عوض عبد الفتاح
13:41 - 05/04/2018
مأزق التسوية وآفاق الدولة الواحدة
مقدمة
تتصاعد وتيرة الاهتمام والتداول في مسألة الخيارات الإستراتيجية الفلسطينية، والحلول السياسية البديلة كحل الدولة الواحدة، بحيث أصبحت من الاتساع ما يجعل المعارضين والرسميين، يرتدعون عن الاستخفاف بالفكرة ونعتها بأوصاف "التحشيش الفكري" و "الطوباوية"، وغيرها من الأوصاف والمقولات التي انتعشت في مرحلة الانغلاق على خيار سياسي واحد، وامتدت على أكثر من ثلاثة عقود. والأمر الذي يلحظه الجميع، هو أن أوساطًا متزايدة بين المثقفين وأطر المجتمع المدني، بدأت تتعامل بانفتاح واحترام مع الاجتهادات الجديدة، رغم أن هذه الأوساط لم تستقرّ بعد على خيار محدد.
هذا الحراك الفكري والسياسي المبارك، ليس مؤشرًا على وضع فلسطيني مريح، بل هو تجسيد للوعي بالخسائر الفادحة التي يتكبدها شعب فلسطين، جراء اختلال ميزان القوى لصالح النظام الكولونيالي الإسرائيلي والخضوع لإملاءاته، وبالتالي تعبير عن الرغبة القوية بوقف هذا النزف وبسبر أغوار الأفق الملبد بالغيوم الداكنة، والأخذ بيد الأجيال الصاعدة التي ترعرعت في بيئة سياسية منقطعة عن مرحلة التحرر الوطني الفلسطيني والعربي، وعن أخلاقها وقيمها، بل متصادمة معها.
هذه الأجيال تحتاج، قبل أن تمضي في الحياة أكثر في دوامة الفراغ، فراغ القيادة والقيم، تحتاج للمثال أو للنموذج الذي تقتدي به نحو خلاصها، نحو حريتها، نحو كرامتها.
الجانب المهم في هذا الانشغال في طرح البدائل، هو الاستعداد للعودة الى الجذر، وإعادة اكتشاف مصدر قوة القضية الفلسطينية. العودة إلى الوعي، إلى الرواية الأصلية وإلى مفرداتها اللغوية، والتي طالها التآكل والتشوه الخطيران وحتى السحق، تحت عجلات عربة "عملية السلام" التي أكدت عبر نتائجها الكارثية للقاصي والداني أنها، ربما، أكبر عملية تدليس وتضليل وخداع للذات في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. ابتدعتها أطراف دولية وإقليمية، وتكيفت معها قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية، وخاصة التيار المركزي في منظمة التحرير ومعها الأنظمة العربية.
إن العودة الى الجذر هو استعادة أهم نقاط القوة في قضية العرب الأولى؛ وهي عدالة هذه القضية ووضوحها، قضية فلسطين. إنها قضية شعب تعرض لعدوان استعماري استيطاني بلا سبب، وهذا الشعب مثل كل الشعوب المقهورة، يمارس حقه عبر المقاومة ويدفع الغالي والرخيص لاستعادة حريته منذ حوالي قرن. ونقطة القوة الثانية التي ينطوي عليها طرح البدائل، وبالتحديد، الدولة الواحدة، هي وحدة القضية. أي وحدة الشعب الفلسطيني في الشتات، في الأراضي المحتلة عام 67، وفي منطقة عام 1948. ونقطة أخرى يحويها حل الدولة الواحدة هو البعد الديمقراطي الإنساني، أي شمل المجتمع اليهودي الإسرائيلي في كيان سياسي واحد، بعد تفكيك النظام العنصري ونزع الطابع الكولونيالي عنه، كيان يقوم على قيم الديمقراطية والمساواة والعدالة. لن ينتهي الصراع ولن تُستعاد العدالة إلا إذا قبل هذا التجمع اليهودي، بأن يكون جزءًا من المنطقة – وليس جزءًا من أوروبا أو الغرب.
وفي هذا السياق، سياق البحث عن المخرج وسياق الانشغال في بلورة الإستراتيجية القادمة، يطرح السؤال حول دور فلسطينيي الـ48؛ حول طبيعة ومضمون هذا الدور. وهو سؤال ليس سهلاً، نظرًا للتعقيد بالغ الشدّة الذي نجم عن الاضطرار للعيش تحت حكم دولة (كولونيالية)، فصلته عن محيطه، فرضت عليه المواطنة وأجبرته على العيش بين هوامش متعددة، تتجاذبه انتماءات وولاءات متناقضة. والسؤال الأهم والأخطر، هو المتعلق بالمحاذير التي تحكم أو يجب أن تحكم هذا الدور. فهل يقتصر هذا الدور، على النضال ضد التمييز، ومن أجل المساواة أو "السلام والمساواة"، دون تحديد مضمون هذا الشعار ودون معرفة أفقه ، والذي تطرحه قوى سياسية عربية اسرائيلية محلية وتدعمه السلطة الفلسطينية، التي ورغم تواضع هذا الهدف، لا تقوم بأي خطوة دعائية أو عملية تجاهه، خوفًا من الردّ الاسرائيلي الذي يتحكم بالأرض والاقتصاد والحركة ويُقيّد القرار السياسي، ويفرض لغة سياسية غريبة عن لغة حركة تحرر وطني. إن قيادة السلطة الفلسطينية لا تطرح في مفاوضاتها العبثية (المتوقفة سياسيًا والمستمرة أمنيًا)، مطالبة إسرائيل بأن تكون دولة المواطنين، في مقابل مطالبة إسرائيل بأن يُعترف بها كدولة يهود العالم.
وهل هناك صيغة أخرى تصلح أكثر لواقع عرب الداخل، دون أن تتناقض مع طموحاتهم الوطنية والمدنية، ودون أن تتصادم إستراتيجيًا مع حق كل الشعب الفلسطيني في العيش في وطنه حرًا. فهل الصيغة التي طرحها حزب التجمع "دولة المواطنين"، والتي تحولت الى الخطاب شبه الرسمي لفلسطينيي الـ48 خلال العقد الأخير وأعادت تفجير المواجهة مع الأيديولوجية الصهيونية وبُنيتها السياسية بصورة غير متوقعة، هي الصيغة الأنسب. وهل ما تزال صالحة، أم هناك حاجة لإعادة صياغتها، في ضوء التحولات الخطيرة في بنية علاقات الصراع.
يسأل العديد من المؤيدين والأصدقاء لحزب التجمع في الداخل والخارج، ما الذي يحول دون الإقدام على إحداث نقلة "نوعية جديدة" في تصورات الحزب السياسية، كما فعل في انطلاقته عام 1995 التي شكلت انقلابًا في الفكر السياسي عند عرب الداخل. ليس لهذا السؤال جواب جاهز وقاطع، ولكن بالإمكان الخوض في الإجابة عنه، بحذر ومسؤولية كبيرين، نظرًا لتعقيدات الساحة التي يعمل فيها الحزب والتي يعيش فيها 1.2 مليون فلسطيني. وهي تعقيدات ناجمة عن كون الفلسطينيين في إسرائيل تربطهم المواطنة الإسرائيلية المفروضة عليهم، وما يترتب على ذلك من حاجات يومية والتزامات مفروضة بقوانين هذه الدولة، ومحاذير عديدة. كما أن الحزب قام على شعار تحويل إسرائيل إلى دولة المواطنين وتحرير الأراضي المحتلة عام 67 وإقامة الدولة المستقلة، وعودة اللاجئين كحق مقدس لا مساومة عليه. وكان هذا مراعاة للإجماع الفلسطيني على الحل المرحلي.
لقد جاء المبادرون لإقامة التجمع من مشارب مختلفة. هناك من كان يحمل حل الدولة المرحلية (ولا أقول الدولتين) في الضفة والقطاع وحق العودة، وهناك من حمل مشروع الدولة الواحدة وظل يتمسك بهذه الرؤية (ككاتب هذه السطور، واعتبر أن دولة المواطنين مشروع اعتراضي على الصهيونية، وكان ذلك تسويغًا لمشاركة حركة أبناء البلد التي شغلت فيها منصب نائب الأمين العام حتى تاريخ انطلاق التجمع)، مع أنه يمكن أيضًا أن نعتبره مشروعًا إستراتيجيًا لأن الإصرار على دولة المواطنين كبديل عن الدولة اليهودية-الصهيونية، هو نظريًا تفكيك لهذا الكيان. ولهذا السبب يصعب الانتقال بسهولة وبشكل جماعي إلى بديل سياسي آخر قبل اكتمال نضوج جملة من العوامل الموضوعية والذاتية، نظرًا لخصوصية واقع عرب الـ48، ولأسباب تتصل بواقع الساحة الفلسطينية والساحة الدولية حيث الإجماع على فكرة الدولتين. ناهيك عن غياب قوة وازنة في الشارع الإسرائيلي تحمل رؤية ديمقراطية بديلة.
مع ذلك فإن حزب التجمع الوطني الديمقراطي هو حزب دينامي ومتجدد، وقد اعتبرنا منذ اليوم الأول أن الحزب ببرنامجه وتصوراته وحتى مشاركته في انتخابات الكنيست، التي كانت حصيلة نقاش عسير وصراع أفكار ومواقف، ليست خيارات جامدة وغير قابلة للمراجعة إذا اقتضت الحاجة والمصلحة الوطنية. ذلك أن الحزب جمع بين متناقضات ليست سهلة؛ فهو حزب قومي يهدف الى إعادة تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية لعرب الداخل، عبر إقامة المؤسسات التمثيلية المنتخبة، والمؤسسات الثقافية والتنموية المستقلة التي تُديم هذه الهوية وتنهض بالمجتمع، عبر التأكيد على ارتباطه حضاريًا وثقافيًا وتاريخيًا مع الأمة العربية ومع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. ومن ناحية ثانية هو حزب ديمقراطي يتعامل مع مطلب المواطنة المتساوية بجدية، وإن كان يدرك إدراكًا تامًا أن هذا غير ممكن طالما إسرائيل يهودية-صهيونية، وكولونيالية الطابع والممارسة. كما يحمل التجمع في داخله طاقة كامنة لإمكانية تحوله إلى القوة الرائدة لمشروع الدولة الواحدة داخل الخط الأخضر في مرحلة ما. ولا يقل أهمية حقيقة أن حزب التجمع حصيلة تجمع قوى قومية ويسارية متنافرة، تمكنت بعد عامين من النقاش والتداول، وبعد جهود مضنية، من الاتفاق على صيغة سياسية وفكرية وصيغة تنظيمية وازنة، وهي بذلك تجربة رائدة لم تشهدها الساحة الفلسطينية التي شهدت انقسامات عديدة داخل فصائلها دون أن تنجح أية محاولة لإعادة توحيد مجموعة فصائل متقاربة في إطار واحد. المقصود تجربة تجديد الفكر السياسي ونجاح تجميع عدة قوى في إطار حزبي واحد، متجاوزة للرواسب السابقة وآثارها النفسية. وإن إقامة حزب التجمع هي تجربة متميزة تقتضي من كل وطني وقومي ديمقراطي صيانتها، والحفاظ عليها كما يحافظ على بؤبؤ العين، خاصة في هذه الظروف الراهنة. بل مواصلة تطويرها وإغنائها ومراجعتها. وقد تمنى العديد من المثقفين الفلسطينيين بعد تألق نجم التجمع خاصة في السنوات الأولى لانطلاقه، أن تنتقل روح الابتكار التي ميزت هذه المبادرة إلى التجمعات الفلسطينية الأخرى.
وفي إطار هذا الفهم الخلاّق لمستلزمات النضال، أعلن حزب التجمع وفي مؤتمره الرابع عام 2004 على فتح النقاش حول الدولة الواحدة. ولكن دون أن يقدم في المؤتمرات اللاحقة على تغيير برنامجه الرسمي، الذي يتفق الجميع على أنه برنامج انطوى وينطوي على قوة تجنيدية بين الفلسطينيين في الداخل، وعلى قوة صدامية مع البنية العنصرية للنظام الإسرائيلي. والحقيقة أنه لم يشهد الحزب منذ تلك الفترة نقاشات واسعة حول هذا الخيار، ويعود هذا التقصير أو القصور، إن صحّ التعبير، إلى الأولويات الملحة والضغوط الكثيفة الناجمة عن الملاحقات المتتالية للحزب، ومحاولات شطبه المتكررة وعزله عن جمهوره، عبر إظهاره كحزب متطرف "لا يعترف بحق اليهود في دولة خاصة بهم" يضرّ بمصالح المواطنين العرب. وكل ذلك استدعى التركيز على العمل اليومي وتحصين الحزب من آثار هذه الحملات وبعث الطمأنينة في نفوس جمهوره.
وفي عام 2007، كتب الدكتور عزمي بشارة مقالاً تناول فيه موضوع الدولة الواحدة، وعرضه كموضوع للنقاش دون أن يدعو لذلك، وهو الذي يتبنى في الأصل موضوع الدولة الواحدة (دولة ثنائية القومية).
وعام 2009 وفي اجتماع اللجنة المركزية للحزب، قدمت كأمين عام الحزب ورقة مطولة كاستمرار للنقاش. وأوضحت في هذه الورقة الترابط غير المباشر، بين فكرة "دولة المواطنين" ومشروع الدولة الواحدة، وهي صلة مُشار إليها بشكل عام جدًا في البرنامج الرسمي للحزب (لأسباب تتصل بقوانين تسجيل الأحزاب في الدولة العبرية)، من منطلق الوعي بحتمية تغيّر المشهد السياسي وما يقتضيه من تهيؤ دائم لتجديد البرامج والفكر والمواقف.
سأضيف إلى هذه الورقة، المقدمة الى اللجنة المركزية، في هذا الكتيب، مداخلة حول وضع ودور عرب الداخل في الصراع وفي النضال من أجل الأهداف الوطنية والديمقراطية، لتكون كمساهمة في النقاش والتفكير، حول طبيعة دور هذا الجزء من شعب فلسطين في المشروع الوطني الديمقراطي. وهي مهمة تتصل أيضًا بمسؤولية كل فلسطيني له علاقة مباشرة بالنضال أو بعملية صياغة الرأي العام.
مأزق التسوية وآفاق الدولة الواحدة
ملاحظات على الوضع الفلسطيني الداخلي
هل كان يمكن لأحد، من رواد الثورة الفلسطينية المعاصرة، وحركة النضال الوطني التحرري العربي، أن يتخيّل أنه بعد مرور أكثر من أربعين عامًا على انطلاق هذه الثورة، وعدة عقود من النضال والتضحيات الهائلة، تتحول من حركة لإعادة نصف الشعب الفلسطيني المهجر إلى وطنه وهزم الصهيونية، إلى سلطة مرتبط بقاؤها بالتسوّل من حلفاء اسرائيل، وبالتنسيق الأمني مع الاحتلال؟
هل كان يمكن لأيّ منا، أن يتخيل أن يتحول شعار تحرير فلسطين، وإقامة دولة ديمقراطية واحدة للجميع، عبر النضال والمقاومة، إلى مطلب دولة على 22% من الوطن، والاستعداد للمساومة على حق اللاجئين وإخراج فلسطيـنيّي الـ48 من دائرة الحلّ، على يد سلطة أو نخبة من قادة الثورة لا تألو جهدًا من أجل تجنب خوض الصراع مع الاحتلال، بل تمنع من يحاول ذلك وتقمعه، وتستبدل ذلك بالمفاوضات العبثية كطريق وحيد في ظل ميزان قوى مختل لصالح العدو؟
منذ سنوات طويلة نشهد النتائج المأساوية لنهج غريب عن حركات المقاومة. عالم كامل من الثقافة والقيم، والسلوكيات والرؤى، كونته نخب مكافحة وقوافل من المناضلين، وجموع من الشهداء، ينهار أمام أعيننا. ماكنة إعلامية ضخمة، مسنودة من الداخل والخارج، وبدعم مالي وسياسي كبير، تعمل ليل نهار من أجل أن لا يكون هذا التراجع أو الانهيار مؤقتًا، بل من أجل أن يصبح راسخًا، وجزءًا عضويًا من مشهد التضليل والنفاق العالمي، وأن يطوق ويحتوي إرهاصات لظاهرة مقاومة عربية (لبنان، العراق) بدت مرشحة لإيقاف التدهور العربي وفرملة ترويض الذهنية العربية.
في فلسطين، وعلى خلفية هذه الانهيارات والإخفاقات والتي طالت أيضًا أوساط اليسار والتيار الديمقراطي، نهضت حركة فلسطينية، ذات أيدلوجية دينية إسلامية، تحركت من خانة الدعوة لأسلمة المجتمع، إلى خانة النضال ضد الاحتلال تحت ضغط حركات المقاومة الوطنية-العلمانية. وتحولت منذ الانتفاضة الأولى – انتفاضة الحجارة إلى عنصر أساسي في المقاومة الشعبية وحظيت بالاعتراف الفصائلي والشعبي. طـُويت صفحة الاتهامات (وهي صحيحة) التي كانت توجه إليها، باعتبار أن الاحتلال غضّ النظر عنها، بل سمح لها بأن تنمو وتكبر منذ نهاية السبعينيات لتواجه حركة فتح، كبرى فصائل المقاومة، بل رائدة المقاومة، وبقية فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت ترى فيها إسرائيل منظمة إرهابية، يعاقب من يتعامل معها بالسجن أو القتل أو الملاحقة. بل كل من كان يُضبط وهو يرسم اختصارها بالإنجليزية PLO على الجدران، كان يتعرض للسجن. وللمفارقة، إن من علامات المشهد الراهن، أن هذه المنظمة التي كانت تقضّ مضاجع إسرائيل والصهيونية - وبعد اتفاقية أوسلو- تحولت إلى منظمة معترف بها إسرائيليًا ودوليًا، بعد أن تمّ إفراغها من مضمونها الكفاحي والأخلاقي. وقد شطبت بنود أساسية من الميثاق الوطني، ميثاق منظمة التحرير، في المؤتمر الـ22 للمجلس الوطني في قطاع غزة، بحضور الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون عام1996 وأصبحت أداة في يد سلطة الحكم الذاتي. أما حركة حماس، المتهمة بتشجيع إسرائيل لها أيام العمل الدعوي المعزول عن مقاومة الاحتلال، فقد أخذت مكان منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المقاتلة. وأصبحت العدو اللدود لإسرائيل التي قتلت واغتالت العشرات من قادتها في العقدين الأخيرين.
لم يأت ظهور حركة المقاومة الإسلامية إلى ساحة الصدام مع المشروع الكولونيالي الصهيوني من فراغ. فقد شهدت الحركة الوطنية الفلسطينية تجليات أو مراحل ثلاثًا منذ الخمسينيات؛ القومية العربية (حركة القوميين العرب) التي ارتبطت رؤيتها بالتحالف مع طلائع الأمة العربية، باعتبار أن قضية فلسطين هي قضيّة عربيّة والصراع هو عربي-صهيوني، وليس فلسطيني- صهيوني. والشكل الثاني، الوطنية الفلسطينية بقيادة حركة فتح وبقية منظمات المقاومة، التي أخذت زمام المبادرة من الأنظمة العربية خاصة بعد فشلها في تحقيق التحرير. الشكل الثالث، الوطنية الدينية-الإسلامية بقيادة حركة حماس. ويلاحظ دارسو المسيرة الفلسطينية أن الفارق الزمني بين هذه التجليات أو التمظهرات للوطنية الفلسطينية هو عشرون عامًا، وأن كل مرحلة من هذه المراحل تعود إلى إخفاق المرحلة السابقة في تحقيق الهدف. كما أنهم لاحظوا أن كل طرف كان يبدأ بالهدف الأقصى – تحرير فلسطين – ثم ينتهي إلى دولة في الضفة والقطاع.
كانت اتفاقية أوسلو عام 1993 تعبيرًا عن أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية والطريق المسدود التي وصلت إليه، لظروف دولية وعربية بائسة ولأسباب ذاتية تتعلق بكيفية إدارة الثورة والمقاومة. وتمثلت هذه الظروف في انهيار الاتحاد السوفييتي والعدوان الأمريكي-الأوروبي على العراق (بالتعاون مع أنظمة عربية)، وتفاقم أزمة النظام العربي الرسمي الى الحضيض. وعلى عكس تطلعات الموقعين على الاتفاقية من الفلسطينيين، فقد أكّدت الفترة اللاحقة الأهداف الحقيقية لإسرائيل ألا وهي تثبيت المشروع الكولونيالي في الضفة والقدس، وتصفية القضية الفلسطينية وجوهرها – قضية اللاجئين. كما كشفت في الوقت ذاته عدم نضج النخب الفلسطينية الموافقة والمؤيدة لاتفاقية أوسلو، وعدم أهليتها لإنتاج نظام سياسي مختلف عن الأنظمة العربية – سواء من ناحية بناء المؤسسات أو من ناحية التعامل مع قضايا الناس. وقد كان إعادة إنتاج نظام عربي فاسد على جزء من أرض فلسطين، أحد دوافع النقمة الشعبية على السلطة وتفجير الانتفاضة الثانية. تجلت نتائج اتفاق أوسلو أمام الناس، في كون القيادة أخفقت في تحرير الأرض وفي إقامة نظام سياسي عصري. وقد تكونت شرائح منتفعة في السلطة واتسعت دائرة الأوساط المرتبطة بها، والتي أصبح لها ارتباطات مصلحية مع الاحتلال. كل ذلك قاد إلى خلق وعي مصلحي داخل السلطة، لدرجة أن بعض رموز هذه الأوساط، خططت وظلت تتآمر على الرئيس ياسر عرفات، حتى بعد ارتكابه خطأ أو خطيئة أوسلو، بسبب رفضه العروض الأمريكية وبسبب استمرار تمسكه بورقة المقاومة، إلى جانب تمسكه بورقة المفاوضات. وهذا الفرق هو هام بين عرفات وبين القيادة التي خلفته بضغط أمريكي، والتي يتسم نهجها برفض خوض الصراع ضد الاحتلال، والاكتفاء بالتفاوض العبثي، الذي تحول إلى تمارين فكرية مع قادة الاحتلال. لقد عوقب الشهيد ياسر عرفات بالاغتيال بالسمّ، بسبب هذا الفرق على مستوى التعامل مع إسرائيل.
المعارضة الفعلية لاتفاقية أوسلو
لقد عارضت معظم الفصائل الفلسطينية اتفاقية أوسلو، وعارضتها شخصيات تاريخية داخل حركة فتح. ورفضت المشاركة في الانتخابات للمجلس التشريعي عام 1994. ولكن المعارضة الفعلية صدرت عن حركة حماس. وقد لجأت الحركة إلى العمليات الانتحارية بعد مذبحة الحرم الإبراهيمي، وهي العمليات التي أثارت جدلاً على الساحة الفلسطينية حول توقيتها وجدواها، خاصة بعد أن تصاعدت في السنوات اللاحقة وبعد تصاعد وحشية المحتل. وقد جوبهت المعارضة الحمساوية وعملياتها ضد إسرائيل قبل انفجار الانتفاضة الثانية، بملاحقة من السلطة الفلسطينية وزج العديد من قادتها في السجون، عملاً بروح اتفاقية أوسلو التي تنصّلت من العنف، أي المقاومة، كوسيلة لتحقيق الأهداف الفلسطينية. ولكن ياسر عرفات استطاع أن يحافظ على مستوى من العلاقة مع قيادة حماس، ولم يسعَ إلى كسر شوكتها. ربما كان يحتاجها للضغط على إسرائيل من أجل دفعها لتنفيذ بنود اتفاقية أوسلو.
غير أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية وطابعها المسلح وعدم الاستعداد لها مسبقًا، وغياب الإستراتيجية الواضحة، الميدانية والسياسية – أدخلت الساحة الفلسطينية والعلاقة مع الاحتلال إلى حالة جديدة. لا شك أن العمليات داخل إسرائيل ألحقت بها أضرارًا بشرية ومادية غير مسبوقة، خاصة في السنوات الثلاث الأولى بعد الـعام 2000. ولكن الردّ الإسرائيلي كان قاسيًا وغير متناسب، مما دفع البعض إلى نقدها من زاوية الجدوى، والبعض الآخر من الزاوية الإنسانية.
ويمكن القول إن الانتفاضة الثانية، أعادت الاعتبار للسلطة الفلسطينية بقيادة الشهيد ياسر عرفات – إذ أعادت صورة الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة وخاصة حركة فتح، حزب السلطة، التي بدت للخارج قبل ذلك كمتعاونة مع الاحتلال ووكيل له، إلى صورة حركة تجابه الاحتلال ودباباته وجنوده وتقدم التضحيات الهائلة بالأرواح، بطريقة بطولية في بقعة جغرافية صغيرة. وقد زُجّ الآلاف من حركة فتح في السجون الإسرائيلية، إلى جانب المناضلين من الفصائل الفلسطينية الأخرى كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي اغتالت إسرائيل أمينها العام الشهيد أبو علي مصطفى بصاروخ طائرة.
ولكن غياب الإستراتيجية الفلسطينية الموحدة، وغياب التوافق والتنسيق داخل الحركة الوطنية، خاصة بين السلطة وحماس أضاع فرصا كبيرة وتاريخية لاستثمار الانتفاضة بصورة أفضل. إن الدخول في عملية كسر عظم مع الاحتلال كان خاطئًا. أولاً لأنه لا يجوز أن يظهر الفلسطينيون وكأنهم دولة يجابهون دولة، وثانيًا كان من الخطأ تحييد الجماهير الشعبية عن المقاومة، فاقتصرت المقاومة على أفراد فدائيين ضحوا بأنفسهم نيابة عن جموع الشعب. وهذا ساعد الاحتلال على استئصال غالبية القيادات من مختلف الدرجات، إما بالاغتيال أو بالاعتقال.
حركة المقاومة الإسلامية والمأزق الراهن
لم تنمُ حركة حماس إلا على خلفية الإخفاقات لمنظمة التحرير، والتيار الوطني القومي عمومًا. وقد اكتسبت شعبيتها لأسباب أهمها: عملها الدعوي والاجتماعي والتحاقها بالمقاومة ضد الاحتلال، وكونها لم تكن مشاركة في السلطة التي غرقت بالفساد. وبغض النظر عن الموافقة أو الاختلاف على أيديولوجيتها، وعلى تكتيكاتها، فإن نموّ قوّتها وفعاليتها فرمل عملية التطبيع مع الاحتلال، التي كانت تتخذ مسارًا تصاعديًا. ولكن حماس نشأت كحركة دينية، وخارج الوطنية الفلسطينية التقليدية المعروفة بمفاهيمها، ومفرداتها السياسية والمدنيّة. كان الجهاد ببعده الإسلامي-الأممي، هو الطاغي على خطابها. وكانت تتعامل مع فلسطين بلغة دينية – كوقف إسلامي وغيره.
لقد بدأت حماس تغيّر من مقاربتها لهذا الاختلاف، أو التمايز بينها وبين الحركة الوطنية الفلسطينية منذ أوائل التسعينيات. إذ لم تعد قادرة على تجاهل الوطنية الفلسطينية ومفرداتها، والتجربة الفلسطينية التاريخية، ولاحقًا شعرت أنها كمقاومة تدفع الثمن الكبير، وهي غير مشاركة في القرار الفلسطيني الرسمي. فكان لسان حالها يقول نحن نستشهد وهم، أي السلطة، يستحوذون على القرار.
يتجاهل البعض أن حماس، مرّت بتحولات على مستوى الخطاب السياسي في العقد الأخير، وأصبحت أكثر براغماتية. وأصبحت تعتمد مصطلحات سياسية مدنية – وقد يكون قبول فكرة الدولة في الضفة والقطاع المعلم الرئيسي لهذا التحول، بغض النظر عن كيفية وصفه – تراجعًا أو عقلانية. جرى ذلك ربما، لأسباب تتعلق بطبيعة نهج حركة الإخوان المعروف ببراغماتيته المفرطة أحيانًا، أو تحت ضغط الواقع وحاجات الناس اليومية، ومؤخرًا تكيفًا مع الظروف الدولية، ومتطلبات إدارة الصراع مع الاحتلال ومواجهة المجتمع الدولي (أمريكا وأوروبا).
ولكن المأزق الكبير الذي دخلته حماس، هو قبولها دخول السلطة؛ والأمر الذي يتناقض مع حركة مقاومة؛ فكيف يمكن التوفيق بين سلطة ومقاومة عسكرية – خاصة وأن هذه السلطة مرتبطة باتفاقات أوسلو مع إسرائيل! ولذلك هناك من يرى أن ذلك كان خطأً فادحًا من جانب حماس، وكان عليها أن تكتفي بالدخول إلى المجلس التشريعي، وتظل معارضة تراقب أداء السلطة. ولكن تبين أن الفوز كان مفاجئًا لها، ولم تكن مهيأة للدخول إلى نظام سياسي، كانت تشكك فيه وتناصبه العداء وتعتبره من إفرازات أوسلو.
ونظرًا لعدم الاعتراف الدولي (الغربي) بنتائج الانتخابات، ومن جانب الاحتلال، والحصار الذي فـُرض على حكومة حماس. وبعد مفاوضات سياسية مع قيادات حركة فتح، حول كيفية تشكيل الحكومة وحول برنامجها السياسي، والمحاولات التي جرت بضغط من الخارج، لإجبارها على الاعتراف بإسرائيل وبالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، أدركت حماس المأزق الذي أدخلت نفسها فيه، إذ أنها اضطرت أن تقدم تنازلات سياسية (اتفاق مكة) لتبقى في السلطة.
وهنا من الخطأ أن يُعرض مأزق حماس، وكأنه نابع فقط من كونها تريد أن تكون في السلطة، وأن برنامجها المقاوم ليس إلا وسيلة للوصول إلى هذه السلطة.. وكما قال أحد قيادات حركة فتح؛ "ان حماس كانت أسرع من فتح في مسيرة التدهور على المستوى السياسي وعلى مستوى إدارة الحكم".
إن الموضوعية تقتضي، أن نرى أن الخلاف بين حركة المقاومة حماس مع قيادة السلطة الفلسطينية، ليس فقط أيديولوجيا وإستراتيجيا بل أيضًا تكتيكيا ومبدئيا، يلتقي مع الخلاف بين موقف فصائل يسارية في منظمة التحرير الفلسطينية، وموقف ونهج السلطة الفلسطينية المتعلق بطريقة التفاوض وإدارة الصراع مع إسرائيل. بطبيعة الحال هذا لا يعني أن الصراع المسلح، الذي خاضته حركة حماس ضد إسرائيل، كان يخضع لإستراتيجية سليمة ولترشيد، يأخذ بالحسبان ميزان القوى وتوقع حجم الردّ الإسرائيلي على نوع معين من العمليات، خاصة تلك الموجهة للمدنيين. ولكن المشكلة الأكبر هي لدى السلطة الفلسطينية، برئيسها وفريقه المساعد والموجّه، والتي بدت وكأنها أخذت قرارًا إستراتيجيا بالانسحاب من الصراع.. ليس بشكله المسلح فحسب، بل حتى في شكله الشعبي السلمي – على نمط الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي انفجرت في أواخر عام 1987. والأخطر هو استمرار تعاونها وتنسيقها الأمني المنهجي مع قوات الاحتلال لفرض ا"لأمن" في الضفة الغربية، أي قمع المقاومة. وهذا ليس خطأ بل خطيئة.
ومع تصاعد حدة الخلاف الداخلي داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، وبعد حصول الحسم العسكري في قطاع غزة وهو خطأ إستراتيجي، ازداد التدخل الخارجي، وبشكل خاص الأمريكي الذي كان يهدف إلى إغواء القيادات الفلسطينية بالتشبث بالسلطة وبالمفاوضات، وبنفس الوقت بقبول إعادة بناء الأجهزة الأمنية للحفاظ على الأمن الداخلي والأمن الإسرائيلي، وقمع كل من يعكـّر صفو هذا الأمن. كل ذلك مقابل وعود أمريكية بالضغط على إسرائيل، ولإقامة الدولة الفلسطينية التي لم تحدد ماهيتها أو حدودها أو فضاؤها.
الخيارات والبدائل الأخرى
من الواضح أن خيار التسوية والمفاوضات في ظل ميزان القوى الحالي، والمجرد من ورقة المقاومة أو من أي خيار سياسي آخر، وصل إلى طريق مسدود. وقد فاقم هذا المأزق أو جعله أكثر وضوحًا، وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في إسرائيل بزعامة بنيامين نتانياهو عام 2009. كما أن خيار المقاومة أو خيار الجمع بين المقاومة والسلطة، أيضًا وصل إلى طريق مسدود بسبب غياب الإستراتيجية الموحدة.
إذًا، إذا تتبعنا مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ انطلاقها، نرى التدرج في التراجعات المستمرة، من شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر وعودة اللاجئين، إلى الدولة العلمانية الديمقراطية على كل فلسطين، إلى الدولة المرحلية عام 1974، إلى حل الدولتين أو "دولتين لشعبين" (وهو يختلف عن حل الدولة المرحلية كونه يعني الاعتراف بإسرائيل وضمنًا بيهوديتها)، إلى سلطة الحكم الذاتي – حسب اتفاقية أوسلو الذي اعترف بإسرائيل وضمنًا بيهوديتها، والآن سلطة في قطاع غزة وسلطة في رام الله – كيانان فلسطينيان متنازعان على سلطة تحت الاحتلال.
ولا بدّ أن نرى التراجع الآخر المرافق؛ تحول قضية فلسطين من قضية عربية باعتبار أنها بلد عربي محتل يقتضي تحريره، إلى قضية نزاع على حدود، ومن قضية صراع عربي – صهيوني إلى قضية صراع فلسطيني إسرائيلي. ومن الاستعانة والاستناد إلى الدعم العربي الشعبي والرسمي وقوى التحرر والديمقراطية في العالم، إلى الاستعانة والتعويل على ما يسمى بالمجتمع الدولي – والأصح على حليف إسرائيل الرئيسي – الإمبريالية الأمريكية. والأسوأ تحول سلطة أوسلو، وهذه نتيجة منطقية لهذا المسار، إلى سلطة يعتمد بقاؤها ووجودها على معونات الدول المانحة أو على التسوّل، وعلى خضوعها لشروط لعبة هذه الدول القائمة المستندة إلى ميزان القوى القائم، كمرجعية للمفاوضات الجارية منذ أوسلو. وهي مرجعية بديلة عن القرارات الدولية، التي نصت على أن الإحتلال عام 67 والمستوطنات، غير شرعي.
هذا المسار التفاوضي منذ أوسلو، يجري اسميًا تحت شعار "الدولتان"، وبعضهم يُحبّ أن يقول "دولتين لشعبين" مع كل ما يعني ذلك من تكريس للطابع العنصري لإسرائيل، واستثناء أكثر من نصف الشعب الفلسطيني من الحل – وهم اللاجئون وعرب 48.
فما هو مصير شعار الدولة المرحلية، أو شعار "الدولتين" أو شعار "دولتين لشعبين"، بعد عشرين عامًا من التفاوض على هذا الخيار؟ وهل أصلاً كان هذا الخيار صحيحًا؟ وهل عدم تحققه كان فقط لعدم صحته أو واقعيته، أم لأنه افتقد إستراتيجية العمل الملائمة؟
ربما كانت هذه الصيغة واقعية قبل عقود، أو على أثر احتلال إسرائيل للضفة والقطاع، لو كان هناك تخطيط سليم لإستراتيجيات النضال. ولكن الوقائع الاستيطانية الضخمة التي تسارعت على الأرض دون توقف، تجعل هذا الحل يبدو اليوم أمام الكثيرين غير واقعي، حتى لدى بعض من تبنوا حل الدولتين. بل يظهر أنه لا يقل طوباوية عن حل الدولة الواحدة.
إن النخبة الفلسطينية التي أدارت المفاوضات أو قادت هذا المسار، لم تدرك حقيقة المشروع الإسرائيلي أو الحل الصهيوني النهائي. ففي الوقت الذي كانت إسرائيل تفاوض الفلسطينيين على الحل، كانت إسرائيل تصوغ حلاً آخر كليًا على الأرض، ينسجم مع الرؤية الصهيونية مع تعديلات غير جوهرية عليها. إن اتفاقية أوسلو بالنسبة لإسرائيل لم تكن مؤقتة كما كانت بالنسبة لقيادة منظمة التحرير. لقد كانت هي الحل النهائي. وإلا لماذا تواصل الاستيطان وتضاعف في السنوات الخمس الأولى بعدها؟
وما يجري على الأرض، هو الحل النهائي الصهيوني – تثبيت الكتل الاستيطانية الكبيرة، وتهويد القدس، وإقامة معازل، والجدار العنصري الفاصل لفرض القبول بصيغة تتراوح بين حكم ذاتي ودولة منقوصة السيادة ومجزأة ومقطعة الأوصال – باختصار ليست دولة.
إن الرؤية الصهيونية تقوم على أساس أن كل فلسطين هي أرض يهودية، والمشكلة التي تحتاج إلى حلّ هي الكم العربي فيها، الذي يمكن بفضل تكاثره أن يخلق أو يؤدي إلى حالة من الاختلال الديمغرافي، الذي من شأنه الإطاحة بالطابع اليهودي للدولة.. وربما بالدولة كلها. طبعًا عودة اللاجئين إلى الدولة غير واردة إطلاقًا.
إن مشكلة منح المواطنة أو عدم منحها للسكان الفلسطينيين الباقين في المناطق المحتلة عام 67، هي المعضلة التي تسعى إسرائيل إلى حلها منذ اتفاقية أوسلو. الأمر الذي يجعل الحكم الذاتي الموسّع، هو الشكل الأقصى لسلطة فلسطينية في إطار دولة يهودية تسيطر على كل فلسطين – ما دام الفصل مستحيلاً بسبب الاستيطان.
هكذا أصبحت الدولة الفلسطينية الافتراضية جزءًا من جسم الدولة اليهودية، ويمكن القول إن هذه الدولة ابتلعتها وقطعتها في أمعائها.
هذه النتيجة المأساوية هي التي أسست لطرح فكرة الدولة الواحدة مجددًا، وبالتحديد ثنائية القومية عند عدد من المثقفين الأكاديميين اليهود ممن كانوا يعتبرون يسارا صهيونيا. ودولة ديمقراطية علمانية وأيضًا ثنائية القومية عند أوساط أكاديمية ومثقفة فلسطينية.
إذن إن فكرة الدولة الواحدة على اختلاف مضامينها أو طبيعتها؛ ثنائية القومية، أو دولة ديمقراطية علمانية تقوم على المواطنة الفردية أو دولة كونفدرالية، تعود بقوة وبصورة منهجية إلى طاولة النقاش الأكاديمي بشكل خاص، ولا نقول إلى ساحة النضال. وبدأ التعامل مع الفكرة من جانب الفئات المثقفة يتخذ شكلاً جديًا، من حيث التحليل والدخول في المبررات والتسويغات، وفي المضامين أيضًا وكيفية تحقيقها.
ويُمكن ملاحظة التحول المتزايد بين النشطاء اليهود (إسرائيليون وغير إسرائيليين)، باتجاه الحديث عن مستقبل مختلف للفلسطينيين واليهود: دولة ديمقراطية واحدة للجميع.
فالكاتب اليهودي المعروف والمحاضر في جامعة نيويورك، توني جات، عبّر عن هذا التحول في مقال أثار ضجة وهجمة عنيفة من جانب مناصري اسرائيل واللوبي الصهيوني، متهمين إياه بكراهية الذات وذلك في صحيفة نيويورك تايمز، عام 2003. جاء فيه "لقد حان الوقت للتفكير فيما لم يكن بالإمكان التفكير به" وأضاف: "نحن نقوم بتأجيل الخيار الأصعب الحتمي، فقط، أقصى اليمين وأقصى اليسار يعترفان، أن الخيار هو بين إسرائيل الكبرى المطهرة عرقيًا أو دولة واحدة للجميع". واعتبر أن إسرائيل تقادم عليها الزمن.
أما الناشط اليساري حاييم هنغبي، الذي أيّد إتفاقية أوسلو وتراجع عنها بعد سقوط الأوهام؛ واليوم يؤيّد دولة واحدة يقول:
"بدل أن يؤدي الصراع إلى خلق نظام أخلاقي وتفكير عقلاني، فقد جعلهم (أي الإسرائيليين) مدمنين على استعمال القوة، ولكن هذه القوة استنفدت نفسها. إذا استمرت اسرائيل كدولة كولونيالية فلن تعيش. في نهاية المطاف فإن المنطقة ستكون أقوى منها، وفي النهاية سيكون أصحاب الأرض الأصليون أقوى من إسرائيل. أولئك الذين يعيشون بالسيف سيموتون بالسيف".
وهناك الأسماء المعروفة، المؤيدة لهذه الفكرة، أستاذ الجامعة يهودا شنهاف، تل أبيب، ألان بابي الذي ترك الحزب الشيوعي الإسرائيلي ورؤيته للحلّ، وهو الأستاذ المطرود من جامعة حيفا بسبب مواقفه الجريئة، د. أمنون راز، أورن يفتحئيل، من جامعة بئر السبع، ميرون بنفنستي، نائب رئيس بلدية القدس في سنوات الثمانينيات، وحاييم بريشيت من جامعة لندن والعشرات غيرهم. غير أن هذه الفكرة لا تزال محصورة بين نخبة، ولا يوجد هناك حتى الآن تيار يهودي إسرائيلي وازن
ما هو مصدر فكرة الدولة الواحدة
من أين يستمد المنادون بصيغة الدولة الواحدة موقفهم؟ ومن أين يأتي هذا الدفع المتزايد لهذه الصيغة التي كاد يطويها النسيان والتآكل، تحت الضغوط والسياسات الاستعمارية التي تمارس ضد أصحاب القضية، بهدف الحفاظ على الصهيونية كرأس حربة لمشروع الهيمنة وتكريس تجزئة المنطقة العربية؟
للفكرة أو لصيغة الدولة الواحدة خلفية تاريخية وأخلاقية، باعتبار أن فلسطين كانت دولة عربية قبل الغزو الاستعماري والصهيوني للمنطقة. وظل العنصر العربي هو الغالب على فلسطين حتى عشية النكبة، أي قبل تنفيذ جريمة الطرد الجماعي.
وقد كان مطلب الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة منذ العشرينيات من القرن الماضي، يتمثل في تحرير فلسطين من الاستعمار البريطاني ومقاومة تحويل فلسطين إلى دولة يهودية صهيونية. وكان يعني تحرير فلسطين إقامة دولة فلسطينية، على غرار دول سوريا ولبنان والعراق والأردن وغيرها من الدول العربية (وهي نتاج التجزئة الاستعمارية). وبالتالي فإن كل السكان على تنوع انتماءاتهم الدينية والإثنية هم مواطنون في هذه الدولة. لم يُطرح آنذاك مضمون الدولة، على اعتبار أن الواقع الديمغرافي اليهودي لم يكن كبيرًا.
غير أن الواقع الديمغرافي اليهودي الذي أفرزه المشروع الكولونيالي الصهيوني-الغربي، بعد عقود من الاستيطان والهجرة اليهودية، أصبح من الصعب تجاهله أو التعامل معه بأسلوب الاقتلاع. ومع نهوض وتطور الحركة الفلسطينية بعد النكبة، تنظيميًا وسياسيًا وفكريًا، طُرحت فكرة الدولة الديمقراطية العلمانية ذات البعد الإنساني، ليعيش الجميع بمساواة تامة. وإن ظلت شعاراً غير واضحٍ.
كما أنه في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ومع تصاعد الصراع الدامي في فلسطين، ظهرت أصوات يهودية – صهيونية تنادي بالدولة الواحدة – حرصًا على الوجود اليهودي في فلسطين. مثل، رئيس الجامعة العبرية يهودا ماغنس، والمفكر مارتن بوبر، وحانا أرنديت، وغيرهم. والذين جميعهم توقعوا النتائج الكارثية لإقامة دولة يهودية، وتوقعوا استمرار الصراع مع الفلسطينيين والعرب.
وفي داخل إسرائيل، ومنذ سنوات الستينيات تبنت هذه الصيغة وإن بمضامين مختلفة، حركة يهودية-عربية يسارية-اشتراكية هي ماتسبين (الشرارة). أما بين الفلسطينيين في إسرائيل فقد تبنت حركة أبناء البلد التي ظهرت عام 1969 شعار منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، ألا وهو شعار الدولة العلمانية الديمقراطية، وظلت تنادي به حتى بعد أن قامت المنظمة بتبني الحلّ المرحلي وقد لاقت من الملاحقة السياسية والاعتقالات ما لم تلاقه أي حركة سياسية أخرى داخل الخط الأخضر. وذلك على مدار السبعينيات والثمانينيات. ولكن هذه الحركة التي لعبت دورًا هامًا، في الحركة الطلابية الفلسطينية في الجامعات الإسرائيلية، لم تتمكن من التحول إلى حركة سياسية جماهيرية لأسباب شتى، وكانت نقطة التحول في تاريخها، هو مبادرتها ومشاركتها ومساهمتها بصورة رئيسية في تأسيس تيار وطني ديمقراطي (التجمع) يقوم على برنامج ينادي بتحويل إسرائيل إلى دولة المواطنين وإلغاء طابعها الصهيوني، وفي استكمال بلورته كمشروع اعتراضي على المشروع الصهيوني. ومن أجل النضال في سبيل الحقوق المدنية والقومية لعرب الداخل.
ولكن جزءًا من أعضاء الحركة، حركة أبناء البلد، انسحبوا من التجمع بعد أشهر قليلة من انطلاقته لأسباب تنظيمية وظلوا، وما زالوا، يرفعون الشعار التاريخي. وقد تراجعت مجموعتهم بشكل حاد خاصة بعد انقسامهم إلى مجموعتين. مع ذلك فإن هناك حاجة للتعاون والتنسيق وتطوير العلاقة بين جميع أبناء الحركة الوطنية والتيار القومي بصورة عامة.
النموذج الملهم – جنوب أفريقيا
تستمد فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، من مصادر عدة؛ تاريخية خاصة بفلسطين كما ذكرنا آنفًا، ولكن منذ أواخر التسعينيات أصبح النموذج الجنوب أفريقي، المتمثل بإسقاط نظام الأبرتهايد عبر مواجهته بنظام أخلاقي وإنساني بديل عام 1994، النموذج المهلم للعديد ممن يناضلون ضد العنصرية والاحتلال الكولونيالي في العالم.
خاض الأفريقيون نضالهم، ببرنامج واضح، بعزم وإصرار على تحقيق مشروعهم، الذي اعتبره الكثيرون طوباويًا وغير قابل للتحقيق حتى اللحظات الأخيرة من انهياره.
لم يقم النموذج الإفريقي على الانفصال أو التقسيم، بل اختار الجنوب أفريقيون (السود) منذ البداية، النموذج الديمقراطي في وطن واحد وعلى أساس المواطنة الفردية المتساوية الكاملة one man one vote .
يجادل البعض في أن الحالة الجنوب أفريقية، تختلف اختلافًا جوهريًا عن حالة الصراع في فلسطين. ناهيك عن رفض الصهاينة هذه المقارنة جملة وتفصيلاً، بل يُجنّ جنونهم عند سماع هذه المقارنة. ولكن في قرارة نفسهم يعرفون أوجه الشبه الكبيرة، ويدركون الخطورة المترتبة على عقد المقارنة والانتقال إلى خطوات فعلية.
ينطلق الصهاينة في رفضهم لمشروع الدولة من عقيدتهم، أنهم عادوا إلى أرض لهم، ليجدّدوا مشروعهم أو نهضتهم "المنقرضة" قبل ألفي عامل. ما معناه أنهم ليسوا حركة استعمارية، بل "حركة تحررية تنويرية". وهي نفس الرسالة تقريبًا التي ادعاها جميع المستعمرين. الحركة الصهيونية هي حركة استعمارية عنصرية، والدليل أيضًا أن قادتها الأوائل فكروا بغزو بلاد غير فلسطين، مثل الأرجنتين وأوغندا. صحيح أن من دوافع هجرة اليهود إلى فلسطين، تمثلت في الملاحقة والعنصرية الأوروبية التي عانى منها اليهود في أوروبا الشرقية، وخاصة في روسيا القيصرية ووصلت ذروة العداء لهم، بارتكاب مذابح يندى لها الجبين في ألمانيا النازية. وأن فكرة القومية الصهيونية جاءت في سياق ما عرف بربيع الشعوب، أي حقبة تشكل القوميات والدول الوطنية في أوروبا في القرن التاسع عشر. ولكن المطـّلعين يقرّون أن ممارسات الحركة الصهيونية في فلسطين، هي من أسوأ أشكال الاستعمار، وهي أسوأ بكثير من نظام الأبارتهايد العنصري البائد في جنوب أفريقيا. لأن النظام الصهيوني في فلسطين قام نظريًا وفعليًا على الاستئصال، استئصال السكان الأصليين. وكان ذلك حتميًا، لأنه لم يكن بالإمكان إقامة دولة يهودية في بلد عربي يسكنه أكثر من 95% عرب – فلسطينيون، بدون تنفيذ جريمة أو جرائم استمرت حتى بعد الإعلان عن إقامة إسرائيل.
إذًا كان الصهاينة مسلحين منذ البداية بنظرية وأيديولوجية استعمارية وعرقية. أرادوا دولة يهودية، وشرعوا بتنفيذها فور قدومهم إلى البلاد تحت حماية الاستعمار البريطاني. وعندما تمكنوا وبنوا "الجدار الحديدي" (القوة العسكرية)، الذي تحدث عنه زعيم التيار التنقيحي في الحركة الصهيونية، زئيف جابتنسكي، في مقالة نشرت عام 1928، نفذوا مشروعهم بالحديد والنار ومن خلال طرد أكثر من نصف الشعب الفلسطيني.
أما في جنوب أفريقيا، فإن نظام الفصل العنصري تطور في مجرى السيطرة وبالتدريج، ولم يكن في برنامجه استئصال سكان البلاد الأصليين، إنما الفصل والاعتماد عليهم واستغلالهم كقوة عمل رخيصة. نفذ النظام العنصري عملية إخلاء للسود، من مكان إلى مكان ومن مدينة إلى أخرى، وأيضًا نظام عزل منهجي ولكن كل ذلك حصل داخل الوطن.
***
يتذرع الرافضون لتبني النموذج الجنوب أفريقي، ويبررون سهولة سقوط نظام الأبارتهايد بالعوامل التالية:
أولاً: افتقار نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا للعنصر التراجيدي أو الدرامي الذي استفادت منه الصهيونية- المقصود؛ المحرقة النازية وعقدة مطاردة اليهود، بما معناه أن هذا النظام افتقر إلى تعاطف لوبي كاللوبي الصهيوني في أمريكا الذي يستطيع التأثير في السياسة الخارجية لدول أمريكا وأوروبا.
ثانيًا: لم يكن لدى البيض ثقافة الشعب المختار، على الرغم من السياسة العنصرية التي مارسوها على مدى قرون، وعلى الرغم من المحاولات الفاشلة من جانب رجال دين، لإضفاء الشرعية الدينية على نظام الأبارتهايد.
في حين أن الصهيونية تقوم جزئيًا على فكرة الدين اليهودي – شعب الله المختار – إلا أنها علمنت (من علمانية) هذه الفكرة، لإضفاء طابع تنويري على وجودها في "منطقة متخلفة" أي المنطقة العربية التي سيجلبون لها الحضارة.
ثالثًا: لم تطالب غالبية السكان (السود) في جنوب أفريقيا، بالانفصال عنها كدولة وإقامة دولة أخرى، كما لم تطالب بطرد الأقلية البيضاء، فقد كانت المعركة ضد الفصل العنصري.
رابعًا: موقع اسرائيل في إستراتيجية الهيمنة على المنطقة العربية والشرق الأوسط، وكون إسرائيل رأس الحربة في التحالف الغربي وفي هذا المشروع. في حين أن الدعم لجنوب أفريقيا كان يُستخدم أثناء الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي وحلفائه، الذين وقفوا وساندوا الـ ANC –المؤتمر الوطني الإفريقي - في نضاله ضد النظام العنصري. وعندما سقط الاتحاد السوفييتي، لم يعد بإمكان أمريكا ودول الغرب تحمل الإحراج الناجم عن دعم نظام عنصري، وبعد أن توارى "العدو" في الشرق، أمام الرأي العام العالمي، وعندما أصبحت مصالحهم المادية تتعرض للخطر، توقف الدعم تحت ضربات الحصار وحملات المقاطعة الواسعة ضد النظام.
لقد حسم حزب ANC، والعديد من فصائل المقاومة في مؤتمر 1955، قراره باتجاه خيار الدولة الواحدة كبديل عن تقسيم البلاد بين البيض والسود. وذلك عبر التوقيع وتبنّي ميثاق الحرية، الذي يؤكد على المساواة بين جميع أفراد الوطن، بغض النظر عن انتمائهم الإثني أو الديني. وظل المؤتمر وحلفاؤه منسجمين مع هذا التوجه الأخلاقي والمبدئي، حتى سقوط النظام العنصري عام 1994.
صحيح أن حزب المؤتمر قدّم تنازلات ليست قليلة، أي بدل الإصرار على مطلب حكم الأكثرية السوداء، وافق على تقاسم السلطة مع البيض مع أنهم يشكلون 18% من عموم سكان جنوب أفريقيا، وأن مراكز الاقتصاد الأساسية لا تزال بيد البيض – لأسباب تاريخية وسياسية، الأمر الذي يعتبره الكثيرون أبارتهايد اقتصاديًا، الذي قد يقود إلى ثورة اجتماعية في يوم ما، تقودها الطبقات العاملة والمهمشة نظرًا لتوسع الهوّة الطبقيّة داخل المجتمع الواحد. ولكن التجربة الجنوب أفريقية، لم تمرّ بهذه التقلبات (أو بما يُسمى شعارات المرحلة) التي مرّت بها التجربة الفلسطينية.
وبغض النظر عن أوجه اختلاف هامة، بين طبيعة وواقع الصراع والتحالفات الدولية بخصوص جنوب أفريقيا، وطبيعة وواقع الصراع والتحالفات المتصلة بالصراع العربي – الصهيوني، فإن فكرة الدولة الواحدة المشتركة على أساس المواطنة المتساوية، وone man one vote هي الصيغة الأكثر تأثيرًا في الرأي العام العالمي، الذي تجنّد لإسقاط النظام عبر فرض الحصار والمقاطعة، وسحب الاستثمارات الخارجية في إطار حركة مقاطعة منظمة عالمية، التي تغذت من معين النضال المحلي المنظم والجسور؛ والمتنوع الوسائل؛ من الكفاح المسلح، إلى الإضرابات والمظاهرات، والعصيان المدني الذي شاركت فيه كافة قطاعات الشعب ومنظماته السياسية والمهنية والمدنية. لقد وصل الوضع بنظام الحكم العنصري إلى نقطة لم يعد قادرًا على الحكم.
أسباب براغماتية
أما على المستوى البراغماتي، فإن البعض الذي يناقش في ضرورة هجر فكرة الدولتين، ينطلق من الوقائع المادية التي فرضتها إسرائيل، وأنه لم يبق مكان لدولة فلسطينية ذات سيادة. ولأن إسرائيل تريد أن تحتفظ بالسيطرة الفعلية على كامل فلسطين – وأن يكون الكيان الفلسطيني – الذي تريده تحت سيطرتها. إسرائيل لا تريد الانسحاب الكامل من الضفة والقدس، وبطبيعة الحال ترفض عودة اللاجئين، ولا تريد أن يتحول الكيان الإسرائيلي العنصري، الذي يبسط سيطرته على كامل الوطن الفلسطيني إلى دولة ديمقراطية، دولة مواطنين لا دولة اليهود.
من هنا ينطلق منطق الداعين إلى تحويل النضال، من النضال الوطني التحريري إلى نضال تحرري ديمقراطي – تتحول البلاد إلى وطن لملايين اليهود الإسرائيليين والعرب كمواطنين متساوين، أو إلى وطن لمجموعتين سكانيتين متمايزتين؛ الشعب الفلسطيني والمجتمع اليهودي الإسرائيلي. إن هذه الفكرة تشبه الفكرة الأخلاقية التي وجهت المؤتمر الوطني الأفريقي على طول الطريق. وهي التي حظيت بدفع وسند شعبي عالمي، بالأساس غربي، لأن المجتمعات الغربية التي تعلن عن نفسها دولاً ديمقراطية، من المفترض أن تجد نفسها منسجمة تمامًا مع هذا التوجه. هذا فضلاً عن كونها تشكل عامل إحراج وضغط على الدولة العبرية.. وتجعلها ضعيفة في الدفاع عن مشروعها العنصري، أو رفضها المشروع الديمقراطي.
ومن هنا جاءت أقوال أولمرت (عام 2004) في معرض دفاعه عن خطة الانفصال، عن قطاع غزة التي قادها شارون:
"لا يوجد وقت غير محدود لدينا. المزيد من الفلسطينيين لم يعودوا معنيين بحل الدولتين. إنهم يريدون تغيير جوهر الصراع من النموذج الجزائري إلى النموذج الجنوب أفريقي، من النضال ضد الاحتلال إلى النضال من أجل دولة واحدة. هذا بالطبع نضال أنظف بدرجة كبيرة. بالنسبة لنا هذه نهاية للدولة اليهودية".
إن خوف أولمرت وجزء كبير من النخبة الإسرائيلية، نابع من الانفضاح الكامل لنظام الأبارتهايد الصهيوني، في الضفة والقدس، والذي بدأ ينتقل إلى داخل الخط الأخضر منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية. لم يعد سهلاً تسويق إسرائيل كدولة التنوير في الشرق الأوسط. فكيف يطلق على نظام في جنوب أفريقيا يحتكر الامتيازات والحقوق وحق التصويت، اسم نظام فصل عنصري والذي تجنّد العالم كله من أجل إسقاطه، في حين أن نظامًا أسوأ منه، هو النظام الصهيوني في فلسطين يطلق عليه الديمقراطية الوحيدة في المنطقة؟
أيضًا لم تعد إسرائيل قادرة على إخفاء التناقض القائم بين يهوديتها وديمقراطيتها، وهي التي جاءت مبعوثة للغرب لنشر الأفكار الديمقراطية – طبعًا في سياق مشروع استعماري شامل للوطن العربي. هذا التناقض الذي استطاع أن يرفعه إلى السطح، حزب التجمع الوطني الديمقراطي من داخل إسرائيل، وينقله الى المواجهة المباشرة والصريحة مع الأيديولوجية الصهيونية، والنظام العنصري-الكولونيالي القائم. هكذا أعاد عرب الداخل، بقيادة قواهم القومية الديمقراطية وعبر أبرز قيادتهم، عزمي بشارة، كشف إسرائيل كدولة عنصرية كولونيالية، وأن مشروعها الاستيطاني الاحتلالي في الضفة والقطاع، هو جزء من بنية النظام الصهيوني الكولونيالي، وليس مجرد ترتيبات مؤقتة قامت بها إسرائيل لأغراض دفاعية.
إذن، هناك إصرار إسرائيلي على رفض خيار الدولة ذات السيادة الكاملة في الضفة والقطاع، ورفض الدولة الواحدة بطبيعة الحال، والسعي بدل ذلك، إلى وضع ترتيبات جديدة، مثل فك الارتباط، وتهويد القدس، وإقامة الجدار الفاصل، وتكريس الكتل الاستيطانية، وإقامة المعازل وذلك في إطار إستراتيجية يتبناها الائتلاف الحاكم في إسرائيل، تقود إلى دفع الفلسطينيين إلى الاستسلام والخضوع للمشروع الإسرائيلي الكولونيالي. وفي داخل الخط الأخضر، هناك التخطيط لتبادل سكاني مع سلطة الحكم الذاتي (في رام الله)، واتخاذ إجراءات أخرى لتقليل عدد السكان العرب داخل إسرائيل، وتمرير القوانين العنصرية السافرة، ومخططات فرض قانون الولاء على المواطنين العرب، وغيرها من الإجراءات والممارسات التي تهدف إلى تكريس الطابع الإثني العنصري للدولة العبرية، وبالتالي تكريس الامتيازات اليهودية.
وهنا يطرح السؤال، إذا كان هذا هو الواقع الراهن، وفي ظل فشل إحراز أي تقدم بخصوص حلّ الدولة في الضفة والقطاع، رغم تواضع هذا الهدف وبالرغم من مرور 20 عامًا من المفاوضات والمؤتمرات والندوات.
وإذا كان الأمر على هذا النحو بالنسبة لصيغة الدولتين، وبما أنه لا يظهر في الأفق إمكانية لإخلاء نصف مليون مستوطن من الضفة والقدس الشرقية، والانسحاب إلى حدود الـ 67، ولا يوجد طرف دولي (أمريكي-أوروبي) على استعداد للضغط الفعلي على إسرائيل، لتنفيذ هذه الخطوة المتواضعة جدًا (حتى بدون حق العودة)، فلماذا لا يجري البدء بالتفكير في طرح خيارات أخرى، تحمل وزنًا ومضامين أكثر أخلاقية وعدالة، كخيار الدولة الواحدة. ليس من باب أنها أكثر واقعية، بل لأنها أولاً أكثر عدالة وثانيًا لأن هذه الصيغة وهو الأهم، أكثر تأثيرًا في الرأي العام العالمي؟
إن الداعين إلى صيغة الدولة الواحدة، يستندون في الجانب العملي إلى التجربة الجنوب أفريقية، بحيث يعتقدون أنه عبر الضغط الخارجي، وعبر تبني فكرة المواطنة المتساوية، واتباع ذلك ببرنامج عمل في الداخل والخارج، يصبح بالإمكان إسقاط نظام الأبارتهايد الصهيوني في فلسطين / إسرائيل.. بغض النظر عن المدة الزمنية. والتي ليست بالضرورة أن تكون أطول من مدة العمل من أجل دولة في الضفة والقطاع، وذلك عبر مراحل متعددة ومتدرجة. وذلك كبديل عن وهم التعلق بوهم الدولتين، الذي يوقع أفدح الخسائر البشرية والمادية والمعاناة، والتي تحدث تحت غطاء المفاوضات والتلهي بما يُسمى "عملية السلام".
وبكلمات أخرى، طالما مرّ هذا الزمن الطويل على عملية التفاوض على حل الدولتين، وأصبح غالب الجهد المبذول بهذا الاتجاه ليس فقط مضيعة للوقت، بل وصفة لاستمرار الحروب، والسلب والقمع. فلماذا لا يجري تحويل المسار، وبذل الجهود في رسم إستراتيجية بعيدة المدى، دولة واحدة، أو صيغة إسقاط النظام العنصري الإسرائيلي.
إن هذه الإستراتيجية أكثر ديمقراطية، لأنها لا تستثني أحدًا. فهي تشمل اللاجئين وفلسطينيي الـ48، والضفة والقطاع، وتشمل اليهود الإسرائيليين. يستطيع الجميع، وفق هذه الصيغة، أن يكونوا تحت سقف سياسي واحد، كفاحي واحد – سقف المساواة المدنية والقومية الكاملة.
ليست الدولة الواحدة مطروحة للتفاوض، ولا يمكن أن تكون جزءا مما يسمى بالعملية السلمية؛ ويجب الأخذ بالاعتبار أن الصعاب الكبيرة التي تقف أمام هذه الصيغة كبيرة؛ منها الانقسام الفلسطيني والارتهان الاقتصادي والسياسي بالدول المانحة، الإجماع الدولي، الوضع العربي والإقليمي، والمجتمع الإسرائيلي، وموقف حماس من الدولة الديمقراطية الواحدة.
هذه المعطيات وأهمها واقع الحركة الوطنية المتشظي، لا تسمح بسهولة بإحداث نقلة إستراتيجية في التوجه الرسمي الفلسطيني. ولكن هل يبقى المعنيّون بخيارات بديلة رهائن للموقف الفلسطيني الرسمي أو شبه الرسمي وأيضًا للموقف الدولي-الرسمي، الذي لا يهمه سوى أن تبقى عجلة العملية تدور بدون "سلام"؟ ألا يحق لهم، بل ألا يجب عليهم، أن يُصعدوا من نشاطهم النظري والعملي باتجاه بلورة البديل؟
"دولة كل مواطنيها" و "الدولة الديمقراطية الواحدة" هل يوجد رابط؟
هل يوجد رابط بين شعار "دولة المواطنين"، المقتصر على إسرائيل، والدولة الديمقراطية الواحدة التي تشمل كل فلسطين؟ وهل الشعاران أو الصيغتان متطابقتان؟
الجواب على الأول، نعم. أما الثاني فلا.
إن الصيغة الأولى، تحويل إسرائيل إلى دولة كل مواطنيها مع إلغاء الطابع الصهيوني، وضمان حق العودة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على كل أراضي 67، تنفتح نظريًا على أفق الدولة الواحدة، باعتبار أن دولة المواطنين تنهي البنية العنصرية والكولونيالية لدولة إسرائيل، وتفتح الباب للبحث عن حل مشترك في إطار سياسي ديمقراطي واحد.
إن هذه الصيغة تبلورت على يد نخبة فلسطينية داخل الخط الأخضر، في ظروف ما بعد اتفاق أوسلو الذي كرّس قبول دولة إسرائيل كدولة يهودية ضمنًا.
وكان هذا الاتفاق يعني بالنسبة لجزء أساسي من الشعب الفلسطيني، هم فلسطينيو الـ48، تكريس موقعهم الدوني وأسرلتهم وإخراجهم من دائرة الحل، وطمس حقوقهم القومية والجماعية، والحدّ من دورهم في النضال الوطني الديمقراطي (في إطار المشروع الفلسطيني الشامل).
ليس خافيًا أن بعض مؤسسي حزب التجمع وعزمي بشارة، وكاتب هذه الورقة، ظلوا محتفظين على المستوى الفردي بفكرة الدولة الواحدة سواء ثنائية القومية، أو الدولة الديمقراطية الواحدة. ولكن الظرف السياسي الدولي والإقليمي والمحلي الذي هيّأ لتأسيس التجمع، وظروف المواطنة الإسرائيلية المفروضة ومستلزماتها على صعيد الحياة اليومية (المدنيّة)، اقتضى اجتراح صيغة دولة المواطنين تفاديًا لصدام مع الإجماع الفلسطيني والإقليمي والدولي حول صيغة الدولتين. وهي صيغة ديمقراطية وإنسانية تشمل حلاً للعرب واليهود وتحمل في طياتها بعدًا استراتيجيًا، أو حلاً استراتيجيًا للصراع. إضافة إلى ذلك، كان الهدف من هذه الصيغة تزويد عرب الداخل بأدوات ومفاهيم نضالية جديدة (سياسية وفكرية في الأساس)، هي متقدمة نوعيًا عما سبقها أو على ما كان معتمدًا – مثل شعار الاندماج والمساواة الذي لم يكن معرفًا ومحددًا، والذي كرّس الأسرلة.
ارتبط شعار دولة المواطنين بإعادة تنظيم الحركة الوطنية الفلسطينية والداخل، أو التيار القومي – الوطني أي ربط هوية الفلسطينيين في الداخل، وتطلعاتهم القومية والمدنية (الديمقراطية) بتطلعات بقية أجزاء شعبهم الفلسطيني.
لا شك أن بعض المفاهيم والمفردات التي اعتمدها التجمع تنطوي على تناقضات، كونه حركة قومية ووطنية تعمل في ظروف المواطنة الإسرائيلية، وهذا جزء من الواقع المركب، ولكن المضامين الكامنة في هذه المفاهيم تنطوي على إمكانية إستراتيجية تسمح باعتراض المشروع الصهيوني وفضحه، عبر كشف تناقضاته وطرح حل ديمقراطي وإنساني للمسألة اليهودية أيضًا في البلاد.
وهذا بالضبط ما يفسّر حجم العداء والملاحقة ضد حزب التجمع وقيادته منذ تأسيسه، والمحاولات المستمرة لشطبه والتخفيف من نفوذه على ساحة عرب الداخل.
نعتقد أن هذا الشعار لا يتطابق لغويًا مع شعار الدولة الواحدة، ورغم تناقضاته الظاهرة لا يزال يحمل الكثير من عناصر القوة لصالح التيار القومي الديمقراطي في نضاله ضد الصهيونية (لأنه يصرّ على المساواة الكاملة وحق اللاجئين في العودة) ومن أجل الحقوق القومية والمدنية. وهو يلائم خصوصية عرب الداخل في الظروف الراهنة، وهذا ما تراه أيضًا أوساط فلسطينية واسعة وقومية عربية، التي أصبحت تتفهم وتهضم هذه التجربة السياسية والفكرية التي اختطها حزب التجمع. لا بدّ من الإشارة إلى أن طرح دولة المواطنين المدرج في برنامج التجمع الرسمي، أبقى الباب مفتوحًا بشكل غير مباشر للدولة الواحدة، وبرنامج الحزب الرسمي اشتمل على إشارة ضمنية الى هذا الخيار بشكل مقصود.
إن التحول الجاري في المشروع الإسرائيلي الكولونيالي، نحو نظام فصل عنصري سافر، والآخذ في الزحف إلى داخل إسرائيل – من خلال القوانين العنصرية الجديدة، والممارسات العدائية والتوجهات الرسمية، بتنفيذ ترانسفير سياسي لجزء من عرب الداخل وفرض الولاء عليهم، كوسيلة لتجريدهم من حقوقهم المدنية، وللحيلولة دون تطورهم إلى مجموعة قومية مرتبطة مع شعبها وأمتها، ودون تمكنهم من لعب دور ديمقراطي فاعل ومُنسق في مواجهة النظام الصهيوني، في ضوء ذلك يصبح من الواجب التفكير في خيارات أخرى. ليس المقصود أن يقوم التجمع فورًا بتغيير برنامجه، بل المقصود المبادرة إلى تطوير النقاش بخصوص هذا الخيار، وأن نكون مشاركين مع الأوساط الفلسطينية واليهودية والأجنبية المساندة للحق الفلسطيني، ليس من باب الترف الفكري، بل من باب المسؤولية والرؤية الأخلاقية للحل، والاستعداد لمرحلة نضوج شروط التحول الفعلي نحو بدائل إستراتيجية.
خلاصة:
طالما أن صيغة الدولة المرحلية في الضفة والقطاع تتعرض لتآكل (مخطـّط)، بسبب تغلغل المشروع الكولونيالي الإسرائيلي في قلب الضفة الغربية والقدس وبتواطؤ دولي (أمريكي في الأساس)، ومن ناحية أخرى، طالما أن صيغة الدولة الواحدة، لا تزال تظهر كفكرة طوباوية ومحصورة في النخبة، رغم ازدياد الاهتمام بها، يُصبح القاسم المشترك بين الأوساط الباحثة عن العدالة، أو العدالة النسبية هو ضرورة إسقاط النظام الكولونيالي العنصري في الضفة والقطاع، وإنهاء نظام التمييز العنصري في إسرائيل وتحقيق المساواة التامة للفلسطينيين في إسرائيل، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، باعتبارهم كانوا مواطنين في وطنهم فلسطين قبل التهجير.
وهذا يمكن أن يُطرح، تحت سقف إسقاط نظام الأبارتهايد الإسرائيلي (في فلسطين) أو منظومة السيطرة الكولونيالية الصهيونية، وتحقيق العدالة والإنصاف للشعب الفلسطيني، وضمان حلّ إنساني للمسألة اليهودية في البلاد.
ومن شروط المضيّ في الترويج لهذا المشروع تطوير التعبئة السياسية والفكرية، وأيضًا التهيئة التنظيمية (العمل نحو حركة ديمقراطية تشمل كل المنادين بالدولة الواحدة)، وتصعيد حملة تعرية هذا النظام محليًا ودوليًا وعربيًا.
بناءً على ما تقدم، ونظرًا لمجمل المعيقات الآنية والإستراتيجية، السياسية والأيديولوجية والعملية، التي تقف أمام كل الخيارات؛ سواء حل "الدولتين" أو حلّ الدولة الواحدة.. إذ أنه ليس أيّ منهما سهل أو أسهل من الآخر. فإنه يُفضّل ألا يوضع الخياران في مواجهة بعضهما الآخر، خلال عملية التحوّل أو خلال تطوير فكرة الدولة الواحدة. لا شك أن شعار "دولتين لشعبين"، هو شعار متناقض مع شعار الدولة الواحدة، لأن الأول يكرس اللامساواة وغياب الديمقراطية والكولونيالية، ولأنه يظلم الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني، عرب الـ48 واللاجئين، ويكرس حالة العداء الدموي بين الشعب الفلسطيني والمجتمع الإسرائيلي اليهودي.
أما حلّ الدولة المرحلي، المقرّ من منظمة التحرير عام 1974 وإن لم يعد كذلك في ممارسة التيار المركزي في الحركة الوطنية الفلسطينية (فريق أوسلو)، وكونه يرتبط بحق تقرير المصير وبحلّ الدولة الواحدة، وبحق عودة اللاجئين، فإنه يمكن النظر إليه، ولو نظريًا وتعبويًا باعتباره مرحلة من مراحل النضال من أجل دولة واحدة.
وبما أن فكرة الدولة الواحدة، رغم اكتسابها زخمًا جديدًا ولو في الأطر الأكاديمية وبعض أوساط المجتمع المدني، لا تزال في بداياتها ولم تتبلور بعد كمشروع سياسي – تنظيمي، فإنه يتعيّن على الداعين للفكرة الأخذ بعين الاعتبار جميع هذه المعطيات.
الأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي
25.06.2009
موقع ودور فلسطينيي الـ48 في الصراع
هل هم عبء أم كنز استراتيجي؟
يمكن القول إن نجم فلسطينيي (1948) لمع بشكل قوي وعلى نطاق واسع، في الأيام الأربعة الأولى من شهر أكتوبر عام 2000. كانت تلك الأيام مشهودة في تاريخ هذا الجزء من شعب فلسطين، خاصة وأنها كانت أشبه بامتداد مباشر للانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت في الـ28 من أيلول. فالأصداء التي انبعثت من المواجهات الشعبية العارمة، التي دارت بين قوات القمع الإسرائيلية ومئات آلاف المواطنين العرب، في شوارع وأزقة مدن وقرى الجليل والمثلث والنقب والساحل، كادت تطغى على أصوات القذائف والصواريخ، التي كانت تطلقها إسرائيل من الطائرات والدبابات، لوأد الانتفاضة الفلسطينية التي انفجرت قبل ذلك بيومين، في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، أي في المنطقة التي كان من المفترض أن يقوم عليها كيان فلسطيني وفقًا لاتفاقية أوسلو. كانت درجة الحدّة والشمولية والاتساع، التي اتسمت بها هذه المظاهرات غير المسبوقة، تُثير الذهول والمفاجأة ليس فقط لدى حكام الدولة العبرية، بل لدى المنتفضين الفلسطينيين، المواطنون في إسرائيل أنفسهم الذين أعادوا اكتشاف ذاتهم.
أطلقت قوات القمع الإسرائيلي الرصاص الحي على مواطنين عرب يحملون المواطنة الإسرائيلية، وبأوامر من القيادات العليا، ومن رئيس حكومة إسرائيل آنذاك إيهود باراك تحديدًا. وكان لافتًا استعمال القناصة لاستهداف قادة المظاهرات من الشباب الصغار، الذين كانوا يتصدرون المواجهات.
لقد تم التعامل مع المواطنين العرب كجزء من "العدو الفلسطيني"، الذي كان ينتفض ببطولة معهودة وراء "الخط الأخضر" في أراضي الضفة والقطاع ضد المحتل الإسرائيلي ومشروعه الكولونيالي.
اعتبر المراقبون أن السلوك الإسرائيلي العنيف، جاء ردًا على تحقق مخاوف المؤسسة الإسرائيلية القديمة، من نمو "الخطر العربي الفلسطيني في الداخل" – ويتمثل هذا الخطر في النمو الديموغرافي، ونمو الوعي السياسي في أوساط هذا الجزء من الشعب الفلسطيني.
ومن يومها تواتر انشغال الدولة العبرية عبر المؤسسات البحثية والأمنية والسياسية، بهذا "الخطر" وفي كيفية احتوائه أو القضاء عليه. فاستعيدت السياسات والمفردات التي اعتمدت في الخمسينيات والستينيات في ظل الحكم العسكري، الذي فرض عليهم بين عام 1948 وعام 1966. وهي الفترة التي عرفت مفاهيم مثل "طابور خامس" و "خطر أمني" وغيرها من المفاهيم، التي تدلل على النيّة الإسرائيلية المبيّتة ضد 1.2 مليون فلسطيني.
إن الغضب الشعبي العارم الذي تفجّر داخل الخط الأخضر، والذي قتل فيه 13 شابًا عربيًا، وجرح المئات، ناهيك عن أعداد هائلة من المعتقلين، كان مدفوعًا بعاملين؛ العامل المحلي أي الظلم اللاحق بهم على المستوى اليومي – من نهب لأراضيهم ومحاصرة قراهم وتحويلها إلى أحياء فقر، واعتداء على تاريخهم وهويتهم، والثاني هو العامل الوطني العام، أي شعورهم بالانتماء إلى شعب رأوه يُقمع بوحشية على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
يمكن القول إن الهبة الشعبية العارمة بين فلسطينيي الـ1948، أجهزت على مخططات إسرائيل الهادفة إلى خلق أجيال فلسطينية خانعة، منفصمة عن انتمائها الحضاري والوطني، وموالية لدولة إسرائيل. وهذا بطبيعة الحال أمر نسبي، أي أن الحديث يدور عن أغلبية هذا الجزء من الشعب الفلسطيني وليس كله.
شكل هذا التطور النوعي صدمة للأجهزة الإسرائيلية الرسمية، الأمنية والسياسية، مع أن أوساطًا منها كانت تحذر باستمرار من إمكانية انفجار من هذا النوع. والآن جميع هذه المؤسسات تخشى من تكرار هذا السيناريو بصورة أشد وأعنف من سابقه. ولكن إسرائيل تعيش حالة إنكار ورفض الاعتراف بالجذر الحقيقي للمشكلة، وبالتالي رفض الحلول العادلة. ولذلك هي تعود إلى نفس السياسة القديمة-سياسة الاحتواء وسياسة المراقبة والملاحقة، بل إلى اعتماد وسائل وإجراءات قمعية وعنصرية أشدّ كسنّ القوانين العنصرية السافرة المتتالية، ومواصلة السطو على ما تبقى من أراض وأملاك لعرب الداخل. هذا إضافة إلى الجهر علنًا بإمكانية تنفيذ خيار الترانسفير لجزء منهم.
باختصار، لم تؤدّ هبة القدس والأقصى التي عمّقت ورسّخت الهويّة الوطنيّة لفلسطينيي الداخل إلى تغيير إيجابي في العقلية الإسرائيلية تجاههم، وبطبيعة الحال تجاه الشعب الفلسطيني عمومًا، فقد ازداد العداء وتفاقم. ولا يبدو نهاية له في الأفق، لا على مستوى النخب ولا على مستوى الشارع، بل يبدو وكأن إسرائيل تسابق الزمن لتفادي إمكانية تحول "الخطر العربي الداخلي"، إلى تهديد حقيقي لمبنى الدولة اليهودية – أي لامتيازات الأغلبية اليهودية التي هي حصيلة نهب وطن بأكمله.
وبالمفهوم الصهيوني، فإن التهديد بإسقاط الامتيازات اليهودية، يندرج ضمن مفهوم الأمن - أمن الدولة اليهودية، التي يجب أن تبقى دولة اليهود في جميع أنحاء العالم، أي أن تبقى دولة عنصرية كولونيالية، تحتكر الأرض والفضاء العام وتستعبد أصحاب الأرض الأصليين. هكذا يصبح مطلب المساواة الكاملة داخل إسرائيل، مسألة أمنية استنادًا إلى الأيديولوجية الصهيونية، التي تنفي المساواة مع الآخرين من ذوي الديانات والإثنيات والقوميات الأخرى.
لكن الإنجاز الأهم الذي حققته الهبة الشعبية داخل الخط الأخضر، هو الإنجاز المعنوي-الثقافي-الأخلاقي، ألا وهو استعادة الإنسان الفلسطيني (حامل المواطنة الإسرائيلية) ثقته بنفسه ولوعيه بالجماعة-بالانتماء، ليس فقط لشعب فلسطين بل لعموم الأمة العربية، وبالتالي استعادته بالإحساس بالقوة وبقدرته على النضال والبدء بالتفكير بطرح خيارات خارج المواطنة (الصهيونية) التي شكلتها قيادة الدولة العبرية، وفرضتها عنوة على أصحاب الأرض الأصليين. وهذا الإنجاز، أو التطوّر، سيؤتي أكله في مرحلة لاحقة بطبيعة الحال. ما معناه أن صمود فلسطينيي الداخل على أرضهم وتمسّكهم بهويّتهم ومواقفهم وعدم خضوعهم لحملات التـّرهيب والملاحقة سيُجبر في نهاية المطاف أوساطـًا في النخب الإسرائيلية إلى الاعتراف بالأمر الواقع، خاصة وأنهم دخلوا في وعي واهتمام العديد من الدوائر الدولية الرسمية وغير الرسمية التي بدأت تمارس الضغط على حكومات إسرائيل لتغيير سياساتها تجاههم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هذا التبلور في الهويّة الوطنيّة سيقود إلى اعتماد إستراتيجيات بناء ذاتية وإلى الاندماج أكثر في النضال الوطني والديمقراطي العام الذي يخوضه شعب فلسطين ضد المشروع الكولونيالي الإسرائيلي. كل ذلك يتم ضمن تحوّلات حتميّة في البيئة العربية المحيطة التي تشهد ثورات ضد الاستبداد والدكتاتورية والتخلف، وضد التبعيّة والهيمنة الأجنبيّة، وهو ما تخشاه إسرائيل.
طبعًا هبة القدس والأقصى ليست المواجهة الأولى لعرب الداخل، بل سبقها، عام 1976 تحديدًا، هبة عارمة ليوم واحد، سقط فيها الشهداء والجرحى وشكلت آنذاك محطة نوعية أولى في تاريخ فلسطينيي الداخل.
وتبع هبة يوم الأرض مواجهات عديدة، على خلفية مصادرات الأراضي وهدم البيوت، ورافقها ظهور تشكيلات أهلية وحزبية وطلابية وهيئات قطرية تمثيلية، عبرت بأشكال متفاوتة عن تطورات المجتمع العربي وعن طموحه في الحياة الحرة الكريمة. كما شهدت هذه الفترة تراجعًا حادًا في نسبة التصويت بين العرب للأحزاب الصهيونية، التي كانت تستعمل الرشوات والابتزاز والترهيب في حالة الحزب الحاكم (المباي)، خاصة في فترة الحكم العسكري في الخمسينيات والستينيات، ومؤخرًا تزداد نسبة العزوف عن التصويت في انتخابات الكنيست بشكل عام، تعبيرًا عن عدم ثقتهم بالنظام الإسرائيلي برمته.
تحديات أمام فلسطينيي الـ48
بعد 64 عامًا من العيش في ظل الدولة الإسرائيلية وفي ظل غياب انتصار عربي، وفي ظل نظام سيطرة وتمييز وإقصاء من جهة، ونظام احتواء وتدجين من جهة أخرى، يقف 1.2 مليون فلسطيني أمام تحديات كبيرة. والتحدي الأهم هو كيف يؤطـّرون كل الإنجازات التي تحققت حتى الآن، في بُنى سياسية وطنية جامعة تستمد شرعيتها من جمهورها العربي الفلسطيني، وتكون مؤهلة لقيادة هذا الجمهور نحو التطور الطبيعي المادي-الثقافي-السياسي كمجموعة قومية متماسكة وكجزء من شعب. وكيف يمكن تقليص التشوهات الثقافية والسلوكية والأخلاقية، التي طالتها شرائح معينة من هذا المجتمع إلى أقصى حدّ. والتحدّي الآخر هو كيف يجترحون الصيغة الأنسب لتعزيز علاقتهم، ومساهمتهم في تجديد المشروع الوطني الفلسطيني.
لقد تجاوز الفلسطينيون في إسرائيل، منذ فترة طويلة حاجز الخوف والشعور بالدونية أمام الإسرائيلي. فقد حققوا إنجازات تعليمية وثقافية ومادية لا بأس بها، تجلّى ذلك كله في وعي متزايد بأنهم جزء من شعب وأمة واحدة، أو "أقلية قومية" يحق لأفرادها حقوق مدنية وقومية. وقد وسعوا بتطورهم هذا، العددي والسياسي – الثقافي، الدائرة التي رسمتها لهم الدولة العبرية منذ البداية. وهي تقوم بين الحين والآخر بمحاولة لتضييق هذه الدائرة. وهي عادت إلى بعض سياساتها القديمة؛ سياسة التفرقة الطائفية والسياسية. ففي إطار سياسة التفرقة هناك قيادات أو أحزاب معتدلة وهناك أحزاب متطرفة. مثلاً شخصت الأجهزة الأمنية بعد عام 2000 التجمع الوطني الديمقراطي والحركة الإسلامية الشمالية كحزبين متطرفين. وأصدر جهاز المخابرات الاسرائيلية بيانًا، في الأيام الأولى لهبة القدس والأقصى، وهو أمر غير مألوف، أن الحزبين مسؤولان عن المواجهات، ثم بعد أقل من ساعتين، صدر بيان آخر يحصر المسؤولية بقيادات وكوادر التجمع الذين "شوهدوا في مقدمة المظاهرات". واستدعي أمام لجنة التحقيق مسؤولين من الحزب؛ رئيس الحزب عزمي بشارة، وأمين عام الحزب عوض عبد الفتاح، لساعات طويلة على مدار ثلاثة أيام، في حين دعي من الحركة الإسلامية الشيخ رائد صلاح، ومن الحركة الإسلامية الجنوبية، عضو الكنيست السابق عبد المالك دهامشة. الحديث يدور عن لجنة التحقيق (أور) التي عينها رئيس حكومة إسرائيل آنذاك إيهود باراك تحت ضغط الهيئات القيادية العربية في الداخل. ويُذكر أن هذه اللجنة حمّلت المسؤولية عن المواجهات للطرفين؛ الحكومة الإسرائيلية والقيادات العربية، مما أثار غضب الشارع العربي الذي يعتبر أن المسؤولية كلها تقع على كاهل الدولة العبرية وليس على قادة الأحزاب الذين قاموا بواجبهم الوطني والأخلاقي إلى جانب شعبهم في مواجهة النظام الصهيوني الوحشي.
وقد مارست ضد التجمع والحركة الإسلامية على مدار العقد الأخير، سلسلة من الإجراءات القمعية التي تهدف إلى عزل المؤيدين عنهما، وإضعافهما عبر تصويرهما كحزبين متطرفين ويضران بمصالح المواطنين العرب، ووصل الأمر بالمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، إلى حبك مؤامرة ضد قائد الحزب السابق، عزمي بشارة اضطرته إلى اختيار المنفى. وتعرض الحزب لمحاولة شطبه انتخابيًا عشية كل دورة، وغيرها من الممارسات كالتحقيقات المستمرة مع كوادر وشبيبة الحزب.
وقد ارتفع منسوب الاستنفار لدى المؤسسة الإسرائيلية "للخطر العربي"، بعد تحول الخطاب السياسي الذي طرحه التجمع "دولة المواطنين" وإلغاء الطابع اليهودي الصهيوني للدولة العبرية، إلى خطاب شبه رسمي لدى عرب الداخل، وبعد أن تعمقت المشاعر الوطنية ومشاعر العداء للأيديولوجية الصهيونية وتعبيراتها العنصرية والكولونيالية. مع أن بعض القوى "العربية الإسرائيلية" المتمثلة في الكنيست تتعامل مع هذا الخطاب لفظيًا وبصورة سطحية. ولكنه تحول على الأقل إلى خطاب الأغلبية الساحقة من الطبقة الأكاديمية والمثقفة العربية داخل الخط الأخضر. وكان عبّر عن هذا الخوف رئيس الشاباك السابق، عامي أيالون في كتابه عام 2001، عندما طالب بتقديم عزمي بشارة وحزبه للمحاكمة، لأنهما "لا يعترفان بحق اليهود في دولة خاصة بهم". وفعلاً توالت الملاحقات السياسية والقضائية في السنوات التالية. وقال الخبير الأمني الذي أدلى بشهادة أثناء جلسة المحكمة، التي نظرت في قرار لجنة الكنيست شطب حزب التجمع، إن خطورة الحزب تتجلى في كون هذا الخطاب المعادي للطابع اليهودي لدولة إسرائيل، انتقل من الهامش إلى المركز – أي أنه أصبح خطابًا عامًا عند عرب الداخل. وقالت ممثلة نيابة الدولة، تاليا ساسون، أثناء جلسة المحكمة التي نظرت في طلب شطب قائمة التجمع، إن خطورة الحزب تكمن في كونه يطالب بالمساواة الكاملة. (قيل أنها أعلنت ندمها على هذا القول بعد استقالتها من عملها كممثل للنيابة لأنها تعتبر نفسها ليبرالية). هكذا شكل خطاب التجمع الوطني الديمقراطي، تحديًا وإحراجًا شديدين ليس فقط للمؤسسة الرسمية الإسرائيلية، بل أيضًا للنخب الليبرالية الصهيونية، التي اضطرت إلى الانشغال في هذا النقاش، حول التناقض بين القيم الليبرالية التي تحملها، ويهودية الدولة المتناقضة مع القيم الديمقراطية. وقد ترجمت هذه الفئات الأكاديمية الصهيونية-الليبرالية ارتباكها أمام خطاب التجمع إلى كراهية منقطعة النظير للحزب وبشكل خاص للدكتور عزمي بشارة. وهذه الدوائر تعرف أن الوقوف في وجه التجمع، أمام الدوائر والأوساط الغربية المدنية خاصة، أصعب من الوقوف أمام الحركة الإسلامية التي لا تطرح تحديًا ديمقراطيًا، ونظرًا لانتشار العداء للإسلام في الغرب. إذًا إظهار هذا التناقض الصارخ، الكامن في تعريف إسرائيل لنفسها كدولة يهودية-صهيونية، والمتجسد في ممارسة كولونيالية وعنصرية بحق الشعب الأصلي، هو سلاح أيديولوجي وإعلامي، ساهم ويساهم في تعرية نظام الأبارتهايد الإسرائيلي على طريق إسقاطه تمامًا.
الحاجة إلى تنظيم شامل
في غياب الحل السياسي الشامل، وفي ظل تفاقم سياسة العداء الممنهجة ضد "الأقلية الفلسطينية" داخل الخط الأخضر، وفي ظل ظهور مظاهر خطيرة داخل هذا المجتمع جراء هذه السياسة كالفقر والجنوح والعنف والتشرذم، والأخطر العجز عن وقف أو فرملة المخططات الإسرائيلية المتصاعدة، يزداد الوعي لدى غالبية قادة هذا المجتمع، بالحاجة إلى إعادة تنظيم ذاته على أساس قومي. لا يُعقل أن تجري كل هذه التحولات الاجتماعية-الثقافية-السياسية، دون أن تنعكس في بنى تنظيمية ومؤسسات تمثيلية منتخبة، ومؤسسات مهنية منبثقة عن مرجعية وطنية جامعة، تكون ثمرة عقد اجتماعي وميثاق عمل مشترك، بين مركبات الساحة السياسية والأهلية لهذه "الأقلية".
إن النجاح في هذه المهمة، يُمكن "الأقلية الفلسطينية" من تحصين ذاتها، من التفكك الداخلي وتحقيق جزء كبير من طموحات الأجيال الصاعدة، الباحثة عن هويتها وعن معنى لحياتها في العمل والدراسة. وأيضًا يمكنها من رفع مستوى نضالها الشعبي، ضد مخططات المصادرة والحصار الاستيطاني، والخنق الاقتصادي والتحكم بجهاز التعليم العربي. ومن ناحية ثانية تستطيع الأقلية عبر هذا التنظيم، تطوير مساهمتها المباشرة في النضال الوطني والديمقراطي الفلسطيني، من أجل التحرر والحرية والحياة الديمقراطية.
فلسطينيو الـ 48 وتغييبهم من الإستراتيجية الفلسطينية
اللافت للنظر أن غالبية الأوراق والاجتهادات الهامة، التي تصدر منذ تفاقم أزمة حركة التحرر الوطني الفلسطينية، والتي تحاول وضع تصورات للخروج من هذا المأزق، تـُغفل دور ومكانة هذا الجزء من شعب فلسطين في معادلة الصراع. في أحسن الأحوال تجري الإشارة إليه وإلى صموده على أرضه، وإلى سياسات التمييز الممارسة ضده بصورة عابرة. ومن الواضح أن هذا الجزء، لم يدخل بعد بصورة جدية في وعي النخب الفلسطينية، (أو الأدقّ غالبيتها) حتى الناقدة لنهج أوسلو، والداعية إلى حلّ جذري للصراع. هناك تمجيد لدور هذا الجزء باعتباره كتلة سياسية واحدة، وغالبًا لا يجري التمييز بين الأطروحات المختلفة، والتعبيرات السياسية الفاعلة على ساحة الـ 48، وبالتالي تحديد القوى التي تخوض صدامًا فعليًا مع الصهيونية، وتلتقي إستراتيجيًا مع نضال الشعب الفلسطيني ضد الصهيونية. فيجري وضع من لديه مشروع وطني متكامل، مع من هو متعاقد مع المؤسسة الإسرائيلية أو من يتبنى الاندماج، في سلة واحدة. وبين من يسعى ويثابر على العمل على تنظيم الفلسطينيين على أساس قومي، وبين من يواصل الإصرار على المراهنة على ما يسمى باليسار الإسرائيلي غير المحدد في الهوية والقيم، وعلى حساب حق الفلسطينيين وليس إلى جانب ذلك، في إعادة التنظيم وانتخاب قيادة أو مرجعية وطنية مباشرة من الناس.
لهذا الجزء من شعب فلسطين، عدد من مصادر القوة لصالح النضال الفلسطيني: الأوّل كونهم موجودين على أرضهم، وهم بذلك الشاهد الحيّ على النكبة وعلى الوجود التاريخي لشعب فلسطين في هذا الجزء من الوطن. والثاني يتمثّل في كونهم مواطنين يحملون المواطنة الإسرائيلية، وفي كونهم ناضلوا طيلة الوقت بالطرق السلمية، عبر المقاومة المدنية الشعبية والثقافية والقانونية، وجيّروا اللعبة السياسية في إسرائيل أو ما تُتيحه من حيّز ديمقراطي (ضيّق) لخدمة قضاياهم. وبالتالي هم يستطيعون إبراز الفجوة الشاسعة بين العرب والمستوطنين اليهود، مما يؤدي إلى المضيّ قدمًا في كشف التناقضات في بنية هذا الكيان. في تقويض الدعاية الصهيونية، حول ديمقراطية إسرائيل أو دحضها، مما يصُبّ في الحملة الفلسطينية الشعبية، وحملة المقاطعة العالمية ضد إسرائيل في العالم، وخاصة في دول الغرب.
إن الحركة الوطنية الفلسطينية، مطالبة اليوم بإيلاء الاهتمام الجدي بدور هذا الجزء من شعب فلسطين، مع الأخذ بعين الاعتبار ظروفه وخصوصية واقعه. وهناك مؤسسات بحثية فلسطينية من على جانبي الخط الأخضر – مثل مؤسسة الدراسات الفلسطينية (رام الله) ومؤسسة مدى (حيفا) وغيرها بدأت بمبادرات في هذا الاتجاه. ونطرح هذا الأمر اليوم على هذا النحو، لأن صيرورة الصراع الحالية، تتجه نحو توحّد هموم جميع تجمعات الشعب الفلسطيني. فالرفض الإسرائيلي لكل المبادرات الفلسطينية والعربية والدولية، والتي تنطوي على تنازلات كبيرة، وتطور العداء الإسرائيلي لعرب الداخل، يخلق ظرفا موضوعيا نحو التفاعل والتقارب تحت سقف واحد.
منذ الانتفاضة الثانية، تحول عرب الداخل إلى جزء من "العدو الفلسطيني" بشكل علني، في نظر الدولة العبرية. والتي تقوم بتشديد الخناق عليهم، وتخلق كل الظروف لمنع تطورهم الطبيعي وممارسة دورهم الطبيعي في النضال الفاعل ضد نظام الأبارتهايد الإسرائيلي. طبعًا هي تحاول أن تستميل بعض شرائحهم، وبعض ممثليهم وتُقسم القوى السياسية بين معتدل ومتطرف. وفعلاً هي تُميز بين ممثلي الجمهور العربي وهناك فعلاً من يلهث في محاولة لإثبات اعتداله أمام المؤسسة الاسرائيلية، وينبطح عند أقدامها، ولكنها لا تميّز على أرض الواقع بين مواطن عربي وآخر. فهي تمارس سياسة القهر والنهب والهدم ضد الجميع كشعب. واللافت أيضًا أن بعضًا من النخب الفلسطينية في السلطة بشكل عام وفي صفوف المعارضة بشكل خاص، لا تُميّز بين القوى السياسية المحلية خاصة طبقة السلطة، والتي في الحقيقة تعتبر قوى الاندماج داخل الخط الأخضر ممثلة لها. إما أنها لا ترى أو لا تريد أن ترى الفروقات.
بعد وصول حل الدولتين إلى طريق مسدود، واتساع النقاش حول خيارات أخرى، مثل خيار الدولة الواحدة، (الثنائية القومية، أو الدولة الديمقراطية العلمانية)، سيطرح السؤال، لماذا لا يتم الخوض تفصيليًا بدور عرب الداخل، في الصراع وفي النضال من أجل حل الدولة الواحدة وفي تجديد المشروع الوطني الفلسطيني؟
هذا لا يعني المطالبة فورًا بالتخلي عن مطلب الدولة المرحليّة في المناطق المحتلة عام 67. ولكن بموازاة ذلك يُنتظر من الأفراد والأطر والمنتديات، الذين ينشغلون بهذا الخيار وكيفية التقدم به، أن يشملوا دور عرب الداخل، في الإستراتيجية الوطنية البديلة، والخوض في خُصوصيتهم وتعقيدات وضعهم. إن إدراج هذا التجمع الفلسطيني الهام والدينامي، في إطار الجهد المبذول للخروج من المأزق الراهن، أصبح ضرورة وطنية وإستراتيجية وأخلاقية. إن القيام بذلك، يعني استعادة هذا الجزء من شعبنا كذخر إستراتيجي، في الكفاح التحرري الوطني والديمقراطي. مثلاً يستطيع كل ناشط فلسطيني، وليس فلسطينيو الـ 48 وحدهم، أن يُقارع إسرائيل سياسيًا وأيديولوجيًا في الساحة الدوليّة، من باب علاقتها بعرب الداخل، وأحيانًا يمكن أن يكون هذا أكثر نجاعة وتأثيرًا في الرأي العام العالمي من مهاجمة إسرائيل من باب سيطرتها على الضفة والقدس وقطاع غزة والجولان. فالاحتلال يُصوّر وكأنه حالة مؤقتة، ويأتي يوم ويجري إعادة ترتيب لهذه الحالة، ما معناه أن إسرائيل دولة طبيعية، أو ستكون كذلك عندما تتخلى عن احتلال الأراضي عام 67. ولكن إسرائيل لن تتوقف عن كونها دولة قهرية، وغير طبيعية لأن بنية هذا الكيان هي بنية كولونيالية وعنصرية في الأساس، ولأنها تواصل السيطرة والتمييز العنصري المنهجي، وإلحاق الأذى بـ 20% من مواطنيها، فقط لأنهم لا ينتمون إلى الأكثرية اليهودية. بكلمات أخرى يجب استعادة الخطاب بأن احتلال الضفة والقطاع، هو من الإفرازات الطبيعية لمنظومة السيطرة الصهيونية الكولونيالية القائمة.
تجدّد الحركة الوطنية في الداخل
لم تتوفر للحركة الوطنية الفلسطينية التي نهضت في المهجر كتعبير عن طموحات الشعب الفلسطيني في تحرير وطنه، إستراتيجية تجاه فلسطينيي الـ48. والحقيقة أنه لم تتوفر إستراتيجية حقيقية لمجمل النضال الفلسطيني. وموقف الحركة كان ولا يزال عامًا، يُختزل في دعم صمود وبقاء هذا الجزء معنويًا. فيما يتعلق بقضية بقائهم، فإنه لم تكن هناك خطوات سياسية فعلية مؤثرة، أو غيرها تدعم هذا الصمود. فالصمود والبقاء حصلا لأسباب ذاتية داخلية وموضوعية، أكثر منه لأسباب خارجية. حتى الدعم المالي القليل، الذي كان يُقدمه التيار المركزي في الحركة الوطنية الفلسطينية في الثمانينيات، كان أكثره يصبّ في خلق "الدكاكين"، وليس في تعزيز الحركة الوطنية ضمن رؤية إستراتيجية. أما نمو الوعي الوطني في الداخل، فقد كان مرتبطًا بتطور قوى وطنية وقومية داخلية، بقدر ما كان مرتبطًا بالتأثير المعنوي الناجم عن نهوض وتطور دور ومكانة حركة التحرر الوطني الفلسطيني، والاعتراف الدّولي بمنظمة التحرير الفلسطينية. يجب الإشارة إلى أنه رغم قطع التواصل المباشر لفلسطينيي الداخل، بعد النكبة حتى عام 1967 عن بقية الشعب الفلسطيني وعن العالم العربي، فقد ساهم نهوض الحركة القومية العربية، والناصرية تحديدًا في الخمسينيات والستينيات، وعبر إعلامها وخطابات عبد الناصر الحماسية، في الإبقاء على الترابط القومي الوجداني والعاطفي لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني. وكانت العلاقة المباشرة الوحيدة بين الحركة الوطنية في الخارج وفلسطينيي الـ48، تجري من خلال الأفراد الذين انتموا إلى فصائل الكفاح المسلح إما بتجنيد من الخارج أو بمبادرات فردية خاصة في الخمسينيات والستينيات. ورغم بطولة هؤلاء الأفراد وتضحياتهم، فإن هذه العلاقة لم تُجدِ وذلك بسبب غياب الإستراتيجية التي تأخذ بالاعتبار خصوصية هذا الجزء من شعبنا.
إن القفزة النوعية الثانية، (بعد الأولى المتمثلة في هبة يوم الأرض عام 1976) في مستوى الوعي الوطني، والتي نتجت عن هبة القدس والأقصى في أكتوبر 2000، جاءت أيضًا كرد فعل سياسي وأخلاقي على كارثة أوسلو، التي أسدلت الستار على قضية عرب الداخل كقضية وطنية. وكان إعادة بناء التيار الوطني الفلسطيني بمضمون قومي حديث وعموده الفقري حزب التجمع الوطني الديمقراطي عام 1995، بمثابة جواب غير متوقع، لا بالنسبة لمهندسي أوسلو الفلسطينيين ولا بالنسبة لإسرائيل. وكانت أوساط التيار المركزي الصهيوني بزعامة حزب العمل، تعتقد أن أي اتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية، سيحظى أوتوماتيكيًا بدعم المواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل، استنادًا إلى تقليد دعم حزب العمل الصهيوني من جانب شرائح واسعة من عرب الداخل خاصة خلال الخمسينيات والستينيات وحتى يوم الأرض عام 1976.
وكان هناك نهج داخل القيادة الفلسطينية المتنفذة، يسعى إلى دفع عرب الداخل إلى التصويت لحزب العمل، باعتباره أسهل في المفاوضات من الليكود. وجرى ذلك بصورة واضحة في دورة الانتخابات للكنيست عام 1992، وبالتعاون مع أسامة الباز مستشار الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك. غير أن التيار الوطني داخل الخط الأخضر، رفض ذلك لأنه أكد على أن للعرب الفلسطينيين داخل منطقة 48، قضية وطنية وحقوقًا وطنية، وأن التصويت للأحزاب الصهيونية، هو تخل عن هذه الحقوق وتقويض للهوية الوطنية، المطلوب بلورتها وتعزيزها في وجه الأسرلة والتدجين. وجاءت اتفاقات أوسلو التي استثنت فلسطينيي الـ48 لتحفز وتسرع الجهود، لإعادة بناء وتنظيم الحركة الوطنية الفلسطينية في الجليل والمثلث والنقب والساحل، عبر اجتراح صيغة سياسية فكرية حديثة، تجمع بين المواطنة المتساوية والهوية القومية. وهي صيغة جدّدت مسيرة مجابهة العنصرية الصهيونية، في وقت تخلى عنها – التيار الفلسطيني المركزي، وذلك عبر عقد صفقة معها). وتشكلت هذه الحركة الوطنيّة المتجددة المشكلة من حركة أبناء البلد، والحركة التقدمية، وبقايا حركة الأرض، والأوساط التي استقالت من الحزب الشيوعي، لأسباب قومية وديمقراطية وفي مقدمتهم عزمي بشارة.
وعشية الانتفاضة الثانية، كانت عملية إعادة تنظيم وتحريك الحياة السياسية لدى عرب الداخل قد قطعت شوطًا كبيرًا، وكان ذلك إلى حدّ كبير بفضل ظهور حزب التجمع بمعادلة سياسية وطنية متطورة، متصادمة مع الطابع اليهودي للدولة العبرية، ومن هنا جاءت الهبة الشعبية العارمة داخل الخط الأخضر، والذي مهّد لها الإضراب العام الذي أعلنته لجنة المتابعة لشؤون المواطنين العرب، في الأول من أكتوبر عام 2000، ولتستمر الهبة لعدة أيام، مشكلة بذلك أطول هبة شعبية، وأكثرها شمولية في تاريخ عرب الداخل.
لماذا هذا الإهمال أو الإغفال لدور فلسطينيي الـ48
السبب الأول: هو تمركز العقل الفلسطيني في مشروع الدولة في الضفة والقطاع، والذي بدأ كمشروع مرحلي، ثم ما لبث أن تحول إلى مشروع حل نهائي، انتهاءً بمسخه تمامًا عبر تذويت مبدأ تبادل الأراضي، والاستعداد للمساومة على حق اللاجئين، تحت تأثير أكثر من عشرين سنة من نهج التسوية والمفاوضات الكارثية، وتفكيك القضية الفلسطينية إلى عشرات الملفات، بينما ملف عرب الداخل أسقط تمامًا، في أي محادثات بين فريق أوسلو وإسرائيل.
وأصحاب هذا النهج عبروا عن عدم رضاهم من الهبة الشعبية، التي اجتاحت أراضي عام 48 ردًا على المجازر التي ارتكبتها إسرائيل، بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 67 في 28 أيلول 2000. فقد أعلن أحد قادتهم (من السلطة الفلسطينية) أثناء الهبة الشعبية، في صحيفة "يديعوت أحرونوت" بشكل واضح عن عدم رضاه عن هذه الهبّة. وآخرون قالوا إن هذه الهبّة "خرّبت" على دورهم في المفاوضات، لأنها أحدثت تآكلاً إضافيًا كبيرًا في قواعد حزب العمل بين العرب، لمسؤوليته عن قتل 13 عربيًا وجرح المئات، وردعت هذا الحزب عن تقديم تنازلات بخصوص مطلب الدولة الفلسطينية. وكان حزب العمل بالنسبة لسلطة أوسلو، مطلوبًا أكثر من الأحزاب الأخرى كقوة سلام مزعومة.
إذًا، تتلخص نظرة هذه القيادة (منذ أوسلو تحديدًا) إلى عرب الـ48، في أنهم عبءٌ وليسوا رصيدًا إستراتيجيًا، المقصود عبء على نهج المفاوضات. إذ أن القيادة ترتدع من إثارة هذا الموضوع، لأنها تخشى أن تدفع الطرف الإسرائيلي إلى التصلب في المفاوضات، للحصول على كيان فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. ولولا ضغوط عرب الداخل وقواهم السياسية على السلطة الفلسطينية، لربما جرى الاعتراف بإسرائيل رسميًا كدولة يهودية. فهذا الاعتراف يوجه ضربة لحقوقهم ولحقوق أقربائهم من اللاجئين.
السبب الثاني، هو عجز القيادات الفلسطينية عن اجتراح صيغة تعاونية خلاقة، تتضمن دعمًا ماديًا وثقافيًا وسياسيًا ومعنويًا لوجودهم، والأهم لتطورهم في كافة مجالات الحياة، نحو تبلورهم كمجموعة قومية متماسكة، في وجه سياسات التفتيت التي تعتمدها إسرائيل تجاههم منذ عام 1948. لم نسمع يومًا مثلاً أن السلطة الفلسطينية، أو الفريق المفاوض، آثار قضية الملاحقات السياسية أو هدم البيوت أو مصادرة الأرض، على طاولة المفاوضات أو في المحافل الدولية، أو أصدر بيانًا رسميًا ضد كل إجراء إسرائيلي ضدهم، وكأن هذا الجزء لا يمت بصلة إلى الشعب الفلسطيني. وفي حين أن إسرائيل لا تسكت على أي مسّ بأي يهودي يحمل مواطنة دولته (غير دولة إسرائيل) في أي بقعة في العالم، بل تُقيم الدنيا ولا تقعدها، ولا أحد يُثير السؤال حول تدخلها في الشؤون الداخلية لهذه الدولة أو تلك، يصمت المفاوض الفلسطيني وينأى بنفسه كليًا عن ذكرهم في المفاوضات، العبثية طبعًا، والكارثية. ليس هذا فحسب، بل أن البعثات الدبلوماسية الفلسطينية في الخارج، تمتنع عن إثارة موضوع حقوق الفلسطينيين في إسرائيل أمام المحافل الدولية، وقد عبّر عن ذلك أمامنا العديد من القوى والشخصيات (في الاشتراكية الدولية مثلاً) المهتمة بالقضية الفلسطينية.
السبب الثالث، هو خوف بعض الأوساط الفلسطينية الرسمية، وغير الرسمية من توفير ذريعة للدولة العبرية، للقيام بخطوات عدائية جديدة ضد المواطنين العرب، وهذا أمر مفهوم وشرعي. ولكن يمكن دائمًا اختيار طرائق الدعم، بما يتلاءم مع خصوصية هذا الجزء من شعبنا، وبدون أن يوفر ذريعة لإسرائيل لتوجيه ضربات قاصمة، أي بدون تحميله فوق طاقته.
ربما حتى فترة قريبة خلت، كان يمكن تفهم هذا الخوف أو الحرص على خصوصية عرب الداخل، ولكن التطورات الآخذة في التشكل، والتي تحمل في طياتها آفاقًا جديدة للتفاعل، بين جميع تجمعات الشعب الفلسطيني، والميل المتزايد لاعتماد النضال الشعبي اللاعنفي، ناهيك عن نجاح فلسطينيي الـ48 في فتح كوة في الوعي العالمي بوجود أقلية فلسطينية كبيرة مضطهدة في إسرائيل، يصبح لزامًا علينا جميعًا تحويل هذا التطور الموضوعي، إلى مبادرات منظمة، تهيّء للمرحلة القادمة التي على ما يبدو سنراها في الأمد المتوسط، تحت سقف واحد وشعار كفاحي موحّد، هو إسقاط نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، والتمهيد لخيارات حلول ديمقراطية إنسانية، أكثر عدالة وإنصافًا من حلّ الدولتين.
إنّ الوعي المتزايد لدى فلسطينيي الداخل بواقعهم الصعب في ظل الدولة العبرية، وبإدراكهم المتزايد بكونهم جزء من شعب فلسطين، وبسبب تساقط الأوهام عن إمكانية أن يؤدي حل الدولتين إلى حلّ لقضيتهم، كل ذلك يدفع أوساط واسعة منهم بالشعور بالحاجة والواجب بأخذ دور في إعادة رسم وبناء المشروع الوطني الفلسطيني. هم لا يريدون أن يحافظوا على وجودهم الفعلي فقط، على أهميته الإستراتيجية، وأن يعيشوا كما اتفق، بل أيضًا يريدون أن يكونوا مساهمين بشكل واعٍ ومنسّق. هذا ناهيك عن شعورهم بتراجع التمايز في أوضاعهم عن أوضاع إخوانهم في الضفة والقطاع بسبب تغوّل المؤسسة الإسرائيلية ضد حقوقهم بل وجودهم، أي وكأن لسان حالهم يقول كلنا بالهوى سوى.
إن أدوات هذه المبادرات، وبُنية هذه الأدوات لا بدّ أن تكون ديمقراطية، وتطرح رؤية إنسانية لحل الصراع.
أما كيفية توزيع العمل؛ فيقوم كل تجمع بنضاله في ميدانه؛ في الضفة والقطاع يُمارس النضال ضد الاحتلال والاستيطان. وفي مخيمات اللجوء يقوم الفلسطينيون بإعادة تنظيم أنفسهم، والاستعداد لاستئناف التوجه نحو الحدود بأعداد كبيرة، والتهيئة لمرحلة قادمة تكون مناسبة للبدء بالعبور. وفي داخل الخط الأخضر، يطور الفلسطينيون نضالهم عبر بناء مؤسساتهم التمثيلية والمهنيّة، وتطوير إستراتيجية النضال الشعبي، وبالتعاون مع القوى اليهودية الديمقراطية، المعادية للاحتلال وللعنصرية الصهيونية، بغض النظر عن قلة عددها وحجم تأثيرها في المراحل الأولى. بل يجب أن يُهيّء التيار القومي الديمقراطي نفسه لدمج الجماعات والأفراد اليهود في هذا النضال، وأن يصبحوا جزءًا فعليًا من بنيته القياديّة أو التحالفية.
وبخصوص الفلسطينيين في الدول الغربية وغيرها، وبشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية حيث الوجوه الأكاديمية المعروفة، والهيئات والأطر الفاعلة، لا بدّ أن يُعاد تحديد دورهم ومساهمتهم في النضال الوطني والديمقراطي. ليس الهدف الحفاظ على هويتهم وثقافتهم ونجاحهم التعليمي والاقتصادي فقط، بل في كيفية تحوّلهم إلى قوة مؤثرة على الرأي العام الغربي، واستقطاب المزيد من المؤيدين للنضال الفلسطيني، والمساهمة في حملة تعرية الطابع العنصري والكولونيالي لدولة الاحتلال.
يبقى السؤال الأهم مرة أخرى، من هي القوة أو الشرائح القادرة على قيادة المرحلة المتوقعة، هل بعد الإخفاق المتكرر لجهود المصالحة، يوجد أفق لتوحيد الجسم الفلسطيني حول برنامج سياسي وإستراتيجية كفاحية واحده؟ وهل أصلاً هذا النظام السياسي القائم قادر على الاضطلاع بالمهمة؟ هل ينتظر الراغبون في التغيير، لحين وصول المصالحة إلى برّ الأمان، والتي مصيرها غير واضح، أم يواصلون نشاطهم الفكري والعملي عبر التواصل الفعلي والمدروس، مع القوى الشابة الراغبة في الاضطلاع بدور قيادي للخروج من هذه الحالة؟
ربما في ظل صعوبة خروج الجسم الفلسطيني من حالته الراهنة بالسرعة المطلوبة، فإنه لا بديل عن استمرار الحراك الذي يقوم به الشباب، إلى جانب أوساط من النشطاء والمثقفين والأكاديميين الوطنيين، الذين نجحوا في الخروج من أسر التفكير القديم، وينخرطون الآن في صياغة الرؤى والآليّات الجديدة. ويُنتظر من هذا الحراك ألا يكف عن الضغط على حركتي فتح وحماس، للمضيّ قدمًا في إنجاز المصالحة، والتي هدفها ليس إدارة الانقسام أو الاقتسام أو خدمة المفاوضات، بل إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني.
إن مساري العمل يجب أن يتلخصا، في تطوير الحراك الوطني-السياسي-الشعبي-الفكري، المستقل عن النظام السياسي الفلسطيني الرسمي. والأمر الآخر هو الضغط على طرفي الانقسام، لإنجاز المصالحة وأهدافها الوطنية.
لا يجوز الاعتماد فقط على ما يمكن أن يقوم به طرفا الانقسام، بل على المبادرة المستقلة والتشبيك مع الأفراد والأطر والجماعات الرافضة للواقع القائم، والتشبيك مع قوى التضامن العالمية، الناشطة في حملة نزع الشرعية عن سياسات إسرائيل ونظامها العنصري، وأيضًا عبر التعاون مع أوساط متمردة على سياسات فصائلها، التي دخلت منذ فترة حالة من الجمود والتوقف عن التطور. وجميعنا يعرف أن جزءا كبيرا من هذا العمل جارٍ على قدمٍ وساق وإن بوتائر متواضعة، ولكنها واعدة ومرشحة للازدياد. وقد حان الوقت للبدء بالعمل على إقامة حركة موحدة، تطور برنامجًا واضحًا للدولة الواحدة، وتصوغ إستراتيجية نضالية متماسكة وفعّالة.
لقد حان الوقت لإطلاق مرحلة استعادة الوعي المفقود، والعودة إلى الأصل.
تصميم وبرمجة: باسل شليوط