خلفية وآثار اقتصادية اجتماعية لفعل سياسة التمييز

د. عزمي بشارة

لا يمكن فهم واقع المواطنين العرب في إسرائيل منفصلا عن واقع قضية فلسطين رغم تميزه في ظروف المواطنة الإسرائيلية، وذلك للأسباب التالية: 1. تاريخيا: قضية 'العرب في إسرائيل' أو 'الأقلية العربية' نشأت بعد ان قامت إسرائيل على أنقاض المشروع الوطني الفلسطيني، وحولت الجزء الأكبر من الفلسطينيين الى لاجئين، والجزء الأصغر إلى أقلية في وطنهم، والباقي مناطق مدارة من قبل الأردن ومصر (تحولت فيما بعد إلى 'الضفة الغربية وقطاع غزة، اي المناطق المحتلة عام 1967). 2. بنيويا: قامت إسرائيل كتجسيد للإيديولوجية الصهيونية في ومركزها إقامة دولة يهودية. وواقع العرب في إسرائيل هو واقع مرتبط ببنية إسرائيل كدولة يهودية وبتعريفها لذاتها كدولة يهودية، أي أنهم مواطنون في دولة ليست دولتهم بحكم تعريفها وممارساتها و'رسالتها' التاريخية إذا صح التعبير. 3. سياسيا: يرتبط واقع التمييز ضدهم أيضا بحالة العداء القائمة بين إسرائيل والدول العربية (والأدق الأمة العربية) عموما، ومع الفلسطينيين بشكل خاص.

ليس المواطنون العرب مواطنين متساوي الحقوق، ولا تعترف الدولة العبرية بهم كجماعة قومية لها صفة قانونية اعتبارية جماعية، أو حقوق ثقافية مشتركة، أو حقوق إدارة ذاتية من أي نوع. وكجماعة تشكل شخصية قانونية يجري التعامل مع العرب كجماعات، أو كطوائف دينية، وليس كجماعة قومية. وينعكس ذلك في برامج التربية والتعليم المعدة لهم وفي الثقافة والإعلام العبري، وفي عدم الاعتراف بذاكرتهم التاريخية كجزء من الشعب الفلسطيني، ولا بحقهم بالحفاظ على تاريخهم وهويتهم عبر مؤسسات قومية، ناهيك بإشراكهم في تقرير مصيرهم أو تقرير مستقبلهم ونمط حياتهم، أو حتى في التخطيط لمناطق سكناهم. ولذلك فإن الدولة العبرية ترفض أن يقرر العرب كجماعة قومية كيفية إدارة مدارسهم وبرامجهم التدريسية، كما أنها لم تسمح حتى الآن بقيام جامعة عربية مستقلة.

 يعاني المواطنون العرب أصنافا من التمييز الناجم عن تعريف الدولة العبرية لذاتها كدولة اليهود. ويزداد مع تقدم عملية العولمة الاقتصادية والثقافية والاندماج الإسرائيلي فيها التأكيد على يهودية الدولة بدل أن يتراجع. وقد تحولت يهودية الدولة مؤخرا إلى مطلب إسرائيلي في السياسة الخارجية وفي عملية التسوية. فلم تعد قيادة هذه الدولة تكتفي بالاعتراف بها وبحقها بالوجود كدولة، بل هي تطالب نصا أن يعترف بها كدولة يهودية. وهي تفعل ذلك لسببين: أولا، إجهاض القرارات الدولية ( قرار 194 للجمعية العامة بشكل خاص) بالاعتراف بحق العودة للفلسطينين من اي معنى، وعمليا التخلي عن حق العودة دوليا. ثانيا، استباق أية محاولة للمطالبة بالمساواة الكاملة للمواطنين العرب في دولة لجميع مواطنيها. كما ان التأكيد على يهودية الدولة بات جزء رئيسيا من مهام رئيس الحكومة كما جسدها شارون في خطبه ومحاضراته. ويستمر رؤوساء الحكومة بفعل ذلك.

وتكاد أن تتخصص الهيئة المسماة 'مجلس الأمن القومي' بمهام تشجيع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل وتهويد الجليل والنقب والحفاظ على الأغلبية اليهودية. وهي من الهيئات التي دعت على لسان رئيسها الجنرال جيورا آيلاند إلى تحديد منح الإقامات الدائمة والمواطنة لغير اليهود، مساهمة في دعم تعديل قانون المواطنة كما سوف نرى. 

وقد ثبت ان اليسار الإسرائيلي والمؤسسات الأهلية وغير الحكومية حتى الحقوقية منها الفاعلة في الحيز المدني  تدافع عن حقوق المواطن الفرد، أو عن حقوق قطاعية sectorial ، أو تمثل قطاعات سكانية تطالب بتحسين حصتها من 'الكعكة القومية'، ولكنها لا تطالب بتغيير النظام وطابع الدولة، بل تعمل تحت سقفه.ويتم اللجوء غالبا إلى المحكمة الدولية طلبا لتفسير لبرالي لحقوق المواطنة، في ظل، وليس بدلا عن، يهودية الدولة التي تشمل مسلمات صهيونية لا تمسها المحكمة العليا الإسرائيلية. 

هنا نرى لزاما علينا أن نذكِّر أن التمييز اللاحق بالمواطنين العرب يختلف عن التمييز اللاحق بأقليات قومية وأقليات من المهاجرين في الدول المتطورة بما يلي: 1. إنه تمييز موجه ضد السكان الأصليين بعد أن تحولوا من أكثرية الى أقلية، ولذلك فإن الشعور بالغبن هو أكبر بما لا يقاس إذ يرافقه الشعور بفقدان الوطن. 2. أنه يجري في ظل حالة عداء للعرب، تتجاوز التمييز، مما يجعله مُرافَقا بتعبيرات عنصرية في الشارع وفي مؤسسات الدولة. 3. أنه ليس قضية إهمال أو سياسات مفارِقة، بل هو تمييز بنيوي غالبا ما يتحول إلى مسألة استراتيجية بالنسبة للدولة لأنه يمس جوهرها، أي تعريفها لذاتها كدولة يهودية، وكدولة اليهود، وبالتالي تحول العرب إلى 'خطر ديموغرافي' يتم طرحه علنا ورسميا كمشكلة. 4. أن هذا التمييز يترافق مع عملية نفي ماضي البلاد، وتاريخ العرب فيها. مما يجعل هنالك تناقضا بين هوية العرب القومية والوطنية ومواطنتهم الإسرائيلية.

تستشري في إسرائيل عنصرية ضد العرب على مستوى النخب والشارع والحياة العامة. وتزداد نسب العنصرية وكراهية العرب بين الشباب وطلبة المدارس إذ يجاهر النصف بعنصريته وكراهيته للعرب. وتحسن النخب إخفاءها في كثير من الحالات ولكن لا شك أنها تظهر عند السؤال عن قبول عربي للسكن في نفس الحي أو البلدة، وعند قبول العرب للعمل. ويجاهر نواب إسرائيليون بعنصريتهم ضد العرب والمسلمين بشكل علني في البرلمان. والأمثلة على ذلك كثيرة لا تستحق أن تميز من بينها عينات للاقتباس.

لا يمكن في مثل هذه الظروف الحديث عن مساواة طبعا. ولا يحتاج التمييز ضد العرب في إسرائيل إلى قوانين تنظمه علنا كما في حالة نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، فالعرب في إسرائيل أقلية تبلغ 20% من السكان. وبالتالي يمكن للدولة تحمل تبعات بعض مركبات مواطنتهم السياسية مثل حق الاقتراع، لأنهم أقلية. ولكنها لا تحتمل أشكالا من التعبير والتنظيم والاحتجاج السياسي خاصة عندما يتضمن تضامنا فاعلا مع الشعب الفلسطيني يتجاوز حرية التعبير. وحتى هذه الأخيرة قيدت عند الحديث عن دعم الحق في مقاومة الاحتلال، إذ اعتبر التعبير في هذه الحالة عملا تحريضيا يحض على العنف.

 والتمييز العنصري يجري ضدهم في كافة نواحي الحياة دون حاجة إلى قوانين تنظمه. ولكن مع ذلك لا يجوز تجاهل أشكال التمييز القانوني التي تؤشر إلى كون التمييز بنيويا.

تشمل هذه القوانين أساس التمييز كله وهو قانون المواطنة، الذي يميز بين من 'تواجدوا في البلاد' عند 'قيام الدولة' وبين من وفدوا بموجب قانون العودة، أي أولئك الذين من أجلهم قامت الدولة. وقد اعتبر القانون بأثر رجعي كل يهودي حتى من ولد في البلاد  كأنه وصل الى البلاد بموجب قانون العودة. 

وقد حرم كل عربي لم يشمله الإحصاء عام 1949 لأسباب مختلفة من المواطنة واعتبر غائبا. وقد شمل ذلك اللاجئين الذين صودرت ممتلكاتهم بموجب قانون 'القيم على املاك الغائبين' أو 'حارس أموال الغائبين'، ونقلت غالبا إلى 'سلطة التطوير'، ومنها إلى الدوائر الرسمية والوزارات والهيئات التي تنظم الاستيطان وأهمها 'دائرة أراضي إسرائيل' ووزارة الإسكان. كما اعتبر عدد كبير من مواطني الدولة العرب الحاضرين 'غائبين' لغرض مصادرة ممتلكاتهم، (يسمى وضعهم بعامية جمهور المحاكم الدارجة 'الحاضر-غائب'). 2. في العقد ونصف اللذين تليا النكبة سن عدد من القوانين لمصادرة أراضي المواطنين العرب. وأدت هذه عمليا إلى مصادرة 80% مما تبقى بأيدي العرب من أراض بعد قيام هذه الدولة. 3. سن مؤخرا في العام 2003 تعديلا لقانون المواطنة، ويتم تجديده كل عام، يمنع لم شمل عائلات في البلاد اذا كان الزوج او الزوجة من المناطق المحتلة عام 1967. وثبت القانون نهائيا في العام 2006. ويمنع التعديل منح الزوج أو الزوجة من المناطق عام 1967 الإقامة الدائمة داخل إسرائيل بحجة الزواج من مواطن أو مواطنة إسرائيلية. والقانون موجه بشكل واضح ضد آلاف العائلات العربية بسبب كون أحد الزوجين من المناطق المحتلة عام 1967. فهم الذين يتزاوجون مع أبناء شعبهم في المناطق المحتلة. والهدف وقف زيادة نسبة العرب داخل الدولة.

 ونظريا يسمح القانون بلم شمل 200- 250 زوج في العام، وذلك بعد توقف مطلق دام أصلا أربع سنوات، ومعالجة متأخرة لمعاملات لآلاف العائلات بعد الزواج بفترات تصل حد العشر سنوات. ومع أن القانون سن بحجج أمنية، أي لمنع استخدام بطاقات الهوية الإسرائيلية للدخول وتنفيذ عمليات، إلا أن مسيرة القانون بدأت فعليا بحجج ديموغرافية علنية. فقد برر القانون من على منصة الكنيست بما أسماه وزير الداخلية عام 1999 إيلي يشاي وقف 'حق العودة الزاحف'. 

لقد بدأ تحضير القانون قبل الانتفاضة الثانية التي يتم التذرع بها أمنيا. وكانت عبارة 'حق العودة الزاحف' هي العبارة المحببة على وزير الداخلية إيلي آنذاك يشاي في وصف الزواج بين فلسطينيين وفلسطينيات من المناطق التي احتلت في العام 1948، ومن المناطق التي احتلت عام 1967.

 واتخذ الاجراء بداية شكل تجميد تنفيذي حكومي لإجراءات لم الشمل ما لبثت أن تحولت إلى قانون خشية من التماس العرب الى المحاكم ضد أمر غير قانوني. ولا شك ان أحد اهم آليات التمييز في إسرائيل هي قدرة الأغلبية الفورية على تحويل ممارسات تمييزية إلى قوانين تنص بلغة قانونية 'محايدة'، أي دون ذكر كلمة عربي فيها. وغالبا ما يتم التذرع بحجج أمنية أو بالمصلحة القومية أو غيرها. ولا شك أن ما يسمى 'المصلحة العامة' أو 'الصالح العام' في كافة الدول لغرض سن قانون يبيح مصادرة الأرض مثلا، هي عبارة تشمل في إسرائيل الاستيطان أيضا، أي حق الدولة بمصادرة أراضي عربية ومنحها لجمعيات أو مؤسسات تقيم عليها مستوطنات يهودية... فسكن شخص من القومية التي أقيمت الدولة لإنشائها على حساب شخص آخر من قومية أخرى هو صالح عام. وكأن وجود الشخص الثاني الأصيل هو وجود مفارق قياسا بأهداف الدولة.

 ولكن النقاش الصحفي والإعلامي العام حول قانون منع لم الشمل انطلق حقيقة وصراحة من هدف هو تحديد عدد العرب، ومنع الاندماج الطبيعي بين العرب داخل الخط الاخضر والضفة والقطاع.  يقال ذلك بصراحة وبعيدا عن لغة المحاكم. وتكلم كتاب وصحفيون من اليمين واليسار عن الحاجة قوانين كهذه للحفاظ على يهودية الدولة.

في إطار تبعات النكبة التي حولت العرب إلى أقلية داخل دولة تعرف نفسها أنها ليست دولة مواطنيها، نجد أن حوالى 300 إلى 400 الف من المواطنين العرب الذين يبلغ عددهم المليون هم في الواقع مهجَّرون تم تهجيرهم عام 1948 من قراهم إلى قرى مجاورة، أي أنهم عبارة عن لاجئين في وطنهم، ولا يسمح لهم بالعودة إلى قراهم. اشتهر منهم أهالي إقرث وكفربرعم (لأنهم أخرجوا من قراهم عام 1949 اي بعد نهاية الحرب وليس خلال النكبة)، ولكن عدد القرى والمدن التي يعيش  لاجئون منها في الداخل بجوار قراهم التي جرى هدمها أو تحويلها الى مستوطنات يهودية أكبر من ذلك بكثير يوتجاوز الثلاثمائة الف نسمة.

وطبعا أدت قوانين المصادرة وإلحاق التجمعات السكنية العربية بلجان تخطيط مركزية وإقليمية تعتبر مرجعا إسرائيليا أعلى في توزيع الأرض وتخطيط بناء المدن والصناعات وغيرها إلى تشويه تام للبنية الاقتصادية الاجتماعية للقرية العربية من اقتصاد زراعي إلى أحياء فقر أو مجرد مأوى للعمال في السوق اليهودية. فقد خططت لتطوير المناطق اليهودية القائمة على أراضي العرب وإهمال المناطق العربية من حيث البنية التحتية وفرص العمل والتعليم والصحة وغيره.

ولا تستخدم اللجان  صلاحايتها في التخطيط وتوزيع الأرض والمناطق الصناعية ومناطق التطوير وتعيين مكان بناء مستوطنات جديدة فحسب، بل تستغل قدرتها أيضا في رفض ترخيص خرائط هيكلية للقرى العربية، وذلك لغرض إخضاع القرى العربية لخطط الهيمنة الصهيونية ولمنع تمدنهذه القرى. وطبعا لم تقم مدينة أو قرية عربية واحدة منذ قيام إسرائيل لأغراض تطويرية، بل قامت تجمعات سكانية في النقب لغرض تجميع السكان البدو وتركيزهم ومصادرة أراضيهم ومنعهم من السيطرة على أراض واسعة: كما في حالات بلدتي راهط وكسيفة وغيرهما... وتفتقر هذه التجمعات لمقومات العيش والعمل، وتتحول بسرعة فائقة الى ما يشبه بلدات السود في جنوب أفريقيا  townships.

هذا في حين تتعاون الدولة وأجهزتها مع المنظمات الصهيونية العالمية مثل الوكالة اليهودية والصندوق القومي، والجباية اليهودية الموحدة... في إرساء البنى التحتية للمدن والقرى اليهودية الجديدة  وتشجيع الاسثمار فيها، كما يتم تشجيع الازواج الشابة من المتعلمين والطبقات الوسطى للمبادرة عبر جمعيات خاصة تمنحها الدولة الأرض وميزانيات تطويرها في إقامة مستوطنات 'نوعية' في الجليل والنقب .

والنّـزعة عموما هي لتجميع العرب في مناطق محددة وعلى مساحات محدودة من الأرض، بحيث تقلص مساحة الأرض التي يعيشون عليها، دون الاهتمام بتوفير مصادر العمل والحياة فيها. وهي نفس النّـزعة التي تحكم عمل لجان التخطيط والوزارات لتوجيه اليهود للانتشار على أكبر مساحات ممكنة من الأرض في مستوطنات صغيرة. وتوفر لهذه المستوطنات في الجليل والنقب البنى التحتية ومسطحات البناء والمناطق الصناعية والمدن التعليمية، وتنظم في مجالس إقليمية تسيطر على أكبر مساحات ممكنة من الأرض. 

لقد قام في هذه الدولة 44 مجلس إقليمي يهودي.  وهي مجالس تجمع بين عشرات التجمعات السكانية اليهودية المبعثرة في مناطق نفوذ واسعة تسيطر على غالبية الارض في الجليل (مجلس إقليمي مسغاف) والمثلث، وبالمجمل على 80% من أراضي الدولة في حين يبلغ تعداد سكانها ما نسبته 10% من سكان الدولة. أما المواطنين العرب، اصحاب الارض الأصليين، فتبلغ نسبتهم 20% من السكان ويقطنون في قرى تبلغ مناطق نفوذها 2.5% من الدولة.  وتمنع المجالس الإقليمية التي غالبا ما تقوم على أراضي القرى العربية المجاورة لها والمصادرة منها وتحجز وتمنع تطور وتوسع البلدات العربية التي يفوق عدد سكان الواحدة منها سكان المجلس الإقليمي الكامل. في المجالس الإقليمية المخططة تقوم المناطق الصناعية وتجري عمليّات التطوير وتقام الكليات الجامعية الإقليمية وحتى مراكز الأبحاث.

وتسمى هذه السياسة  عموما سياسة 'تهويد الجليل والنقب'. وتقوم كل حكومة إسرائيلية جديدة بإقرار سياسة تشجيع الهجرة اليهودية من جهة، و'تطوير' ( إقرأ تهويد!!) الجليل والنقب. خذ مثلا قرار الحكومة رقم 4417  لتشجيع الهجرة، وقرارات الحكومة الأخيرة بشأن برامج تطوير الجليل والنقب رقم 4415 وكلاهما في جلسة واحدة من يوم 20 أكتوبر 2005. 

ومن إفرازات ذلك وجود عدد كبير من القرى العربية 'غير المعترف بها' والتي رغم وجودها قبل قيام الدولة لا تعترف الدولة بوجودها بموجب خطط التنظيم والبناء الموضوعة بدوافع إيديولوجية وعملية صهيونية. فبموجب الخطط يفترض أن تزول هذه القرى، ويجري 'تشجيع' سكانها على تركها والانتقال الى مجمعات سكنية بواسطة عدم منحها تراخيص البناء وعدم ربطها بالكهرباء وعدم تقديم خدمات صحية لها والامتناع عن شق طرق المواصلات اليها.

كما أن من إفرازات التخطيط المدفوع بالاعتبارات الإيديولوجية الصهيونية والأمنية والديموغرافية التشديد في منح رخص بناء للعرب حتى في القرى والمدن 'المعترف بها'، وعدم الموافقة على الخرائط الهيكيلة، إلا اذا تمت بموجب الخطط المركزية الموجهة صهيونيا والمعدة للمدى البعيد. وهذا يعني انتقال العرب الى البناء غير المرخص على أراضيهم الخاصة التي يملكون. وتقابل الدولة البناء غير المرخص بأوامر الهدم التي تهدد حاليا أكثر من عشرة آلاف مبنى وبيت. وغالبا ما تنفذ وتؤدي إلى تشريد العائلات دون مأوى، وإلى أن يحين وقت تنفيذ الهدم يُغرَّم المعرضون لها بمبالغ باهظة متراكمة تستبدل أحيانا بعقوبات سجن.  

 ومنذ الانتفاضة الثانية تجري عدة محاولات غير مألوفة ومتفاوتة الأهمية لسن  قوانين تقيِّد حقوق العرب السياسية وحرية التعبير وحقهم بالتواصل مع أمتهم العربية.

لم يتوقف الهجوم الإسرائيلي المضاد منذ مشاركة العرب النشطة بالاحتجاج والإضراب والتظاهر في بداية الانتفاضة الثانية. ومنذ تنظيم التيار القومي الديمقراطي العربي ودخوله البرلمان بخطاب جديد بمركبيه: 'الدولة لجميع مواطنيها' و 'الاعتراف بالعرب كجماعة قومية' في الوقت ذاته. وقد اتخذ الهجوم الإسرائيلي المضاد أشكالا متعددة أهمها تقسيم العرب الى متطرفين ومعتدلين. ويجري دعم 'المعتدلين' بالتجاوب مع خطاب يمس قضايا مدنية، وضرب 'المتطرفين' بالقمع والإرهاب والتحريض والتخويف. فمن ناحية يتم تغيير القوانين في إسرائيل للتضييق على حرية التعبير كما تم تغيير البند 7 أ من 'القانون الأساس الكنيست' ليشمل إضافة لمنع أي حزب لا يعترف بإسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية من خوض الانتخابات أيضا منع الأحزاب التي تتضامن مع المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي. وتجري ملاحقة نشطاء الحركة الوطنية العربية وقياداتها.

 ومن ناحية أخرى  تتدخل حتى المؤسسات الصهيونية وأذرعها مثل الجباية اليهودية الموحدة (جوينتس) والمنظمة الصهيونية العالمية في دعم الجمعيات العربية 'المعتدلة' ماليا، وتتم محاصرة الجمعيات والمنظمات غير الحكومية التي يشك بقربها من قوى وطنية. كما يجري تنسيق مع دول أوروبية لتساهم هي الأخرى في دعم 'المعتدلين' ومقاطعة 'المتطرفين' بموجب تصنيفات إسرائيل. 

بعد احداث اكتوبر  200 وسقوط 13 مواطن عربي في الداخل برصاص الشرطة وحرس الحدود استجاب رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، إيهود باراك، مرغما لمطلب عربي شعبي وأقام  لجنة تحقيق رسمية، 'لجنة أور'، في محاولة لثني العرب عن مقاطعة الانتخابات لرئاسة الحكومة والتي تلت فشل مفاوضات كامب ديفيد مع السلطة الفلسطينية. واسم اللجنة الرسمي 'اللجنة الرسمية للتحقيق في الصدامات بين مواطنين إسرائيليين وقوات الامن التي اندلعت في يوم 29.9.2000'. ولكن هذه السابقة بإقامة اللجنة لم تشكل  منعطفا في علاقة الدولة مع المواطنين العرب، ولم تشكل تلخيصا لذاكرة أو تنتج وعيا جماعيا حول العنصرية. فرغم الانتقادات التي وجهتها لجهاز الشرطة وبعض الانتقادات الاكثر جذرية لسياسة التمييز 'كخلفية لإحباط المواطنين العرب' إلا أن اللجنة حاسبت العرب من منطلق الاعتبارات'الرسمية' والوطنية الإسرائيلية (مملختيوت) واعتبرت تصريحات قادتهم تحريضية، ووجهت لهم الإنذارات، واعتبرت احتجاجهم أعمال شغب. ولا شك أن الرأي العام العربي في الداخل يجري مراجعة ذاتية حول الحكمة في مطلب لجنة تحقيق رسمية لفحص ممارسات تقوم بها الدولة بحقهم. ولكن رغم ذلك فإن أهم ما أنجزته 'لجنة أور' هو تأكيدها على وجود عنصرية في صفوف أجهزة الأمن، و'أحيانا' عنف غير مبرر تجاه العرب.

ولا شك ان التسعينات من القرن الماضي قد شهدت ما سبق أن أسميناه في الطبعة الأولى من كتابنا هذا: 'العرب في إسرائيل رؤية من الدخل' الانتقال من تمييز بسيط بحق العرب الى تمييز مركب. وصنفناه كانتقال ناجم عن لبرلة العلاقات في الدولة العبرية الناجم بدوره عن ثقة بالنفس ونشوء طبقات وسطى واسعة وعملية خصخصة وانقراض جيل الآباء المؤسسين الإيديولوجي بشكل مطلق في نظرته للدولة والمواطنة. ولكن رد الفعل الصهيوني على الانتفاضة الثانية واحتجاج المواطنين العرب وتعثر ما يسمى بعملية السلام، وبروز مطالب عربية من النوع الذي طرح بصيغة الحفاظ على الهوية القومية والمطالبة بدولة لجميع مواطنيها أدى إلى تراجع في عملية اللبرلة وارتداد إلى الوطنية الإيديولوجية والموقف 'الجمهوراني' الإثني من المواطنة.

العقد الأول من هذا القرن في حياة العرب في إسرائيل هو عقد إعادة حسابات الحركة الصهيونية، وعودة الأجهزة الأمنية المخابراتية للعب دور علني في محاسبة العرب والقمع ضدهم وفي تخطيط السياسات بشأنهم على أساس: 1. اشتراط أو ربط الحقوق بالولاء السياسي. 2. التفريق بين معتدلين ومتطرفين بما في ذلك بين الاحزاب والقوى العربية ذاتها. أي أنه لم يعد الاعتدال صفة لصيقة بعرب الأحزاب الصهيونية بل بات يشمل أحزابا عربية. 3. عودة الأجهزة الأمنية وخاصة جهاز الأمن الداخلي، 'الشاباك'، للمجاهرة بدورها السياسي بين العرب وفي مراقبة ومحاربة العرب 'المتطرفين سياسيا'. 4.  فرض الخدمة العسكرية أو بدائلها مثل الخدمة المدنية لكسر الحاجز النفسي بين العرب ومسألة 'أمن الدولة' و'الولاء للدولة' وغيرها. تبدأ هذه الخدمة كتظاهر سياسي بالولاء يطلب من الشاب كتذكرة دخول إلى عالم المواطنة ولا تلبث أن تنتج مصالح ومؤسسات مرتبطة بها، مثل الجمعيات الخيرية والأهلية والمنظمات غير الحكومية 'المعتدلة' وغيرها.

 لا يمكن شمل مظاهر التمييز ضد العرب في دراسة واحدة. فالتمييز القومي يشمل كافة مناحي الحياة. وبالمجمل تستثمر وزارة المعارف والثقافة في الطالب العربي أقل من نصف ما تستثمره من ميزانيات في الطالب اليهودي، هذا رغم التفاوت في الخلفية الاجتماعية لصالح الطالب اليهودي أصلا. ويزداد التمييز كما يتفاوت التحصيل وتزداد نسبة التساقط من التعليم عند العرب مع الارتفاع في سنوات التعليم. 

كما أن هنالك تمييز فاضح في فرص العمل بعد التخرج وذلك في الوزارات الحكومية وفي الشركات الخاصة، خاصة العاملة في مجالات التكنولوجيا المتطورة. وقد يعرض رفض تشغيل العربي بأنه لأسباب أمنية، أو تطلب شهادة إنهاء خدمة في الجيش الإسرائيلي كشرط للقبول للوظيفة، أو يتم الرفض لأسباب عنصرية ببساطة.

وطبعا أحد أبرز مظاهر التمييز هو التمييز في ميزانيات التطوير للقرى العربية العاجزة بسبب وضعها الاقتصادي عند تمويل سلطاتها البلدية المحلية، ما يمنع الاخيرة عن القيام بتوفير الخدمات الاساسية ناهيك عن أي تطوير حقيقي.

الوضع الاجتماعي وما يترتب عليه من تهديد الأمن الاجتماعي للعرب:   

تتنامى في العقد ونصف الاخيرين وبفعل تغيرات في مبنى الاقتصاد الإسرائيلي وتقليص سياسات الرفاه الاجتماعي، الفروقات الاقتصادية بين الشرائح السكانية المختلفة في هذا البلد، وقد اتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء لتحتل إسرائيل المكان الاول بين الدول المتطورة في حجم الفجوة الاجتماعية مخلفة وراءها في العام الأخير حتى الولايات المتحدة التي كانت تحتل مكان الصدارة. 

وإحدى الوسائل لقياس الفروقات الاقتصادية خاصة الفروقات في دخل الاجيرين هو مؤشر 'جيني' الذي يقيس عدم المساواة بين الاجيرين (الرقم 0 يشير الى مساواة تامة والرقم 1 الى انعدام المساواة.
ويتبين من معطيات مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلبية أن مؤشر 'جيني' ارتفع 12 % بين الاعوام 2000 - 2006، من 0.35 الى 0.3923 مما يدل على توسع الفجوة بين الغني والفقير واحتدام حالة عدم المساواة في الدخل بين الأجيرين في إسرائيل. في العام 2000 كان مؤشر عدم المساواة في 22 بلدة عربية أعلى من المعدل العام في الدولة، وكان في 27 بلدة تحت المعدل العام. أما في العام 2005 فنحن نجد بلدة عربية واحدة يفوق فيها مؤشر عدم المساواة المعدل العام في إسرائيل.
أما في باقي البلدات العربية فهو أدنى من المعدل العام . من مقارنة معطيات العام 2000 و- 2005 يتضح أنه في 20 بلدة عربية كان هناك ارتفاع في المؤشر وفي 26 كان هناك انخفاض.
لماذا نورد هذه الأرقام؟  في معظم البلدات التي حصل فيها ارتفاع في الدخل، كان الارتفاع أدنى من الارتفاع العام في الدولة. فعل يعني ذلك أن المساواة الاقتصادية في البلدات العربية أفضل حالا من البلدات اليهودية؟ طبعا لا. بل هو يؤشر الى أمرين اساسين:

إن الفجوة داخل المجتمع العربي صغيرة جدا، لأنه بمجمله مجتمع  فقراء وتكاد لا توجد فيه طبقات غنية. أذ يكاد ينعدم تمثيل العرب في أعشار الدخل الثلاثة العليا، في حين تتواجد غالبيتهم الساحقة في أعشار الدخل الخمسة الدنيا. ويبلغ دخل الأجير العربي 70 % من معدل الأجور في الدولة ومعدل دخل الأسرة العربية يصل إلى 50 % من معدل دخل الأسرة اليهودية.

 2. أن المواطنين العرب والبلدات العربية تعيش عمليا خارج الاقتصاد الإسرائيلي الجديد، وخارج قطاعات التكنولوجيا المتطورة وفروع الخدمات المالية، المستفيد الأكبر من التغيرات في مبنى الاقتصاد الجديد. وهي تكاد لا تتأثر بالبنية الاقتصادية الجديدة التي تتضمن انتقالا شاملا الى قطاعات التكنولوجيا المتطورة وزيادة وزن قطاع الخدمات، اللهم إلا تهميشا. 

وليس غريبًا أن يكون مؤشر عدم المساواة منخفضًا لدى المجتمع العربي، ذلك أن معظم الأسر العربية مدرجة في أدنى درجات الدخل في الدولة، و50 % من الأسر العربية تقبع تحت خط الفقر. وهي نسب تزداد سوءًا في السنوات الأخيرة، إذ ازداد عدد الأسر العربية الفقيرة بـ 26 % بين الأعوام 2000 و 2005 بينما ارتفعت النسبة لدى الأسر اليهودية 8% فقط بعد تغير السياسات الاقتصادية باتجاه الخصخصة وتخفيض الصرف الحكومي على الرفاه.

وعلى الرغم من أن معدلات البطالة في إسرائيل انخفض في العام 2007 إلى نسبة 6.7% وهي أدنى نسبة منذ العام 1997 إلا أن معدلات البطالة لدى المجتمع العربي ما زالت تفوق الـ 10%، ونسبة المشاركة في أسواق العمل لا تتعدى ال 40% من الجيل القادر على العمل بينما تصل لدى المجتمع اليهودي الى نحو 60 %، ونجد أنه في 25% من الأسر العربية لا يوجد أي معيل. ونجد أن معظم العائلات العربية تقع في أدنى 5 درجات من سلم الدخل في الدولة. ونسبتها في الدرجات العليا لا تتعدى 1-2% .

كان معدل اشتراك العرب في سوق العمل عام 2001 40% فقط. يعمل نصفهم خارج مناطق سكناه، أي عند مشغلين إسرائيليين غالبا. ويعمل من تبقى، أي 25-30% ، في مجالات الإدارة العامة والخدمات المحلية ( غالبا في السلطات المحلية العربية أي البلديات). أي أن 20-25% من القوى العاملة فقط تعمل في الاقتصاد المحلي. وهو ليس اقتصادا عربيا بأي معنى، ولكنه ليس الاقتصاد المركزي الإسرائيلي بفروعه الأساسية. الحديث هو عن اقتصاد محلي وخدمات وتجارة وبعض المهن المحلية الطابع، وهي لا تشكل اقتصاد عربيا بل تعيش على هامش الاقتصاد الإسرائيلي، في ظل قوانينه وعملته وضرائبه وبنوكه وشركات تأمينه وكلها يهودية. ويشكل هؤلاء العاملين في الاقتصاد المحلي 10% فقط من العرب في جيل العمل 15-65 عاما. أي أن الاقتصاد المحلي يوفر فرصة عمل لواحد من كل عشرة في جيل العمل.

وهذا يعني أن العرب في إسرائيل يتواجدون خارج الاقتصاد الإسرائيلي المتطور، ولكنهم في الوقت ذاته لا يملكون اقتصادا، ولم يتطور لديهم اقتصاد بديل عن الاقتصاد الزراعي المفقود. وهذه حالة تهميش مزدوج تحول المجمعات السكنية العربية إلى أحياء فقر، يعمل بعض قواه العاملة في الاقتصاد اليهودي، وبعضها الآخر في الاقتصاد المحلي، ولكنه في الحالتين على هامش عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي. 

وينعدم تقريبا توظيف العرب في المناصب التنفيذية الرسمية العليا في دوائر مثل وزارة المالية أو التأمين الوطني أو بنك إسرائيل أو الوزارات الاخرى. ( ولا نشمل هنا وزارات إيديولوجية مثل الأمن الخارجية، لأن إشغال وظائف في هذه الوزارات والاندماج فيها ليس مطلبا متعلقا بالمساواة بقدر ما هو مطلب للاذدناب للمواقف السياسية الإسرائيلية وتمثيلها، والمطالبة بالمساواة فيها اشبة بإعلان ولاء ووطنية إسرائيلية). ورغم سن قوانين بمبادرة من كاتب هذا المقال لنقل عقلية وثقافة التمييز المضاد أو الإيجابي affirmative action، إلى قوانين تلزم الوزارات والشركات الحكومية ب'تمثيل ملائم للعرب' في الوزارات والشركات الحكومية في التوظيف والإدارات، ورغم نجاح عملية التشريع هذه الى درجة تسميتها انقلابا تشريعيا، إلا ان الوزارات لا تلتزم بهذه القوانين عند إجراء التعيينات الجديدة.

 لقد اعتبرت هذه القوانين التي بدأنا بطرحها عام 1997 انقلابا حقوقيا يكاد يكون دستوريا في وضع العرب، إذ لأول مرة يتم الاعتراف قانونيا بالتمييز ضد العرب، وبهوية العرب كجماعة قومية وبضرورة اتباع نهج التفضيل للتعويض عن سنوات من التمييز. ولكن تبين أثناء العمل على تطبيق القوانين أن الدوافع الإيديولوجية الصهيونية أقوى حتى من القانون، وأن عنصرية الوزارات ولجان التعيين وسلم أولوياتها تتفوق على الالتزام بالقانون، كما تبين أنه لا يوجد فصل بين وزارات أمنية سياسية ووزارات مدنية من ناحية ان التعيين يتطلب من المرشح للوظيفة ولاء سياسيا وليس فقط مواطنا ملتزما بالقانون.

 ووفقا للتقرير السنوي لمفوضية خدمة الدولة بلغت نسبة العرب من مجمل من قبلوا للعمل عام 2004 في وظائف حكومية 5.3% فقط (بما في ذلك التمييز الايجابي. أي بعد سن القوانين. يمكننا بسهولة تخيل الحالة دون مثل هذا التفضيل). وقد قبل 90% منهم في وزارات حكومية محددة هي وزارات الصحة والرفاه والتربية والتعليم، ومنهم 56% في المستشفيات الحكومية في وظائف الطب والتمريض. ولا يمكن اعتبار هذا التوظيف توظيفا في مكاتب الوزارة ذاتها.

كما لا تفتح الوزارات فروعا لها في المناطق والتجمعات السكانية العربية إلا في حالات مثل وزارة المالية التي تفتح فروعا لجباية الضرائب.


 فقدت القرية العربية منذ النكبة اقتصادها الزراعي دون أن تطور اقتصادا آخر، بل تحولت تدريجيا الى مجمعات سكنية مزدحمة تأوي عمالا وموظفين في سوق العمل الإسرائيلي بداية في الزراعة الإسرائيلية التي تطورت على أراضيهم المصادرة، ثم في قطاعات مثل البناء، والصناعة، كما تأوي طبقات دنيا وسطى من التجار والعاملين في قطاع الخدمات .

 لم تفقد القرية العربية الزراعة لصالح صناعة عربية، فلم تنشأ صناعة عربية في المدينة العربية أو القرية العربية أصلا، بل لصالح العمل في الاقتصاد الاستيطاني  اليهودي وبموجب حاجته لا بموجب حاجات تطوير المجتمع العربي. 

 ومن ناحية أخرى لم تشهد القرية هجرة حقيقية إلى المدينة على أثر خراب الزراعة بفعل المصادرة وتغير بنية الاقتصاد ومنافسة الزراعة اليهودية وغيرها. فالمدينة أصبحت يهودية غير مرحبة بالعرب. ولذلك بقي التكاثر السكاني في القرية دون زراعة، ودون اقتصاد، ودون هجرة تذكر الى المدينة. تتضخم القرية سكانا، وتضيق مساحتها بفعل مصادرة الأرض فتصبح بلدة، ثم مدينة من حيث عدد السكان ولكن دون أيٍ من مقومات المدينة ( إنها مدينة تعريفا، أي في عرف وزارة الداخلية الإسرائيلية) تأوي عمالا وموظفين في اقتصاد المدينة اليهودية. أما الاقتصاد المحلي الوحيد فما هو إلا مهن حرة وخدمات تقدم إلى هؤلاء العاملين المنتجين في الاقتصاد اليهودي.

 رحلت البرجوازية الفلسطينية الصاعدة في مرحلة الانتداب ورحل الإقطاع ونخبة المدينة الثقافية والبيروقراطية في عملية التهجير إبان النكبة. ونبتت البرجوازية الجديدة الضامرة والضعيفة والقليلة العدد كحالات فردية عربية على هوامش الاقتصاد الإسرائيلي في قطاعات مثل مقاولات البناء والوكالات والتجارة بالجملة. وهي لا تؤسس لاقتصاد عربي جديد، وليس بوسعها ذلك. بل هي جزء من الاقتصاد الإسرائيلي، مثلها مثل بقية القطاعات الاقتصادية التي يقطن المعتاشون عليها في القرية العربية.

ولا مجال للحديث عن اقتصاد عربي مستقل عن الاقتصاد الإسرائيلي. فمجرد التفكير بذلك هو استقلال عن الواقع والمنطق، ناهيك عن السوق والعملة والأسعار والبنوك وغيرها. وحتى البطالة  والصحة والشيخوخة تعتمد على نظام التأمينات والضمانات القائم في الاقتصاد الإسرائيلي المرتبط بوجود دولة يهودية إيديولوجيا وعمليا. العرب في هذا البلد موجودون على هامش الاقتصاد الإسرائيلي. المواطنة العربية الاقتصادية قائمة، ولكنها من الدرجة الثالثة او الرابعة، وهي ستبقى قائمة حتى لو تم التخلي عن ممارسة حقوق المواطنة السياسية غير المتساوية أيضا، لأنه لا يوجد ببساطة اقتصاد عربي في داخل أراضي عام 48. ولذلك فالصراع لتحسين وضع القرية العربية وتصحيح اقتصادها ولو قليلا يتم في الإطار القائم، وفي إطار البنية الاقتصادية القائمة، وعبر تحديه في الوقت ذاته.

الاقتصاد الإسرائيلي مثل سياسة الاستيطان هو اقتصاد مخطط. ويجري  التطور والتخطيط في الإطار الإسرائيلي القائم من منطلق صهيوني لصلح المجتمع اليهودي، ودون أي تدخل أو مشاركة عربية، وكأن العرب ظاهرة جانبية لتيار التطور الرئيسي في الدولة والمجتمع. وقد كانت النتائج وخيمة حتى اللحظة. فقد يرتفع مستوى معيشة المواطنين العرب حينا وينخفض حينا كحالات متأثرة بمعدلات النمو والركود وغيرها. 

وتبقى العملية الأساسية المثابرة والعنيدة الجارية هي تهميش الاقتصاد العربي في الداخل، تحويلها إلى هامش لمركز، وإلى ظاهرة مرافقة وعارض من عوارض التطور والأزمات في مراكز الاقتصاد الإسرائيلي اليهودية.

 والوجهة الأساسية للتطور هي تحويل القرى والبلدات العربية والتي يعيش فيها مليون شخص إلى أحياء فقر كبيرة، أو إلى ضواحٍ على هامش المدينة اليهودية. إنها نوع من الضواحي، ولكنها ليست ضواحي تضم مهاجرين فقراء وعاطلين عن العمل كما هو الحال في فرنسا مثلا، بل ضواحي للسكان الأصليين، يعيشون في بنية عائلية لقرية ولكن في مجمع سكني لم يعد قرية، وفي بنية اجتماعية لجيتو. نحن نتحدث عن بلدات مكتظة متضخمة دون تخطيط، مما يجعل نوعية الحياة فيها شبيهة بأحياء فقر كبرى ، أشبه ببلدات السود في جنوب أفريقيا في عهد نظام الفصل العنصري، الابارتهايد. هكذا تتراوح فيها الحياة على المدى البعيد من ناحية الجريمة والعنف الموجه نحو الداخل وردود فعل المجتمع على الحداثة بين الأصولية الدينية والانحلال الاجتماعي وضحالة الحياة الثقافية في إطار ازدحام سكاني داخل جيتو. 

ولذلك ورغم كون العرب في إسرائيل جزء من الاقتصاد الإسرائيلي، إلا أن ترك واقع العرب لآليات الاقتصاد وترك حبل التطور على غاربه بموجب متطلبات السوق يعني عمليا أن الدولة تخطط لطرف واحد هو الطرف اليهودي الإسرائيلي وتحول العرب في أفضل الحالات إلى عائق ينبغي الالتفاف عليه وتهميشه أو التخلص منه. فما يبدو تطورا عفويا هو في الواقع تطور خاضع ومتأثر ويتشكل بموجب حاجات المركز اليهودي الاقتصادية وقواعده وقوانينه وليس بموجب حاجات المجتمع العربي. والسوق في النهاية هو سوق يهودي  لاقتصاد يهودي.

وأصبح كابوس تحول البلدة او القرية العربية الى ما يشبه الحي العربي فيما يسمى 'المدن المختلطة' واقعا ملموسا باسرع مما توقع الكاتب سابقا. 

وأحياء الفقر العربية في المدن المختلطة ذاتها مسألة يكاد يكون مسلما بها.كانت هذه مدن فلسطين الساحلية، يافا واللد والرملة وعكا وحيفا. هي بداية الصناعة والعمران. في بياراتها أنتجت فلسطين  محاصيلها الزراعية، وفي كنفها شيدت بداية مشروعها الحضاري وهويتها العربية الفلسطينية، ومن موانئها تفاعلت مع بيروت واسكندرية، ومع حوض المتوسط وأوروبا.

 في النكبة هدمت مجتمعات مدن فلسطين العربية: صفد وطبريا وعكا وحيفا واللد والرملة ويافا. وفي اللد تم تهجير السكان بعد واحدة من أشرس المذابح الصهيونية ضد العرب، مذبحة مسجد دهمش.

 واستولى المستوطنون على أبنية المدن وشوارعها وبقي في بعضها أحياء عربية سرعان ما تحولت إلى 'غيتوات' فقر تجتذب هجرة سكان أكثر فقرا إليها من محيطها ومن النقب. واستولى المحتلون على محالها التجارية. وعلى بناياتها سطت مؤسسات وشركات صهيونية من 'رشوت هبتواح' إلى 'عميدار' لتؤجرها في بعض الحالات لأصحابها أنفسهم. وفي تحفها المعمارية استوطن من لم يتعب في بنائها في عملية سطو مسلح. وصودرت أوقافها الإسلامية، إذ اعتبر المسلمون غائبون لغرض ملكية الأوقاف.

 في بعضها نجت بقايا طبقة وسطى حافظت على مدارس عربية وعلى أجيال تتكلم لغة الضاد العربية. وسميت في عرف إسرائيل مدنا مختلطة. وتواصل فيها الصراع لحشر العرب داخل 'غيتوات' او للاستيلاء على مساكنهم بعد منعهم من ترميمها في بعض الحالات التي أرادوها أحياء سياحية متوسطية 'انتيكية' الطابع ولكن دون عرب، على نمط 'سوهو' في لندن ونيويورك، كما في عكا ويافا. وصارع العرب فيها للحفاظ على هويتهم. ولا شك ان الحفاظ على صحة وسلامة المجتمعات العربية فيما يسمى المدن المختلطة من أهم وأعدل المعارك الوطنية والمدنية التي يخوضها هذا الجزء الحي من الشعب الفلسطيني والأمة العربية.    

ويتواصل هدم البيوت بشكل مكثف في مدن اللد والرملة ويافا وغيرها من 'المدن المختلطة'. وكان شارون وغيره قد حذروا من 'استيلاء' المواطنين العرب على هذه المدن فهي الأقرب لتكون محطة الهجرة العربية من النقب، وقد عاد تنفيذ سياسة هدم البيوت بكثافة غير مسبوقة في مرحلة شارون. وهذا هو 'إنجازه' البارز الوحيد للمجتمع العربي في الداخل في فترة حكمه. وكان في ذلك تأكيد صريح على ثوابت الصهيونية بتكثيف الاستيطان في الداخل وتهويد المناطق ذات الأغلبية العربية وحشر العرب  في النقب و'المدن المختلطة' في غيتوات فقر، والعودة إلى الاستخدام الكثيف لمفاهيم الخطر الديموغرافي ليس فقط في الضفة الغربية بل داخل الخط الأخضر أيضا. وتنتشر الجريمة بشكل غير مسبوق في مدن يافا واللد، وتتحفظ الشرطة وتمتنع عن محاربتها وملاحقة المجرمين طالما حصرت داخل الأحياء العربية، وكانت الشرطة قد باشرت مقاومة الجريمة بشكل محدود في اللد بعد أن قتل مواطنين يهود جراء تبادل إطلاق النار العشوائي في بعض أحيائها.

 كما ينتشر العنف والجريمة في البلدات العربية الكبيرة التي تحولت في الواقع الى أحياء فقر على هامش المدينة اليهودية.

وتعقد المؤتمرات تحت عنوان: الغالبية اليهودية وكيفية المحافظة عليها'، لبحث شتى الطرق لضمان أكثرية يهودية ثابتة في المدن. في عكا يجري ذلك بواسطة جلب اليهود المتدينين اليها، فقد شهدت المدينة من زاوية النظر الصهيونية في العقدين الأخيرين 'اختلالا في التوازن الديموغرافي' حيث اجتاحت المدينة موجات من 'القادمين العرب'، (القادمون العرب هو مصطلح جديد)، من القرى المجاورة هي عائلات فقيرة بغالبيتها، فيما تركتها عائلات يهودية قوية اقتصاديا كانت قد استوطنت فيها.

الملفت هنا هو استخدام دوافع اليهود المتدينين الصهاينة لغرض التشجيع على السكن في عكا. وهذه نفس الخامة البشرية التي يتم بواسطتها الاستيطان في الضفة الغربية. ويفترض تشجيع هذه الفئة الاجتماعية السياسية ان ظروف السكن الصعبة في منطقة عربية على وجه الخصوص تحتاج إلى مستوطنين يهود مدفوعين بدافع إيديولوجي طلائعي غير مادي من نوعية دوافع مستوطني الضفة الغربية وقطاع غزة. وسوف يتحول هؤلاء بدوافعهم الإيديولوجية الصهيونية العنصرية إلى مادة متفجرة طبعا. فهم يصلحون للاستيطان المدفوع بالعداء للعرب، ولكنهم لا يصلحون للعيش المشترك في مدينة واحدة. وهذا يعني أن العرب في هذه البلاد يجدون أنفسهم في مواجهة استيراد العقلية الاستيطانية من الضفة الغربية والمناطق المحتلة الأخرى إلى داخل الخط الأخضر.

لا يوجد دولة أخرى في العالم يتم فيها بهذه السهولة وبهذا الهدوء استخدام مثل هذه اللغة العنصرية في وصف مواطنين لا لسبب إلا لأنهم ولدوا عربا، ويتم فيها اعتبار تفضيل وجود فئة على أخرى وأكثرية على أخرى، ولو في مدينة واحدة من مدنها، أمرا طبيعيا يلتف حوله 'إجماع وطني' إسرائيلي. ولا شك أنه في أية دولة أخرى كان سيثور نقاش حتى على شرعية عقد مثل هذا المؤتمرات.

والكلمة المستخدمة رسميا وإعلاميا بسهولة لا تحتمل في هذه البلاد هي 'تهويد': فيقال مثلا 'سياسة تهويد الجليل'، أو 'تهويد النقب'، لوصف الخطط الاقتصادية والاستيطانية الرامية إلى خلق أغلبية يهودية حيث لا توجد. 

لم تعد القرية قرية، فلا هي مجتمع زراعي ولا هي مجتمع تقليدي. وقد تحللت البنية التقليدية الاجتماعية الرادعة للعنف الفردي، وبقي منها عموما روابط مصالح من نوع تحويل العائلة إلى رابطة انتخابية للانتخابات البلدية، فأصبحت هذه الانتخابات بذاتها مصدر عنف.  تضخمت القرية العربية وازدحمت، وهي مجتمع مهمش لا متنفسات له للهجرة والإبداع في المركز المديني، فالمدينة ليست عربية ولا ترحب بالهجرة العربية الوافدة إليها. والبطالة منتشرة في ما كان قرية وأصبح بلدة ومجرد مأوى للأيدي العاملة الأجيرة دون اقتصاد محلي في أفضل الحالات وللعاطلين عن العمل في حالات أخرى.

ولم يستعض المجتمع بحكم القانون عن تحلل البنى التقليدية، أو بقائها وتغيرت وظيفتها من أهلية إلى تعبير عن مصالح فردية أو إلى فئات وسيطة مع الدولة. وبالعكس، الدولة غائبة فيما هو غير جباية الضرائب وتقديم الخدمات التسكينية لفقراء في التأمين الوطني وفيما عدا العنف السياسي الموجه لقمع مظاهر الوطنية الفلسطينية والقومية العربية. وهي ربما تنظر بعين الرضا عن مظاهر العنف والجريمة في المجتمع العربي.

حول مسألة البلديات:                         

لم تبق بلدة عربية واحدة دون خلاف داخلي مستديم حول السيطرة البلدية او المجلس المحلي بدرجات متباينة من العنف  الكلامي او حتى الجسدي. ويستحوذ على القرى العربية الانشغال بموضوع البلدية. وهي مقسمة إلى معسكرات عائلية، معسكرين غالبا يدور في فلكهما حلفاء. لقد استولت البلدية، المؤسسة الوحيدة التي تستحق الذكر في القرية العربية على غالبية اهتمام أهل البلد وأحاديثهم ومواقفهم في الشأن العام. وهي، خلافا لما يروج أحيانا، مؤسسة إسرائيلية تابعة لوزارة الداخلية الإسرائيلية كما هو معلوم، حتى لو ترأستها شخصية تعتبر 'متطرفة' بنظر إسرائيل مثل عضو في التجمع الوطني الديمقراطي او الحركة الإسلامية. ويستطيع وزير الداخلية حلها وإقالة رئيسها. البلدية العربية هي جزء مما يسمى السلطة المحلية 'شلطون مكومي'، وهي مخولة بجمع الضرائب وفرض الغرامات والتشريع في إطار صلاحياتها. والمشاركة فيها هي مشاركة في المؤسسة الإسرائيلية في النهاية.

ولكن البلدية هي المشغل الرئيس المحلي عند العرب في الداخل في غياب اقتصاد عربي. والسيطرة عليها تعني السيطرة على مصدر قوة كبير نسبيا للقرية العربية. ومن شأن ذلك أن يؤجج الرغبات القديمة بالسيطرة الحمائلية على البلدة مانحا العشيرة والحمولة مضمونا اقتصاديا جديدا يمنع زوالها التدريجي، إذ تتحول إلى رابطة مصالح تتنافس من أجل السيطرة على أداة توزيع الريع القادم من الدولة.

وفيما عدا كونها أداة لتأجيج الصراع المحلي فهي تحتفظ بمهمتين أساسيتين أخريين. 1. إنها تشغل العرب في التنافس على جزء صغير يبلغ 1-2% من مقدرات الدولة ودخلها القومي. يبذر الجمهور العربي طاقته السياسية على معركة محلية داخلية بين قواه الاجتماعية تدير جزءً ضئيلا من مقدرات الدولة وتاركا الدولة الفعلية خارج نطاق نضاله السياسي أو بمعزل عن الجزء الأكبر من طاقة هذا النضال على الأقل. 2. تنقل الدولة بسرور مهام تابعة لسياسة التمييز من نوع التعليم والتنظيم والبنى التحتية والشؤون الاجتماعية ومسطح القرية الى السكان المحليين ليقوموا هم بتنفيذ السياسات معترضين هنا وهناك على الشروط ولكن ضمن قواعد اللعبة الرسمية المحددة من قبل الحكومة ومؤسسات التخطيط.   لقد بدأت عملية إقامة بلديات عربية، 'سلطات محلية' باللغة الاسرائيلية، كجزء من تحديد مناطق نفوذ القرى العربية والاستيلاء على أراضيها، وكجزء من تثبيت وتعزيز نفوذ القوى التقليدية في المجتمع كقوى تقليدية تقوم بدور الوساطة بين المواطن والسلطة في فترة الحكم العسكري. 

  قبل أن يتحول المواطنون العرب في هذه البلاد إلى مواطنين لديهم حق اقتراع بشأن انتخاب بلدية أو مجلس محلي البلدي كانوا مجتمعات منظمة بواسطة بنية عائلية تقليدية ومخاتير وحارات. ولم يأت المجلس المحلي  ليحل محل البنية العشائرية أو الحمائلية القائمة أو ليحول أعضاء الحمولة أو العشيرة إلى مواطنين أحرار الإرادة لديهم حرية الاختيار عبر الانتخابات. فالمساحة ضيقة والناس تعرف بعضها شخصيا. والخلاف على البلدية ليس إيديولوجيا بل هو خلاف على من يدير مقدرات مادية: وظائف، مشاريع، ضرائب وإعفاءات من الضرائب... كل ذلك تحت سقف وفي إطار سياسة التمييز، وصهيونية الدولة. والبلدية هي المشغل الأكبر، والمؤسسة الأكبر في البلدة... هذا ناهيك عن المكانة والمنزلة التي يمنحها المنصب، خاصة في مجتمع كانت فيه المنزلة على تواضعها تتوارث. وقد فتح انتخاب البلدية او المجلس المحلي المجال للتنافس على منزلة لم تكن في الماضي خاضعة للتنافس، بما في ذلك من فتح المجال لإرواء عطش سنين للتنافس بين الحمائل الصغيرة والكبيرة مثلا. لقد أصبح بالإمكان مواجهة العائلة الكبيرة بتحالف عائلات صغيرة دون تغيير في العقلية العائلية، بل بالعكس عبر تأجيجها لتطاول العائلات الصغير أيضا. وبدل حل الوعي العشائري في العائلات الكبيرة جرى عمليا شقها الى بطون متنافسة بعد ان ولجها الصراع البلدي عبر التنافس على مرشح العائلة، وعدم تقبل القرار ثم الانشقاق إلى بطون انتخابية. 

الأهم من هذا كله أن رسالة عملية الانتخاب لم تكن تحديث البنى الاجتماعية مقارنة بما كان، ولا التعامل مع الوظائف البلدية أكثر حداثة ومهنية، وذلك خلافا لما اعتقد بعض المعجبين بتطور المجتمع في ظل الحكم الإسرائيلي. فالمجلس المحلي لم يتحول إلى مؤسسة تساهم في تحديث المجتمع أو في تحويل أفراده إلى مواطنين ذوي إرادة حرة. وهو لم يتحول إلى ميدان تنافس حر بين مواقف وأفكار مختلفة معروضة كخيارات على المواطنين في كيفية إدارة البلد، كما لم يحرر الفرد من العصبية العائلية التي كانت تميز البنية التقليدية، بل بالعكس. فقد حولت الانتخابات العائلات إلى روابط مصالح وسيَّسها بالمعنى المحلي للكلمة، وأحيانا حتى بالمعنى القطري.

 استعرت العصبية العائلية على خلفية الصراع على السيطرة على المجلس المحلي والبلدية بدل أن تخبو، وأفرغت من مشاعر التعاضد والمحبة وأصبحت علاقة عصبوية محكومة بمصلحة جافة وباردة. وقد تنقسم العائلة إلى بطون متنافسة من المصالح وتشهد انشقاقات على هذه الأساس. ونشأت صفقات مع الأحزاب العربية والصهيونية بنموذج: 'أعطونا أصواتكم في البلدية نعطيكم في الكنيست'، أو العكس، مما ساهم في عرقلة تطور الأحزاب العربية ومنعها من تطوير فروع حزبية غير عائلية لها تتجاوز الانقسام البلدي. كان هذا أمل الحركة الوطنية في قيام هيئة مجتمعية مدنية هي فرع حقيقي للحزب او للحركة السياسية غير العائلية. فالعائلية السياسية البلدية تحاول ان تصبغ كل شيء بطابعها وان تحدد موقفا من كل شيء بناء على هوية القائمين عليه هل هم من هذا المعسكر البلدي أم ذاك.

ولا تكاد تنجو قرية من هذا النوع من الانقسام، وقد خلفت انتخابات السلطات المحلية حرائق في كل مكان تخبو نارها مؤقتا تحت رماد. وهي تشتعل من حين لآخر طيلة سنوات.

ولا يستوي الحديث عن العنف والحالة الاجتماعية العربية دون ذكر البلديات والمجالس المحلية. فهي في حالات عديدة مصدر للعنف لا ينضب له معين، ومبعث للتوتر الاجتماعي داخل جيتوات وأحياء فقر تسمى قرى وبلدات. وإذا أردنا صياغة ذلك بلغة أكثر ايجابية لقلنا أنها شاغل الناس، وهاجسهم الأول بامتياز. فالسيطرة على المجلس البلدي هو حلم السياسة المحلية وغايتها القصوى. وما ان تنتهي معركة انتخابية على البلدية وقبل انقضاء أيام على إعلان النتائج تنشغل البلدة في الانتخابات المقبلة. فرئيس وأعضاء البلدية المنتخبون يعملون في مشاريع وفي فصل وتعيين الموظفين من أجل الانتخابات المقبلة. والخاسر يبدأ بالتشكيك بالنتائج والتحضير للانتخابات المقبلة، وقد يعني التحضير للانتخابات المقبلة تشويش عمل السلطة المنتخبة الحالية.

ولا علاقة بين حسن أو سوء إدارة السلطة المحلية وبين احتمال انتخاب رئيسها من جديد. بل بالعكس، فقد يكون سوء الإدارة عاملا مساعدا في إعادة الانتخاب إذا لم تتدخل السلطة المركزية والمحاكم قانونيا.

 البلديات هي الإثبات الأوضح على أنه ليست كل انتخابات هي عملية ديمقراطية أو حتى دليل على وجود ديمقراطية.

ولو كان لدينا ميل إلى نظرية المؤامرة لقلنا ان المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة قررت إشغال المجتمع العربي بالسلطات المحلية يبذر فيها كافة طاقات المجتمع السياسية وطموحات أفراده وقيادييه بحيث يتم تنفيسها وإجهاضها داخل القرية قبل أن تخرج منها. وبحيث ينشغل المجتمع العربي كله في صراع داخلي على ما لا يتجاوز نصف بالمائة من ميزانية الدولة يصرف عليها كل هذا الجهد الفردي والمجتمعي، في حين يبقى العرب خارج التنافس على كل ما تبقى . (يبقى طبعا استثناء التمثيل البرلماني الأكثر تسيسا في حالة تمثيل الجماهير وطنيا ودون مساومة على المبدأ وإلا فإن التجربة تثبت انه يتحول في كثير من الحالات الى عملية أسرلة للخطاب وللوعي، ويصبح نائب الخدمات وسيطا ليساسات التمييز مثل الزعامة البلدية). وطبعا لم توجد مؤامرة كهذه ولكن لا شك لدينا انه بالتجربة والخطأ تبين لإسرائيل مدى فائدة إشغال المجتمع العربي بالمعارك الانتخابية المحلية، ومدى فائدة اعتبار هذا الجمع من قيادات محلية منتخبة على أساس غير سياسي عنوانا لعرب الداخل بشكل عام.

ورغم ما نقوله ليس لدينا شك بوجود إدارات محلية عربية مخلصة ومتفانية تعيش بين نار التمييز العنصري السلطوي ونار قلة الجباية وكثرة الطلبات، إدارات ترى بعملية الإدارة النظيفة دون واسطة ومحسوبيات رسالة تخلص لها، وتنهمك في جهد جبار لا يكل لتحصيل الحقوق من وزارة الداخلية الإسرائيلية وغيرها من الوزارات.

كما أن ما نقوله ليس دعوة للأحزاب العربية وغيرها لمقاطعة انتخابات المجلس المحلي. فما زلنا نعتقد انه على القوى السياسية الوطنية ألا تترفع عن قضايا الناس ومصائبهم اليومية وأنه من المفيد وجود قائمة أو قائمتين غير عائليتين لعضوية البلدية ولو تمثل كل مهما بعضو واحد.  فالمصوتون في هذه الحالة هم نواه لبديل ولسلوك اجتماعي مختلف. ولا بديل عن هذه النواة إذ تمنح الحركة السياسية مرتكزا اجتماعيا مستقلا إلى حد ما عن العائلات والعشائر يمكنها الانطلاق منه لعملها السياسي القطري. ولا يجوز أن يغيب الحزب السياسي محليا.

هذه مسألة تحتمل اجتهادات عديدة، بين محظور المقاطعة الكاملة للواقع الاجتماعي المحلي من جهة، أو الاستسلام الكامل له من جهة أخرى. وغالبا ما يكون نمطا السلوك وجهين لعملة واحدة هي عملة الاستسلام للواقع الاجتماعي في الجيتو الذي يسمى قرية ولم يعد فيه من مزايا القرية غير العائلية، والأخيرة أيضا تم تحويلها إلى رابطة انتخابية ففقدت هي أيضا ريفيتها. 

ترغب المؤسسة الإسرائيلية بوجود قيادة محلية عشائرية غير مسيسة تضاف الى أحزاب سياسية برلمانية محتواة في إطار الخطاب السياسي الإسرائيلي لتحسين حقوق العرب في إطار 'الولاء للدولة'. وهي تسعى في هذه الأثناء داخل البرلمان وخارجه لضرب أو تحجيم القوى السياسية ذات التصور الوطني والقومي لطبيعة العرب كجماعة وذات التصور لفكرة المواطنة بشكل يضعها في عداء  للصهيونية لا يقبل الاحتواء في إطار الخطاب الإسرائيلي. 

 

عزمي بشارة

دائرة التثقيف المركزي – التجمع الوطني الديمقراطي

2010


تصميم وبرمجة: باسل شليوط