلّ دوره السياسي الشعبي في الأراضي المحتلة عام 1967). 

لقد أدت عوامل كثيرة، دولية وإقليمية وفلسطينية وذاتية إلى دخول اليسار الفلسطيني برمته إلى أزمة عميقة، وبالتحديد منذ توقيع اتفاق أوسلو، حالت وتحول حتى الآن دون نهوضه مجددًا.

لم يخرج اليسار الفلسطيني بعد (بكافة تلاوينه) من أزمته الفكرية والسياسية والجماهيرية، وإن كانت الشعبية وبعض فصائل اليسار اتخذوا مؤخرًا موقفًا نقدياً متشددًا ضد نهج المفاوضات العبثية.

لقد تضاءل حجم اليسار ودوره بصورة حادّة بعد اتفاقية أوسلو، بعضه انضم الى السلطة الفلسطينيّة وصار جزءًا منها، وجزء آخر انضم الى المنظمات غير الحكومية الممولة من الغرب وابتعد عن ساحة العمل السياسي المؤثر، وجزء آخر حافظ على مواقفه وإن بزخم أقل.

ومن أسباب انحسار دور اليسار هو انهيار المعسكر الاشتراكي الذي أدى إلى أزمة سياسية وفكرية، وإلى أزمة دعم مالي وعيني وتعايشه مع اتفاقية أوسلو رغم معارضته لها. وأيضًا نزوح الكثير من عناصر هذا اليسار نحو اليمين وتسرب مثقفين وكوادر الى المنظمات غير الحكومية التي تتلقى الدعم المالي من الغرب وذلك على حساب العمل الحزبي. غير أنه من المفترض أن يوفر المأزق الذي وصلته قيادة السلطة الفلسطينية ومناخ الثورات العربية، الفرصة لهذا اليسار بإعادة تجديد مفاهيمه خاصة فيما يتعلق بالديمقراطية والعلمنة وتجديد بناه التنظيمية وإعادة صياغة العلاقة مع الشباب بوصفه أهم عوامل التغيير الأساسية والذين لعبوا دورًا رياديًا في الثورة العربية الراهنة.

الوحدة الوطنية الفلسطينية وضرورة إعادة بناء منظمة التحرير

ليس بإمكان الحركة الوطنية الفلسطينية النجاح في خوض النضال ضد الاحتلال والوصول الى الأهداف المرجوة بدون وحدة وطنية تقوم على وحدة الهدف والاتفاق على البرنامج والوسائل.

إن السعي إلى الوحدة الوطنية الفلسطينية اليوم يستلزم تحدٍّ ومواجهة سياسة المحاور وتحدي تحول الانقسام الجغرافي الفلسطيني الى انقسام سياسي. ولا بد من أن تتضمن الوحدة الوطنية الإتفاق على إدارة وبناء المجتمع الفلسطيني، وإعادة بناء منظمة التحرير، وتنظيم المقاومة، والعمل السياسي في الخارج بإعادة الاعتبار إلى دور الشتات، ووقف التفاوض العبثي مع إسرائيل غير المستند على القرارات الدولية.

منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى اليوم، يجري منهجيًا تفريغ منظمة التحرير الفلسطينية من المضمون والمعنى والبنية والصلاحيات. وكأن مهمة المنظمة الأساسية  كانت توليد أوسلو. ويبدو أنه فقط لهذا الهدف اعترفت اسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو. وقد أريد لها أن تستغل شرعيتها في توليد التسوية وتغيير الميثاق، ثم تخلي مسرح التاريخ للسلطة الفلسطينية.

وقد شجع مؤيدو التسوية العرب والأجانب اعتماد السلطة الفلسطينية ممثلاً للشعب الفلسطيني والاعتراف بها بعد أوسلو، وعدم الالتفات الى مؤسسات المنظمة بما في ذلك عندما كان الفصيل نفسه، أي حركة فتح، يسيطر على المؤسستين (المنظمة والسلطة).  واتخذ ذلك شكل تهميش في التمثيل لدى المؤسسات والمؤتمرات، وشكل هذا التهميش مرارات عند نشطاء هذه المنظمة في الخارج، وعند دائرتها السياسية، جراء تهميشها لصالح مؤسسات مثل 'وزارة الخارجية' في السلطة. كما تم إفشال وإهمال النقابات والاتحادات الفلسطينية وغيّب دورها الهام في الحفاظ على حياة فلسطينية منظمة في الشتات.

ويفترض أن تكون أولى مهام مؤسسات المنظمة التي يجب أن يعاد بناؤها وضم قوى المقاومة الجديدة اليها هي مراجعة طريق أوسلو والتوصل الى نتائج سياسية من فشله، إن كان ذلك على مستوى الحل، وإن كان ذلك على مستوى علاقة السلطة باسرائيل. وتعني المراجعة في ظروف الشعب الفلسطيني أنه لا توجد تسوية قريبة، وبالتالي فإن السعي للحفاظ على مقومات وحدة الشعب الفلسطيني وعلى المعاني والقيم التي تحفظ تلاحم المجتمع الفلسطيني، والتي تمنحها حركة التحرر الوطني، وأهمها الحفاظ على حق العودة والتحرر من الاحتلال، يتخذ أولوية في هذه الظروف. تعني الواقعية عدم قبول تسوية غير عادلة مع إسرائيل تمزق الشعب الفلسطيني. ولكن الواقعية لا تكتفي بذلك فهي تتطلب أيضًا استمرار النضال، والتعامل مع قضايا الناس اليومية والمعيشية، وترتيب ظروف الشعب الفلسطيني الحياتية في الداخل والخارج، ويعني استمرار النضال لمقاومة الاحتلال بحيث لا يتحول الاحتلال الى وضع طبيعي. ولكن لا بد من أن يجري في هذه الظروف - بإيقاع مدروس بعناية وناجم عن إدراك - أن التحرير أيضًا ليس على الأبواب. ولا يمكن أن يصمد الشعب الفلسطيني في واقع كهذا دون أن يجري الاهتمام بشؤونه الحياتية، وتنجح حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية فقط إذا أدركت أن هذه مهمتها، وأن هذا يتطلب الاهتمام بشؤون التعليم والاقتصاد والصحة والبنى التحتية، ومغادرة شأن التسوية غير العادلة وإفشالها.  يجب إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تكون قادرة على تأطير هذه المساعي تحت سقف واحد، وعلى قيادة نضال اللاجئين في الخارج وتنظيم مساهمتهم في الحياة الوطنية الفلسطينية.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط