حكاية مسافر يطا ومحكمة «اللا» العدل العليا في إسرائيل

أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية الأسبوع الماضي، عشية ما يسمى يوم الاستقلال (يوم الاستعمار في الحقيقة) قرارا نهائيا بتهجير أكثر من ألف فلسطيني من مكان سكناهم في منطقة «مسافر يطا» جنوبي مدينة الخليل، بادعاء أنها منطقة عسكرية وأن الأهالي لم يثبتوا الملكية أو السكن الثابت فيها. جاء القرار بعد عشرين عاما من المداولات القضائية، ليؤكد غلبة الطبع الاقتلاعي الإجرامي للصهيونية، على التطبع بالمظهر الحضاري الإنساني، الذي تدعيه المحكمة العليا للأبرتهايد الإسرائيلي الاستعماري. وعلى الرغم من الشواهد التاريخية بأن المنطقة مأهولة منذ مئات السنين، وبأن قاطنيها يعيشون في الكهوف والعرش والخيام، ويتنقلون في المنطقة ذاتها مع مواشيهم ويقومون بفلاحة الأرض موسميا، إلا أن المحكمة لم تجد حرجا بالإقرار بأنهم ليسوا سكانا ثابتين، بل بدو رحل دخلاء، وحتى سكان المغارات منهم اعتبرتهم رحلا، وكأن الكهوف كالخيام يحملها الناس معهم حيث يحلون.

سياسة التطهير العرقي

ينسجم قرار المحكمة العليا الإسرائيلية مع المبدأ الناظم للصهيونية وهو، الاستيلاء على الأرض وتهجير سكانها وتوطين اليهود فيها، فهكذا فعلت إسرائيل على طول وعرض جغرافيا فلسطين، وعلى امتداد تاريخها منذ بدايات المشروع الكولونيالي الصهيوني إلى أيامنا هذه. وتقع استراتيجية سلب الأرض لغرض استيطان المهاجرين اليهود فيها، والتطهير العرقي لضمان هيمنة صهيونية في أوسع رقعة ممكنة، في لب المشروع الصهيوني، وما زال مبدأ «أرض أكثر عرب أقل» المبدأ الناظم الأهم للكيان الإسرائيلي وجميع أذرعته السياسية والأمنية والقضائية والإعلامية والتخطيطية. وحين قررت المحكمة الإسرائيلية السماح بتهجير العائلات الفلسطينية من مكان سكناها في مسافر يطا، فهي لم تتخذ موقفا شاذا عن القاعدة، بل هي امتثلت لقاعدة الاقتلاع والأحلال المقترنة بالصهيونية وتوأم روحها، التي لم تفارقها طيلة الوقت رغم تقلبات الزمان. وإذ أقرت المحكمة «قانونية الإخلاء» من مناطق عسكرية، فإن شهية الجيش ستزداد لترحيل أكثر من 5000 فلسطيني يعيشون في مناطق التدريبات الحربية، وتشكل هذه المناطق ما يقارب 18% من مساحة الضفة الغربية، ما يعادل مساحة منطقة «أ» الواقعة تحت إدارة السلطة الفلسطينية. وبعد إخلائها من سكانها فإن هذه المناطق ستكون الأولى التي ستقوم إسرائيل بضمها إليها. وعملية التطهير العرقي الاستعماري في فلسطين لم تبدأ في مسافر يطا، ولن تنتهي بها.

قرار محكمة اللا عدل

من سخريات القدر أن الذي كتب قرار المحكمة بشأن إخلاء أهالي مسافر يطا هو القاضي المستوطن دافيد مينتس، الذي يسكن في مستوطنة دوليف. وانضم إلى رأيه قاضيان يعتبران «معتدلين» وفق المعايير الإسرائيلية، ما يدل على عمق الإجماع القومي الصهيوني في قضايا الجغرافيا والديموغرافيا. ولم تكتف محكمة اللا عدل الإسرائيلية بمنح شرعية قانونية للتهجير، بل فرضت غرامة قدرها ستة آلاف دولار على كل مقدمي الالتماسات. وعلى الرغم من أن منطقة مسافر يطا هي منطقة محتلة يسري عليها القانون الدولي، الذي يحرم التهجير القسري، إلا أن محكمة اللا عدل قررت أنه غير ساري المفعول على إسرائيل ومشروط بموافقتها على اعتماده، وأوضحت موقفها بأنه في حال وجود تناقض بينه وبين القانون الإسرائيلي فإن الأخير هو المعتمد والحاسم. بعد ذلك ذهبت المحكمة إلى أنه ليس هناك أي تهجير، لأن السكان لم يثبتوا برأيها أنهم عاشوا في المنطقة قبل الإعلان عنها منطقة عسكرية مغلقة، وهم بنظرها دخلاء، وكأنهم اختاروا عمدا الحياة بلا كهرباء ولا ماء ولا شوارع وبلا إمكانية بناء بيوت ومرافق عامة. وقد ادعت السلطات الإسرائيلية أنه لا دليل على وجود مبان عامة أو أماكن سكن ثابتة، وجاء هذا الادعاء بعد أن قامت السلطات نفسها بهدم وتجريف كل ما بناه أهالي المنطقة. ويستدل من حيثيات قرار الحكم بأن المحكمة وافقت على كل ما ادعاه الجيش وظهر القضاة وكأنهم خدم في بلاط العسكر الإسرائيليين.

تقع استراتيجية سلب الأرض لغرض استيطان المهاجرين اليهود فيها، والتطهير العرقي لضمان هيمنة صهيونية في أوسع رقعة ممكنة، في لب المشروع الصهيوني

لقد تعاملت محكمة اللا عدل الإسرائيلية باستخفاف بما جاء به أهالي مسافر يطا من وثائق ومن شواهد دامغة، ومنها على سبيل المثال تقرير «صندوق استكشاف فلسطين» البريطاني، الذي يعود إلى عام 1881، وتعاملت باستخفاف أكبر مع حكايتهم ومع ذاكرتهم ومع ما شرحوه عن أسلوب معيشتهم الخاص والبسيط، ولم تقم وزنا لحياة اجتماعية واقتصادية لسكان القرى وعلاقاتهم البينية وارتباطهم بمدينة يطا القريبة عبر عشرات وحتى مئات السنين. إن قرار المحكمة هو في الواقع تجسيد لعقلية استعمارية استيطانية، تعتمد المحو المزدوج من الجغرافيا ومن التاريخ، ويبدو أن أعضاء محكمة اللا عدل الإسرائيلية يلبسون الأسود ليس من قبل وقارة القضاة، بل حدادا على عدالة دفنوها بأيديهم.

هدية من شارون للجيش

يعود الإعلان عن منطقة «مسافر يطا» منطقة تدريبات عسكرية وإطلاق نار إلى مطلع الثمانينيات، ففي جلسة للجنة الوزارية لشؤون الاستيطان، اقترح أرييل شارون، وزير الزراعة في ذلك الوقت، على الجيش أن يقبل اعتبار 30 ألف دونم في منطقة مسافر يطا منطقة تدريبات عسكرية، ودعاه إلى الاستيلاء عليها لمنع «تمدد» الفلسطينيين فيها، في إشارة إلى أن اعتبار موقع ما «منطقة عسكرية مغلقة» كان ولا يزال من اهم أدوات التهويد والتهجير، التي تتبعها إسرائيل. وقد جرى مؤخرا الكشف عن بروتوكول هذه الجلسة في الأرشيف الحكومي المفتوح للباحثين، وهذه حالة نادرة لأن ملايين الوثائق من هذا النوع بقيت سرية، على الرغم من مضي عشرات السنين وعلى الرغم من أن القانون الإسرائيلي نفسه ينص على إتاحتها علنا.

لقد صرح ضابط إسرائيلي كبير بأن التدريبات في المناطق العسكرية تستهدف تقليص عدد الفلسطينيين، الذين يعيشون فيها. وقد حاولت إسرائيل تطبيق ذلك مرارا وتكرارا في «مسافر» يطا. ففي عام 1999، وبعد اتفاق أوسلو وفي عز المفاوضات بين القيادة الفلسطينية وإيهود براك رئيس الوزراء من حزب العمل، قامت قوات الجيش الإسرائيلي باحتلال مسافر يطا، وهدمت المنازل وأخلت أكثر من 700 شخص منها ونقلتهم بالشاحنات إلى مواقع أخرى. لكن الأهالي استغلوا أول فرصة وتسللوا ليلا وعادوا إلى قراهم. في سنة 2000 قدم الأهالي التماسا قضائيا تبعه قرار بتجميد إخلاء السكان، ريثما يجري البت بمصيرهم. وقامت قوات الجيش بعدها بمنع الأهالي من بناء أي منزل أو شق أي شارع أو إنشاء أي مشروع، وشددت في السنوات الأخيرة من خطواتها التعسفية فقامت عام 2018 بحفر قنوات لفصل القرى عن بعضها بعضا ولمنع المواصلات، وفي 2019 خربت الإدارة المدنية شبكة المياه وأتلفت 6 كم من أنابيب ماء الشرب، وعاد الجيش عام 2021 بتجريف الشوارع بين القرى وبينها، والشوارع المؤدية إلى مدينة يطا وبتدمير شبكة المياه مرة أخرى، وحتى لا يبقى للأهالي ولمواشيهم ماء للشرب قامت قوات «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» هذا العام، بردم آبار الماء في المنطقة بأسرها. في المقابل أقيمت في «المنطقة العسكرية المغلقة» مجموعة من المستوطنات والبؤر الاستيطانية، وحظيت بتطوير بنى تحتية على أعلى مستوى، ولم تجد السلطات الإسرائيلية (ولا محكمة الأبرتهايد الإسرائيلية) أي مشكلة في أنها في منطقة تدريبات. وقد ساهم المستوطنون، تحت حماية الجيش، بالتنكيل بأهالي مسافر يطا، خاصة الأطفال، الذين يمرون بجوار المستوطنات وهم في طريقهم إلى المدارس البعيدة، ووصل الأمر إلى مرافقتهم بحراسة مشددة.

للقصة بقية

لقد اتخذت محكمة الأبرتهايد الإسرائيلية قرارها بالسماح بالإخلاء والتهجير، لكن التهجير الفعلي لم ينجز حتى الآن، وهذا يمنح فرصة للاستعداد للتصدي له وللعمل على منعه. وبالإمكان منعه بجهد يشمل الضغط على الأطراف الدولية، خاصة الاتحاد الأوروبي، التي تعارض هذا التهجير، لتتحمل مسؤوليتها. وفي المقابل يجب على المؤسسات الفلسطينية والدولية مساندة أهالي مسافر يطا لتعزيز صمودهم ومنع استفراد الاحتلال الإسرائيلي بهم، لكن الأهم من كل هذا الاستعداد للمواجهة وتجهيز اللازم لحشد الآلاف في معمعان هذه المعركة المشرفة، التي يخوضها أفقر فقراء وأشرف شرفاء فلسطين دفاعا عن أنفسهم وعن أرضهم وعن وطنهم وعن شعبهم وعن قضيتهم.

*رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي


تصميم وبرمجة: باسل شليوط