بيان قومي ديمقراطي

د. عزمي بشارة

في القضية القومية:

انشغلت الإنسانية منذ نهاية القرن التاسع عشر بالقضية القومية كمسألة اجتماعية وسياسية وثقافية. ورغم حل المسألة القومية في غالبية بلدان العالم بصيغة حق تقرير المصير، ورغم أنه بعد تحوّل هذه المسألة إلى محور الصراع بين حركات التحرر الوطني والاستعمار طيلة هذا القرن بدا وكأن المسألة القومية قد حُلّت من خلال قيام الدولة الوطنية المستقلة، إلاّ أن العالم ما زال منشغلاً بالقضية القومية التي تتخذ مرةَ شكل حركات انفصالية عن الدولة، ومرةً أخرى شكل حركاتٍ ثقافية تدعو لاحترام الخصوصية الثقافية ضمن الدولة الديمقراطية، ومرةً ثالثة صيغة حركات وحدوية.

 لقد حاول بعض الباحثين في العقد الاخير تقديم تأسيس نظري للمزاج السياسي والاعلامي، الذي يضع القومية والخصوصية القومية في صراع مع عملية العولمة التي تجتاز الحدود القومية وتطمس الخصوصيات في عملية توحيد السوق العالمي للحاجات الإنسانية وإنماط الإستهلاك المادي والروحي. ويتم تنميط الحاجات الروحية والمادية  دون توحيد الادوات لسد هذه الحاجات، ومع توسيع مستمر للفجوة بين قدرات المجتمعات الصناعية وقدرة محيطها وهوامشها على الاستفادة من الثوارات التكنولوجية المتعاقبة. كما حاول آخرون تفسير الموجات الانفصالية الإثنية (الأقوامية) الطابع وانهيار الدول المتعددة القوميات والتاكيد على الخصوصية الثقافية وما يسمى، خطأ، بالأصالة كأنماط من ردود الفعل الاصولية القومية الثقافية والدينية على هذا التوحيد الذي يكرس التفاوت.

ومما يعقّد فهم المسألة القومية وقضية القوميات عموماً، نشوء أحزاب قومية، في اوروبا أولاً، ثم في العالم الثالث، تعتبر القومية جوهراً ثقافياً او إثنياً (أقوامياً) متوارثاً يشكّل نوعاً من روح الشعب الخالدة غير المتغيرة. وبصرف النظر عن تاريخ نشوء هذه الايديولوجية القومية وأساسها الاجتماعي لدى الطبقات الوسطى في الدول التي تأخرت فيها عملية التطور الرأسمالي، وبالنظر إلى لقاء هذه الايديولوجيات الكارثي مع الأزمات في الاقتصاد الرأسمالي وظهورها مظهر المخلّص بالنسبة للفئات الشعبية المتضررة من الحداثة - لا بدَّ من رؤية النتائج الرهيبة لتحول الفكرة القومية إلى أيديولوجيا حزبية وإلى أداة تحريض للشعوب ضد الاقليات والشعوب الاخرى وإلى أداة تعبئة معادية للحداثة والديمقراطية باعتبارها 'غير عضوية' و'طارئة على الأمة' ومعادية 'لروح الشعب' وتقاليده.

ومع ضرورة التمييز بين الأيديولوجيات القومية في الدول المستعمِرة وفي الدول المستعمَرة، إلا ان التجربة أثبتت أن تحول القومية إلى أيديولوجية يحمل في طياته خطراً داهماً من الشوفينية والتعصب واللاعقلانية في فهم الذات والأخر، وفي فهم التشكل التاريخي للقومية ذاتها، فالقومية ليست جوهراً أبدياً قائماً فوق التاريخ والجغرافيا.

 ولكن من جهةٍ أخرى علينا ان نعي أيضاً ان القومية ليست مجرد وهم او مجرد أيديولوجية باطلة ووعي زائف يغطي مصالح طبقية - فهذا ايضاً فهم فج للقومية أدى بدوره إلى كوارث لا تقل عن تلك التي تسببت بها الحركات القومية المتطرفة عندما وصلت إلى سدّة الحكم. وذلك عندما تم نسف مبدأ حق تقرير المصير، وإخضاع الشعوب إلى عملية هندسة أجتماعية، ونقل شعوب بأكملها من مكان لآخر كما جرى في الإتحاد السوفيتي. جرى كل هذا بذريعة إخضاع المسألة القومية للمسألة الإجتماعية او الطبقية، فالأولى(المسالة القومية) بنظر نظريات الهندسة الإجتماعية الشيوعية هي  عبارة عن وعي زائف للأخيرة( المسالة الطبقية). وكانت عواقب هذا النوع من التفكير وتطبيقاته كارثية على القضية القومية والعلاقات بين الشعوب، وعلى القضية الإجتماعية الطبقية ذاتها التي لم تُحل بل أزدادت تعقيداً وقلت بذلك عدالة.

قد تكون الحركات القومية حركات رجعية معادية للحداثة والتقدم والتطور الاجتماعي، وقد تكون شوفينية الطابع منغلقة ومتعصبة. ولكنها قد تكون أيضاً حركات ديموقراطية ومتنورة ترفع راية التطور والتقدم والحداثة، خاصة عندما تعتبر الإطار القومي هو الإطار الحديث بامتياز لتنظيم المجتمع على أساس ديمقراطي.

 ليست القومية أبدية،  وهي ليست جوهراً، بل نمطاً حديثاً لتنظيم المجتمع البشري على أساس العلاقة بين فرد ومجتمع منظّم في مؤسسات حديثة. والقومية أيضاً هوية ثقافية جامعة وعابرة للحدود الاهلية والقبلية والطائفية. وهي متشكلة تاريخياً ولا تنطلق من أبدية التقاليد او التراث - فهي ليست فولكلوراً - بل تقف على أساس من وحدة اللغة المتطورة باستمرار، والفضاء الحضاري المتناسق بفعل ادوات الحداثة ، والمتطور والمنفتح للعلاقة مع الآخر ولعملية التفاعل الثقافي. والثقافة القومية ليست عصبية قبلية، ولا جهوية، ولا أقليمية، فقد قامت على انقاض هذه العصبيات ومن خلال ادوات الحداثة وانتشار وسائل الاتصال الحديثة والصحافة اليومية، والجامعة الوطنية، والمسرح ودار النشر، والتعليم الرسمي، وتوحيد اللهجات والذاكرات الجماعية في ادب الرواية و'علم التأريخ' في ذاكرة جماعية تمهد لتخيل مصير سياسي مشترك في دولة.

 لقد نشأت القومية مع نشوء المجتمع الحديث، ولذلك ايضاً تختلط القضية القومية في أوروبا الشرقية حالياً - وإلى حد كبير في العالم العربي - مع القضايا التي تطرح بصيغة المجتمع المدني المنظم في دولة، والمنفصل كمجتمع عن الدولة كجهاز حكم في وحدة جدلية واحدة. هذه الوحدة الجدلية  المتمايزة في داخلها باستمرار، والمتناقضة إلى درجة الصراع بين دولة ومجتمع مدني، ثم العودة لبناء الوحدة بينهما على مستوى ارقى واغنى من التمايزات هي مفاعل تطور الحداثة الإجتماعي-السياسي الأضخم والأعظم تأثيراً.

لعبت الحركة القومية والفكرة القومية عموماً دوراً بارزاً في توحيد المجتمع وتحديث التنظيم الاجتماعي في المجتمعات ما قبل الرأسمالية. ورغم حاجتها إلى إسقاط وفرض القومية بأثر رجعي على التاريخ، ورغم حاجتها إلى تحويل تواريخ القبائل والعشائر إلى تاريخ قومي واحد مختلط بأساطير قومية، ورغم استثمارها للاسطورة – ارتبطت الفكرة القومية بالحداثة. كما ارتبطت بالتحرر من الاستعمار، وبناء مؤسسات الدولة الحديثة، وتعميم التعليم،  وبناء الجيش الحديث كأداة لتفريد الفرد عن الجماعة الاهلية، وكأداة لصهر الافراد وتوحيد زيهم وولاءاتهم. كما ارتبطت بتحقيق نوع من العدالة الإجتماعية ل'لشعب' الذي تحدثت باسمه الحركات القومية، وكلها مدفوعة في بدايات الحركات القومية بالرغبة الأولية لأزالة الظلم وتحقيق صالح الأمة بشكل عام. لقد طرحت الفئات الإجتماعية التي حملت الفكرة القومية ذاتها كممثل لتطلعات مجمل الامة وليس فقط لمصالح طبقة من طبقاتها، او فئة من فئاتها.

 وربما رأت الفئات الإجتماعية الحاملة للفكرة القومية في بداياتها أنها الناطقة بأسم الأمة او أنها هي الأمه( على غرار الطبقة الفرنسية الثالثة ابان الثورة الفرنسية)، إلا أن دافعها كان دون شك تحررياً يجمع بشكل بدائي ودون وعي نظري، أي دون تمايزات،  بين الفكرة القومية وتحقيق العدالة السياسية والإجتماعية. 

وغالباً ما تحالف الاستعمار الجديد بعد استقلال دول العالم الثالث مع الزعامات التقليدية والدينية، وحتى مع الأصولية الدينية، ضد محاولات الحركات القومية تحديث مجتمعات العالم الثالث والتي استندت إلى نخب صغيرة نسبياً من برجوازية المدن التجارية والإنتلجنسيا الحديثة وضباط الجيش. وكان الجيش المؤسسة الحديثة الوحيدة في المستعمرات قبل الاستقلال.

ورغم استقطابها لحماس الجماهير الفطري ضد الاستعمار ومن أجل البناء بعد الاستقلال، لم تستطع الحركات القومية إنجاز مهام التحديث، أو كما قيل في مرحلة الإستقلال والتحرر من الإستعمار في منتصف هذا القرن، لم تتمكن من اتمام مهام التحرر الوطني او مهام الثورة الوطنية الديمقراطية. فقد  فشلت لأسباب موضوعية وذاتية ببناء الاقتصاد الحديث والمؤسسات الحديثة وتطبيق سيادة القانون ونوع من العدالة الإجتماعية. كما لم تفلح الحركات القومية غالباً بالتعامل بشكل ديموقراطي مع قضايا الاقليات باعتبارها ازعاجاً لوحدة الأمة ورهاناً استعمارياً مستمراً على تفتيتها من خلال ولوج أضعف حلقاتها. لم تفلح الحركات القومية ببناء أمة مدنية حديثة مندمجة من خلال وحدة المواطنة المتساوية ضمن نظام ديمقراطي، ولا استطاعت من ناحية أخرى أن تتبنى وجود أقليات قومية ودينية من خلال نظام تعددية ثقافية يعترف بوجود أكثرية وأقلية.

وكما يبدو، فأن مراجعة التاريخ القريب بمفاهيم الحاضر يجعل النقد الحالي عملية أسهل من عملية البناء في حينه بشكل لا ينصفها.  وشكل بناء الدولة التحدي الاول والمشروع الاساسي بعد الاستقلال، وذلك في ظروف التركة الاستعمارية الحدود السياسية الاستعمارية والتخلف الاجتماعي.  صحيح أن أدوات حل مسألة الأقليات، مثلا،ً قائمة اليوم في مفهوم المواطنة الديموقراطية المتساوية مع احترام خصوصيات الهوية الثقافية - إلا أن هذه الأدوات لم تكن قائمة في حينه، ولم يكن المشروع الديمقراطي مطروحاً في العالم الثالث بأسره، بما فيه العالم العربي، من قبل اي قوة اجتماعية منظمة.  وقد كانت المهمة الاساسية كامنة في بناء مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة واستثمار جهاز الدولة في عملية إرساء البنى التحتية وتوفير الحاجات الملحة للجماهير وتعميم التعليم والاصلاح الزراعي وغيره.

ولكن  غياب المشروع الديمقراطي، ولو بأشكال غير لبرالية، كان أحد اسباب تعثّر أنجاز المهام الاخيرة. وساهم هذا الغياب في تحوّل جهاز الدولة من مجرد قطاع عام يمثل المصلحة العامة للمجتمع أمام الملكية الخاصة، إلى رأسمالية الدولة البيروقراطية المتعفنة وغير الخاضعة للمحاسبة والمساءلة.

 ولكن يجب عدم التقليل من شأن العوامل الخارجية في إفشال المشروع القومي العربي مثلا،ً او الاستخفاف بها كأنها من رواسب عقلية 'نظرية المؤامرة' العربية. فقد كان موقف العداء الاستعماري للحركات القومية الحديثة في العالم الثالث بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص مستفحلاً إلى حدّ المقاطعة والمحاصرة واستخدام القوة العسكرية، كما حدث في العام 1967. لقد كان العداء للحركات القومية في العالم الثالث عموماً، وليس العالم العربي فحسب، مكونا اساسيا من مكونات الاستعمار الجديد وموجهاً فعليا للسياسة الغربية في العالم الثالث. وكان لهذه السياسة أثرً كبير على وجهة تطور الدول المستقلة حديثا، سياسياً واجتماعياً.

ونحن كقوميين ديموقراطيين نميّز بين تشكّل القومية من خلال الدولة القومية، والتعليم الرسمي وكتابة التاريخ الرسمي وإعادة تصميم الذاكرة الحية للشعب بما يتلاءم مع رؤية الدولة القومية، وبين تشكّل القومية من خلال إرادة تحويلها إلى أمة ذات سيادة في مرحلة التحرر والنضال من أجل الاستقلال. من المخزون الثفاقي المشترك والذاكرة الحية والأرادة السياسية المعبر عنها بالسعي نحو السيادة تتشكل الأمة في مرحلة التحرر فاسحة المجال لطاقة الجماهير الابداعية ولحركة الناس العفوية المنسجمة سوية في سعيها إلى التحرر والاستقلال. وقد تتحول هذه الطاقة إلى طاقة هدّامة ورجعيّة اذا ما تحولت نحو الداخل، او اذا تحول الصراع من أجل الاستقلال إلى صراع عنصري بين الشعوب، واذا وتحولت القومية إلى أداة تعبئة وتجنيد ضد القوميات الاخرى كما حصل في البلقان.

لقد تشكّلت القومية العربية من خلال المخزون الحضاري والثقافي، ولكن هذا لا يعني ان القومية العربية مجرد ظاهرة ثقافية مرتبطة باللغة، وكأن لا علاقة لهذه الظاهرة بالطموح إلى تشكيل أمة عربية ذات سيادة. كما لا يعني من ناحية أخرى أن عمر القومية العربية كعمر اللغة العربية كما تدّعي بعض التيارات القومية التي تجعل تاريخ العرب هو تاريخ القومية العربية. فالقومية العربية لا تنافس الصهيونية على القدم والاسطورة، وإنما نشأت كحركة سياسية وثقافية حديثة كباقي القوميات الحديثة مترجمة الثقافي والحضاري واللغوي العريق المشترك ومترجمة الذاكرة الجماعية المشتركة إلى أرادة أمة حديثة بالسيادة والاستقلال.

وقد انطلقت الفكرة القومية العربية كفكرة مدنية حديثة في مدن العرب ليس ضد الدين وإنما ضد عملية التتريك التي أتبعتها الدولة العثمانية في فترة تحللها مع نشوء النزعة القومية التركية. وكما قامت القوميات الاوروبية من خلال قيام التجمعات المدنية والصحافة الحديثة والتعليم وتوحيد اللهجات وقيام السوق الرأسمالي وتفكك الرابطة الدينية كرابطة سياسية. كذلك قامت القومية العربية من خلال الحداثة العربية والصحافة وتعميم التعليم وبداية الطبقات الوسطى العربية، ومن خلال قدرتها على خوض نضال شعبي يبلور الانتماء القومي كرابطة سياسية مع احترام الانتماء الديني والعقائد الدينية الاصيلة القائمة ضمن الأمة، ومع احترام الرابط الحضاري القائم بين القومية العربية والحضارة العربية الاسلامية بعصورها المتلاحقة التي تنظر اليها القومية العربية كتاريخها، ومنها تستمد ذاكرتها وقصص بطولاتها وملاحمها ومآسيها.

اتخذت الحركة القومية العربية من الفكرة القومية الحداثية نبراساً لها باشكال مختلفة منها الديمقراطية التنويرية الطابع في الفترة ما بين الحربين، ومنها المحافظ المتحالف مع الطبقة الإجتماعية القديمة ضد الاستعمار في نفس الفترة، ومنها الراديكالي المتأثر بالانماط القومية الاوروبية المتأخرة، ومنها المتفاعل مع أنماط اشتراكية الدولة بحثاً عن نماذج للعدالة الإجتماعية - ولكن هم الوحدة العربية والتعاون والتكامل الإقتصادي والسياسي العربي في مقابل واقع التجزئة الاستعمارية وتبعية الموارد العربية لرأس المال الاجنبي، هم التحرر من ربقة التبعية في السياسة الخارجية وتحويل الأمة العربية إلى كيان سياسي واقتصادي له موطئ قدم في العالم الحديث. هذه الهموم مجتمعة بقيت هاجساً يحرك عقول وقلوب القوميين العرب، ومعهم عقول وقلوب الملايين من ابناء الامة العربية.

نحن قوميون عرب ليس بمعنى الانتماء الى عقيدة ايديولوجية قومية عربية شوفينية، ولكن بمعنى تبني مشروع العرب السياسي والحضاري الحديث. وتبني المشروع لا يعني تبني صيغ جاهزة او اجترار مقولات رومانسية، كما لا يعني الشعور، حتى لو كان حقيقياً، بحنين لفترات هز فيها المشروع القومي انظمة وعروش وحرك الجماهير من المحيط إلى الخليج، وإنما يعني تبني المشروع بالنسبة لنا،في ظروف الداخل، التفاعل معه والمساهمة في صياغته ليس ادعاءً لما لا نستطيع، فنحن نعرف قدر نفسنا كما نعرف ما هو حدنا، وإنما من خلال تفاعل الفكرة القومية العربية مع واقعنا، واقع القضية الفلسطينية، وواقع قضية المواطنة والصراع من أجل المساواة.

 المشروع القومي العربي ليس مشروعاًً ينزل من اعلى بصيغ جاهزة للاشتقاق  بالقياس المنطقي، وإنما يطبق المشروع القومي العربي بالعمل في الظرف السياسي والثقافي والاجتماعي العيني وبوضع الرغبة العربية الاصيلة بالوحدة والتحرر والحداثة والعدالة في محك التجربة العينية، مما يؤدي إلى تطوير الواقع من خلال نقده وإلى تطوير المشروع القومي العربي واغنائة في تفاعل مستمر مع الواقع، بل مع الوقائع المختلفة.

نحن قوميون عرب لاننا نرفض اعتبار تجزئة وتقسيم الامة العربية سياسياً امراً طبيعياً. نحن قوميون عرب لاننا نرفض اعتبار اخراج الامة العربية من مبدأ تقرير المصير امراً مفروغاً منه. نحن قوميون عرب لاننا نعتبر القومية العربية حاجزاً امام تسييس الطائفة والعشيرة واطاراً حداثياً لتنظيم المجتمعات العربية تنظيماً ديمقراطياً تعددياً ضمن قواعد متفق عليها تحافظ على وحدة المجتمع كمجتع حديث. نحن قوميون عرب لأننا ديمقراطيون. نحن قوميون عرب لأن همنا هو الإنسان العربي الفرد وحقوقه كأنسان وكمواطن، ولأننا نعتبر تفتيت وتفسيخ المجتمع العربي إلى طوائف وعشائر هو الطريق نحو التخلف والتبعية. نحن قوميون عرب لأننا وطنيون فلسطينيون نحب وطننا فلسطين، ونعتز بهويتنا العربية الفلسطينية، ولأننا نرى أن مستقبل فلسطين والشعب الفلسطيني لا يمكن أن يحسم بمعزل عن التعاون والتعاضد العربي.

في القضية الوطنية:

اعتقد البعض أنه في الظرف الحالي الذي تمر فيه القضية الوطنية الفلسطينية بتحولها إلى موضوع تفاوض إسرائيلي - فلسطيني حول مستقبل الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس، وأنه مع قيام سلطة فلسطينية منتخبة هي نتاج التفاوض بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل ضمن عملية اوسلو، أصبحت القضية الفلسطينية في طريقها إلى الحل الأكيد ضمن دولة وطنية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة (ويضيف المتفاؤلون، او المتظاهرون بالتفاؤل، شرقي القدس)، وأنه بالتالي يجب أن ينقلب سلم اولويات المواطنين العرب في إسرائيل لتحتل قضية المواطنة المتساوية مكان الصدارة على جدول أعمالهم. ويحاول البعض الآخر إحراج التجمع الوطني الديمقراطي بالأدعاء: أليس مشروعكم هو مشروع دولة لجميع مواطنيها؟  فليكن هذا أذاً محور نشاطكم السياسي. والحقيقة أن هذا البعض كان يود لو حذفنا كلمة وطني من أسم التجمع – فالكلمة باتت مبتذلة ولم يعد هنالك مقياس أو معيار تقيّم بموجبه وطنية أي طرف من عرب حزب العمل والأحزاب الصهيونية وحتى التجمع الوطني الديمقراطي. ويكاد الجميع يجمع نظرياً على طبيعة الحل العادل للقضية الفلسطينية. ولكن لا يلتزم الجميع بمبادئ الحل العادل، فغالبية القوى السياسية العربية في الداخل تلتزم بما قد يفرض فرضا على الفلسطينيين، ومنهم من يحاول بشكل منهجي ان يسوغ للفلسطينيين قبول الاملاءات الاسرائيلية مستغلا انفتاح القيادة الفلسطينية على عرب الداخل.  

وبإختصار السؤال هو: هل بقي وجود للقضية الوطنية الفلسطينية في واقعنا في حدود المواطنة الإسرائيلية فيما وراء العملية السياسية بين قيادة م.ت.ف وإسرائيل؟

نحن نجيب على هذا السؤال  بالايجاب. ولكن لنوضح السؤال أولاً لكي تتطور الأجابة عليه بشكل طبيعي.  بالإمكان أختزال الموقف من القضية الوطنية إلى تضامن مع العملية السلمية الجارية، أو إلى تضامن مع موقف السلطة من العملية السياسية الجارية – وكان هذا هو موقف ما يسمّى بشكل عام بقوى السلام في إسرائيل حتى نشوب الانتفاضة الثانية . وهي القوى الراغبة بالتوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين ولكن في أطار موازين القوى القائمة وبناءً عليها، أي دون الأنطلاق من مبادئ عامة هي مبادئ العدل أو العدالة النسبية في حل القضية الفلسطينية.

هل تعني الوطنية أذاً الإيمان بالحل العادل للقضية الفلسطينية متميزةً بهذا الإيمان عن قوى السلام في إسرائيل؟ الأجابة هي لا. فهنالك قوى إسرائيلية ولو قليلة تؤمن أيضاً بالحل العادل. وإننا نحترم ونقدر القوى الراديكالية المناصرة للسلام العادل في إسرائيل، والتي تتميز بذلك عن قوى السلام الداعمة  لأي سلام يمكن فرضه على القيادة الفلسطينية. ونحن نرى بترفعها عن مبدأ موازين القوى واستجابتها لنداء الضمير الأخلاقي بالتعامل مع الشعب الفلسطيني أساساً للنضال المشترك والتعاون فيما بيننا، كما نعتبر هذا الموقف أساساً متيناً للتعايش بين الشعبين في نفس البلد. إن الموقف الثابت من الحل العادل للقضية الفلسطينية كبوصلة لتقييم العملية السلمية هو أيضاً من أسس الموقف الوطني ولكنه لا يُجمل هذا الموقف. فالوطنية في ظروفنا هي أولاً موقف،، ولكنها ليست موقفاً فحسب. بعض القوى العربية تسقط في الامتحان الأول للموقف الوطني وتتبين ضحالة أدعائها للوطنية عندما تتعرض لمسألة الموقف من الحل العادل. فالحل العادل هو ليس فقط الحل المقبول والواقعي. الواقعية ضرورية، ولكنها لا تستنقذ العدالة في الموقف الوطني.

نحن نرى أن الوطنية كقضية سياسية هي قضية موقف. و لكنه ليس موقف اللحظة فحسب، بل يتعدى ذلك ليسند الموقف السياسي الصحيح بالذاكرة التاريخية والانتماء لهذا الوطن ولهذا الشعب، الشعب العربي الفلسطيني. نحن نرى بالأقلية العربية القومية في إسرائيل كما نرى في لاجئي لبنان وسوريا وغيرها من مناطق النزوح والشتات جزءً من الشعب العربي الفلسطيني.

وشعب فلسطين العربي هو نتاج التفاعل بين الحضارات في أرض فلسطين. وهو شعب الفلاحين وشعب المدن الذي بلور هويته الوطنية في ظل الصراع مع الاستعمار والصهيونية، هذا الصراع الذي أفرزه التقسيم الاستعماري لبلاد الشام. لقد خاض هذا الشعب بحركته الوطنية، التي تغيرت بنيتها تبعاً للظروف الإقتصادية والإجتماعية، صراعاً مزدوجاً ضد الاستعمار البريطاني والصهيونية. ولم ينفصل هذا الصراع في يوم من الأيام عن صراعات الشعوب العربية الاخرى ضد الاستعمار ومن أجل الحرية والاستقلال والوحدة.

وبغض النظر عن دوافع الصهيونية للاستيطان في فلسطين وخلفية هذه الحركة التاريخية وتصورها لذاتها كحركة قومية تهدف لبناء أمة يهودية بواسطة إقامة دولة يهودية، وبغض النظر عن أسباب نجاح هذا المسعى تاريخياً وقدرته على تنظيم نفسه كمشروع حديث يتجاوز عملية الغزو الاستعماري، وبالرغم من النزعات المعادية لليهودية في بعض الحركات القومية الاوروبية وملاحقة اليهود في نهاية القرن التاسع عشر في روسيا وأوروبا الشرقية ونشوء المسألة اليهودية في ظل الرأسمالية المبكرة، ثم استقطاب الصهيونية لفئات واسعة من الطبقات اليهودية الوسطى والعمال المنظمين - لم يكن بوسع الحركة الوطنية الفلسطينية إلا أن تتعامل مع الصهيونية كحركة إستعمارية تطبِّق مشروعها بأدوات استيطانية تقصي وتنفي الشعب الأخر، كل ذلك في ظل مشروع إستعماري بريطاني - فرنسي وتقسيم إستعماري للمنطقة.

 ومهما أختلفت تقييمات المراحل المختلفة التي مرت بها عملية مقاومة المشروع الصهيوني الأستعماري، ومهما بلغت أخطاء قيادات الحركة الوطنية قبل عام 1948 الناجمة بالأساس عن جذورها الإجتماعية التقليدية وضيق أفقها التاريخي، من الخطأ ان يتم تقييم هذه القيادات بمفاهيم اليوم. فمثلاً تقوم بعض القوى باسقاط حل الدولتين حديث العهد والذي قبلت بها قيادة م.ت.ف مع إعلان الإستقلال في الجزائر، تقوم بعض القوى باسقاط هذا الحل على الماضي والإدعاء أنه كان على قيادة حركة التحرر الوطني الفلسطيني في حينه أن تقبل بالتقسيم. ويذهب البعض إلى حد اتهامها بالتآمر أو بالخيانة أو إلى تحميلها سوية مع القيادات الرجعية العربية المحيطة بفلسطين المسؤولية التاريخية عن النكبة.

وكما أسلفنا فإن الموقف الوطني ليس مجرد موقف اللحظة، وهو بالتاكيد ليس اسقاطا لموقف اللحظة على التاريخ الوطني. يضع الموقف الوطني نفسه ضمن الإستمرارية التاريخية للحركة الوطنية الفلسطينية مع كل النقد المشروع عليها. لقد عملت هذه القيادات ضمن حدودها وآفاق تفكيرها التاريخية ضد حركة أوروبية المنشأ ذات طابع مركب ومتطور. ولا يمكن أن نطلب بـأثر رجعي من هذه القيادة، لا من باب العدل ولا الإنصاف، ولا من باب العقلانية والموضوعية أن توافق على إقامة دولة يهودية في فلسطين كمشروع إستعماري أستيطاني.

لقد حلت النكبة بالشعب الفلسطيني لعوامل دولية شتى ليس أقلها أهمية الكارثة التي حلت بيهود أوروبا وتواطؤ الاستعمار البريطاني ودعم الإتحاد السوفيتي في حينه للحركة الصهيونية، أولاً كحركة اشتراكية الطابع، وثانياً في سياق الصراع من أجل انسحاب بريطانيا من المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية، ونتيجة لعوامل متعلقة بقدرة الحركة الصهيونية القائمة على بناء المؤسسات الإقتصادية والأمنية على أسس حديثة، وقدرتها على الزج بكامل القوة البشرية والمادية لمجتمع منظم في المعركة مقابل حركة وطنية مهزومة في ثورة 36 - 39 وغير منظمة، ومقابل انعدام التعاون الرسمي العربي في حينه وتفوق المشروع الصهيوني عسكرياً بالعدة وبالعتاد، وحتى بالعدد.

ولا شك بشراكة النظام الرسمي العربي في حينه بالمسؤولية عن عدم جاهزية العرب السياسية والعسكرية لمواجهة المشروع الصهيوني. وكانت هنالك حالات تواطؤ مباشر مع المشروع الصهيوني. وقد نجمت هذه الحالات عن بنية الأظمة العربية الإجتماعية المتخلفة، وتأطير  مصلحتها في حينه وافق تفكيرها السياسي ضمن حدود التركة الاستعمارية وعلاقاتها الدولية وتحالفاتها.    

لقد هدمت نكبة عام 1948 الوجود الاجتماعي والإقتصادي الفلسطيني على الأرض الفلسطينية، وغيّبت لفترة طويلة المشروع السياسي الوطني الفلسطيني وأحلت محله كياناً سياسياً أخر، وهدمت المدينة الفلسطينية وبداية تبلور الحداثة الفلسطينية كما هدمت مئات القرى الفلسطينية. ومع تحول الشعب الفلسطيني إلى شعب مشرد من اللاجئين والنازحين ووقوع أجزاء من الشعب الفلسطيني تحت سيادة دول عربية مجاورة وقيام الدولة العبرية وارتباطها المباشر والحتمي مع المصالح الاستعمارية في المنطقة في مواجهة اهداف المشروع القومي العربي - كل هذا أدى إلى تغيير تاريخ المنطقة ونشوء الصراع العربي الإسرائيلي ونشوء القضية الفلسطينية وتشابكها مع الصراع العربي الإسرائيلي.

مع نشوء القضية الفلسطينية بما فيها قضية اللاجئين العادلة واعتراف الامم المتحدة بحق العودة أو قبول التعويض للاجئين، طُرحت القضية الفلسطينية دولياً كقضية أنسانية - قضية لاجئين تم تشريدهم في وطنهم، ومع حق العودة نشأ أيضاً برنامج التحرير، تحرير فلسطين، في أجواء نهوض حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وما لبثت فكرة العودة والتحرير أن أنجبت منظمة التحرير الفلسطينية من رحم العلاقات العربية الفلسطينية، وذلك بموازاة لقيام فصائل الكفاح المسلح الفلسطيني خاصة في الأردن ولبنان وقطاع غزة وسوريا والكويت.

وقد سيطرت هذه الفصائل على م.ت.ف بعد هزيمة عام 1967 لتطرح موضوع العودة والتحرير كمشروع تحرر وطني وذلك بالتشديد على الكيانية الفلسطينية. ولسنا بصدد تقييم نجاحات واخفاقات حركة التحرر الوطني الفلسطيني السياسية وصيغتها التنظيمية، ولكننا نؤكد أن م.ت.ف قد بلورت وأكدت عبر الفصائل السياسية والتنظيمات الجماهيرية والنقابية والإتحادات الطلابية والنسائية الهوية الوطنية الفلسطينية الحديثة.

لقد بلورت م.ت.ف الهوية الفلسطينية حول فكرة التحرير والعودة والسيادة. وقد عوض هذا الجامع السياسي عن ضعف الجامع الاجتماعي والإقتصادي الذي لم يعمر إلا في النصف الأول من القرن العشرين قبل أن تهدمه النكبة وتشتته وهو غض طري العود.

الفكرة الفلسطينية الحديثة هي فكرة سياسية أساساً، واذا تخلخل العقد السياسي الذي يلم شتات الشعب الفلسطيني ضعف الرابط الوطني وحدث محله انتماءات جهوية، أو أصبحت المصلحة الإقتصادية أو المدنية في مناطق الشتات وحتى في الوطن هي المحدد الأساسي للسلوك السياسي. الانتماء الفلسطيني ليس مجرد انتماء لقرية قائمة أو مهدومة كما أنه ليس أنتماءً لفولكلور. كما ان الثقافة الفلسطينية ليست جامعاً قومياً إلا بقدر ما هي ثقافة عربية، وكل خصوصية ثقافية فلسطينية تتعدى الجامع الثقافي العربي إنما هي نابعة عن الارتباط بالخصوصية السياسية لفلسطين.

ولا يوجد تناقض بين قوة الحركة الوطنية الفلسطينية والفكرة السياسية الفلسطينية وبين قوة الحركة القومية العربية كما يتوهم البعض عندما يربط بروز الفكرة الفلسطينية بضعف الفكرة القومية العربية خاصة بعد هزيمة عام 1967. فلقد عاشت الحركة الوطنية الفلسطينية أهم فتراتها وأكثرها قوةً وأنطلاقاً عندما كان المشروع القومي العربي حياً. وضعفت الحركة الوطنية الفلسطينية عندما ضرب التيار القومي العربي وعندما أصبحت الحركة الوطنية الفلسطينية كياناً أو دولة رمزية عربية بممثليات دبلوماسية وجهاز بيروقراطي، وعندما تم التعامل معها على هذا الاساس ولكن بدون دولة فعلاً، وعندما أصبح شعار التحرير مشروع عربي رمزي هو أقرب إلى الايديولجيا منه إلى البرنامج السياسي الواقعي.

لقد أنتهى برنامج التحرير وتحوّل إلى شعار سياسي في السبعينات. ولم تكن المحاولات لاحلال الدولة الديمقراطية العلمانية محله تعبيرا عن مشاريع سياسية جادة ذات مقومات وأدوات تحقيق وذات رسالة لليهود في فلسطين - ولم يتم التعامل بجدية ضمن حركة التحرر الوطني الفلسطيني مع ما تعنية كلمات مثل 'علمانية' و'ديمقراطية'. وكان من الطبيعي أن ينجب ضعف الحركة القومية العربية، والتعامل العربي ثم العالمي مع  حركة التحرر الوطني الفلسطيني كأنها دولة رمزية، وازدياد قوة إسرائيل العسكرية والإقتصادية والإجتماعية وعدم قدرة أو رغبة الانظمة العربية القائمة على مواجهة الولايات المتحدة وسياستها الاقليمية، كان من الطبيعي أن تنجب هذه الاوضاع البرنامج المرحلي 1974، برنامج أقامة كيان فلسطيني على أي شبر من أرض فلسطين يتم تحريره خاصة بعد ان حسم الصراع على تمثيل الشعب الفلسطيني لصالح م.ت.ف وضد الاردن.

 ولكن البرنامج المرحلي ما لبث أن تحول إلى برنامج الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها شرقي القدس، الأمر الذي أدى في النهاية بعد حرب لبنان 1982 وبعد تفجر الانتفاضة إلى قبول م.ت.ف مبدأ تقسيم فلسطين عام 1988 ليس كحل مرحلي، وإنما كمبدأ قانوني وشرعي تقوم عليه الدولة الفلسطينية  في المستقبل مثلما تقوم عليه الدولة العبرية.

لقد كان مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية في الشتات كحركة لاجئين منظمين في منظمات الكفاح المسلح. ولكن بعد أنهيار تجربتي التواجد العسكري المسلح في الاردن ولبنان انتقل مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى الداخل، محولاً ساحة المواجهة الاساسية إلى مواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة. وكانت الانتفاضة هي التعبير الأصدق عن هذه الحالة. فقط على هذه الساحة ساحة احتلال ما بعد 1967 وكعملية تسوية أقليمية بديلة للتسوية مع الاردن أصبحت المفاوضات بين إسرائيل وم.ت.ف ممكنة. وليس صدفة أن يتم هذا التفاوض بشروط مجحفة بحق الفلسطينيين بعد حرب الخليج الثانية التي قوضت ما تبقى من التضامن العربي وعزلت جهاز م.ت.ف عن مصادر تمويله بعد أن عزلته حرب أيلول 1970 وحرب لبنان 1982 عن قواعده الجماهيرية في الشتات.

أنتقلت حركة التحرر الوطني الفلسطيني من عمليات المناشدة والأقناع على الساحتين العربية والدولية إلى الكفاح المسلح حتى التحرير، ثم تورطت في صراعات أهلية في الدول المحيطة بفلسطين (لبنان والاردن)، وذلك بسبب وضعية ثنائية السلطة التي نجمت عن وجودها المنظم، البيروقراطي والمسلح على الأرض، دون ان تستطيع حسمها لصالحها او لصالح القوى المتحالفة معها. ثم نقلت التشديد من الكفاح المسلح إلى العمل للحصول على اعتراف سياسي ودبلوماسي على الساحة الدولية. وقد نجحت بذلك خلال السبعينات والثمانينات. وانتقل مركز الثقل إلى الحركة الوطنية الفلسطينية داخل الأرض المحتلة، وقامت السلطة الوطنية الفلسطينية على الأرض بعد أن انشقت عملياً حركة التحرر الوطني الفلسطيني وضعفت مؤسسات م.ت.ف حتى الشلل.

لقد قبلت حركة التحرر الوطني الفلسطيني الشروط التاريخية للتسوية مع إسرائيل كعملية سياسية، عملية سلام. كما قبلت التسوية الأقليمية القائمة على أساس قرار مجلس الأمن 242، كما لو أن إسرائيل تفاوض دولة عربية غير قائمة بعد على شروط قيامها فيما بعد، وذلك ضمن معطيات دولية وموازين قوى أقليمية محددة لصالح إسرائيل. فالقرار 242 يسوي قضية الحدود بين دول، ولا يتعامل مع قضية الشعب الفلسطيني كقضية وطنية من منطلق مبدأ حق تقرير المصير.

ليس بالضرورة أن تقوم دولة فلسطينية ذات سيادة على كامل الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن الممكن أن يكون وجود سلطة فلسطينية تمارس صلاحيات واسعة غير سيادية على جزء من الضفة الغربية وقطاع غزة وضعاً مستمراً. ولكن في حالة قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة لا بد أن تكون هنالك علاقة مميزة بين الشعب الفلسطيني، بما فيه الاقلية العربية في إسرائيل وبين هذه الدولة. وفي حالة عدم قيام الدولة الفلسطينية فإن العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية ستتخذ بالتدريج كما يبدو على الأرض شكل البانتوستان الذي يذكر بنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا.

 هنالك من 'عرب إسرائيل' من يأمل ألا ينشأ هذا الفصل بين العرب واليهود، بل أن يكون بين المواطنين وغير المواطنين بحيث يُشملون ضمن شعب الأسياد. ولكن الواقع أن هذه الخيارات موهومة فالموضوع ليس 'أِما.. أو..' بل هنالك ألوان عديدة ودرجات مختلفة من الفصل والتمييز.

وكما أنه لم يكن بالإمكان فصل السياسة الداخلية الإسرائيلية في الماضي عن واقع الاحتلال وأثره عليها، كذلك لن يكون بالإمكان الفصل بين واقع المواطنة العربية في إسرائيل وواقع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في ظل نفس حيز السيادة والهيمنة الإقتصادية الإسرائيلية اذا لم تقم دولة فلسطينية.

ليس من الممكن تحقيق مشروع دولة لجميع مواطنيها ولا بالإمكان تحقيق المساواة للمواطنين العرب في إسرائيل في ظل كيان فصل عنصري بين إسرائيل والشعب الفلسطيني ودون أن تكون للشعب الفلسطيني دولة ذات سيادة. وهنالك حلان لنظام الفصل العنصري اما الانفصال في دولتين قوميتين واما أقامة دولة واحدة ديمقراطية، لا بد أن تكون في حالتنا دولة ثنائية القومية. ونقول ثنائية القومية كمكملة للديمقراطية، فالديمقراطية في بلادنا لا بد أن تأخذ بعين الإعتبار وجود قوميتين، واحدة يهودية إسرائيلية(عبرية) والثانية عربية فلسطينية.

لا يستطيع الوطني الفلسطيني في هذه الظروف أن يريح نفسه من عبء القضية الوطنية بالادعاء أنها قضية سلطة، وأن عملية أدارة السلطة والمجتمع في فلسطين هي قضية داخلية فلسطينية. ان من يطرح موضوع المواطنة المتساوية والديمقراطية وسيادة القانون وحقوق المواطن ويقف ضد تداخل الاجهزة الامنية مع الحياة المدنية ويصر على استقلال القضاء ويدافع عن قوة السلطة التشريعية داخل إسرائيل يفقد مصداقيته اذا لم يدافع عن هذه القضايا داخل مجتمعه الفلسطيني، ولو كان ذلك مع الأخذ بعين الإعتبار للظروف التاريخية والسياسية المختلفة.

لا يمكن للموقف الوطني أن يتعامل مع قضايا الشعب الفلسطيني كقضايا داخلية تديرها السلطة الفلسطينية، كما لا يمكن أن يتجاهل عدالة أو عدم عدالة الحل الذي قد تنجبه المفاوضات المسماة بمفاوضات الحل الدائم. يتضامن ويتفاعل الموقف الوطني الفلسطيني مع مساعي السلطة الفلسطينية لتوسيع رقعة الأرض التي تسيطر عليها وتضييق الرقعة التي يسيطر عليها الاحتلال. ولكنه أيضاً يلفت النظر لمعاناة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وفي غيره من مناطق الشتات، أولئك الذين حملوا على أكتافهم عبء الحركة الوطنية الفلسطينية  حتى عام 1982. ولا بدّ للقوى الوطنية الفلسطينية أن تلاحظ أنه لا يمكن التوصل إلى حل عادل لمسألة اللاجئين وتطبيق حق العودة  والتعويض في ظروف دولتين قوميتين واحدة يهودية والثانية عربية، ناهيك عن وضع لا توجد فيه دولة فلسطينية كاملة السيادة على كامل الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس.

لقد باتت القضية الوطنية الفلسطينية متداخلة مع قضية الديمقراطية، ولا يمكن لفلسطينيين يجمعون بين الفكرة القومية والفكرة الديمقراطية أن يتنكروا لدورهم في هذا السياق. وقد تتحول القضية الفلسطينية برمتها إلى قضية ديمقراطية اذا فشلت مساعي أقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأرض. عندها يتحول العمل الوطني بالتدريج إلى نضال ضد تفاصيل واقع الابارتهايد اليومي، وما يلبث أن يتحول إلى صدام شامل مع واقع الابارتهايد.– وفي حالة فشل مشروع الدولة كاملة السيادة يعود المشروع الوطني الفلسطيني ليتلاءم مع الظروف الإقتصادية والإجتماعية القائمة في فلسطين، وهي ظروف وجود قومييتين متداخلتين - عندما يتم أدراك هذا الواقع يتحول الصراع ضد الابارتهايد إلى صراع من أجل الدولة ثنائية القومية. في هذا الصراع يتداخل البعد القومي مع البعد الديمقراطي بشكل جوهري.

ماذا يعني اليسار في أيامنا؟

ربما كان القرن العشرين هو المرحلة الوحيدة في التاريخ البشري التي شهدت صراعاً واعياً وأيديولوجياً بين تيارات فكرية مختلفة دارت رحاه حول مسألة  شكل تنظيم المجتمع اقتصاديا وسياسيا، وذلك على شكل صراع بين أحزاب وقوى سياسية ما لبث ان تحول الى صراع، او على الاقل الى غطاء ايديولوجي لصراع، بين دول، بل ومعسكرات دولية متباينة. لقد كان الصراع بين هذه الأفكار في القرن التاسع عشر الاوروبي صراعاً فكرياً بدأ يتحزّب بشكل واضح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في أحزاب أشتراكية ديمقراطية وأحزاب لبرالية وأخرى محافظة أو حتى دينية.

أما في القرن العشرين وبعد نجاح ثورة أكتوبر، ثم قيام المعسكر الإشتراكي وحلف وارسو بعد الحرب العالمية الثانية وحلف شمال الأطلسي كأبرز معسكرين في القرن العشرين، فقد بدا الصراع بين الإشتراكية والرأسمالية كأنه أولاً وقبل كل شيء صراع بين منظومتين دوليتين ونظامي حكم، ثم، وبالدرجة الثانية فقط، كصراع طبقي واجتماعي داخل هذه الدولة.

مع أنهيار المنظومة الإشتراكية وتفكك الإتحاد السوفيتي تحقق إنتصار منظومة دولية على منظومة دولية أخرى، ونظام حكم على نظام حكم أخر بدون حرب بل بدون أن تطلق رصاصة واحدة بينهما مباشرة في فترة الأنهيار ذاتها. ولأن الصراع بين الإشتراكية والرأسمالية اتخذ شكل صراع بين دول، فقد ظهر هذا الأنهيار كأنه إنتصار الرأسمالية على الإشتراكية. هذا الإنتصار الذي بدا بدوره وكأنه نهاية التاريخ بمعناه الهيغلي، أي كأنتقال جدلي وكتقدم من حقبة إلى حقبة لا يوجد ما يتلوها بالمعنى نفسه للانتقال التاريخي.

 ومع انتشار هذا الوهم والترويج له في عهد الإستهلاك الأعلامي والمشهدية الأعلامية دخل اليسار والفكر السياسي اليساري في أزمة عميقة. والملفت للنظر ان الشعور العميق بالأزمة لم يقتصر على ذلك الجناح من اليسار الذي دعم الإتحاد السوفيتي والمنظومة الإشتراكية بشكل أعمى يكاد يشبه الانتماء إلى كنيسة عالمية مركزها موسكو. وإنما طال الشعور بالأزمة اولئك الذين ناهضوا النظام الذي ساد في الإتحاد السوفيتي وأنتقدوا أتباعه على تبعيتهم المطلقة، وبلغ الشعور بالأزمة حتى اولئك اليساريين الذين أدعوا ان النظام الذي ساد في الإتحاد السوفيتي لم يكن إشترياكيًا بل رأسمالية دولة بيروقراطية، وأن الحزب الذي حكم تلك البلاد لم يكن يسارياً ولا تربطه بالفكر اليساري وقيم اليسار الا الايديولوجيا، وكان بنظرهم يمينياً وتقليدياً إلى أقصى الحدود، بل وكان رجعياً لأنه تحوّل إلى حاجز أمام التقدم العلمي والتكنولوجي والاجتماعي وأمام تحرر وتقدم وسعادة الإنسان كفرد.

وكان هنالك في اليسار من وجّه نقداً للاتحاد السوفيتي منطلقاً حتى من المفاهيم الإشتراكية اللينينية التقليدية ذاتها، مفاهيم 'ديكتاتورية البروليتاريا'، فالذي حكم ذلك البلد في نظر تلك الأوساط ليس البروليتاريا، والطبقة العاملة لم تنتخب حكامه، ولم تشترك بادارته ولا حتى باداره شؤونها هي، لا في عملية الإنتاج ولا حتى في التنظيم النقابي الذي تسمح باستقلاليته بعض الدول الرأسمالية، وإنما حكمت البلاد طبقة بيروقراطية فاسدة غير خاضعة لا لمحاسبة المجتمع ككل ولا لمحاسبة الطبقة العاملة.

سوف يجد من يبحث في تاريخ الفكر اليساري منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا تراثاً فكرياً عظيماً يؤسس لأفضل نقد ممكن ضد النظام السياسي والإقتصادي الذي ساد في المنظومة الإشتراكية، وضد الثقافة المحافظة والمغلقة شبه الدينية التي قدمت التبرير الايديولوجي لوجود هذا النظام وللقمع الذي مارسه.

وما زالت مدارس فكرية وسوسيولوجية عديدة تتنافس فيما بينها لتفسير انهيار هذا النظام، ولكن التفسيرات الأفضل والأكثر علمية تقدمها المدارس الأكثر قرباً من الفكر اليساري والتي أسست نظرياً للاشتراكية ذاتها. فبدءً من المادية التاريخية التي ابدعت مقولة الصراع بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وحتمية انهيار علاقات الإنتاج والملكية السائدة في هذا الصراع اذا أصبحت عائقاً أمام تطور قوى الإنتاج، مروراً بأعتبار ملكية الدولة لوسائل الإنتاج بشكل عام مقدمة لقيام رأسمالية دولة فاسدة وكسولة وغير منتجة ومحافظة وغير خاضعة للمحاسبة والمساءلة وثقيلة الحركة، وانتهاءً باعتبار الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن وحرية التعبير وحق الأقتراع وسيادة القانون والمساواة امامه مطالب حداثية طبيعية لا بد لأي نظام يمنعها أن يدخل في تناقض وجودي مع المجتمعات المدنية الحديثة، توالت التفسيرات العلمية الطابع والتحليلات النقدية اليسارية المنطلق لتقدم النماذج الافضل لفهم انهيار المعسكر الإشتراكي والنظام الإشتراكي كنظام دولة.

رغم براعة الحجة العقلانية والتفسير باثر رجعي دخل اليسار على تيارته المختلفة في أزمة ما زالت مستمرة منذ بداية التسعينات. وكما يبدو فأن الأزمة لا تعود لانهيار النظام الإشتراكي فحسب، خاصة وأن بعض تيارات اليسار قد قطعت كل صلة مع هذا النظام قبل انهياره، بل وكانت أكثر نقدية تجاهه خاصة في مراحله الأخيرة التي حاول فيها تبني أنماط حياة المجتمع الإستهلاكي. وكما ان اليسار في العالم الرأسمالي لم يكن مؤيداً للنظام الإشتراكي مع استثناء الاحزاب الشيوعية، كذلك لم تكن النخب التي حكمت الدولة الإشتراكية أيضاً يسارية، لا في سياستها ولا في سلوكها العام.

وكانت سهولة انتقال اوساط واسعة من الأحزاب الشيوعية في الدول الإشتراكية سابقاً إلى معسكر اليمين القومي وأنتقال اجزاء واسعة من الأجهزة والبيروقراطية السياسية والإقتصادية بشكل يكاد يكون طبيعيا إلى ادارة المشاريع الرأسمالية والاستثمارات الاجنبية بعد الإنهيار مثيرة للتساؤل، وقد رسمت أكثر من علامة استفهام حول طبيعة الثقافة السياسية عند النخبة السياسية التي حكمت تلك الدول. وتشهد الدولة ما بعد الإشتراكية تعايشاً تاماً لجهاز الدولة وحتى جهاز الحزب القديم وقياداته مع النظام الرأسمالي القائم على التنافس الحر عوضاً عن النظام الرأسمالي القائم على ملكية الدولة لوسائل الإنتاج.

وبعد أنهيار المعسكر الإشتراكي حاولت بعض التيارات اليسارية كما حاول بعض مثقفي اليسار أعادة الإعتبار للعلاقة بين الديمقراطية وبين الإشتراكية. والواقع أن الأحزاب الإشتراكية الأولى في نهاية القرن التاسع عشر لم تسمي نفسها بأسم الإشتراكية الديمقراطية جزافاً - فالعلاقة بين الإشتراكية والديمقراطية بالمعنى الأصلي لحكم غالبية الشعب، هي علاقة بنيوية نظرياً وتاريخياً ولا حاجة لاعادة الإعتبار لها. والإشتراكية التي توهمت بأمكانية الأستغناء عن دمقرطة الحياة السياسية بحجة أن الدولة بمجملها أداة قمع لطبقة ضد طبقة وأن الهدف هو أنحلال الدولة وليس النظام الديمقراطي المرتبط تاريخياً بوصول البرجوازية إلى السلطة، هذه الإشتراكية التي حولت الديمقراطية إلى مجرد 'شكل سلطة رأس المال' و'الدولة إلى مجرد أداة قمع طبقة ضد طبقة'، لم تحل الدولة من ناحية، ولم تنظمها تنظيماً ديمقراطياً يقي من تعسف الدولة كأداة قمع، ما دامت قائمة، من الناحية الأخرى، وبذلك أقامت حكماً ديكتاتورياً حوّل الدولة إلى أداة تنظيم قمعي شاملة لكافة نواحي الحياة بما فيها علاقات التبادل الأجتماعي والإقتصادي التي كان السوق الرأسمالي قد فصلها عن الدولة. وبقدر ما غيبت الدولة في النظرية بقدر ما طغت اهميتها في الواقع الى درجة الشمولية.

ليست الإشتراكية ملكية الدولة على وسائل الإنتاج، ولم تكن كذلك في يوم من الأيام، بل الإشتراكية هي محاولات متطورة ومتغيرة باستمرار ذات بعد فكري وأخلاقي وسياسي لتنظيم المجتمع بشكل أكثر عدالة وأكثر مساواة وأكثر ديمقراطية. وقد تضمن هذا التوق للعدالة الإجتماعية في مراحل فكرية محددة نقمة عارمة على الملكية الخاصة باعتبارها أساس البلاء وأساس فساد المجتمع والأفراد تعود جذورها إلى مصلحين اجتماعيين منذ القرون الوسطى. وقد انتقل اعتبار الملكية الخاصة الخطيئة الأولى إلى الفكر الإشتراكي الحديث، الذي اقترح فيما اقترح الملكية العامة على وسائل الإنتاج بشكل خاص كأساس لتصفية الصراع بين الطبقات في المجتمع وكمقدمة لزوال الملكية الخاصة بشكل طبيعي. ثم جرى بنقلة فكرية وسياسية أحدثها الفعل السياسي الثوري في دولة غير متطورة رأسماليا  تفسير الملكية العامة على أنها ملكية الدولة حتى لو كانت دولة غير ديموقراطية.

وقد رأى هذا التيار الماركسي النقدي ان النظام الرأسمالي قد مهد  لامكانية الإشتراكية الديموقراطية بواسطة العمليات التالية: (1) انفصال الإستغلال الإقتصادي بموجب قوانين السوق عن القمع السياسي الذي تقوم به الدولة وبالتالي امكانية قيام الدولة الديمقراطية وفي ظلها استغلال اقتصادي؛ (2) انفصال المجتمع إلى طبقتين كبيرتين منظمتين، العمال والرأسماليين؛ (3) تجميع وتمركز وسائل الإنتاج من خلال الصناعات الثقيلة والأنظمة المالية الموحدة والبنوك. وكان من المفروغ منه بالنسبة لهذا التيار أنه اذا كانت الملكية العامة على وسائل الإنتاج تعني ملكية الدولة فمن الواضح والبديهي أن تكون ملكية دولة ديمقراطية، أولاً لأن هذا الشكل من الحكم هو من انجازات البرجوازية التي تحققت ويعتبر الغاؤها موقفاً رجعياً، وثانياً لأن حكم العمال يعني حكم الأغلبية الساحقة من المجتمع في حينه ولا يعني على الإطلاق حكم حزب، ولو كان حزباً ثورياً. ولم يخطر ببال أحد من مؤسسي هذا التيار ان تعتبر ملكية الدولة على وسائل الإنتاج تطبيقاً للاشتراكية وللعدالة الإجتماعية خاصة اذا كانت الدولة ديكتاتورية ومتخلفة ولم تمر على الإطلاق بمرحلة الديمقراطية السياسية. ويحق لنا أن ندعي أن اليسار بشكل عام، ومنذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان اشد المدافعين عن توسيع الحقوق الديمقراطية وحق الاقتراع العام وحرية الصحافة وغيرها، وان العدالة الإجتماعية بالنسبة له هي تأسيس أقتصادي للمجتمع الإنساني الحر بحيث يُحرر الإنسان ليس فقط سياسياً وإنما ايضاً يحرر من الآلة ومن الإستغلال الإقتصادي، وليصبح بالإمكان بناء شخصية الإنسان الحر لتتطور مواهبه وطاقاته وتنطلق شخصيته بعد ان تحرر من وظيفة قطعة الغيار في آلة الإنتاج الرأسمالي، او وظيفة المستهلك الذي تصمم شخصيته قوانين السوق الإستهلاكي الرأسمالي. بالنسبة لليسار لا تنفصل الديمقراطية السياسية عن الديمقراطية الإجتماعية، وهذا لا يعني أنه لا يرى فرقاً بين الديمقراطية والديكتاتورية في النظام الرأسمالي بل هو يعتبر الديمقراطية نظاماً أفضل وأرقى من الديكتاتورية بمقياس تحرر الإنسان وحقوقه.

العدالة الإجتماعية غير ممكنة دون ديمقراطية، كما أن الديمقراطية بمعنى حكم الشعب لا تتحقق فعلاً ألا مع ضمان العدالة الإجتماعية. ولا يعتبر اليسار الأمين على مصادره الأخلاقية التي تتوق إلى سعادة الإنسان وتحرره ملكية الدولة على وسائل الإنتاج قيمة بحد ذاتها. بل هو يسأل السؤال أي دولة؟ وكيف تدار هذا الملكية، ولصالح من؟

وحتى بعد أنهيار النظام الإشتراكي وضياع البوصلة لدى اليسار بقيت البوصلة الوحيدة لدى بعض تياراته، ملكية الدولة، فهو يعادي أي محاولة للخصخصة ويتمسك بشكل عام بملكية الدولة، حتى لو كانت الدولة هي إسرائيل وحتى لو كانت هذه الملكية صهيونية جمهورانية الطابع ضد الاقلية العربية مثلاً، وحتى لو كانت في غير صالح المستهلك بشكل عام بانشائها نوعاً من الاحتكار في الاسعار وشروط تشغيل ارستقراطية وظيفية تحتل مكاناً عالياً على سلم الاجور.

صحيح أن اليسار ما زال يحتفظ برد فعل غريزي صحي وسليم ضد الخصخصة بشكل عام، ولكن هذه ليست المقياس ولا المعيار الوحيد، فقد تكون الشركات القومية مثلاً عبارة عن احتكارات تديرها طبقة بيروقراطية رأسمالية تثرى على حساب فئات واسعة من السكان.

ولكن الأزمة العميقة التي يعاني منها الفكر اليساري السياسي نابعة من تطور النظام الرأسمالي نفسه بشكل متواتر يحبس الأنفاس وعدم مقدرة اليسار على مجاراة هذا التطور بطروحات جديدة. لقد أدت الثورات الصناعية المتتالية من الاتمتة إلى التقنية العليا وانظمة الحاسوب الكبرى والمعقدة النابعة من الثورات العلمية وتطور قوى الإنتاج وولوج العلوم الالكترونية الدقيقة والعلوم البيولوجية والوراثية في عمليات الإنتاج، ادى هذا كله إلى تغير سريع في علاقات الإنتاج والملكية السائدة كان اولها توقف فرز واستقطاب المجتمع إلى طبقتين: العمال والرأسماليين، ونشوء طبقات وسطى جديدة واسعة تعتمد على توسع متواتر لقطاع الخدمات الناجم عن زيادة الأرباح وفائض القيمة في عملية الإنتاج، وعلى توسع قطاعات استهلاكية جديدة مثل صناعة أوقات الفراغ، ونشوء مهن مستقلة جديدة، كما تعتمد على ازدياد هائل في اعداد المتعلمين والفنيين والمهندسين ونشوء المهن الإدارية بمختلف اشكالها. وقد ارتفع مستوى معيشة السكان بالمجمل في الدول الرأسمالية المتطورة كما تطورت وتنوعت حاجات السكان، وطرحت اسئلة جديدة تطال ليس فقط كمية الحاجات المزدادة باستمرار ووسائل سدها وإنما ايضاً نوعية الحياة. ومع حالة الوفرة الناجمة عن ازدياد انتاجية العمل بشكل غير مسبوق وازدياد وتنوع حاجات الناس ووسائل سدها، نشأت ايضاً وبشكلٍ موازٍ قطاعات اجتماعية خارج عملية الإنتاج ونسب بطالة مستديمة عالية نسبياً.

وقد عبر اليسار عن نفسه في هذه الثورة المستمرة منذ بداية النصف الثاني للقرن العشرين بوسائل عديدة منها، النضالات النقابية التي نجحت في تحسين شروط عمل العاملين وتأمينات الشيخوخة وتحديد ساعات العمل والتأمين الصحي وغيرها، ولكنها لم تنجح كنضالات ضد البطالة في وقف استثمار التفدم العلمي والتكنولوحي في عملية الإنتاج او في وقف عملية اندثار صناعات كاملة تنتمي إلى الرأسمالية المبكرة. وقد تم عمليا تصدير هذه الصناعات الى اقتصاديات الايدي العاملة الرخيصة، فتحول الصراع القديم بين اليسار واليمين الى صراع ذي طابع عالمي، يندرج ضمن الصراع ضد اسقاطات عملية العولمة. 

كما عبر اليسار عن نفسه من خلال الحركة الطلابية والثورة الثقافية في الستينات والحركات النسوية القوية التي تلتها وفي التضامن مع حركات التحرر الوطني ومناهضة السياسات الامبريالية والحروب التي أنجبتها والديكتاتوريات التي اعتمدت عليها في العالم الثالث.

كذلك عبر اليسار عن نفسه بالاصرار على تحرير قطاعات اجتماعية معينة من قوانين السوق بالنضال من اجل إخضاعها لاهداف اجتماعية سامية ولو على حساب التنافس وقوانين السوق. وباعتقادنا فان هذه الجبهة هي احدى أهم الجبهات التي يعبر فيها اليسار عن ذاته، فمبدأ المساواة هو مبدأ سام يتم فرضه على قوانين السوق فرضاً، فهذه الأخيرة  تفرز بالضرورة وتعيد انتاج انعدام المساواة بين المرأة والرجل، وبين العمال المحليين والأجانب. واليسار يطالب ويجب أن يطالب بسياسة ضرائبية تهدف إلى أعادة توزيع الثروة، وإلى تأمين شروط حياة أنسانية لفئات أجتماعية فقيرة ألقت بها قوانين السوق خارج عملية اعادة انتاج المجتمع لذاته بموجب هذه القوانين. ويطرح اليسار تحرير صحة الناس وشيخوختهم من منافسة قوانين السوق بحيث يشرف عليها المجتمع بواسطة اجهزة رسمية وشبه رسمية خاضعة للمحاسبة والمساءلة، ويحاول اليسار قدر الأمكان تحرير النفوس الإنسانية من المنافسة غير المنضبطة لصناعات التسلية والترفيه ووسائل الاعلام الخاصة، وذلك بإيجاد صيغة متوازنة بين هذه الحقوق وبين الحق في حرية التعبير. كما يحارب اليسار من أجل وضع ضوابط على عملية تلويث البيئة بشكل عام، ومن اجل مساواة المرأة بالرجل ومن أجل حقوق الاطفال.

يناضل اليسار من أجل ازدياد تدخل الشعب بالسياسة بواسطة توعيته من ناحية وتوسيع الديمقراطية من ناحية أخرى، وإخضاع كافة المؤسسات الحكومية للمراقبة والمساءلة، بما فيها تلك الاجهزة التي كانت تضع ذاتها فوق المحاسبة بالاعتماد على ديماجوجيا وطنية او بالاعتماد على شبح تهديد أمن الدولة او وحدة الأمة وغير ذلك.

ويسعى اليسار إلى تنظيم الناس في مبادرات ذاتيه وفي أدارات ذاتية ديموقراطية فيما يتعلق بأحيائهم وبيئتهم وأماكن عملهم، كما يسعى لتوسيع حصة وصلاحية هذه الادارة الذاتية على حساب الجهاز البيروقراطي للدولة خاصة فيما يتعلق بدفاع الناس عن سلامة المتجمع والبيئة امام دافع الربح غير الملجوم عند الشركات الكبرى، أو أمام تجاوزات أجهزة الدولة، أو فيما يتعلق بالاشراف على صحة وتعليم الاطفال. ولكن اليسار يحارب استغلال هذه المبادرات لصالح ترسيخ ومأسسة النزعة المحافظة، التقليدية والمنغلقة التي تتعرض لها الفئات شعبية. قد تستغل هذه النزعة للادارة الذاتية من اجل التقوقع ومحاربة الحداثة أو محاربة تشريعات تقدمية قد تقوم بها الدولة خاصةً فيما يتعلق بالحريات الفردية او مساواة الرجل بالمرأة. وقد يكون المجتمع في بعض الحالات خاضعاً لسيطرة قوى أكثر محافظة من القوى التي تسن القوانين في الدولة ويحاول بالتالي محاربة قوانين متنورة او ديمقراطية أو علمانية. 

توجد لدى اليسار نزعة فطرية سليمة تجعله دائماً مع الشعب ومع الجماهير، ولكن اليسار، كما نفهمه، لا يعتبر 'موقف الجماهير' أو المزاج الجماهيري هو المقياس، ولا يعتبر الالتصاق بالجماهير المعيار الوحيد للموقف السليم والتقدمي. اذ قد تهيمن ثقافياً في اوساط جماهيرية واسعة ايديولجيات غيبية. ولذلك، ورغم صعوبة الأمر، يضع اليسار خطاً فاصلاً بين الشعبية والشعبوية ويعتمد التوعية والتنوير والارتباط بمصالح الناس والجماهير الواسعة وليس مخاطبة غرائز ومشاعر الجماهير الواسعة في خطابه، وبذلك يختلف عن اليمين الشعبوي الذي قد يعبر عن مشاعر الجماهير بدل التعبير عن مصالح الجماهير. يخاطب اليمين الشعبوي  مشاعر الغبن والظلم ليس بالتوعية، وإنما بنشر الاساطير والخرافات حول المؤامرات التي تحاك على وحدة الشعب، وضد الأفكار المستوردة، وضد الاقليات الدينية والعرقية، وغير ذلك من الأفكار التي قد تنتشر بسرعة وسهولة وتحقق هيمنة لثقافة محافظة ورجعية ومعادية للديمقراطية والتقدم.

يحترم اليسار مشاعر الناس الدينية، ولكنه علماني بمعنى فصل الدولة عن المؤسسة الدينية، وفصل العقيدة الدينية عن الحزب السياسي، وجعل القرار في الشؤون الدينية قراراً فردياً خاصاً بالمواطن لا يجوز استثمار علاقات القوة والسيطرة في فرضه، كما لا يجوز فرض أو منع الشعائر الدينية طالما لم تتناقض مع حقوق المواطن وحرياته الاساسية كما هي معرفة في الفكر الديمقراطي الحديث.

لا يقبل اليسار بمقولات عقائدية جاهزة (دوغما) تحدد سلوكه السياسي والاجتماعي. لقد كان هنالك في الماضي غير البعيد من اراد أن يلحق سلوك اليسارباللتناقض بين 'المعسكرين الرأسمالي والإشتراكي' بحيث يخضع كافة 'التناقضات الثانوية'، بما في ذلك في بلاده، لهذا التناقض في صالح المعسكر الإشتراكي ضد الرأسمالية. وهنالك بالطبع من أراد اتباع اليسار لمقولة 'الصراع بين الطبقات' بحيث يبرمج تصرفه ضد كل ما هو 'برجوازي'، بما في ذلك الديمقراطية والتقدم التكنولوجي، وبحيث يبدو النضال من اجل حقوق الفرد والمواطن ودفاعاً عن حيزه الخاص والصراع على جودة البيئة ومساواة المرأة بالرجل وغير ذلك، وكأنها صراعات طبقة وسطى تتجنب الخوض في المعركة الأساسية، ألا وهي قضية الصراع الطبقي ضد سلطة البرجوازية السياسية اولاً كمقدمة لنسف سيطرتها الإقتصادية.

عندما أصبحت المعايير مقولات مقولبة وجاهزة ضاعت خصوصية اليسار الاساسية المتمثلة بالسعي من أجل سعادة الإنسان عبر المساواة والحرية. وينطلق اليسار، كما نفهمه، من افتراض ان الحرية تحقق جوهر الإنسان، وتصبح بالتالي شرطاً لتطور قدراته ومواهبه ولتحقيق الطاقة الكامنة فيه. اليسار الرومانسي فقط يقف ضد التقدم والتطور. ومن المترض أن ينسجم الفكر اليساري عادة مع التطور والتقدم وألا يعاديهما ولو بحجة العداء للعولمة. ومن الطبيعي ألا يقف اليسار ضد التطور الإقتصادي القائم في الواقع على شكل تعميم انماط الإستهلاك والحاجات البشرية الناجم عن عولمة رأس المال. والنضال ضد العولمة لا يوجه ضد تعميم الحاجات وإنما ضد تكريس العجز عن تلبيتها بانتاج اشكال جديدة من هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات، والتوزيع غير المتساوي للثروة، وتكريس حالة الدول المدينة والمدانة.

 فاليسار لا يسير بالعالم إلى الوراء (وهو أصلاً غير قادر على ذلك) ولا يدير ظهره للواقع وإنما يشخص الواقع الجديد ونزعات تطوره وإمكانيات العمل الكامنة فيه. عندما تطور الفكر اليساري في بداياته لم يقف ضد رأس المال، بل ضد الاقطاع، كاشفاً عن التناقضات الكامنة في الواقع الجديد الذي ينتجه رأس المال. كما وقف في حينه الفكر، الذي نعتبره اليوم يساريا، مع التنور ضد التخلف، ومع تنظيم ومأسسة المجتمع المؤلف من افراد احرار بدلاً من التبعية الشخصية التي تميز بنية المجتمع التقليدي والاقطاعي.  لقد وقف اليسار مع عملية علمنة الحياة السياسية والإقتصادية وفصل المؤسسة الدينية عن الدولة، كل هذا إلى ان تبينت الحدود التاريخية لقدرة الرأسمالية على التقدم وتحرير الإنسان وتحوّلت إلى استعباده بالاساليب الجديدة، هنا يكشف اليسار عن القوى التحررية في المرحلة الجديدة، وكانت في حينه الطبقة العاملة المنظمة في البروليتاريا الصناعية.

يحاول اليسار اذاً ان يكشف عن القوة التحررية الجديدة المؤدية إلى قدر كبير من المساواة (العدالة الإجتماعية) والديمقراطية السياسية والإجتماعية وتحرر الإنسان. وهو يبحث عنها وعن ركائزها الإجتماعية في سياق التطور الإقتصادي العاصف في النظام الرأسمالي وتحول الطبقة العاملة الصناعية إلى اقلية، وفي سياق عملية العولمة ايضاً كشكل من اشكال التطور الرأسمالي العالمي يزيد من تهميش شعوب العالم الثالث بعد ربطها بعجلة اقتصاد الدول الصناعية المتطورة.

في الدولة الديكتاتورية يطالب اليسار بالديمقراطية السياسية كضرورة من ضرورات العدالة الإجتماعية وكشكل من أشكال الدولة افضل واكثر تقدماً من الشكل الديكتاتوري. ولكن اليسار لا يعتبر الديمقراطية مجرد اختيار الرئيس او السلطة عبر الأغلبية في انتخابات عامة تجري تحت رقابة الامم المتحدة او دول اجنبية. وإنما يبحث اليسار عن القوى الإجتماعية ذات المصلحة بالنظام الديمقراطي، كما يشير إلى ضرورة قيام المؤسسات المدنية في المجتمع والقادرة على مأسسة الديمقراطية. الديمقراطية بالنسبة لليسار ليست مجرد تعددية سياسية قد تتحول في بعض الدول إلى تعددية أقوامية (إثنية) او طائفية تعيد انتاج النظام التقليدي، بل هي ضمانات ممأسسة ومتفق عليها من قبل كل الفئات الشرعية الفاعلة سياسيا لحقوق المواطن السياسية والإجتماعية ولسيادة القانون واستقلال القضاء وحق محاسبة ومساءلة السلطة السياسية وحق المواطن بحرية اختيار العقيدة الدينية وحرية ممارسة او عدم ممارسة الشعائر الدينية. الديمقراطية هي مجموعة ضمانات ممأسسة لعملية تداول السلطة دورياً وسلميا اذا ما رأت اغلبية السكان ذلك، والديمقراطية هي مجموعة ضمانات ممأسسة لحقوق الاقلية.

لقد وجدت أزمة اليسار اكثر تعبيراتها وضوحاً بعد انهيار المعسكر الإشتراكي ولكنها نشأت مع نشوء النظام الرأسمالي المتطور القادر على تكييف نفسة مع تطور قوى الإنتاج، وازدادت مع تغيّر البنية الطبقية لهذا النظام باتساع الطبقة الوسطى ونشوء فئة الاداريين والتكنوقراطيين الواسعة. ثم اتخذت بعداً جديداً مع نشوء الدول المستقلة في العالم الثالث وتنازل رأس المال العالمي عن الاستعمار السياسي المباشر، اذ تفككت حركة التضامن مع نضال المستعمرات التي غالباً ما قادها اليسار في القرن العشرين، وبعداً آخر مع ازدياد مطالب الطبقات الوسطى الجديدة باصلاح تعامل النظام الرأسمالي مع قضايا ظروف العمل والبيئة والتأمينات الإجتماعية وزيادة الحريات السياسية والفردية وتوسيع حيز الإنسان الخاص مقابل حيز الدولة، ونشوء حيز عام جديد يحاول ان يثبت نفسه خارج نطاق الدولة يستنهض تسميات قديمة مثل 'المجتمع المدني' و'الديمقراطية المباشرة' و'الديمقراطية الاهلية' وغير ذلك من التسميات. في غمار هذه الازمة نشأت نزعتان غيبيتيان لدى قوى اليسار المأزومة التي لا تجد لها خصوصية سياسية واجتماعية ولا تجد القاعدة الإجتماعية الطبقية والسياسية الحزبية التي تستند أليها:

1) في العالم الثالث انزلق قسم من اليسار إلى التمسك بتعابير ومصطلحات معادية للتطور والتقدم باتت شعارات اصولية محلويّة تناهض الحداثة. وبحث هذا الجزء من 'اليسار سابقاً' عن قواسم مشتركة مع الاصولية في العداء للغرب وللعولمة، متجاهلا، بل ومتسترا على حقيقة،  أن هذا العداء يتم من منطلقات مختلفة، وأجّل في سبيل هذه القواسم المشتركة  قضايا الديمقراطية والعدالة الإجتماعية وعقلنة وعلمنة العلاقات السياسية والإجتماعية في بلده. لقد بات هذا اليسار خاضعاً للهيمنة الثقافية للاصولية التي نجحت في تبني جزء من خطابه السياسي التقليدي، خاصةً ذلك المعادي للغرب وللديمقراطية باعتبارها شكل حكم البرجوازية، ومشتركا معها في عدم القدرة على استيعاب تطورات الحداثة وآثارها المشوهة على مجتمعات العالم الثالث.

2) وقد أنزلق قسم آخر من اليسار إلى التخلي الكامل عن قيم اليسار وخطابه خاصة تلك التي تؤكد على العدالة الإجتماعية والمساواة وتحول إلى استيراد 'وصفة الديموقراطية' العلاجية، لا كعملية دمقرطة نضالية سياسية واجتماعية ضمن المجتمع المعطى، بل كمقولات جاهزة تردد كنوع من التقليعة السياسية دون مضمون سياسي واجتماعي، ودون تأثير حقيقي على المجتمع والسياسة. ولكن هذه النزعة أدت الى مراجعة فكرية نقدية ضرورية لموقف أحزاب اليسار من الديموقراطية.   وعندما انزلقت هذه المراجعة النقدية إلى معاداة الحزبية والحزبيين، وإلى معاداة عملية بناء المؤسسات، وأدارت ظهرها لمجتمعها في جمعيات نخبوية غير ديمقراطية في العادة لا علاقة لها بالواقع السياسي القائم ولا بصراعاته باتت هذه المراجعة النخبوية في الواقع معادية للديمقراطية، بل ومجهضة لعملية التحول الديمقراطي بتقديمها صورة وهمية عن الديموقراطية عديمة العلاقة بالقوى الإجتماعية والسياسية الفاعلة في المعركة من اجل الديمقراطية.

 لم يكن بوسع واقع اليسار، هذا المتمسك باصولية المصطلحات والنصوص وذلك المتخلي عنها وعن القيم اليسارية معها، ان ينجب اي فكر يساري خلاق قادر على تحديد تحدّيات المرحلة وأشكال مواجهتها سياسياً على الطريق من اجل سعادة الإنسان وحريته في اوطاننا.

ونحن يساريون لأننا نبحث باستمرار عن هذا الطريق. وباعتقادنا فإن البحث عنه غير مجد دون الربط بين قيم اليسار: المساواة، العدالة الإجتماعية، الحرية، قيم التنور الاجتماعي والتقدم وعقلنة وأنسنة العلاقات الإجتماعية والسياسية وبين الديمقراطية كنظام حكم والقضية القومية – فالديموقراطية والعدالة الإجتماعية هي اصدق الطرق للتعبير عن ارادة الامة ولا يكتمل مبدأ حق تقرير المصير دونهما. كما ان الحديث عن وحدة الأمة بغياب الديمقراطية والعدالة الإجتماعية هو خداع. والثقافة السياسية اليسارية والديمقراطية غير قادرة على التغلغل والارتباط بقضايا الناس وحياتهم وثقافتهم دون عمل سياسي ودون الارتكاز إلى الانتماء القومي كانتماء للشعب وللناس ودون معالجة قضايا الناس الحياتية اليومية .

لقد أنجبت أزمة اليسار في الدول الرأسمالية المتقدمة تعبيرات عدة عن ذاتها في ظروف تميز المجتمع الإستهلاكي. وتندرج اهم هذه التعبيرات تحت عنوان انهيار الايديولوجيا و'ضياع معنى' العمل السياسي المباشر. ولكن 'ضياع المعنى' هذا  يتم في اوروبا في ظل قوة قيم اليسار ضمن الثقافات السياسية السائدة خاصةًا في كل ما يتعلق بالمساواة والحرية وسعادة الفرد ومساواة المرأة بالرجل والتأمينات الإجتماعية، وصمود هذه القيم امام هجمة اليمين التقليدي المتجددة مع التاتشرية والريغانية منذ نهاية السبعينات وحتى منتصف التسعينات. لقد تحقق في اوروبا، خلافاً للولايات المتحدة، جانب اساسي من القيم اليسارية كمنجزات تاريخية للحركة النقابية والنسائية والطلابية وكلها بقيادة اليسار، في مؤسسات اصبح من الصعب على اليمين تقويضها حتى في حالة وصوله إلى السلطة، وعندما يحاول اليمين العودة بالتاريخ إلى الوراء فيما يتعلق بهذه المنجزات الإجتماعية تكون النتيجة في العادة هزيمته الإجتماعية.

ولم ينجح اليسار في تثبيت مثل هذه القيم في مؤسسات في الولايات المتحدة الامريكية، ولم يصل اليسار هناك في أي مرحلة إلى تنظيم الاحزاب الإشتراكية الديموقراطية او الشيوعية اليسارية الاخرى في دولة مهاجرين يشكل فيها التنقل حلاً للصراع الطبقي بالنسبة للفرد. وفي حين يرتفع فيها مستوى معيشة الطبقات العاملة والمنظمة الناجمة عن الإنتاجية العالية لرأس المال إلى درجات لم تعرفها اوروبا على الإطلاق، يقذف المجتمع خارج عملية الإنتاج والإستهلاك بفئات واسعة نسبياً، مقارنة بأوروبا، من الفقراء والعاطلين عن العمل والمشردين والمسنين. ولكن هذه الفئة الواسعة تبقى أقلية تختلف القوى الإجتماعية على كيفية التعامل معها، ولكنها بالمجمل تسير دونها، أي ان المجتمع الرأسمالي المتطور ذي عملية الإنتاج والإستهلاك المحوسبة والمشهدية الاعلامية الطاغية والمهيمنة ثقافياً، والصناعات التقليدية المتقلصة باستمرار والتي يتم تصديرها نحو دول المحيط ذات الايدي العاملة الرخيصة، وقطاع الخدمات المتوسع باستمرار وصناعة اوقات الفراغ ذات القوة العاتية، هذا المجتمع بات يتحرك إلى الامام متناقشاً في داخله حول ضرورة الالتفات إلى الفئات الإجتماعية المتساقطة وغير القادرة على التماشي معه من الفقراء المعدمين وعديمي المأوى والمرضى والطاعنين في السن والمهاجرين غير القانونيين العاملين على هامش قطاع الخدمات وفي الاعمال الخطرة.

وكتعويض عن هذه الحالة من عجز اليسار الامريكي على مواجهة هذا التحدي الكبير سياسياً ضمن تنظيم سياسي قادر على طرح بدائل سياسية باشكال معقولة ضمن النظام الرأسمالي القائم، كما تفعل الإشتراكية الديموقراطية في اوروبا، فقد تطور خطاب يساري عاجز عن التأثير متخفياً وراء أهمية اللغة والخطاب السياسي وتمثيلهما لعلاقات القوى في المجتمع.

لقد انجبت اوروبا السبعينات، اوروبا الثورة الثقافية، اوروبا رأس المال القادر على التكيف مع تطور قوى الإنتاج ثقافة وفلسفة ما بعد الحداثة،التي تذكر باوروبا نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بعد تجاوز النظام الرأسمالي أزمته الاولى، خاصة في مرحلة انتشار فكر نيتشة وهايدغر. وهنالك علاقة لا تنكر بين افكار ما بعد الحداثة لدى فوكو وداريدا وليوتار (مع الفوارق الكبيرة بينهم) مع افكار نيتشة وهايدغر. ورغم كشف هذه الأفكار الما بعد حداثوية لجوانب لا عقلانية هامة في الحداثة خاصة فيما يتعلق بسيطرة علاقات القوة على المؤسسات كمؤسسات، مهما كانت وظيفتها، وفيما يتعلق بالخطاب كتعبير عن هذه العلاقات ان كان ذلك في السياسة او العلوم، وغياب الذات الفاعلة والمؤثرة في التاريخ (ولقد تصورت الماركسية قبل نشوء هذه الأفكار الطبقة العاملة كذات فاعلة كما صورت مسار العملية التاريخية كنتاج جدلية التفاعل بين الذات والموضوع)، رغم كشف هذه الأفكار عن عدم جدوى الجانب 'العلمي' في فكر اليسار الذي يحول الإشتراكية إلى نظرية 'علمية'، ورغم تشديده على أهمية اللغة والتعبير والخطاب، وتحويل حقول المعرفة المختلفة إلى حقول تاريخية متغيرة كما تتغير المفاهيم تاريخياً وكما يتغير الخطاب والقوة التي يمثلها، رغم هذا كله الا ان هذه النظريات 'الما بعد حداثوية' المختلفة لم تكن قادرة على مواجهة التحديات الحقيقية التي تطرحها الحداثة، وقد يشفع لها أنه ربما كان نقدها للحداثة والتنوير لا يهدف اساساً لنفي الحداثة والتنوير ولا لطرح بديل لهما.

ولكن في ظل أزمة اليسار تحول فتات أفكار ما بعد الحداثة إلى نوع من الفكر السياسي محدود الضمان لدى فئات عاجزة ومنهارة من اليسار. فقد وصلت هذه الأفكار في الولايات المتحدة إلى الجامعة فقط بعيداً عن الحوارات السياسية والطبقية التي نشأت في خضمه في اوروبا. وهناك في الجامعة تحولت إلى عدمية سياسية او تنظير لاستحالة السياسة، او إلى عملية نقد للعلوم الإجتماعية باعتبارها غير ممكنة او عبارة عن مجرد خطاب لا وزن ولا قيمة له أكبر من الخطاب الديني او الفني او النص الادبي. وهكذا تحوّل أيضاً نقد الادب والنص الادبي وتفكيكه إلى فلسفة او بديل عن الفلسفة وحتى إلى بديل شامل عن نقد المجتمع ككل.

وقد أنجب هذا التوجه الجامعي مختلطاً مع الصراعات الجزئية المختلفة من أجل المساواة، مساواة السود ومساواة الرجل بالمرأه وغيرها، ومع ضعف تقاليد اليسار الاجتماعي في امريكا، انجبت التوجهات 'اللائقة سياسيا'ً والتي تحارب معركة المساواة على مستوى التمثيل. وتتمحور المعركة اولاً على مستوى التمثيل اللغوي للمرأة والامريكيين الأفارقة والاقليات وغير ذلك. ومهما كان وضع المرأة في المجتمع، او وضع الأفارقة فيه، تشدد هذه التوجهات على الالفاظ والتعابير المستخدمة في عملية تنقية اللغة من التعابير التي تمس بمشاعر الآخرين، او تعرضهم كبشر من الدرجة الثانية، او تحط من قدرهم. ولكن الامر لا يقف عند التمثيل اللغوي بل ينتقل أيضاً إلى معركة التمثيل على مستوى الواقع.  وهذا يعني على مستوى المشهدية الاعلامية، استضافة المرأة على الاقل في برامج الثرثرة ووجود سود وبيض في كل برنامج تلفزيوني او فيلم هوليوودي. بحيث لا تكرس الادوار التي يلعبها الاسود او المرأة الآراء المسبقة حولهما. ثم يصبح الموضوع موضوع تمثيل على مستوى المؤسسات فهنالك حاجة لوجود تمثيل لائق عددياً للمرأة على مستوى مدرسي الجامعة وادارتها وعلى مستوى المؤسسات الحكومية وغير ذلك. وكل القضايا المذكورة هي قضايا عادلة دون شك وتستحق أن تخاض، ولكنها تصبح ذات قيمة اجتماعية حقيقية اذا ما اندرجت ضمن تصور اجتماعي شامل لليسار حول شكل النضال من اجل العدالة الإجتماعية بشكل عام وليس للسود على حدة وللمرأة على حدة ولعديمي المأوى على حدة، واذا ما اندرجت ضمن نضال ديمقراطي عام يعبر عن نفسه سياسياً ايضاً، اذ لا معنى لمساواة المرأة بالرجل اذا تضمن ذلك حق المرأة ان تضطهد السود مثل الرجل او أن تستغل أجيريها مثل الرجل. لا معنى لهذه المساواة اذا هدفت عملياً إلى المشاركة في علاقات السطوة والقوة القائمة. لا معنى لمساواة المرأة بالرجل اذا كان ذلك يعني حقها ان تتجند لسلاح الطيران في إسرائيل لتساهم هي أيضاً في قصف اللبنانيين الامنيين. ولا معنى لحق السود او غيرهم من الاقليات على المستوى التمثيلي اللغوي او المؤسساتي اذا كانت غالبيتهم باقية خارج عملية اعادة انتاج المجتمع لذاته، واذا بقيت عملية انتاج النخب القادرة على التمثيل محدودة ومشوهة. هنا تصبح قضية المساواة قضية مساواة للنخب في عملية تقاسم الكعكة الإجتماعية ووظائف المؤسسات السياسية والحكومية، أما موضوعات العدالة الإجتماعية وتقليص الهوة الطبقية والتأمينات والضمانات ومساواة الاغلبية الساحقة من ابناء الاقليات ومن النساء وغيرهم فتتحول إلى قضايا جانبية لا أهمية لها.

المساواة والعدالة الإجتماعية هي قيم لا تتجزأ داخل المجتمع المضطهَد وداخل المجتمع المضطهِد وبين المجتمعين أيضاً – العدالة الإجتماعية هي مطلب يشمل المساواة للمرأة في مجتمعها وللأقليات والاجانب. لماذا نتوسع بالحديث عن هذا الموضوع، وما دخلنا بأزمة اليسار الأمريكي هذه؟ لا شك أن ما يجري داخل الولايات المتحدة وهي قلعة النظام الرأسمالي العالمي هام بحد ذاته وبذلك فأنه هام لكل من يناضل من أجل العدالة الإجتماعية. ولكن أهميته لا تقتصر على ذلك، فهذه النزعات الفكرية والسياسية تصل إلى مختلف انحاء العالم عبر العولمة وعبر هيمنة الثقافة الامريكية ضمن عملية العولمة. ففي العالم الثالث لا يتم استهلاك الكوكاكولا ونظام الحاسوب البيتي فحسب وإنما أيضاً افلام هوليوود  وبعض انماط السلوك السياسية الامريكية. وفي الحالة الإسرائيلية تزداد هذه القضية أهمية، فهي تشارك الولايات المتحدة ضعف اليسار الاجتماعي المنظم (مع الفرق الكبير بمأسسة الضمانات الإجتماعية ودولة الرفاه في إسرائيل)، كما تشاركها في وجود قضية تمييز ضد 'اقليات'. كما يفوق تأثير الجامعة الامريكية على الجامعات الإسرائيلية تأثيرها على اي مكان آخر في العالم.

واذا لم نعر هذه القضية الانتباه الكافي فسوف نشهد عملية تحول قضية العرب في إسرائيل إلى قضية لياقة سياسية وإلى قضية تنقية اللغة العبرية وتمثيل العرب على مستوى المؤسسات بما في ذلك مشاركتهم في المؤسسات القمعية، الجيش والشرطة ولجنة الخارجية والأمن البرلمانية، والمشاركة في تمثيل السياسة الخارجية، هذا عدا استضافة العربي إلى جانب اللوطي و'ممثلة' عن المرأة وغيرهم في برامج الثرثرة التلفزيونية، ما دامت القضية قضية تمثيل لهويات مختلفة.

خطاب اللياقة السياسية هو خطاب اليسار المأزوم المستورد من الولايات المتحدة خارج السياق التاريخي وبخطورة أعظم من خطورته هناك. وقد بدأ هذا الخطاب السياسي يهيمن على اليسار الإسرائيلي باتجاة فك الارتباط مع القضية الإجتماعية العامة كقضية عدالة اجتماعية ومساواة وفك الارتباط مع القضية القومية وتفكيكها جميعاً إلى قضايا جزئية هي قضايا تمثيل العرب والمرأة واللوطيين وغير ذلك، وكل ذلك خارج سياق الصراع الاجتماعي الشامل. والأخطر من ذلك كله هو تحول نضال المضطهدين إإلى صراع على 'الهوية' ومن أجل مساواتها بالهويات الأخرى لتصبح 'المرأة' و'الرجل' و'العرب' و'اليهود' و'المغاربة' و'ذوي الأصول الاوروبية' و'النزعةالجنسية' و'الموقف السياسي' و'العلمانية' و'التدين' كلها عبارة عن هويات او ثقافات فرعية تطالب بالمساواة فيما بينها على مستوى التمثيل في مجتمع 'متعدد الثقافات' و'متعدد الهويات'. أن سياسة 'الهويات هي عبارة عن صراع بين النخب لتقاسم الكعكعة في الدولة وذلك باستثمار هذه النخب لهويتها كرأس مال رمزي وسياسي في الصراع داخل نظام ديموقراطي.

ولن يستطيع اليسار الإسرائيلي تخطي هذه الأزمة دون تعاون مع التيار القومي الديموقراطي اليساري الذي يطرح هذه القضايا كقضايا سياسية واجتماعية وليس كقضية تمثيل العرب عبر تعيين موظفين عرب فحسب او كمجرد قضية لياقة سياسية. وتزداد هذه المهمة تعقيداً مع ادراك ان التعاون مع اليمين العربي والنخب العربية القائمة والتي تسعى للحصول على نصيبها من التمثيل والمناصب الحكومية والإقتصادية أسهل بكثير بالنسبة لليسار الصهيوني، خاصة وأن القضية القومية بالنسبة لليمين العربي هي ما تريده الانظمة العربية ضمن عملية السلام مع إسرائيل. هنا يجد اليسار الإسرائيلي نفسة متواطئاً مع القوى الرجعية والتقليدية في المجتمع العربي، والتي تسعى إلى تمثيل ذاتها في المؤسسات الرسمية، ولكنها تقمع المرأة مثلاً في مجتمعها، وتطالب بالديموقراطية في المجتمع الإسرائيلي كمتنفس شخصي لها، ولكنها تعادي الديموقراطية في المجتمع العربي. وما دامت القضية قضية هوية ثقافية بالإمكان طرح العداء للديموقراطية او التمييز ضد المرأة ضمن الهوية الثقافية الخاصة بالمجتمع العربي او الاسلامي او الدرزي وغير ذلك. ويتناسب هذا الطرح تناسباً تاماً مع الثقافة السياسية المهيمنة في إسرائيل والتي ترى التخلف الاجتماعي جزءً لا يتجزأ من العقلية العربية.

لا يستطيع التيار القومي الديموقراطي ان يطرح قضيته العادلة ويكافح من اجلها على مستوى المجتمعات العربية بشكل عام والمجتمع الإسرائيلي ايضاً دون الخوض بقضية اليسار عموماً وايلائها الاهمية الكافية. ان التيار القومي الديموقراطي هو نتاج ثلاث تقاليد فكرية: القومية والديموقراطية والإشتراكية. اضافة إلى هذه التقاليد الثلاثة يختلف التيار القومي الديموقراطي في حالتنا عن بقية التيار القومي العربي بأنه لم يتطور خارج سياق جدلية العلاقة مع وضد اليسار الإسرائيلي.

في قضية الديمقراطية والمواطنة: 

الديموقراطية هي قضية نمط نظام الحكم السائد في الدولة، وقد تم تعميم هذه المقولة: 'حكم الشعب' او حكم اغلبية الشعب مباشرة، او عبر ممثلى الشعب في هيئات منتخبة لتصبح قضية الديموقراطية قضية عامة في المؤسسات وفي الاحزاب وفي الحياة العامة. وتجري محاولات مستمرة من قبل الحركات النسوية وغيرها لإدخالها إلى الحياة الخاصة. ورغم هذا التغيير الطارئ على خطابها السياسي والاجتماعي تبقى مسألة  الديموقراطية الاساسية قضية نظام الحكم في الدولة الحديثة.

كانت مسألة الديموقراطية في الماضي قضية حكم الشعب او حكم أغلبية الشعب او حكم الفقراء او العامة، الامر الذي ادى إلى تفسيرات عديدة لهذه المقولة لتصبح حكم ارادة الشعب، او حكم الشعب ككيان عضوي هو ليس الاغلبية وإنما فوق ارادة الأغلبية، او هو الحكم لمصلحة الشعب. وفسح هذا الاحتمال التفسيري المجال لانماط مختلفة من الديكتاتوريات الدموية التي جعلت ارادة الشعب، بل روحه في حالات النظم التوتاليتارية متجسدة في فرد أو حزب أو نخبة، وجعلت 'الشعب' ، او ارادة 'الجماهير' فوق الاغلبية، والاغلبية فوق الإنسان الفرد ، وجعلت العضوية في، او الانتساب الى الشعب، كجماعة أقوامية او كرابطة دم متخيلة بحكم الأصل او النسب، فوق المواطنة في الكيان السياسي، او الدولة.

 ولكن في عصرنا لم يعد بالإمكان الفصل بين الديموقراطية، كحكم الاغلبية المعبر عنها في نظام تمثيلي، واللبرالية السياسية التي تنظم حقوق المواطن المدنية والتي تجعل التنافس السياسي ممكنا عبر التزام الدولة بمبادئ مثل حرية التعبير، وحرية الانتظام في روابط وأحزاب، وحرية الاختيار، وحق المواطن بالوصول الى مصادر المعلومات، كما تفصل بين الحيز الخاص والعام،

 واصبح من غير الممكن تخيل الديموقراطية كحكم الاغلبية دون حقوق لبرالية للمواطن، مثل الحق على الملكية الخاصة وحقه بالتعبير عن الرأي واحترام حقوقه كمواطن أمام السلطة،  حتى لو كانت ممثلة للشعب، وحقه بمحاكمة عادلة تضمن عبر استقلال القضاء وسيادة القانون، وحقه بالمساواة أمام القانون وحقه باختيار اسلوب حياته، وحقه بحرية التنقل واختيار المهنة والتأطر في احزاب وحقه بالاجتماع والتظاهر ومساواته امام القانون وغيرها من الحقوق المتطورة باستمرار عبر التفاعل المستمر بين المبدأ الديموقراطي والمبدأ اللبرالي على طول الحداثة.

لقد كانت اللبرالية تقصر هذه الحقوق على النخبة، فعممها اجتماع اللبرالية بالديموقراطية. ولم تكن الديموقراطية كحكم الاغلبية تحترم هذه الحقوق بالضرورة اذا لم تحترمها الاغلبية. ولكن اصبح من غير الممكن في عصرنا تخيل لبرالية ليست ديموقراطية أي ليست معممة على المواطنين كمواطنين، او ديموقراطية ليست لبرالية، أي ديمواقراطية لا تضمن حقوق المواطن. وكما توسع حق الاقتراع ومفهوم المواطنة عبر نضالات طويلة ليشمل النساء والأجيرين، كذلك توسعت الحقوق اللبرالية وضمانات هذه الحقوق كحقوق للمواطن، واصبح من الصعب تخيل الديموقراطية كنظام حكم دون هذه الحقوق اللبرالية، ومن نافل القول ان القوى القومية الديموقراطية ترفض ان تكون الحقوق اللبرالية مقصورة على النخبة. وحل إشكال مثل تعارض الحقوق الليبرالية مع الثقافة المعادية للبرالية مثلاً لدى أغلبية السكان في مرحلة تاريخية محددة لا يكون بمصادرة هذه الحقوق من النخبة ايضاً بل بتعميمها.

لقد كان موقف اليسار في الماضي، كما كان موقف التيار القومي (الديموقراطي وغير الديموقراطي) بشكل عام سلبياً من اللبرالية باعتبارها أولا نظرية اقتصادية معادية لتدخل الدولة في فعل قوانين السوق الداخلي والتجارة الخارجية، وثانيا لانها عبرت عن ذاتها سياسيا وحقوقيا عبر حكم نخبة تقصر المواطنة الحقيقية على أصحاب الأملاك،، خاصة مالكي وسائل الإنتاج،، وعلى الطبقة الوسطى.  يضاف الى ذلك في حالتي اليسار والتيار القومي في العالم العربي  اعتبارها تياراً استعمارياً وفدت إلى المنطقة ما بين الحربين، وتبنتها، بموجب هذا التحليل، بعض النخب المرتبطة بالإستعمار مشددة فقط على حقها بالملكية الخاصة دون حدود اجتماعية لهذا الحق، وحتى لو ارتبط تنفيذه بالتحالف مع القوة الاستعمارية.

اما الديموقراطية التي كانت عادةً تميز موقف اليسار في اوروبا القرن التاسع عشر، كما كانت تميز موقف التيار القومي في مرحلة النصال ضد الأستعمار عبر مطالبه العادلة بالاستفتاء وبحق الشعب بانتخاب ممثليه كتعبير عن السيادة ضد الاستعمار، فقد تحولت بقدرة التيار العقائدي في الماركسية إلى مجرد شكل حكم البرجوازية، وتحولت البرلمانات بنظر لينين مثلاً إلى غرف للثرثرة. وبات اليسار لا يرى من حرية التعبير إلاّ سيطرة رأس المال على وسائل الإعلام ولا يرى بحقوق المواطن إلا مقولة رأسمالية زائفة طالما بقي المواطن مستغلاً من الناحية الاقتصادية.

 أما بنظر التيار القومي، الذي طالما استخدم مقولات ديموقراطية مستمدة من الثقافة السياسية الغربية ضد الاستعمار في مرحلة التحرر، فقد تحولت الديموقراطية بعد الاستقلال إلى تقليعة غربية إستعمارية، أو إلى تهديد لوحدة الأمة وذلك عبر تشتتها، بفعل التعددية الحزبية، إلى شيع وأقليات وطوائف وغيرها بدلاً من تيارات حزبية وفكرية كما في الغرب.

إن سيطرة رأس المال على الصحافة، وسيطرة صناعة أوقات الفراغ وقوانين العرض والطلب على وسائل الاعلام، وتغلغل ثقافة الدولة والنظام الحاكم فيهما لا يعني بأي حال من الاحوال أن الديموقراطية هي شكل حكم الأقلية، وأن العلاج هو إلغاء او تقييد حرية التعبير التي تمكن الاقلية المتنفذة من السيطرة على ادوات انتاج الوعي وبلورة ما يسمى بالرأي العام والذوق العام والمزاج السياسي، بل يعني ان التحديات امام القوى الديموقراطية قد ازدادت وان حجم مسؤوليتها الديموقراطية قد ازداد. فالمعركة من اجل تحرير حرية التعبير من سيطرة رأس المال ومن إخضاعها لقوانين العرض والطلب في الاعلام التجاري، ومن اجل تحديد رقابة الدولة عليها هي معركة شعبية وديموقراطية في نهاية المطاف. ولا يمكن تحقيق إنجازات في هذه المعركة دون مخاطبة أوسع الفئات الجماهيرية بخطاب سياسي وثقافي بديل.

كما أن التيار القومي لا يكون قومياً فعلاً إلا اذا رأى عملية بناء الأمة من خلال المؤسسات التي تعبر عن ارادتها عبر الديموقراطية وسيادة القانون، ولا تكتمل سيادة الأمة إلا بتوفر عنصريها، الدولة ذات السيادة من ناحية والمواطن الحر القادر على ممارسة حقوقه من ناحية أخرى. وحدة الأمة الحية هي وحدة تعددية قادرة أن تحافظ على ذاتها كأطار يجمع بين التيارات السياسية والفكرية المتعددة وبين الطوائف والعقائد الدينية المختلفة في أمة واحدة. لا معنى لمفهوم الأمة اذا كانت مجرد تعبير عن تيار واحد مفروض من أعلى بواسطة الدولة والسلطة، هذه الوحدة هي وحدة مجردة، أما وحدة الأمة الحية فهي تلك الناشئة عن التعددية والتنوع، والمتطورة باستمرار بفعل جدلية التعددية والتنوع داخلها.

لقد تطورت في المجتمعات الصناعية المتقدمة في العقدين الاخيرين مواقف جامعية ودراسات وأبحاث نقدية توفر على القوى الديمواقراطية عملية نقد النظام الديموقراطي اللبرالي القائم. وذلك بدءً بتشخيص نشوء الإنسان ذي البعد الواحد والثقافة الجماهيرية الإستهلاكية مروراً بنشوء الطغم المالية ذات النفوذ الواسع في السياسة والاعلام، واختلاط الشهرة السياسية بالنجومية الاعلامية، ونشوء المشهد الاعلامي السياسي الزائف. يضاف الى هذه نقد زيف نظرية الحقوق بسبب قصورها عن الاحاطة بقضايا العدالة والانصاف المستعصية على اللغة الحقوقية، واما لأن غالبية الفئات الإجتماعية تعجز عن صياغة قضاياها بلغة حقوقية شكلانية حتى في الدول الديموقراطية، او بسبب بقاء الحقوق الديموقراطية نظرية تعجز فئات واسعة من الشعب عن ممارستها، خاصة في المجتمعات غير المتقدمة صناعيا،  بسبب الجهل  أو الفاقة، أو عدم القدرة على التنظيم،، أو احتلال الحاجات المادية مكاناً أعلى من الحقوق الديموقراطية على سلم الأولويات بالنسبة لها.

لا تصلح هذه النظريات النقدية للديموقراطية لتكون بوصلة للعمل السياسي حتى في الغرب ذاته، حيث توطد نظام الحكم الديموقراطي اللبرالي الذي جاءت لتنتقده. فكم بالحري عندما يتعلق الأمر بدول لم يقم فيها هذا النظام بعد؟ والحقيقة ان هذه النظريات تكشف للقوى القومية الديموقراطية جبهات وساحات جديدة للعمل السياسي كلما ازداد تعقيد وتركيب المجتمع الرأسمالي المتطور، ولا شك ان بعض هذه التعقيدات  يطال حتى دول العالم الثالث عبر عملية العولمة وتعميم انماط الإستهلاك، بما في ذلك الإستهلاك الاعلامي.

 ورغم الحاجة الى الاستفادة من نظريات نقد الديموقراطية هذه على القوى القومية الديموقراطية ان ترى الفرق بين المعركة من اجل توسيع هامش حرية الصحافة واستقلاليتها في مواجهة شركات الدعاية من ناحية، والدولة من ناحية أخرى في الدول الديموقراطية  وبين المعركة من أجل وجود صحافة مستقلة اصلاً عن الدولة في الدول غير الديموقراطية. كما ان هنالك فرق بين انتفاء نظرية الحقوق باعتبارها قاصرة وشكلية وغير قابلة للاستخدام من قبل المواطن ذي البعد الواحد في الدول الديموقراطية ، وبين عدم وجود حقوق مواطن أصلاً. علينا في الصراع  من اجل الديموقراطية ان نرى الفرق بين غياب سيادة القانون والمساواة امام القانون وبين الاحتجاج القائم في الغرب علىالقوننة الشكلية لتوق الناس لمجتمع افضل . كما علينا ان نلتفت الى الفرق بين هم تحول البروليتاريا من طبقة ثورية إلى طبقة استهلاكية تصمم حاجاتها الثقافة السائدة ويستوعبها النظام الديموقراطي اللبرالي السائد دون أن يسمح لها بالتأثير فيه في الدولة الديموقراطية اللبرالية وبين هم توسع احزمة الفقر حول المدن الكبرى في العالم الثالث وتحول الفلاحين ليس إلى طبقة عاملة إستهلاكية بل إلى 'غبار انساني' في احياء فقر حول مدن  العالم الثالث يتحول بالتدريج إلى جيش احتياط ضد الحداثة.

هنالك فرق بين مسعى تقوية الهيئات التمثيلية والبرلمانات بنقد المشهدية والديماغوغيا الاعلامية المسيطرة  الى حد كبير على نمط عملها والخطاب الذي تنتجه، وتثبيت مبادئ ديموقراطية دستورية تحكم تشريعاتها، وبين العمل السياسي في غياب برلمان منتخب وذي صلاحيات فعلية. كما أن هنالك فرق بين اعتبار القضاة والقضاء جزءً من النخبة الحاكمة في الدولة الديموقراطية المتمسكة بشكل القانون وليس بجوهره بحيث يساوي بين بشر غير متساوين وحالات غير متساوية، وبين عدم استقلالية القضاء اصلاً، وعدم احترام قرارته من قبل السلطة التنفيذية في الدولة غير الديموقراطية. وهنالك فرق بين الفضائح المالية والفساد المالي المستشري في الاجهزة البيروقراطية والتي تشكل مادة دسمة للاعلام وللجان التحقيق في الدول الديموقراطية وبين عدم جواز فضح الفساد المالي في دول ديكتاتورية قائمة على الفساد والرشوة كنظام لتوزيع الثروة وكسب الولاءات من القمة إلى القاعدة. هنالك فرق بين صرف نظر الاعلام السياسي عن القضايا المركزية والاهتمام بحياة السياسيين الشخصية وفضائحهم واطباعهم وبين عدم وجود إعلام حر على الإطلاق باستطاعته ان يقوم بمساءلة ومحاسبة جدية.

لقد تطورت في المجتمعات ما بعد الصناعية في الغرب نظريات اجتماعية نقدية مستمدة من ضياع المعنى في المجمتع الإستهلاكي وتساوي قيمة الحقول المعرفية المختلفة في المشهد الاعلامي، وطغيان دور البنية الإجتماعية المتطورة والقادرة على إلغاء على دور الذات وامتصاصها فيه، وتحديد قدرة الذات على التغيير، وضياع الوكلاء الاجتماعيين في الدور الذي يؤدونه، وتحول الوظائف الإجتماعية إلى أدوار لا فرق بينها وبين الأدوار التي يؤديها الممثلون في المشهد الاعلامي لتطمس الحدود بين 'الواقع الوهمي' والواقع الحقيقي. 

  لا شك ان نقد الديموقراطية ونقد السياسة في المجتمعات الغربية المتطورة لا يلغي الفرق بين وجود أو عدم وجود ديموقراطية لبرالية، كما لا يلغي الفرق بين وجود أو غياب أنظمة قانونية تناقش وتقر في سلطة تشريعية ويتم تنفيذها بشكل متساوٍ بواسطة قضاء مستقل. قد يساعد هذا النقد القوى الديموقراطية في العالم الرأسمالي المتطور في البحث عن وسائل جديدة للتأثير المباشر على العملية السياسية وعلى عملية صنع القرار، وقد باتت هذه الوسائل تتجاوز موضوع التنظيم الحزبي او القوائم الانتخابية، ولكن القوى الديموقراطية لا تستطيع التخلي عن هذه الأدوات.

ونحن  في المجتمعات العربية وفي مجتمعات العالم الثالث بشكل عام نقف أمام تحدي بناء الديموقراطية السياسية والإجتماعية والذي يتطلب بناء المؤسسات ودولة القانون والمجتمع الحديث القادر على تكييف ذاته معها. وهذا التحدي ليس نظرياً ولا ثقافياً في أساسه بل هو تحدي سياسي في مواجهة أنظمة ومؤسسات وتقاليد في الحكم وإدارة المجتمع. لا يمكن تجنب رؤية ان المعركة من أجل الديموقراطية معركة سياسية، لأن قضية الديموقراطية هي أولاً وقبل كل شئ قضية نظام الحكم السائد في الدولة. ولا تنفصل مسألة الديموقراطية عن مسألة الدولة وعن مسألة نظام الحكم في الدولة، ولا يمكن تحويلها إلى قضية اجتماعية محض او إلى قضية الثقافة السائدة في بلد من البلدان دون هروب من جبهة المواجهة الأساسية، ألا وهي الجبهة السياسية.

وعند تناول مسألة الديموقرطية في البلدان غير الديموقراطية لا بد من التمييز بين نظرية الديموقراطية وبين نظرية نشوء الديموقراطية. اذ قد يغرى بعض المثقفين، خاصة اولئك الذين انتقلوا من العقائد الخلاصية المعادية للديموقراطية الى تبني الديموقراطية اللبرالية كأنها نظرية خلاصية هي الاخرى، لترديد اسس الديموقراطية كأنها عملية تبشير باوتوبيا خلاصية مرة اخرى. والحقيقة اننا بذلك لا نساهم مساهمة فعالة في نشوء الديموقراطية وإنما بشرح نظرية الديموقراطية وبشكل مجرد، وفائدة ذلك محدودة حتى من باب التثقيف على الديموقراطية. ولكن ما يجب ان يتم تملكه من قبل القوى الساعية لدمقرطة دولها ومجتمعاتها هو نظرية نشوء الديموقراطية.

ومرة أخرى المقصود هو ليس نشوء الديموقراطية تاريخيا. نقول ذلك رغم الفائدة الجمة المكتسبة من دراسة تاريخ نشوء الديموقراطية الحديثة  كنظام حكم. فمراجعة هذا التاريخ تكشف تطور الديموقراطية كصراع طويل وتدريجي عبر تحقيق مصالح فئات اجتماعية محددة ضد اخرى ليتم بعدها صياغة وحدة المجتمع في عقد سياسي جديد وقواعد لعبة ديموقراطية قادرة على احتواء القوى الإجتماعية الملتزمة بمتابعة مصالحها عبرها وتجد ايضا معنى لذلك.  كما تكشف دراسة تاريخ نشوء الديموقراطية الحديثة بعض شروط بناء لبناتها الاساسية في مؤسسات دولة الملكية المطلقة ذاتها، وفي نشوء البرجوازية المنتجة والمتنورة، وتطور اقتصاد السوق، ومجتمع الحداثة، وتطور الثقافة السياسية التي تميز بين الحيز الخاص والعام، وتحترم الخيار الفردي الحر في حدود متغيرة باستمرار، وتلتزم بالقانون لا خوفا في علاقة آمر ومأمور، أو بعد واغتراب عن دولة سلطانية مشخصنة، بل باعتبار سيادة القانون القانون مصلحة لافراد في حالة تعاقد اجتماعي وتعبيرا عن الارادة العامة للمجتمع.

ولكن التاريخ لا يعيد نفسه، وشروط نشوء الديموقراطية تاريخيا في اوروبا وتزاوجها مع اللبرالية لن تتكرر في دول العالم الثالث، لا من ناحية الطبقات الإقتصادية، ولا من ناحية الثقافة السياسية. ومن الطبيعي الا نعتقد كديموقراطيين أن هذه العملية ستحتاج الى قرنين من الزمن لكي تكتمل، كما حصل في اوروبا. ومن الطبيعي الا نسلم ان يقتصر حق الاقتراع في بلداننا على نخبة من المثقفين واصحاب الاملاك ليتوسع هذا الحق باستمرار بدمقرطة تدريجية للدولة وللثقافة وعبر نضالات طويلة كما جرى في اوروبا. لم يعد بامكان اي قوة ديموقراطية تجاهل المقومات الجاهزة للديموقراطية اللبرالية، ولا يمكن في ايامنا تصور ديموقراطية لا تشمل حق الاقتراع العام، ولا تشمل تعددية حزبية في نظام تمثيلي. كما لا يمكن البدء بالحديث عن الديموقراطية في عصرنا اذا لم تتوفر حقوق اساسية للمواطن تمكنه من ممارستها.

العبء المنوط اذا بالقوى الديموقراطية في بلداننا هو اثفل مما نتصور، ويتجاوز المطالبة بالديموقراطية، او التبشير بها. فلقد باتت الديموقراطية نظام حكم جاهز لاقتراحه كانه وصفة دون ظروف انتاجه التاريخية. واذا اردنا تجنب انتظار نشوء الشروط التاريخية الذي لا طائل من ورائه، واذا اردنا تجنب تحويل الديموقراطية الى وصفة تبشيرية، أي اذا اردنا العمل سياسيا من اجل الديموقراطية لا بد من وضع سلم الاولويات في هذا النضال كبرنامج سياسي. وهذا يتطلب فهما يتجاوز الظروف التاريخية الى العوائق البنيوية وسبل تذليلها. وقد اثبتت التجربة انه مع بقاء هذه العوائق تصبح الانتخابات العامة، أو مجرد تداول السلطة مقدمات لنظام غير ديموقراطي جديد، او للانقلاب العسكري القادم، او للانحلال الاجتماعي والحرب الاهلية، او لكليهما.

يتم تذليل العوائق البنيوية أمام تطور الديموقراطية ونشوئها من خلال النضال الديموقراطي في قضايا محددة  وتفاعله مع اصلاح اجهزة الدولة وتحديثها، اذا كان بالإمكان اقناع النخب الحاكمة بذلك، او اذا اضطرت لذلك اضطرارا. كما يتم من خلال توسيع حقوق المواطن صاحب العلاقة المباشرة مع الحيز العام المنظمة بالحقوق والواجبات دون العودة لمرجعية النتماء الجهوي او الطائفي او غيرها من معيقات عملية بناء الامة و تطوير العلاقة بين المواطن والمجتمع والدولة. كما تتم مكافحة معيقات الديموقراطية بالمطالب الإجتماعية الرامية الى تقليص الهوة بين الاغنياء والفقراء، وبنشر الثقافة العقلانية ومحاربة الجهل وإنماط التفكير الخرافي والاسطوري، اذ لا يمكن الجمع بين النضال من اجل الديموقراطية وتملق هذه الثقافات في الوقت ذاته.             

ولا يمكن خوض  المعركة السياسية لدمقرطة أنظمة الحكم في الوطن العربي دون نشوء قوى سياسية ديموقراطية تمثل قطاعات أجتماعية لها مصلحة بالديموقراطية ومنظمة في أحزاب تطمح في دوافعها وبرامجها لتمثيل المصلحة الوطنية عامة. ولا شك أن المعركة من أجل الديموقراطية تخاض أيضاً على الساحة الثقافية والمجتمعية. ولكن لكي يكون هذا النشاط ذا فاعلية سياسية للـتأثير لا بد من أن يندرج ضمن برنامج سياسي ديموقراطي يهدف لأقامة نظام حكم ديموقراطي.

لقد أصبح من غير الممكن خوض الصراع القومي على وحدة الأمة العربية وعلى تحديث المجتمعات العربية وعلى قضية العدالة الإجتماعية، كما أصبح من المستحيل خوض الصراع ضد هيمنة المصالح الأمريكية الأستراتيجية والإقتصادية بشكل خاص والغربية بشكل عام دون التعبير عن إرادة الأمة من خلال الديموقراطية. والديموقراطية غير ممكنة إلا في إطار الدولة وهذا يعني التعامل مع وجود الدولة القطرية كما هي قائمة، ولا يمكن تأجيل معركة الديموقراطية إلى ان تحل القضية القومية العربية. إن أكبر وأصدق تعبير عن إرادة الأمة هو الديموقراطية، ولو ضمن الحدود القطرية القائمة. ووجود نظام ديموقراطي خاضع لمساءلة ومحاسبة الرأي العام العربي هو الكفيل بتحويل الحدود بين الدول العربية من حدود معادية للمواطن العربي إلى نقاط اتصال بين الدول العربية.

تعود معاناة المواطن العربي الأساسية في المرحلة الراهنة إلى تعسف السلطة وفسادها ونهبها للمجتمع وإلى غياب سيادة القانون والمساواة أمامه وإلى انعدام نظام المؤسسات وإلى عدم وجود أنظمة تأمينات وضمانات اجتماعية ناجعة، كما تعود إلى حالة الأفقار الواسعة ونشوء الطبقات الطفيلية المعتاشة على انعدام الديموقراطية وسيادة القانون وعلى فساد جهاز الدولة البيروقراطي غير الخاضع للمساءلة.

في مثل هذه الظروف لا يمكن أن يقتصر العمل القومي على ترديد البرامج والشعارات المتمسكة بوحدة الأمة، كما لا يمكن ان يقتصر على الأصرار على استمرار الصراع مع إسرائيل مخترلا في مسالة التطبيع، وان يتجنب الخوض في القضايا التي تمس معاناة المواطن العربي. وحدة الأمة والصراع مع الصهيونية هي قضايا قومية اذا ما ارتبطت بقضايا المواطن العربي، ولا يمكن للعمل القومي العربي في هذا المرحلة التاريخية أن يكون قومياً وألا يكون ديموقراطياً. القومية المنعزلة عن قضايا المواطنة الديموقراطية في ظروف الوطن العربي الحالية هي عبارة عن حنين في أفضل الحالات. واذا لم يكن النضال القومي سياسياً فعلاً فلن يكون له بالتأكيد مفعول سياسي.

لقد نجح التيار القومي في الخمسينات في تحويل تجزئة الأمة وتبعيتها وسيطرة الغرب على ثرواتها إلى هم من هموم المواطن العادي، وما زالت هذه القضايا حية في اذهان المواطنين وضمائرهم، ولكن انظمة عربية عديدة حكمت باسم هذه القضايا ولم تكن قادرة على حلها ولا على سد حاجات المواطن العادي اليومية. لقد نجح التيار القومي في تحويل القضية القومية إلى هم المواطن العادي ولكنه لم ينجح في تحويل هم المواطن إلى قضية التيار القومي. وإذا لم ينجح التيار في تحويل هموم المواطن العربي إلى همه هو كتيار قومي فسوف تكون القومية العربية شعاراً سياسيا مجرداً خاليا  الا من المضمون الثقافي.

وعند بحث إشكالية التحول الديموقراطي في الوطن العربي تبرز قضايا مثل الدين والدولة، وضرورة تعايش الديموقراطية مع التدين الشعبي، وضيق الطبقة الوسطى، وضعف المجتمع المدني وقوة الدولة الريعية التي تعيش على العائدات الاجنبية اكثر مما تعتاش من الضرائب، ودور الجيش والمؤسسات الامنية، وعدم قبول النخب بمبدأ تداول السلطة واستعداد اوساط فيها لقبول اصلاحات ديموقراطية لا تصل درجة تداول السلطة بشكل دوري وديموقراطي. ولا بد للتيار القومي الديموقراطي من التعامل مع هذه القضايا لبلورة استراتيجية عمل ديموقراطي ملائمة. ولكن عليه قبل ذلك ان يحدد موقفة المبدئي من الديموقراطية حتى لو كان تحقيقها مرة واحدة صعباً، خاصة عند أخذ القضايا المذكورة أعلاه بعين الإعتبار. 

أي أنه من اجل تحديد استراتيجية تحول ديموقراطي، ولو تدريجية، لا بد للتيار القومي أن يتأكد أنه ديموقراطي وان تحقيق الديموقراطية هو هدف استراتيجي. ولا بد من أجل ذلك ان تحسم بعض القضايا العالقة في الفكر القومي. وأولها مفهوم الأمة وعلاقته بالديموقراطية ومفهوم المواطنة.

نقول ذلك لأن الفكر القومي ما زال يتخبط في التعامل مع مفهوم الأمة بين محاولة علمنة الفهم الديني للأمه كجماعة عقيدية وبين الاقوامية العرقية الفتي تعيد مفهوم الامة الى الأصل المشترك. ولكي يصبح بالإمكان استيعاب الفكر القومي للديموقراطية سيكون عليه ان يتبنى المفهوم السياسي الحديث للأمه باعتبارها رابطة قومية تسعى إلى التعبير عن ذاتها في مجتمع سياسي منظم في دولة. الرابطة القومية هي جامع اللغة والثقافة والتاريخ المتخيل كتاريخ مشترك، وهي لا تعني بتاتاً الأصل المشترك، كما لا يعني التاريخ المشترك المتخيل وجود رابطة قومية عابرة للتاريخ كما تراها الحركة الصهيونية مثلاً عند تعاملها مع اليهود كجماعة قومية قائمة منذ فجر التاريخ.

ولكن ما العمل اذا لم تتحقق الادارة السياسية في دولة ذات سيادة؟ تبقى الرابطة القومية قائمة ويبقى الطموح السياسي قائماً. ولكن يجب أن تنفصل الرابطة القومية عن المواطنة. فالمواطنة في دولة ذات سيادة هي التي تنظم العلاقة بين الفرد وهذه الدولة من منطلق المساواة أمام القانون. المواطن المتساوي الحقوق ليس عضواً في الرابطة القومية بالضرورة، ولو كانت هذه الرابطة تجمع بين غالبية مواطني الدولة وتجمعهم مع غالبية المواطنين في الأقطار المجاورة، كما في حالة الدول العربية القائمة. المواطن هو عضو في رابطة الدولة، ومساواته في الحقوق نابعة من هذه العضوية. والتزام الدولة الديموقراطية هو بالتالي أولاً وقبل كل شئ نحو مواطنيها وليس نحو 'ايديولوجيا' قومية تشكل هدفاً أعلى من مصالح المواطنين، في مثل هذه الحالة تحول اليديولوجي القومية الامة الى مجرد امة ايديولوجية. الدولة الديموقراطية هي دولة لجميع مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم، انها دولة المواطنين.

ولكن هل المواطن الفرد هو الذات الحقوقية الوحيدة التي تعترف بها الدولة الديموقراطية؟ هذا غير صحيح، فالدولة ذاتها تحمل الهوية القومية للأغلبية ولذلك فأن الدول العربية القائمة تبقى دول عربية حتى بعد ان تصبح دول ديموقراطية، فهذا طابعها القومي. أما بالنسبة للمواطنين فيدعي الفكر اللبرالي عموماً أن الحقوق الوحيدة التي يعترف بها هي حقوق فردية وليست جماعية.  ولكن اللبرالية  الديموقراطية تتسع لقبول حقوق جماعية مشتقة من الحقوق الفردية. وفي الماضي كانت الحقوق الجماعية داخل الدولة تميز 'الديموقراطية الأهلية' او 'التوافقية' التي تسلم بوجود جماعات داخل الدولة، وبحق هذه الجماعات (وليس المواطنين) بالتمثيل بصيغ معينة ضمن مؤسسات المجتمع والدولة و في إدارة شؤونها على مستويات عدة.  قد تسلم الديموقراطية اللبرالية بوجود جماعات أو هويات جزئية  تحمل صفة حقوقية بشرط ألا تتناقض حقوقها الجماعية مع حقوق المواطن الفردية التي تجمع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم، سوية في مساواة أمام نفس القانون. فالادارة الذاتية الثقافية لأقلية قومية يعترف بحقوقها الجماعية لا تعني بأي حال من الأحوال التسليم بممارسات غير ديموقراطية ضد حقوق المواطن المتمي لهذه الجماعة او تبريرالتمييز ضد المرأة في اوساطهاد بحجة الخصوصية والاستقلالية الثقافية. والاعتراف بحق طائفة دينية بإدارة شؤونها الدينية داخلياً لا يعني فرض التدين على أفرادها، اذا كانوا غير متدينين، كما لا يعني فرض تفسير معين للدين على كافة أبناء الطائفة المتدينين. فحرية الخيار الديني أو العقيدي هي من حقوق المواطنة الفردية التي لا ينبغي ان تمس بها حقوق الجماعة.

لا يتناقض مشروع الوحدة العربية بين دول عربية ديموقراطية مع حقوق ابناء الأقليات غير العربية، كما لا تتناقض دول ديموقراطية عربية، هي دول مواطنيها، مع الهوية العربية الجامعة بين هذه الدول كهوية. ولا بديل للرابطة القومية الجامعة لغالبية مواطني الدولة العربية الساحقة إلا الانهيار إلى طوائف وحمائل وعشائر وهويات ما قبل قومية وما قبل حداثية.

يؤدي الموقف من موضوع الاكثرية والاقلية الديموقراطية إلى سوء فهم قاتل يواجه الفكر القومي خاصة عند استغلاله من قبل التدين السياسي. فمفهوم الاكثرية والاقلية الديموقراطية داخل الدولة لا يتطابق على الإطلاق مع مفهوم الاكثرية والاقلية المذهبية أو الثقافية او التقسيمات الجزئية الأخرى، مع انه قد يلتقي معه بشكل طبيعي. فكون غالبية الدولة مؤلفة من ابناء مذهب معين لا يعني ان تكون هذه الغالبية هي الغالبية الديموقراطية في عملية صنع القرار. فالدولة الديموقراطية تفصل فصلاً تاماً بين الموقف السياسي او الفكري المؤطر في حزب أو حركة وبين الهوية المذهبية او القومية او الثقافية. والأغلبية الديموقراطية هي الأغلبية في الموقف وليس في المذهب او الثقافة او الأصل، وقد تلتقي الاغلبيتان ولكن ليس بحكم الانتساب الى اغلبية بالولادة بل بحكم الاقتناع ببرنامج سياسي لحزب سياسي يدعي انه يمثل المصلحة الوطنية برمتها، ولا توجد في الدولة الديموقراطية سلطة حاكمة بحكم انتسابها الى اغلبية قومية او مذهبية، او الى تحالف مجموعة اقليات. نقول هذا رغم وعي الدولة الديموقراطية لمسالة دور هوية شخوص السلطة المذهبية والجهوية والقومية في تكريس شرعيتهم امام الجماهير.

ما يتنافس على ثقة المواطن في الانتخابات هو ليس مذاهب او ثقافات بل مواقف سياسية وفكرية متعلقة بادارة الدولة والمجتمع. والتعددية الديموقراطية هي تعددية حزبية ذات تصورات مختلفة لادارة الدولة والمجتمع ولكنها تصورات تطمح لتمثيل مجمل المواطنين في الدولة وهدفها هو مصلحة المجتمع ككل. وما يهدد وحدة الدولة الديموقراطية هو تتطابق تقسيم الاحزاب مع تقسيم  الهويات الجزئية ما قبل القومية. فالاخيرة ليست وليدة النظام الديموقراطي ولا هي من أسسه بل يسمح لها النظام الديموقراطي بحيز من الحقوق الجماعية لادارة شؤونها الخاصة والمحددة بالقانون. وقواعد اللعبة الديموقراطية وضعت وفصلت لكيانات ومؤسسات وجماعات طوعية من احزاب وجمعيات ومجموعات ضغط  تؤطر المواطنين حول قضايا ومواقف وتيارات فكرية تنطلق من ارادة المواطنين كمواطنين افراد وليس من ارادة جماعات لها اولوية على ارادة المواطن.                

من أجل مساواة المرأة بالرجل

حقق التيار القومي في الوطن العربي في فترة ازدهاره بعض الانجازات في موضوع التعليم وتأهيل المرأة وخروجها للعمل وعضويتها في الاحزاب القومية، كما استخدم هذا التيار شرعيته التاريخية ورأسماله الوطني الرمزي في تحدي القوى الإجتماعية التقليدية والقوى الاصولية عند اجرائه بعض الاصلاحات المدنية الهامة في قضايا الاحوال الشخصية لصالح المرأة. ولكن هذه الانجازات لم تصل في يوم من الايام الى درجة تحقيق المساواة وتغيير الطابع الرجولي للتيار القومي. وتحدُ الرموز والاستعارات التي يستخدمها التيار القومي التقليدي والراديكالي اصلاً من قدرته على قضية المساواة اذ تؤكد على الرجولة والقوة.  وتفرد لغة هذا التيار للمرأة دور الام والحاضنة والراعية والداعمة لجنود الوطن. ولم يتجاوز التيار القومي هذا الحاجز في اي مكان في العالم بفضل العنصر القومي وحده في فكر هذا التيار، وكان بالإمكان تحقيق تقدم بقدر توفر عناصر اخرى في هذا الفكر مثل اليسار والديموقراطية اللبرالية وتبني عناصر من مطالب الحركات النسوية في حالة الدول الاوروبية. 

لم يعد بالإمكان تخيل المجتمعات الغربية الحديثة وتقدمها العلمي والتكنولوجي والحقوقي والثقافي دون المنجزات التي حققت بشأن قضية مساواة المراة بالرجل ان كان ذلك في الحيز العام: حقوق المواطن، النشاط السياسي، الادارة والاقتصاد، الثقافة والفنون وغيرها، وان كان ذلك في الحيز الخاص: حقوق المرأة داخل العائلة وتخفيف القيود الاسرية التي تمنعها من تحقيق ذاتها على مستوى النشاط الاجتماعي في الحيز العام، وان كان ذلك في ولوج الحيز العام الى الحيز الخاص لكي لا تكون العائلة قلعة مغلقة يحكمها الرجل، ولتخضع حتى بعض العلاقات داخل العائلة لسيادة القانون الجنائي والمدني. 

وبالإمكان مناقشة النظريات النسوية المختلفة التي تطورت بعد هذه التغييرات والاستفادة من نقد هذه النظريات، خاصة النظريات النسوية المتطرفة المعادية للرجل والتي تحول الانوثة البيولوجية الى ايديولوجية اجتماعية، او النظريات النسائية المعادية عملياً للنسوية والتي تؤكد على انوثة المرأة كنقيض لرجولة الرجل وتتبنى عدة استراتيجيات رجعية في مقاومة البطريركية والنسوية على حد سواء باستثمار دونية المرأة. 

والحقيقة ان المجتمعات العربية بشكل عام ما زالت بعيدة عن خوض مثل هذه النقاشات، وما زال المطلوب هو النضال من اجل احقاق حقوق اساسية للمرأة في حيز العائلة الخاص وفي الحيز الاجتماعي العام. والى جانب تحقيق بعض الانجازات المتعلقة بنخب نسائية من الطبقات الوسطى والعليا تراوح حقوق المرأة في الأوساط الجماهيرية والشعبية والمسحوقة في مكانها، بل وتتعرض الى ردة فعل هيمنة ثقافية لقوى اصولية تحاول اضفاء طابع ديني مقدس على تقاليد شعبية رجعية غير دينية. ورغم صعوبة الصراع مع الثقافة الجماهيرية الا انه بمقدور التيار القومي الديموقراطي ان يتمسك بموضوع المساواة الكاملة وان يضع استراتيجية لتحقيقها تدريجياً دون فرض الصراع كله دفعة واحدة. 

يضع التيار القومي الديموقراطي نصب عينيه العلاقة التي لا تنفصم بين الإستغلال الاجتماعي والإقتصادي واستغلال المرأة. فالتجربة التاريخية في المجتمعات الحديثة تثبت ان العدو الاساسي لحقوق المرأة ليس النظام البطريركي فحسب بل والفقر ايضاً. فالفقر يزيد من حدة القمع داخل العائلة، كما يعرض المرأة لوطأة ائتلاف الإستغلال الإقتصادي مع الجهل ومع ازدياد القمع الاجتماعي والضغط الاجتماعي على العائلة بحيث تتدهور المرأة الى اخر السلم الاجتماعي. كما يزيد الفقر من توجيه 'رجولة' الرجل بشكل سلبي نحو العائلة. 

يدعم التيار القومي تمثيل المراة في كافة المؤسسات السياسية والإقتصادية على مستوى الدولة والمجتمع، ولكنه يؤكد عندما يقوم بذلك على المحاذير التالية: (1) عدم تحويل قضية مساواة المرأة بالرجل الى مجرد موضوع وصول النساء الى مناصب بغض النظر عن الموقف السياسي الذي تمثلنه.(2) ان تمثيل نساء من الطبقات الوسطى والعليا في المؤسسات الحاكمة رغم انه خطوة تثقيفية هامة الا انه لا يعني مساواة المرأة بالرجل- كما قد تساهم المرأة في هذه الحالة بوضع سياسات معادية للمراة ذاتها ولبقية المجتمع،(3) التأكيد على تفضيل المراة على الرجل اذا كانت لديها نفس مؤهلات الرجل (التفضيل الايجابي) يعني ايضاً الحث على تأهيل النساء لكي يصبح بامكانهن انتهاز الفرص التي سيكون على التيار القومي الديموقراطي ان يناضل من اجل تحقيقها. 

ينتشر في الحركة الوطنية الفلسطينية وفي الحركات الوطنية الاستقلالية العربية الاخرى خطاب سياسي يؤكد على حقوق المرأة من منطلق مساهمتها في معركة التحرير والاستقلال. والحقيقة ان موضوعة المساواة للمرأة لا يحتاج الى هذه التبريرات الاعتذارية، فمبدأ مساواة المرأة بالرجل ينطلق من حقها كإنسانة كاملة وكمواطنة كاملة. وكافة الحركات التي بررت الحقوق 'المعطاة' للمرأة بمساهمتها في معركة التحرير الى جانب الرجل لم تصمد فيما بعد أمام الردات الثقافية والدينية والتقاليد الشعبية، وذلك لأنها لم تؤسس هذه الحقوق على مفهوم المساواة كقيمة. 

ولا يمكن ان تنطلق المجتمعات العربية وان تتحرر فعلاً وان تسلك طريق التطور والتقدم ما دام نصف المجتمع العربي مشلولاً- وهذا ليس تبريراً للمساواة وإنما تأكيد على نتائج انعدام المساواة. وعلى التيار القومي ان يعكف على وضع استراتيجيات بالتعاون مع المنظمات النسائية والنسوية القائمة لوضع هذه القضية في موقع متقدم على جدول اعماله. لقد راكمت الحركة النسوية والمنظمات النسائية في الوطن العربي تجربة واسعة رغم كونها مريرة لا بد من اخذها بعين الإعتبار. فمواقف التيار القومي الديموقراطي في الموضوع النسوي لا تبدأ من الصفر بل تنسجم مع تاريخ من الفكر والنضالات والتضحيات حتى من نساء لم تنتمين الى هذا التيار. 

ولا بد من رؤية قضية مساواة المرأة بالرجل في حالة المواطنين والمواطنات العرب في اسرائيل من منظور مختلف مقارنة بحالة المجتمعات العربية الاخرى. وتعود جذور المجتمع العربي في اسرائيل الى اصول ريفية غير مدنية. وقد فقد المدينة على اية حال مع النكبة وتحول الى هامش للمدينة اليهودية. المدينة الوحيدة التي يعرفها هي المدينة اليهودية والحداثة التي تعرض لها هي ليست حداثته بل فرضت عليه. 

ومن ناحية اخرى تختلف الاوضاع الإقتصادية والإجتماعية والسياسية الاسرائيلية التي يعيش في ظلها هذا المجتمع بمتطلباتها عن بقية مجتمعات الوطن العربي. فالحياة الإقتصادية ومعدلات الدخل ومتطلبات الحياة في هذه الدولة تفرض خروج المرأة الى العمل. وقانونها المدني يمنع مظاهر وممارسات ما زالت منتشرة في العالم العربي تؤكد دونية المرأة، هذا على الرغم من ان القانون الاسرائيلي يفرد حيزاً واسعاً للقوانين الدينية الشرعية والكنسية في تنظيم الاحوال الشخصية، ولا شك ان قسماً اساسياً منها يميز بشكل واضح ضد المرأة

يتخلف المجتمع العربي في اسرائيل بانجازاته الذاتية عن المجتمعات العربية الاخرى من حيث مدنيته وانجازات المراة فيه محلياً على المستوى الثقافي والسياسي والإقتصادي، ولكنه من ناحية اخرى يعيش في سياق دولة اكثر تطوراً من الدول العربية الاخرى في موضوع حقوق المرأة الامر الذي يجعل المرأة تعتمد الى حد بعيد في حقوقها على الدولة ضد المجتمع، هذه حالة غير عادية تحتم ايضاً استراتيجيات غير عادية في مواجهتها. 

في مثل هذه الحالة قد تلبس الردة والعودة الى التقاليد والمحافظة لبوس الوطنية مع انها مجرد وعي فولكلوري يطرح نفسه في هذه الظروف كأنه وعي وطني. هنا تطرح مبررات للتخلف تحت استعارات مثل 'العقلية' و'الخصوصية' وغيرها. وهي ليست الا عنصرية معكوسة يتبنى فيها المجتمع العربي مقولات عنصرية عن ذاته وعن تخلفه تكرس بقاءه تحت سيطرة المجتمع الصهيوني. 

من ناحية اخرى فانه بسبب الانفصال عن تقاليد الحركة النسوية والنسائية العربية. ونتيجة لفقدان مركز مدني عربي وتقاليد مدنية عربية في الداخل يزداد تأثير الحركة النسوية الاسرائيلية على خطاب مساواة المرأة في المجتمع العربي. التأثير والتفاعل بين الحضارات يغني العمل السياسي في حالة العمل النسوي ايضاً- ولكن في حالتنا يلوح خطر التأثير الميكانيكي المباشر، كما تبرز امكانية التأثير الشامل على جدول الاعمال، مما قد يولد انفصالاً بين نشيطات العمل النسوي ومجتمعهن واخطاء في اصابة الهدف عند وضع جدول الاعمال لتحسين اوضاع المراة العربية. ولا شك ان هنالك ميل لدى اليسار الصهيوني الى التعامل مع موضوع المرأة العربية كأثبات  لتفوقه و'كحليفه' ضد الرجل العربي- في حين يؤكد اليمين عادة على حالة المرأة في المجتمع العربي كعقلية عربية وكخصوصية حضارية عربية لا حاجة للتدخل فيها. 

لا غنى عن التعاون العربي اليهودي في قضية حقوق المواطن، وحقوق العامل، وحقوق المرأة  في المجتمع داخل الدولة العبرية، ولكن على اساس المساواة والاحترام المتبادل، وهذا يتضمن احترام الاجندة النسوية العربية الفلسطينية ضمن الحركة الوطنية. ومن المفروض ان تقوم الحركة النسوية القومية الديموقراطية بوضع جدول اعمال النضال النسوي في المجتمع العربي وحاجات المرأة وامكانيات التقدم الفعلي في تحقيق المساواة وليس انطلاقاً مما يجلب الاعجاب في ورشات العمل والايام الدراسية اليهودية- العربية. 

هموم وقضايا حالة عينية مركبة

التيار القومي الديموقراطي في الداخل        

دولة لجميع مواطنيها وادارة ذاتية للأقلية القومية:  

ينسجم نضالنا من اجل دولة لجميع مواطنيها في إسرائيل ذات الأغلبية اليهودية مع توجهنا القومي العربي الديموقراطي ويكمله. فهذا النضال الذي يؤكد على المواطنة المتساوية يواجه جوهر الصهيونية الكامن في تعريف دولة إسرائيل كدولة اليهود. وهذا هو المسعى العربي الوحيد حالياً والذي يصطدم مع الصهيونية فكراً وممارسة، فدولة إسرائيل لا يمكن ان تكون دولة اليهود في العالم اجمع وان تكون دولة مواطنيها العرب واليهود في الوقت ذاته. فقط عبر مشروع دولة المواطنين يصبح مشروع المساواة مشروعاً مناقضاً للصهيونية.

وقد استطاع التجمع الوطني الديموقراطي خلال فترة قصيرة جداً منذ قيامه ان يعمم بشكل لم يسبق له مثيل فكرة المواطنة المتساوية غير المشروطة من ناحية، وفكرة الهوية القومية الجامعة للعرب في الداخل كحجر الأساس لوجودنا كمجتمع منظم في  بلادنا من ناحية أخرى، وبتواز مع الفكرة الاولى.

مشروع المساواة الكاملة في دولة لجميع مواطنيها ليس مطلباً بل بوصلة توجه النضال من اجل المساواة باتجاه معادٍ للصهيونية. ومن هذا المشروع تشتق الحركة الوطنية مطالب عديدة تترجم طموح المواطنين لمساواة في الفرص في مجالات التوظيف والتعليم والميزانيات المستثمرة في البنى التحتية وفي التأمينات الإجتماعية. لسنا سذجاً لنعتقد ان دولة إسرائيل قد تصبح دولة لجميع مواطنيها ما دامت صهيونية. ولكن مطلب المواطن العربي في هذه البلاد هو المساواة، وهو يقدم مطلبه هذا في حدود المواطنة الإسرائيلية، ويقصد بالمساواة المساواة مع المواطن اليهودي. 

لقد عانت الاقلية العربية الأمرين في الماضي نتيجة التمييز القومي والاهمال وكان نضالها ينحصر في رفع الغبن اللاحق بها وفي الحفاظ على هويتها. ولم تأخذ الحركة الوطنية مطلب المساواة بجدية، لأن القضية الوطنية بالنسبة لها كانت هي الأساس. وكان أي تقدم في حلها مرتبطاً بالحركة الوطنية الفلسطينية والمشروع القومي العربي. وحتى لو سلمنا أن هذا الموقف كان ممكناً سياسياً في الماضي إلا أنه لم يعد هذا الموقف ممكناً كموقف سياسي للأسباب التالية: (1) نشأت داخل الأقلية العربية في إسرائيل طبقات وسطى جديدة وقطاعات عمالية وأجيرة واسعة وفئات مثقفين مرتبطة ارتباطاً كاملاً بالمواطنة الإسرائيلية وتوسع الحقوق في اطار هذه المواطنة؛ (2) ولدية عملية مصادرة الأرض وزوال الزراعية العربية اندماجاً كاملاً على هامش الاقتصاد الإسرائيلي، ولم تنشأ خلال السنين الخمسين الماضية عملية انتاج عربية او اقتصاد عربي مستقل يشكل اساساً لنزعة انفصالية من أي نوع؛ (3) ازدياد الوعي العربي المحلي للطاقة الكامنة في المواطنة الإسرائيلية سياسياً واجتماعياً خاصة على مستوى الحقوق؛ (4) طرأت تحولات هامة على السياسة والمجتمع والاقتصاد في إسرائيل أدت إلى ارتفاع مستوى المعيشة بشكل مطرد في العقدين الأخيرين بما في ذلك مستوى معيشة المواطنين العرب وذلك رغم اتساع الهوة بينهم وبين المواطنين اليهود بالمقاييس النسبية؛ (5) توسع حقوق المواطنة بشكل عام نتيجة لسلسلة من التشريعات اللبرالية وقرارات المحكمة العليا بما يتلاءم مع تطور المجتمع الإسرائيلي نفسه.

اضافة لهذه التطورات الإجتماعية والإقتصادية الداخلية علينا أن نأخذ بعين الإعتبار التحول الذي طرأ على متغيرين أساسيين كان لهما أعظم الأثر على المزاج السياسي للعرب في إسرائيل: (1) ازمة المشروع القومي العربي منذ بداية السبعينات، هذه الأزمة التي وصلت قمتها في حرب الخليج. 2) ولوج حركة التحرر الوطني الفلسطيني عملية السلام كعملية تسوية تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، وهبوط عملها الوطني داخل الخط الأخضر على سلم الألويات إلى درجة الإقتصار على توقع دعم العملية السلمية ودعم مواقف السلطة الفلسطينية في المفاوضات.

لم يعد بإمكان الحركة الوطنية ولا بإمكان التيار القومي إدارة الظهر لموضوع المساواة والمواطنة، ولو لم يوليها الأهمية اللازمة لما احتلت مكاناً أقل أهمية على جدول اعمال المواطنين العرب، ولتصدّر العمل من أجل المساواة قوى انتهازية يمينية أو قوى متأسرلة وصهيونية. ولقد لوحظ ازدياد قوة نزعة اندماجية ترافق مطلب المساواة منذ نهاية الثمانينات أدت إلى زوال الفرق بين أحزاب اليسار الصهيوني والاحزاب العربية. ومع إقامة التجمع الوطني الديمقراطي حصل انقلاب في الخطاب السياسي العربي في إسرائيل باتجاه تجذير مطلب المساواة وتأطيره ضمن مشروع  دولة المواطنين بحيث طرحت مطالب مساواتية لم تخطر ببال القوى السياسية الفاعلية في المجتمع العربي حتى ذلك الوقت، كما طرحت أفكار ترمي إلى تجذير الهوية القومية العربية على مستوى الخطاب السياسي مما اضطر القوى السياسية الأخرى الفاعلة على الساحة العربية إلى مجاراة التجمع والتراجع عن لهجتها الإندماجية.

لقد طرح التجمع الوطني الديمقراطي مشروع دولة المواطنين بتواز مع الإدارة الذاتية الثقافية مفنداً المزاعم أن امام العرب في إسرائيل خيارين لا ثالث لهما فإما الإندماج وإما الإنفصال. وقد بين التجمع أن الخيارات أمام المواطنين العرب في إسرائيل لا تقتصر على الإندماج أو الإنفصال بل وتجاوز خطاب التجمع السياسي ذلك إلى فضح وهمية هذين الخيارين.

فالإندماج في إسرائيل غير ممكن لأنه لم ولن تتشكل فيها أمة واحدة من المواطنين. والأساس النظري الذي قامت عليه إسرائيل ويشكل تعريفها والوظيفة التاريخية التي حددتها لذاتها هو كونها دولة اليهود. وطالما كانت الدولة دولة اليهود فهي لا تفصل بين الدين والقومية وبين كليهما من ناحية والدولة من ناحية أخرى. ولذلك فإن أي اندماج بالدولة هو وهمي بالكامل أولاً لأنه غير ممكن دون تغيير القومية وتغيير القومية يتطلب تغيير الدين، وثانياً لأنه يؤدي إلى حالة تهميش. الإندماج الوهمي يؤزم الهوية الذاتية للعربي ولا يمنحه المساواة الكاملة في العلاقة مع الدولة.

فهل الإندماج ممكن اذا تحولت دولة إسرائيل إلى دولة لجميع مواطنيها ونفذت طابعها الصهيوني؟ هذه الإمكانية غير واردة التحقق بالمنظور التاريخي المتوسط، ولكن حتى اذا تحققت فلن تعني الإندماج في قومية واحدة، هي أمة من المواطنين، كما هو الحال في فرنسا أو الولايات المتحدة. فلقد نشأت تاريخياً على هذه الأرض وفي هذه البلاد قوميتان، وقيام دولة المواطنين ديمقراطية وعلمانية لا يعني اندماجهما في  قومية واحدة.

وقد بينا في بداية هذا الفصل أن خيار الإنفصال بالنسبة للعرب في إسرائيل غير وارد. وهو غير وارد جغرافياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً. فالعرب في إسرائيل لا يعيشون على وحدة جغرافية واحدة أو اثنتين كما هو الحال في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا يشكلون وحدة اقتصادية تعيد إنتاج ذاتها، ولو نسبياً، باستقلال عن الإقتصاد الإسرائيلي. ونشاطهم السياسي يتم ضمن حدود وحقوق المواطنة الإسرائيلية بما في ذلك إقامة الأحزاب. ويتطلعون إلى المساواة في إسرائيل – وبالتالي فان خيار الإنفصال هو خيار وهمي لا معنى له. وهو قائم في الدعاية الصهيونية اليمينية فحسب التي تحاول تخويف الرأي العام الإسرائيلي من العرب. تماماً كما كان خيار الإندماج قائماً في دعاية اليسار الصهيوني يذهب إلى نفي الهوية القومية للعرب دون قبول مساواتهم الكاملة.

لا المساواة للعرب في هذه البلاد رديفة للإندماج ولا الحقوق القومية الجاعية رديفة للإنفصال. والتناقض بين المساواة والحقوق القومية هو تناقض وهمي كاذب. بل ويذهب التجمع الوطني الديمقراطي إلى الإدعاء أن المساواة في حالة العرب في إسرائيل غير ممكنة دون الإعتراف بحقوقهم الجماعية، وأن الحقوق الجماعية يجب ألا تكون على حساب المساواة.

ولذلك يطرح التجمع المساواة الكاملة في دولة لجميع مواطنيها والإعتراف بالعرب في إسرائيل أقلية قومية تحظى بحقوق جماعية ناجمة عن هذا الإعتراف يتصدرها الحق بالحكم الذاتي الثقافي.

العرب في إسرائيل كأفراد هم مواطنون في الدولة. ولكنهم يشكلون جماعة يفترض أن تشكلها سابق على قيام الدولة وذلك كشعب مكون من سكان البلاد الأصليين. ان صفة الجماعة القومية للمواطنين العرب سابقة على قيام الدولة. وليس بوسع الدولة ان تتنكر لحقيقة كونهم جزء من الأمة العربية والشعب الفلسطيني وأنهم سكان البلاد الأصليين الباقين على أرضهم. هذه صفة جماعية وليست فردية وهي سابقة تاريخياً لكونهم مواطنين في إسرائيل، وذلك رغم مطلب الإعتراف بهم كجماعة قومية ضمن القانون الإسرائيلي. بحيث يترتب على هذا الإعتراف حقوقاً جماعية تعترف بها الدولة كحقهم في الحكم الذاتي.

ولكن قبل أن تتعامل الدولة مع المجتمع العربي في إسرائيل كجماعة قومية يتوجب على المجتمع العربي أن يطرح ذاته كجماعة قومية أصيلة وليس كمجموعة من الطوائف أو الأقليات أو الأفراد المستعدين للتنازل عن هويتهم القومية مقابل اندماج موهوم. ولعرض طرح العرب في إسرائيل أنفسهم كجماعة قومية تواجه القوى السياسية الوطنية تحديات ومستلزمات أولها ان تشكل قيادة قومية وأن تعكف على بناء مؤسسات الأقلية العربية في إسرائيل.

فالإدارة الذاتية ليست مطلباً من الدولة فحسب، بل تعني ايضاً وربما أولاً قدرة المجتمع على تنظيم ذاته في مؤسسات قومية. هذا هو امتحان المجتمع العربي في سياق مطلب الإعتراف بطابعه القومي. ويرتبط النجاح في هذا الإمتحان أولاً بحصانة المجتمع العربي وقواه السياسية والإجتماعية الفاعلة ضد الطائفية، وثانياً بقدرته على تنظيم مؤسسات ثقافية واجتماعية وبحثية قادرة على بلورة وجهة نظر ومطالب موحدة وتخطيط علمي بديل لتخطيط السلطة دون مزاودات ومبالغات. تنجم المزاودات عن عدم وجود أطر مرجعية قومية تتخذ قراراتها المقبولة والملزمة بشكل ديمقراطي، وتشل العمل.  وهذه إحدى المهام الأساسية التي طرحها ويطرحها التيار القومي. ان البديل لتنظيم الأقلية العربية على أساس قومي هو تهميشها السياسي والثقافي والإجتماعي المؤدي لضحالة النشاط الثقافي وقلة الإبداع، بل وازدياد معدلات العنف والجريمة والإنحلال إلى طوائف قطرياً وعشائر وعائلات محلياً وضعف التماسك الإجتماعي الذي يربط الأفراد سوية في مجتمع قومي واحد متماسك.

اذا نظمنا انفسنا كشعب سيكون بوسعنا أن نفرض على الدولة بلورة برامجنا التعليمية وتقرير أهداف التعليم، كما سيكون بوسعنا فرض رأي الأقلية العربية ضمن مؤسسات التخطيط في هذه الدولة، المحكومة بالأيديولوجية الصهيونية بكل ما يتعلق بالتخطيط والتصنيع والإسكان وسياسة الأراضي المتبعة.

كما ويندرج ضمن الحقوق الجماعية التي طالب التجمع بها منذ أن مثل برلمانياً، وذلك بطرحها شكل اقتراحات قوانين، تمثيل العرب كعرب بشكل ملائم في مؤسسات مختلفة رسمية أو شبه رسمية.

هنا يطرح السؤال الهام: هل يعتبر تمثيل العرب في هذه المؤسسات قيمة عليا تخضع لها المواقف السياسية؟ جواب التجمع الواضح والقاطع هو لا. لقد طرح التجمع موضوع تمثيل العرب اللائق في الشركات الحكومية ومؤسسات الدولة والوظائف الحكومية كخطوة على طريق المساواة تنطلق من مبدأ تلازم الحقوق الفردية والجماعية. ولكن التجمع لا يطالب بتمثيل العرب في المؤسسات الأمنية أو مؤسسات السياسة الخارجية، وقد يعتبر البعض رفض الدولة لتمثيلهم في هذه المواقع تمييزاً عنصرياً. وقد كان هذا صحيحاً في الماضي. ويبدو أن المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة قد غيرت موقفها من هذا الموضوع وتبدي مرونة أكبر بالنسبة لدمج العرب في هذه المؤسسات الوسيلة الأفضل لتطوير مصلحة عربية مندمجة بالسياسة الإسرائيلية الأمنية والخارجية والطريق الأقصر لتآكل الوعي والإنتماء القومي ولأسرلة أنماط السلوك السياسي العربي وتسهيل مراقبته والسيطرة عليه.

ولذلك يضع التيار القومي مطالبه المساواتية ليس بتناقض وإنما بتناسق مع الموقف السياسي والقومي بحيث لا تتحول مطالب المساواة إلى عملية أسرلة وصهينة وتهميش.

لقد كشف مشروع 'دولة المواطنين' عن تناقضات عميقة في المبنى الصهيوني للدولة وساهم ويساهم بكشف أبعاد جديدة للصراع بين انماط التدين والعلمانية في إسرائيل مبيناً أن معركة العلمنة الحقيقية لا تقتصر على الأحوال الشخصية، أو على أحكام يوم السبت ونمط الحياة اليهودي المفروض، وإنما تتجاوز ذلك إلى موضوع العلاقة الإشكالية بين الدين والقومية في إسرائيل. مشروع 'دولة المواطنين' هو فكرة موجهة تضع أجندة في التعامل مع أجهزة. وهذه الفكرة الموجهة تفضح حقيقة طالما حاولت القوى العربية الفاعلة أن تتجنب رؤيتها وهي أن المساواة غير ممكنة في دولة تعتبر نفسها دولة اليهود.

والتقدم نحو المساواة حقيقة لا يتم الا بهذه البوصلة. والمطالب التي تشير اليها كمطالب تؤدي إلى تراجع صهيونية الدولة. وهنا يُوجه للتجمع السؤال الهام التالي: ألا يساوركم الخوف أن مشروع 'دولة لجميع مواطنيها' قد يؤدي إلى اشتراط المساواة في 'الواجبات' مقابل المساواة 'بالحقوق' في مثل هذه الدولة، الا يؤدي هذا المشروع إلى تضامن مع الدولة وولاء لها؟

يدرك التجمع الوطني الديمقراطي التناقض القائم في واقع المواطنين العرب في هذه البلاد، واحتمال تفسير مطلب دولة المواطنين لدى فئات انتهازية واسعة تنتظر مبرراً نظرياً لعملية الأسرلة. ولكن حركتنا الوطنية لا تطرح 'دولة لجميع مواطنيها' بمعزل عن الهوية القومية والحقوق الجماعية. كما أن الدولة لجميع مواطنيها هي ليست دولة اليهود أو الدولة اليهودية، وهنا ينفرد التجمع بالتأكيد على أن مقولة 'دولة يهودية ولجميع مواطنيها' هي مقولة متناقضة وغير مقبولة نظرياً.

ولا يعترف التجمع بالعلاقة بين الحقوق والواجبات ويعتبرهما وجهان منفصلان للمواطنة الديمقراطية، ولا علاقة للمساواة بالخدمة في الجيش الإسرائيلي. فلا الخدمة العسكرية تولد المساواة ولا المساواة تتطلب خدمة عسكرية. والتجمع يرفض الخدمة العسكرية من منطلق قومي ووطني ويحافظ على هذا البعد في تقييمه لموضوع الإندماج الأمني والذي ينجم عنه تشويه للشخصية القومية والأخلاقية.

لا شك أن التناقض قائم في واقع العرب في إسرائيل في العمل السياسي وبالعزوف عن العمل السياسي – والمواطن الواعي يواجه هذا التناقض في كل خطوة في السياسة وخارج السياسة. وقد أدى هذا التناقض بين الحفاظ على الهوية القومية ومطلب المساواة الكاملة إلى تأزيم القوى السياسية العربية وإلى تأزيم شخصية 'العربي الإسرائيلي' المشوهة اللاعبة على حبلين والمسترخية على تقاطع هامشين: هامش الأمة العربية وهامش المجتمع والسياسة الإسرائيلية، لاعبة دور الضحية في كل سياق، أو دور الإسرائيلي في سياق والوطني الفلسطيني في سياق آخر.

ولكن التجمع الوطني الديمقراطي يدرك ليس فقط الطاقة الهدامة في التناقض الذي يأسر ويتملك غير الواعين لوجوده، وإنما ايضاً الطاقة الدافعة للتناقض الجدلي القائم في مواطنة العرب في إسرائيل وذلك على مساري الصراع مسار المواطنة الديمقراطية والصراع ضد الصهيونية والتأكيد على الشخصية العربية الفلسطينية المستقلة.

القومية والديموقراطية والجمع الممتنع

يناضل التجمع الوطني الديمقراطي بين نارين في ظروف الانتماء للأمة العربية والشعب الفلسطيني وفي ظروف المواطنة الاسرائيلية كمعطى.  والعمل بين نارين منهك ومضني في المدى المنظور ، ولكنه مفيد ومبلور ومفلوذ على المدى البعيد، لأن الفكر السياسي في هذه الحالة يشق طريقه ويوجه الممارسة ضمن مجموعة متناقضات قلما تجتمع في عالمنا. ' ولا تكرهوا امراً عله خير لكم'، وخصوصية التجمع الوطني الديمقراطي التي تجعله يجمع بين القومية والديمقراطية  وبين الليبرالية في حقوق المواطنة والحقوق الجماعية، وبين الانتماء الاصيل  للأمة والثقافة العربيتين  وفكر التنوير النقدي الذي يرفض تحويل الثقافة  الى فولكلور جامد، ويرفض التعامل مع الأمة والقومية  كجواهر ثابتة. هذه هي الخصوصية يكتسبها ويطورها التيار القومي الديمقراطي في الداخل من خلال لقاء وصراع الاضداد.

ولا يشكل صراع الاضداد  دائماً حالة بطولية يعبر فيها النضال السياسي عن تناقض وجودي، وهذه الحالة قائمة في صراعنا مع الصهيونية، ولكن قد يتخذ هذا الصراع اشكالاً مشوهة وهزيلة ناجمة عن بؤس الحالة السياسية في اوساط الاقلية العربية وتذيلها،الخالي من الندية والمساواة بحكم التعريف،  للاعلام الاسرائيلي والمؤسسة الإقتصادية والسياسية الاسرائيلية.

ويتجلى هذا البؤس بافظع اشكاله في ثقافة الوشاية الموروثة من ايام الخوف ، ايام الحكم العسكري والذي رزح في ظله عرب  هذه البلاد حتى عام 66.  وما زال بعض المرتبطين بالمؤسسة الاسرائيلية الحاكمة مصلحة وثقافة يستخدمون هذه الاداة في محاربة التيار القومي، وذلك بترجمة مواقفه القومية الى العبرية، وبالاشارة الى ان وجوده في الساحة السياسية العربية يؤدي الى حالة مزاودة وتنافس بين الاحزاب العربية على اتخاذ المواقف المتطرفة- والرسالة التي  يبثها هؤلاء تارة بالهمس والغمز واللمز، وتارة بالتصريح العلني للاعلام الاسرائيلي: ' ان التجمع الوطني الديمقراطي متطرف وغير مسؤول ويجر الساحة العربية الى التطرف، وحتى الى انفصال العرب عن جسم الدولة ' – او ' ان تحذيرات رئيس الشاباك في تقرير للجنة الخارجية والأمن عن التجمع الوطني الديمقراطي والنائب عزمي بشارة لا يصح للتعميم على الجميع'.. وغير ذلك من التصريحات الذاهبة الى عزل التجمع باعتباره متطرفاً فيسهل ضربه واتخاذ اجراءات ضده من قبل اسرائيل.

نفس العقلية وفي بعض الاحيان نفس القوى المتذيلة لليسار الصهيوني والتي تتهم التجمع بالتطرف والراديكالية والقومجية، تبث للعالم العربي ان التجمع يعترف بشرعية دولة اسرائيل، وان طرحه الديمقراطي المعادي للصهيونية المعبر عنه في تبنيه لمفهوم 'دولة لجميع المواطنين'، هو دعوة صريحة للاندماج في جسم الدولةالعبرية... ولا يضير هذه القوى ان تتلقف الكلام قوى عربية معادية للقومية العربية كمفهوم، او معادية للقومية العربية من منطلق تجربتها السلبية مع التيارات القومية العربية في السلطة، وأخرى  قد تناقش التيار القومي في الداخل من منطلق عدم استيعابها لتطوير الفكر القومي الذي يقوم به في ظروف المواطنة الاسرائيلية. ولكنه جميعا تتناقض تناقضاً كاملاً مع القوى السياسية المتذيلة لليسار الصهيونى وللمؤسسة الاسرائيلية والتي تحارب التجمع الوطني الديموقراطي علىاساس تذيلها هذا.

كل هذا غير مهم. فالحركة بركة، والمهم اضعاف التيار القومي المستحوذ على العقول ومهاجمته من كل زاوية ممكنة. ولكن هؤلاء لا يدرون ماذا يفعلون. فانهم اولاً، يجعلون طرح التيار القومي محورالنقاش. وهم خارج دائرة النقاش الفكري. إما لانهم يكتفون بالممارسة اليومية المصلحية الزاحفة التي لا تحتاج الى فكر مبلور للتعبير عن ذاتها، وإما لأن طروحاتهم السياسية تقع خارج دائرة الشرعية الوطنية التي تثير نقاشاً داخلياً. ولأنهم ثانياً، يضطرون التيار القومي الديمقراطي لتطوير طروحاته باستمرار في مواجهة الاسئلة المثارة او الآراء المسبقة ، وقد تثار عن حسن نية او عن سوء نية او عن جهل- وهذا لا يغير مبدئياً نوع الاجابة عليها.

نأخذ مثلاً على ذلك موقف التيار القومي في الداخل من انتخابات الكنيست: 

والمعروف انه ينتمي لهذا التيار ناشطون سياسيون كانوا في الماضي يرفضون خوض الانتخابات للبرلمان الاسرائيلي او المشاركة فيها بالتصويت، وآخرون كانوا يشاركون ضمن قوائم مثل الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة، وقبلها الحزب الشيوعي، والحركة التقدمية وغيرها. ومن المعروف ان الحركة الاسلامية في الداخل تخوض انتخابات الكنيست بأحد شقيها، اما الشق الثاني فيشارك افراده بالتصويت والاقتراع (أي لا يقاطع الانتخابات رسمياً) وان كان لا يخوض الانتخابات  بقائمة خاصة به، هذا عدا مشاركته في الحكم المحلي التابع رسميا لوزارة الداخلية والمعبر عنه  بالبلديات والمجالس المحلية. 

لقد قرر التجمع الوطني الديمقراطي خوض الانتخابات البرلمانية بعد مخاض طويل ونقاشات مضنية منشورة وغير منشورة. ولكن القرار جاء طبيعياً ودون اعتراضات على المبدأ حتى  من قبل اولئك الذين لم يتحمسوا للفكرة. لقد وقفنا  في حينه امام  حالة من تأزم  وتشظي الحركة الوطنية في الداخل وتحويلها الى هامشية وعاجزة عن التأثير على مجريات الامور على الساحة العربية.

وازاء ما شخصناه على انه حالة اسرلة زاحفة تتمثل بتحول مطلب  المساواة الى مطلب اندماج على هامش المشروع الصهيوني، بما في ذلك من اسقاطات على الثقافة الوطنية والمواقف السياسية، وبما في ذلك من مظاهر تأزم العلاقة مع الذات المعبر عنه في نشوء شخصية ' العربي الاسرائيلي' المنفصمة، قررنا ان الطريق الوحيد للتأثير هو طرح التيار القومي الديمقراطي  للمنافسة في الانتخابات  كطرف سياسي ذي علاقة بواقع العمل السياسي الذي يريد تغييره  . فمقاطعة الانتخابات، كموقف سياسي، لا يؤدي  بالجماهير الى مقاطعتها، بل الى تهميش من يدعو لذلك عن الناس. وبذلك تبقى 'الجماهير' فريسة اسرلة تفرضها العملية الانتخابية بعد ان غابت عنها محاذير وثوابت التيار القومي.  فتنشد هذه العملية الانتخابية والخطاب السياسي الذي يسودها باستمرار نحو تقليد نمط خطاب اليسار الصهيوني الذي يوفق بين 'الاندماج' في دولة اليهود وبين قبول كيان (دولة) فلسطينية مستقلة 'الى جانب دولة اسرائيل'.

ومنذ ان قرر التيار القومي المشاركة في الانتخابات تحولت طروحاته الى موضوعات متداولة في النقاش في الشارع،  وانتشرت كالنار في الهشيم ، وبدلاً من ان  يشد اليسار الصهيوني الخارطة السياسية العربية اليه، تغير الاصطفاف بحيث بات ينشد باتجاه التيار القومي.وأحد التعبيرات عن ذلك هو تقليد خطاب هذا التيار ومناقشته بحدة او الوشاية به في الوقت ذاته.  ولكن الاساس ان طروحاته أضحت محور النقاش الدائر.

  لم يخلق التيار القومي الديمقراطي الوطنية ولا القومية في الداخل. ولكن لا يستطيع الا الجاهل او سيئ  النية ان ينكر انه منذ ولج التجمع الوطني الديمقراطي مجال السياسة بمعناها العيني في الظروف العينية، اي كمتنافس بين طروحات اخرى، تغيرت الثقافة السياسية لدى عرب الداخل وتطور النفس الوطني الكفاحي النضالي وبدأت تتشكل حالة رفض للاسرلة باتت مقلقة لاسرائيل. وصحيح ان الشق اليميني للمؤسسة الصهيونية يحرض ضد كل القوى السياسية العربية، ولكن اليسار الصهيوني لا يحرض الا على التجمع الوطني الديمقراطي لانه يدرك الفرق الذي احدثه التجمع، في حين يمنع عمى الالوان العنصري المصاب به اليمين من رؤية الفرق.

وما كان بامكان التيار القومي ان يدخل البعد القومي والديموقراطي الى حياة 'الجماهير' السياسية بالوعظ والارشاد من خارج واقعهم المعاش كناس.  وواقع عرب الداخل المعاش هو واقع المواطنة الاسرائيلية غير المتساوية ، وردة الفعل الطبيعية الاولية عليها وهي مطلب المساواة. وما كان بامكان التجمع ان يثبت ل'لجماهير' ان مساواة العرب غير ممكنة في ' دولة اليهود' الا اذا وقف معهم على قاعدة هذا المطلب باعتباره شرعياً. فلكي يطلب التيار القومي من 'الجماهير' ان تحمل الهم الوطني والقومي عليه هو ان يحمل هم الناس.

 يتقوقع التيار القومي في رومانسية تمجد الجماهير من بعيد دون معرفتها اذا لم يتعامل مع قضايا الناس اليومية الذي يحول ' الجماهير' الى ناس، بشر، افراد، جماعات، متطورين ومتخلفين، واعين ومجهلين،والى مصالح وقضايا مرتبطة وغير مرتبطة بالسلطة الحاكمة والىثقافات سياسية متفاوتة. وقد يؤدي العزوف عن التعامل مع قضايا الناس بالسياسة من الرومانسية الى العدمية، اي  الى الانعزال في حالة احباط وهجرة واغتراب تخوّن الحالة والمرحلة  والعرب والمسلمين والناس اجمعين، أي تتحول الى هجرة يتبعها تكفير. والحالة الرومانسية وحالة الهجرة  حالات غير سياسية. وقد اثبتت التجربة التاريخية والتحليل البنيوي للاقلية العربية في الداخل  انه لا يمكن التعامل مع قضايا الناس الحياتية واليومية وتمثيلهم سياسياً في الوقت ذاته دون خوض المعركة سياسياً برلمانيا.

 بقيامه وبولوحه المعركة السياسية حقق التجمع الوطني الديمقراطي ما يلي:-1 تم احياء الحركة الوطنية والتيار القومي في الداخل.-2 شد التجمع بطروحاته مطالب المساواة الى نهايتها القصوى المتناقضه مع الطبيعة الصهيونية للدولة العبرية.-3 تم قطع شوط كبير في تخليص هوية عرب الداخل من ازمة الاسرلة . -4 يزداد الاتفاف حول ضرورة بلورة الحقوق الجماعية للعرب في الداخل. -5 تكثيف التواصل مع الامة العربي والشعب الفلسطيني بشكل لم يسبق له مثيل. -5 نتيجة لضرورات التنافس مع طروحات واسليب عمل التيار القومي الديموقراطي تطور العمل البرلماني والسياسي  عند جميع القوى بشكل لا يقارن مع ما كان سابقاً.

هل هناك ثمن يدفعه التيار القومي بسبب دخوله انتخابات الكنيست الذي يترتب عليه اعتراف باسرائيل؟

نعم. ولكن أي لقاء للفكر بالممارسة فيه ثمن يدفعه الفكر راضياً اذا رغب بالتأثير- أي ترجمة للفكر الى برنامج سياسي بناء على تشخيص لظروف سياسية محددة من اجل تغيير هذه الظروف  فيه ثمن ، واي ترجمة للبرنامج السياسي الى مطالب نضالية فيه ثمن. والامتحان هو بالقدرة على الارتقاء المعاكس من المطلب الى البرنامج الى المشروع الفكري بشكل متماسك ودون تناقضات لا تمكننا من العيش معها.

والتيار القومي في الداخل ، خلافاً لحركات سياسية لا تتوفر لديها هذه البوصلة الفكرية القومية الديموقراطية، لا يوافق على التمثيل في اداة تنفيذ السياسة الاسرائيلية وهي الحكومة ووزاراتها، كما لا يوافق على تمثيل العرب في لجنة الخارجية والأمن في البرلمان ، ولا يشارك في تمثيل الكنيست خارج البلاد، ولا يطالب بتمثيل عربي في البعثات الدبلوماسية في الخارج بحجة المساواة، خلافاً للقوى السياسية العربية الاخرى في البرلمان.

فالتيار القومي يرفض تحويل مطلب المساواة المناهض للطبيعة الصهيونية لاسرائيل الى اداة لدمج العرب في سياسات اسرائيل تحول بدورها مطلب المساواة الى مطلب 'حصة' في السياسة بدلاً من مناهضة هذه السياسة.  ولكن التيار القومي النضالي الذي يتعامل بحيويته يومياً مع قضايا الناس ببوصلة فكرية وقيمية يرفض في الوقت ذاته اشتقاق مواقفه  بالقياس المنطقي من نوع : هنالك تناقض بين القومية العربية والوحدة العربية ووجود اسرائيل كتعبير عن مشروع صهيوني.  والمشاركة في انتخابات الكنيست هي اعتراف بهذه الدولة ، اذاً  هنالك تناقض بين المشاركة في هذه الانتخابات والفكرة القومية العربية.  بل يشتق  التجمع الوطني الديمقراطي مواقفه بضرورة خوض الانتخابات  باستقراء الواقع الحياتي المعاش وإنماط العمل السياسي وإنماط الوعي التي ينتجه لكي يكون هنالك وجود جماهيري وشعبي وفاعل ومؤثر للفكرة القومية العربية المتناقضة مع الصهيونية، كما تتناقض ممارسات التجمع مع الصهيونيه على كل جبهة ممكنة.  هكذا يتجلى التناقض الوجودي ويتفاعل ويطور ديناميكيته. لكي يكون هنالك صراع وجود يجب ان يكون وجود في الواقع المادي الملموس، والا تحول صراع الوجود مع الصهيونية الى صراع وهمي بين مفاهيم تعيش حياتها الخاصة الرمادية بعيدة عن الوان الواقع المعاش، ومن بينها اللون الرمادي القاتم.  وليس لدينا أي طموح لتقديم الوعظ والارشاد  للتيار القومي في الوطن العربي وضرورة تعامله مع الواقع العيني في الدول العربية القطرية العينية، ولا وجود لدولة عربية اخرى، هذا التعامل الذي قد يضطره الى تبني هموم الجماهير بدلاً من مطالبة الجماهير باستمرار بتبني  الهم القومي.

مثال آخر: كيف نوفق عينيا بين القومية والديمقراطية؟

التيار القومي في الداخل هو قومي لأنه ' يؤمن' (أي يعتقد) بوجود أمة عربية ، ولأنه ينحدر من  الحركة القومية العربية المتنوره من التيار القومي في بلاد الشام مروراً بالناصرية والذي هدف الى التحرر من الاستعمار وتركته، ومن نزعته لبناء  مجتمع عربي حديث تقوم فيه علاقة مباشرة بين المواطن الفرد وبين الأمة /الدولة دون اعتبار لانتماء هذا المواطن  الديني او الجنسي او العرقي. ويعي  التجمع الوطني الديموقراطي التشوهات التي لحقت بهذه البراعم التنويرية الاولى، كما يعي ان هذه النزعات التنويرية قد طورت نظرياً فردياً وليس حركياً. وقد لحقت بها تشويهات من قبل التيارات القومية ذاتها تحت وطأة ازدياد وتكثيف البعد الأيديولوجى لدى التيار القومي كلمت تضاءل البعد الوحدوي القومي في الواقع العربي المعاش وكرد فعل على غيابه. لقد تطور الفكر القومي العربي باتجاهات غير ديموقراطية مبررا ممارسات غير ديموقراطية وديكتاتورية بتطويره لمفهوم امة  عضوية غير تاريخية، وباهماله  المواطنة مفهوما وممارسة.   

وغني عن القول ان التيار القومي في الداخل ،وفي ظروف المواطنة الاسرائيلية تحديدا، غير قادر ان يضطلع بدور فعال في الهم الوحدوي العربي. وهو رغم ذلك وخلافاً للقوى السياسية الاخرى في الداخل يؤكد على البعد القومي في القضايا التالية تحديداً: 1) التاكيد على البعد القومي في النضال الفلسطيني في مواجهة مزاج سياسي منتشر في اوساط فلسطينية محدودة يؤكد على العجز العربي. 2) التأكيد على الهوية القومية العربية كهوية مباشرة للفرد العربي  في الداخل ايضاً،لا تعبر عن طوائف، لا تحارباً ولا تآخيا. 3) التأكيد والعمل على تواصل العرب في الداخل مع الامة العربية، ليس بهدف 'التطبيع' مع اسرائيل، ولا 'كجسر سلام'، وإنما لتعزيز واغناء الهوية العربية في الداخل بعد أعوام طويلة من العزلة، وبما في تبادل الخبرات والاراء من فائدة.

ومع تأكيد التيار القومي في الداخل على ضرورة الاستفادة عربياً من خبرته ومعرفته باسرائيل لعقلنة وترشيد عملية صنع القرار، الا انه خلافاً للقوى السياسية الاخرى في الداخل لا يقبل بلعب دور الوسيط بين اسرائيل وبين القوى السياسية العربية، ولا بين القوى السياسية الاسرائيلية والدول العربية.  وهنالك قوى سياسية عربية في الداخل حاولت ان تلعب هذا الدور علانية وتتمنى علنا ان تلعبه ايضاً. وهي تحاول من حين لاخر ان تثير الاشاعات عبر دار الاذاعة الاسرائيلية وغيرها من الادوات ان التجمع يلعب مثل هذا الدور، ليس لانها ضد لعب دور الوساطة، بل لأنها تريد ان تؤكد ان التيار القومي لا يختلف عنها، اي كلنا في الهوى سوا.

وليس لدى التيار القومي مانع على الإطلاق من اطلاع الرأي العام الاسرائيلي، او حتى المسؤولين الاسرائيليين ما دام في البرلمان، على تقيييمه للموقف السياسي في العالم العربي كما يراه، فهو يقوم بذلك علناً ومن على منبر الكنيست على اية حال، ولا ان يطلع المسؤولين العرب والرأي العام العربي على تقييمه للموقف في اسرائيل. فهو يقوم بذلك قولا وكتابة على اية حال. ولكن التيار القومي منحاز بشكل واضح للموقف العربي والفلسطيني، فهو ليس حياديا ولا وسيطاً. لا هو يقبل ذلك ولا اسرائيل تقبل به كوسيط، بل انه متهم بالتحريض وبراديكالية الموقف قياساً بمواقف عربية رسمية. ويرى التيار القومي العربي في الداخل ان طموح القوى السياسية العربية في الداخل للعب دور الوسيط هو طموح 'دون كيشوتي' اصلاً، فلا وزنهم الاقليمي ولا الدولي يسمح لهم به، ولا هذا دورهم. هنالك  من العرب في الداخل من يحاول باستمرار بيع اليسار الصهيوني فكراً وشخوصاً للعرب، وللفلسطينيين تحديداً، في حين يحارب اليسار الصهيوني التيار القومي في الداخل حرباً لا هوادة فيها، اذ يعتبر نهجه السياسي على المدى البعيد الاكثر خطراً على يهودية الدولة. 

ولا يتجلى الخطر برفض التجمع فكرة الاندماج وتأكيده على حقوق عرب الداخل القومية، ولا بمطلب دولة المواطنين الذي يتناقض مع الصهيونية فحسب، بل تتجلى الخطورة ايضا بنظر اليسار الصهيوني في تمسك التيار القومي بثوابت فلسطينية يوهم اليسار الصهيوني ذاته انه بالإمكان اقناع  الفلسطينيين بالتخلي عنها. 

وتجلى ذلك بشكل واضح بالتحريض الاسرائيلي الشامل على هذا التيار لتمسكه بحق العودة، كما تجلى ذلك عندما رفض التجمع وحده في البرلمان التصويت لصالح الذهاب الى كامب-ديفيد،  في حين ايدته واحتفت به كل القوى السياسية العربية في البرلمان، وبشكل فوري، بحجة أن السلطة الفلسطينية وافقت على المشاركة، رغم أن السلطة الفلسطينية لم تخف الطابع الاضطراري لمشاركتها، والتطابق بين الاضطرار الفلسطيني والاحتفال به هو ظاهرة أسرلة بامتياز. 

لقد حذر التيار القومي ممثلاً بالتجمع الوطني الديموقراطي من كامب-ديفيد دون ان يهاجم السلطة الفلسطينية لانها وافقت على المشاركة فيه. فقد  شاركها مخاوفها منه وعبر عن هذه المخاوف، وصدق عندما شخص الموضوع على انه محاولة لاملاء موقف اسرائيلي، او موقف اسرائيلي معدل امريكياً، عليها.

وقد اعترف يوسي بيلين مؤخراً بان اسرائيل اخطأت عندما ضغطت على السلطة الفلسطينية للتفاوض فوراً على الحل الدائم، ونشرت بعض الصحف المحلية العربية اقواله بتوسع وبدون نقد ذاتي،  وكأن الحقيقة تتضح خالصة فقط عندما يدلي بها اليسار الصهيوني بعد فوات الاوان، اما عندما يكررها التيار القومي المرة تلو الاخرى وفي وقت مبكر فأنه ينعت بالتطرف.

يطور التيار القومي في الداخل الفكر القومي باتجاه ديموقراطي، وهي محاولة تبدو اكثر سهولة من اخواتها في الوطن العربي لأنها لا تتحدى نظاماً عربياً، ولأنها تطرح الديموقراطية في سياق وطني هو سياق الصراع مع الصهيونية. وليس من البطولة ولا من الاقدام طرح تناقض الصهيونية مع الديموقراطية على جبهات مثل مطلب المواطنة المتساوية، وفصل الدين عن الدولة وانظمة الطوارىء وغيرها. ذلك لان الدولة العبرية تتبنى الديموقراطية خطاباً سياسياً ودستورياً رسمياً، ويظهر نضالنا في الداخل تناقضات هذا الخطاب البنيوية مع الصهيونية وعدم مثابرته. وقد احتاج هذا الطرح الديموقراطي المناهض للصهيونية الى ابداع فكري  وليس الى بطولة بالضرورة، ولكن ممارسته باتت تحتاج الى جرأة اكبر بعد ان شخصته المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة كخطر، فبات هذا الطرح وممارساته تتعرض الى حصار سياسي واعلامي اسرائيلي يجند معه قوى ومؤسسات عربية، كما يتعرض التيار القومي المنظم في التجمع الوطني الديموقراطي الى ملاحقة بوليسية ومخابراتية، ويتوقع ان تزداد شدة هذه الملاحقة.

ولكن الجمع بين القومية والديموقراطية في اطار تيار قومي عربي يتم في المجتمع العربي كله، وليس فقط في الصراع مع الصهيونية. ولذلك يطرح التجمع قضية تنظيم المجتمع العربي في الداخل على اساس قومي(لا عشائري ولا طائفي) ديموقراطي، اي في مؤسسات ديموقراطية الطابع. ولذلك ايضاً يؤكد التجمع باستمرار على تنشأة كوادره تنشأة ديموقراطية ومتنورة، وعلى مساواة المرأة بالرجل في المجتمع العربي، وعلى حرية التعبير عن الرأي، وعلى الحوار ضمن التعددية الحزبية والايديولوجية القائمة. ولكن الطرح الديموقراطي للتجمع يبقى ناقصاً لأنه لا يطرح قضية السلطة. فلا توجد سلطة عربية(دولة) في المجتمع العربي في الداخل. والحديث يدور في نهاية المطاف عن مجتمع لا يحكم ذاته. والتجمع يطرح في اقصى الحالات قضية الحكم الذاتي الثقافي للاذقلية العربية، وقضية 'دولة المواطنين' هي بوصلة فكرية اكثر مما هي نضال للوصول الى السلطة.

هل نستطيع الاستعاضة عن ذلك بطرح قضية السلطة في الدول العربية من حولنا؟ كلا. باستطاعتنا ان نطرح هذه المواضيع نظرياً وان نؤكد على اهمية المسألة الديموقراطية في الوطن العربي، كما باستطاعتنا الاستفادة من التجارب العربية المختلفة. وكتيار قومي ديمقراطي بامكاننا ادارة حوار مع تلك التيارات في الوطن العربي التي لا تفرد اهمية خاصة لقضية الديمقراطية في الواقع الحالي ولا في تشخيص الازمة الناجمة عن غيابها تاريخيا.

ولا شك ان التيار القومي العربي في الداخل هو تيار ديمقراطي ينشد الديمقراطية في الاقطار العربية كافة . بل هو يذهب ابعد من بقية التيارات القومية العربية بادعائه ان الديمقراطية هي الطريق لتحقيق الوحدة العربية باشكال فدرالية كونفرالية مستقبلا. ويسوق التجمع امثله عديدة على استحالة الطرح القومي عربيا دون طرح ديمقراطي، من مسألة المواطنة المتساوية واستكمالها ببناء الامة المدنية الى ضرورة ان يطرح التيار القومي حلا لقضايا الاقليات .

فلا يمكن ان تطرح الوحدة فوقيا كامة فوق التاريخ والجغرافيا، وإنما يتم بناء الامة تصاعديا من خلال المجتمعات العربية القائمة التي لا بد ان يتاح لها ان تعبر ديمقراطيا عن انتمائها العربي دون ان يمس هذا التعبير بحقوق الأقليات  غير العربية الفردية والجماعية والتي فوت انعدام الديموقراطية والمواطنة فرصة اندماجها، كما لا يضر هذا بمن اندمج ويعتبر نفسه عربيا  .

لا يرتبط التيار القومي الديمقراطي في الداخل بأي دولة عربية او نظام عربي لكونه تيارا قوميا، لا لاعتبارات سياسية ولا لغيرها من الإعتبارات. وبذلك لا يقترب حتى من مقارنته بعلاقة الاحزاب الشيوعية في الدول الرأسمالية بالإتحاد السوفيتي في حينه. كان الشيوعيون يدعون ان الديكتاتورية السوفيتية هي الديمقراطية الحقة. وكانوا يعتبرون الديمقراطية اللبرالية مجرد تعبير عن دكتاتورية البرجوازية.

ولكن التيار القومي في الداخل لا يرى الانظمة المحيطة بنا انظمة ديمقراطية ، وموقفه من الديمقراطية كنظام سياسي واضح لا لبس فيه. فالديموقراطية التمثيلية والمواطنة اللبرالية هي شكل الديموقراطية الوحيد الذي يستحق ان يسمى نظام حكم ديموقراطي في  عالمنا. ولكن التيار القومي الديمقراطي لا يستطيع ولا يرغب ان يلعب دور المعارضات العربية من موقعه في اسرائيل . فليس من البطولة ولا الاقدام طرح قضية الديمقراطية في الدول العربية التي تحتل اسرائيل اراضيها مثلا ، في اطار الديمقراطية الاسرائيلية. ولو قام التيار القومي بذلك لاختلط الحابل بالنابل . فالديمقراطية الاسرائيلية غير مبالية تجاه قضية الديمقراطية في الوطن العربي ، وإنما تحدد موقفها من العرب ونظامهم الاجتماعي كما يحدد الموقف من 'العدو' ، اذ تعتبر كل ما في صالحه في غير صالحها .

على التيار القومي الديمقراطي ممثلا بالتجمع الوطني مهام عديدة متعلقة بالقومية وبالديمقراطية في الداخل، خاصة وان القوى السياسية العربية تمارس ديمقراطية اسرائيلية مفروضة ، ولا تمارس ديمقراطية عربية. والتعددية السياسية الحالية القائمة في المجتمع العربي في الداخل ليست تعبيرا عن مدى ديمقراطيته، وما زالت الحاجة قائمة لنصال طويل وجهد مضن لدمقرطة المجتمع العربي في الداخل .

لسنا في وضع الوعظ بالديمقراطية للوطن العربي من خلال الديموقراطية الاسرائيلية . ولن تحرجنا او تجرنا لذلك مزاودات اليسار الصهيوني والقوى العربية المرتبطة به في الداخل .

ولو قمنا بذلك لكان هؤلاء اول من يشي بنا، كما درجوا على الوشاية بنا للسلطة الفلسطينية كلما عبرنا عن نقد ما لممارساتها،  ونحن فلسطينيون، هي الاقرب الينا انسانياً وجغرافياً . 

ما زال التيار القومي الديمقراطي رغم تأثيره الواسع حركة صغيرة نسبيا،ً ولا يستطيع ان يخوض معارك عديدة، ولا بد له ان يميز بين الصديق والعدو وبين الحليف والخصم، ولا بد له ان ينظم سلم اولوياته حسب جدول اعماله في الداخل.

يحترم التيار القومي الديموقراطي القوى الديموقراطية والمثقفين الديموقراطيين في الوطن العربي، وهو لا ينفك يعرف الناس في الداخل بهم عبر نشر تجاربهم ومقالاتهم. ولا يشتثني هذا كله وجود نقاشات نظرية غير حزبية بيننا وبين بعض المثقفين العرب حول مقومات قيام الديموقراطية على شكل تداول سلمي للسلطة في المرحلة الراهنة في الدول العربية، خاصة وان الخيار بين خيارات غير ديموقراطية في تجربة الجزائر ما زالت حية ترزق ، كما يدور بيننا نقاش حول ضرورة الاصلاحات السياسية والقانونية التي تدفع الى الامام بحقوق المواطن والمساواة امام القانون وحرية التعبير عن الرأي وغيرها من العناصر التي تؤسس للديموقراطية، وليس اخر هذه العناصر الاصلاح الإقتصادي الذي يوسع الطبقة الوسطى، ويقلص الفجوة بين الاغنياء والفقراء ويرفع نسبة التعليم. هذا نقاش نظري غير حزبي وهو قائم في النظرية الديموقراطية على اية حال ولدينا اجتهاداتنا التي لا تغير من موقفنا المنحاز للديموقراطية كنظام حكم.

يختلط الموقف على بعض المعادين للتيار القومي على المستوى العربي والذين يعتبرون الصراع مع اسرائيل سوء تفاهم عابر بالمقارنة بالصراع مع القومية العربية، ويغطون على هذا الموقف كله بفذلكة لغوية تؤكد على خصومة دائمة بين الديموقراطية والقومية العربية. ويحقدون على التيار القومي الديموقراطي لانه يفند مزاعمهم حول استحالة الربط بين القومية العربية والديموقراطية، ويبحثون جاهدين عن اي ' تناقضات' في الموقف لاثبات هذه الاستحالة، ويتعايشون بسهولة ويسر مع ممارسات ومواقف غير ديموقراطية اذا كانت غير قومية وتوافقت مع مصادر رزقهم. لا شك ان هنالك توتر بين القومية والديموقراطية، ولكننا نقاس كديموقراطيين بمدى تنبهنا لهذا التولر ولكي لا يتحول الى تناقض. وقد افردنا جزء كبيرا من هذا البيان لتوضيح وجود هذا التوتر والوعي به.   

لدينا بعض النسخ المشوهة من هؤلاء المثقفين الذين يدافعون بشكل مجرد عن اللبرالية والديموقراطية كتبرير للارتباط الذهني والمصلحي بحزب العمل وميرتس وغيرها من الحركات الصهيونية، وذلك دون برنامج سياسي ديموقراطي موجه للمجتمع العربي أو حتى ضد النظام القائم في اسرائيل والذي يمارسون عادة الاعجاب به سرا، وعلنا عندما يغلب عليهم الاعجاب فلا يستطيعون مقاومته. ويقومون بمناكفة منهجية مستمرة ضد كل محاولة حزبية سياسية للربط بين مصالح المجتمع العربي الوطنية والمدنية، هكذا يتحول التظاهر غير الملزم بالديموقراطية، الا لغرض التحريض على العرب وعلىالانظمة العربية الرافضة لشروط السلام الاسرائيلية، الى موقف ملزم ضد المحاولات العينية لصنع الديموقراطية ضمن التيار الوطني الديموقراطي.


تصميم وبرمجة: باسل شليوط