خطاب الى الشباب (١)

عوض عبد الفتاح

ما هو التجمع الوطني الديمقراطي، كيف نشأ، ولماذا؟

من أنا، كيف أُعرّف نفسي، الى من أنتمي، ما هي هويتي، كيف ينظر إليّ الآخرون؛ أي الإسرائيليون. هل أنا ضيف على هذه البلاد وعابر سبيل، أم أني صاحب هذه الأرض، وابن وابنة هذا الوطن. كيف أصبحت أنا العربي الفلسطيني، في نظر الإسرائيلي غريباً في وطني، غير مرغوب به من قبل من جاء الينا غازياً محتلاً.

كيف أفشلت أنا، ليس كفرد بل كشعب، مخططات اسرائيل في محو تاريخي وهويتي الوطنية وانتمائي الى شعب فلسطين والى الأمة العربية.

كيف نجحنا نحن عرب الداخل في تثبيت وجودنا على أرضنا. كيف انتقلنا من حالة الشعور بالهزيمة والإحساس بالنقص أمام اليهودي الصهيوني الى حالة الشعور بالثقة بالنفس وبالإعتزاز بانتمائنا الى شعبنا والى أمتنا دون أن نتحول الى عنصريين. 

كيف استطاع شعبنا في الضفة والقطاع وفي الشتات (خارج فلسطين) أن ينهض من جديد من ركام النكبة ويحافظ على هويته الوطنية ويواصل تمسكه بحلم العودة الى وطنه وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس، رغم كل ما قامت به إسرائيل من حروب ومذابح، ورغم أخطاء كثيرة وقعت فيها القيادة الفلسطينية التي قادت ولا زالت تقود النضال.

باختصار ما هي قصتي، وما هي قضيتي.

الإسرائيليون، باستثناء القلة القليلة،  يكذبون على أطفالهم ويقولون لهم أنهم عادوا لأرض ولبلاد كانت لهم قبل 2000 عام وجاؤوا وحرروها من الفلسطينيين. ويقولون أن السماح لنا نحن الفلسطينيين المواطنين في دولة اسرائيل في البقاء في البلاد هو عطفٌ ومنة (عمل معروف) منهم وليس حق لنا ينبع من وجودنا الذي لم ينقطع منذ آلاف السنين. ولذلك تقول الإستطلاعات الإسرائيلية أن أكثر من 60% من الشبيبة اليهودية في إسرائيل يعارضون منح المساواة الكاملة للمواطنين العرب ونسبة كبيرة منهم تؤيد طردنا من الوطن.

عمرنا في هذه الأرض آلاف السنين وعمر وجودهم أقل من ستين عام. هم جاؤوا بالحديد والنار ليسيطروا علينا وينهبوا ثرواتنا ويغلقوا الأبواب أمام تطورنا. ونحن هنا، لم نعتدِ على أحد. لم نغزُ بلاداً ليست لنا، ونريد أن نعيش بكرامة ولن نقبل أن يدوس على حقنا أحد. ولن نسكت وسنظل نرفع صوتنا ونعمل من أجل الحياة الحرة الكريمة لأننا أولاً بشر وثانياً لأننا فلسطينيون وعرب، ثالثاً لأننا مواطنون أصليون في هذه البلاد.

فما هي القصة الحقيقية بالضبط وماذا نريد؟ وكيف نواجه الرواية الإسرائيلية الكاذبة؟ وما هي الصيغة أو المعادلة السياسية الأكثر ملائمة لنا نحن المواطنين العرب؟ أي ما هي مطالبنا وكيف نطرحها؟ وكيف نتقدم الى الأمام ونعمل على التخلص من الظلم ونعيش حياة حرة كريمة؟

مقدمة تاريخية

لا يستطيع أي شعب أو مجتمع أن يتقدم ويتطور ويحافظ على وجوده بدون تنظيم أو بدون قوة منظمة على شكل حزب أو حركة أو حكومة. والمقصود بالقوة المنظمة (الحزبية) مجموعة الأفراد الذين يبادرون عادة ويتطوعون للعمل لخدمة المجتمع. وهم بصورة عامة يتمتعون بإحساس مرهف تجاه قضايا شعبهم لا يطيقون التخلف أو العيش في ظل القهر والإهانة والخضوع للغير ويطمحون للتطور والتقدم. ويلعب الشباب دوراً هاماً ومميزاً في هذا المجال وتتوقف طبيعة مستقبل المجتمع الى حد كبير على مدى تفاعل هذا القطاع (الشباب) ومستوى ثقافته ووعيه الإجتماعي والوطني.

حين تم احتلال فلسطين عام 48 وتشريد مئات الآلاف من شعبنا الذين تحولوا الى لاجئين في الوطن وفي الدول العربية، وقامت اسرائيل على أنقاضهم بدعم من قوى الاستعمار الغربي، بقي داخل حدود دولة اسرائيل حوالي 150 ألف فلسطيني الذين يصل عددهم اليوم وبعد أكثر من خمسين عاماً من تاريخ النكبة، الى ما يزيد عن المليون. وهناك أكثر من ثلاثة ملايين يعيشون الى جانبنا في الضفة والقطاع وهي ارض فلسطينية احتلتها اسرائيل عام  1967 وتشكل 23% من فلسطين التاريخية. أما خارج فلسطين فيعيش ما يزيد عن أربعة ملايين لاجئ فلسطيني أغلبهم في لبنان وسوريا والأردن.

كانت صدمة الهزيمة وفقدان الوطن بالنسبة لشعبنا، شديدة. آلاف اللاجئين هاموا على وجوههم هرباً من المذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بعد معارك بطولية خاضها أبناء وبنات فلسطين دفاعاً عن حياتهم ووطنهم دون أن تتوفر لديهم الأسلحة الكافية والتنظيم المناسب ولا الدعم العربي المطلوب من الدول العربية المجاورة التي كانت تحكمها أنظمة فاسدة تحت وصاية قوى الإستعمار الأوروبي. لقد أجبروا على ترك بيوتهم وأراضيهم ووطنهم ليعيشوا ظروفاً قاسية في مخيمات وبيوت من الصفيح على أمل العودة.

بقي داخل الدولة اليهودية الجديدة، اسرائيل، 150 ألف فلسطيني عاشوا في الأسابيع الأولى آثار الصدمة والحيرة… إذ بين ليلة وضحاها أصبحوا أقلية في الوطن بعد أن كانوا الأكثرية الساحقة وجزء من وطن عربي فسيح،  وبدون قيادات قومية ومؤسسات وطنية بعد تشريد غالبية الشعب الفلسطيني.

استطاعت الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة بفضل تنظيمها الجيّد والدعم السياسي والمادي الذي قدمته لها بريطانيا التي كانت تسيطر على فلسطين وبلاد عربية أخرى، فرض الأمر الواقع وإقناع الأمم المتحدة بتمرير قرار، سمي قرار التقسيم. هذا القرار، الذي صدر في 29/11/1947، نصّ على إقامة دولة يهودية صهيونية على أرض فلسطين ودولة عربية فلسطينية، وهو أمر رفضه الشعب الفلسطيني لأنه لم يقبل مبدأ تقسيم وطنه لصالح حركة استعمارية.

ويذكر إن فقدان فلسطين بسبب عجز وخيانة الانظمة العربية ادى الى ثورات وإنقلابات وطنية في الدول العربية، أهمها ثورة جمال عبد الناصر-23 يوليو 1952، الذي عاد الى مصر من الحرب في فلسطين عام 1948 ناقماً على نظام الحكم الفاسد في مصر  بزعامة الملك فاروق. وقاد مجموعة من الضباط الوطنيين الأحرار الى قلب نظام الحكم الفاسد والعميل. كان من أهم إنجازاته تحرير الإنسان المصري من ظلم النظام السابق ومن السيطرة الإستعمارية ومن ظلم الإقطاعيين، أصحاب الأراضي الكثيرة. فوزع الأراضي على الفلاحين الفقراء وأدخل التعليم الجامعي المجاني لأبنائهم وبناتهم ونفـّذ إصلاحات هامة كثيرة أخرى . كما اهتم بمساعدة دول عربية أخرى مثل الجزائر واليمن وغيرها لتتحرر من الإستعمار. لهذا أحبه وعشقه المصريون والعرب في كل مكان لأنه اختار أن يكون قومياً عربياً وليس وطنياً مصرياً فقط، وخاطب المصري والعربي بقوله 'إرفع رأسك يا أخي'.

فلسطين كانت جزء متواصلاً من وطن عربي فسيح، وإقامة اسرائيل فيها قطع هذا التواصل وعزل معظمها عن الوطن العربي.

لقد سعى عبد الناصر ومعه حركات قومية عربية في بلاد الشام، بعد الثورة، الى توحيد العالم العربي. أو إلى إعادته موحداً. بعد أن جزأه الإستعمار الغربي؛ بقيادة بريطانيا وفرنسا، التي نصّبت على البلاد العربية حكومات متواطئة ومتعاونة معها بعد الحرب العالمية الأولى.

كان ينطلق عبد الناصر في مشروعه الوحدوي من التاريخ العربي الإسلامي البعيد وايضاً من تجربة الوحدة القومية وإنشاء الدول القومية في أوروبا منذ القرن السابع عشر.

فالعرب قديماً توحدوا تحت راية الإسلام وبقيادة النبي العربي محمد (ص) بعد أن كانوا قبائل وعشائر متقاتلة وكثيرون منهم يعبدون الأوثان ويعيشون حقبة الإنحسار والتراجع في مكانتهم وتحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية. فتحولوا بفضل ذلك، من قلب صحراء الجزيرة العربية، الى دولة عربية قوية وموحدة ومن ثم الى امبراطورية فهزموا امبراطوريات عريقة وحققوا إنجازات حضارية هامة لهم وللبشرية استفاد منها الأوروبيون في نهضتهم الحديثة منذ القرن الخامس عشر. وكما هو معروف فإنّ من نتائج وأسباب النهضة الأوروبية هو توحيد الدويلات والإمارات المتخاصمة والمتقاتلة في دول قومية موحدة ومنفصلة. دول حديثة لها سيادة وحدود وجيش واحد ومؤسسات تعليمية متطورة وموحدة ومنظومة قوانين تنظم العلاقة بين المواطن والدولة.

هكذا من وحي هذه التجارب القومية والإنسانية وإنطلاقاً من صميم الواقع العربي ومن الحاجة الوطنية سعى المناضل القومي عبد الناصر الى تحقيق مشروع الوحدة جامعاً بين التجربة العربية الإسلامية وبين عناصر القوة في التجربة الأوروبية الحديثة. ولكن التحالف الغربي الصهيوني لم يسمح له بالمضيّ بمشروعه، فواصل التآمر عليه حتى أسقطه في حرب عدوانية شنتها اسرائيل بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1967. ايضاً كان لأخطاء وقع فيها عبد الناصر والقيادة المصرية دور في إخفاق المشروع. مع ذلك يبقى المشروع العربي الوحدوي حاجة ملحة للعرب من المحيط الى الخليج. خاصة في ظّل العدوان الأمريكي على العراق والعدوان الإسرائيلي المتواصل وعلى أهل المنطقة العرب ومشروع 'الشرق الأوسط الجديد' الذي يهدف الى تجزئة الدول العربية الى طوائف ومذاهب بعد أن جزء الوطن العربي الى أقاليم. 

فلا قوة ولا نهضة ولا تطور حقيقي بدون وحدة العرب وبدون تبني الديمقراطية والتنمية. وكان عبد الناصر يتساءل لماذا تتوحد جميع شعوب الأرض ونحن نُمنع من ذلك. كان يعرف الجواب. وهو أن الغرب يريد أن يسيطر على ثروات المنطقة العربية ويحمي إسرائيل. وهذه السيطرة لا تتحقق ولا تدوم إلا إذا بقي العرب منقسمين الى أقاليم وضعفاء وتابعين وبدون هوية عربية واحدة – أي بدون عروبة.

كان عبد الناصر، منذ كان طالباً في الثانوية يشارك في المظاهرات ضد الوجود البريطاني في مصر وجرح في إحداها. كان ذكياً ولامعاً وشجاعاً وذا إحساس مرهف.

وظل يحلم بتحرير مصر وبتحرير الإنسان المصري، إذ كان يحزنه رؤية الظلم يمارس على المصريين وخاصة الفلاحين اللذين كانوا يعاملون بقسوة من جانب الإقطاعيين أصحاب الأراضي. كما صدمه لاحقاً ضياع فلسطين. وهذا ما تم له عام 1952 فأصبح قائداً عربياً وعالمياً. ولكن مشروعه تلقى ضربة عام 1967 للأسباب المذكورة أعلاه. وتوفي عام 1970 بصورة مفاجئة وكان في أوج عمله من أجل إصلاح الأخطاء وإعادة ترميم المشروع الوطني النهضوي وتحرير الأرض المصرية والعربية من الإحتلال الإسرائيلي.

النهوض من جديد – العرب داخل إسرائيل بعد النكبة

إن العديد من الشباب الفلسطيني الواعي ممن بقي داخل الوطن (داخل حدود الـ48 لدولة اسرائيل) بعد النكبة لم يستسلم أمام واقع الهزيمة والظروف الإقتصادية والسياسية الصعبة. فبعد مرور فترة الصدمة، بادر هؤلاء الشباب لتنظيم أنفسهم عبر إقامة الأحزاب والحركات السياسية وبعضهم حاول العمل في أحزاب يهودية يسارية للدفاع عن وجود ما تبقى من شعبهم. وقد قامت عدة تنظيمات وأحزاب سياسية بين العرب آنذاك مثل: الحزب الشيوعي، حركة الأرض، والجبهة الشعبية. وقد تميّز الحزب الشيوعي عن غيره من القوى بأنه اعترف بإسرائيل فور قيامها كما هي – أي كدولة يهودية صهيونية، وغير اسمه من 'الحزب الشيوعي الفلسطيني' الى 'الحزب الشيوعي الإسرائيلي'بدل مثلاً 'الحزب الشيوعي في إسرائيل' الأمر الذي قاد فيما بعد الى تغليب الهوية الإسرائيلية على الهوية الوطنية الفلسطينية. إضافة الى تغليب الهوية الطبقية على الهوية القومية. وفي إنتخابات الكنيست أواخر الخمسينات خسر الحزب الشيوعي ثلاثة مقاعد من أصل ستة بسبب وقوفه الى جانب الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم المدعوم من الشيوعيين ضد عبد الناصر وتوجهاته القومية والعروبية. وهذا يؤكد مدى محبة وتأييد المواطنين العرب في إسرائيل لجمال عبد الناصر ولخطه القومي.

في أواخر الستينيات، ظهرت تنظيمات أخرى مثل حركة أبناء البلد سنة 1969 ثم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، التي أسسها الحزب الشيوعي الإسرائيلي، سنة 1975 والتي لعبت دوراً سياسياً مركزياً في حياة المواطنين العرب حتى فترة قريبة. والحركة التقدمية للسلام 1983 والحركة الإسلامية في الثمانينيات. هذا بالإضافة الى أطر شعبية وتنظيمات طلابية في الجامعات والمدارس. وكان هذا مترافقاً مع نجاح اللاجئين الفلسطينيين في الخارج في تنظيم صفوفهم وتشكيل فصائل مسلحة لتقاتل إسرائيل شكلت فيما بعد منظمة واحدة – اسمها منظمة التحرير الفلسطينية لتقود النضال من أجل العودة – والتي استطاعت أن تبعث الهوية الوطنية والروابط التي تعزز عناصر قوة ووحدة الشعب وطموحاته السياسية والإنسانية.

جميع هذه الأطر والأحزاب نشطت بين الفلسطينيين في إسرائيل للدفاع عن حقوقهم وهويتهم القومية. ووقفت ضد سياسة الدولة الإسرائيلية التي عملت منذ اليوم الأول على تحويل المواطن العربي الفلسطيني الى إنسان هامشي وتفضيل اليهودي عليه والتعامل معه كعنصر غير مرغوب به. بل ظلـّت أوساط عديدة داخل الحكم الإسرائيلي لعدة سنوات تفكر في تهجير المواطنين العرب خارج حدود دولة اسرائيل. كما وجهت موارد البلاد من أرض ومياه وزراعة وصناعة وتعليم الى مصلحة اليهود فظهرت مع الزمن فوارق كبيرة بين اليهود والعرب وترسخت المشاعر العنصرية بين الأجيال اليهودية والكراهية ضد العرب. وقد استعملت السلطة الإسرائيلية القمع والإعتقال والملاحقة بحق آلاف المواطنين  العرب حتى لا ينهضوا وينتظموا دفاعاً عن حقوقهم ولمنعهم من الاقتراب من الأحزاب الوطنية. كما طالت هذه الملاحقة الحركات القومية خاصة حركة الارض الناصرية التي أخرجتها السلطات الإسرائيلية عن القانون عام 1963 وشتتت قياداتها داخل الوطن. كما طالت الملاحقة وسياسة التضييق أعضاء وكوادر حركة أبناء البلد التي يعتبرها الكثيرون مكملة لحركة الأرض من حيث توجهها الوطني القومي. وكان دورها بارزاً بشكل خاص بين الطلاب العرب في الجامعات الإسرائيلية منذ أواخر السبعينات حتى أوائل التسعينات اي حتى تشكيل التجمع الوطني الديمقراطي.أمنت حركة أبناء البلد التي تأسست عام 1969 في مدينة أم الفحم، بالدولة الفلسطينية الواحدة في كل فلسطين يعيش فيها العرب واليهود بمساواة تامة، وشددت على الهوية الوطنية الفلسطينية للمواطنين العرب في إسرائيل وقاومت محاولات أسرلتهم أي تشويه هويتهم الوطنية. كانت حركة صغيرة نسبياً ولم تتحول الى حركة جماهيرية واسعة ولكنها لعبت دوراً هاماً خاصة في الجامعات في الإعلاء من شأن الهوية الوطنية الفلسطينية للطلاب العرب وتربية كوادر وطنية في جميع الجامعات الإسرائيلية، لعبوا فيما بعد دوراً في العمل الثقافي الوطني والجماهيري.

 كل هذه السياسات العنصرية عمقت مشاعر الكراهية لدى المواطنين العرب والأجيال الجديدة ضد الصهيونية وسياساتها، وبعثت الرغبة في نفوسهم للدفاع عن وجودهم وبقائهم باعتبارهم أصحاب الوطن الأصليين ومواطنين فيه يحقّ لهم العيش بكرامة وبدون عنصرية.

على الرغم من مرور 58 عاماً على قيام إسرائيل، التي تدعي الديمقراطية، فإن المواطنين العرب لا يزالون يتعرضون للإذلال والتمييز في كافة مجالات الحياة، مثل: نهب الأرض وبناء المستوطنات اليهودية حول القرى والمدن العربية وخنقها، وحرمانها من الصناعة والمدارس المناسبة والنوادي وغيرها من الخدمات الهامة. ففي النقب حيث يعيش أكثر من 120 ألف فلسطيني تجري يومياً تقريباً عمليات هدم بيوت بهدف السيطرة على ما تبقى من أراضيهم وحشرهم في قرى اصطناعية بدون مصادر معيشة. هذا بالإضافة الى سياسة التجهيل وتشويه الوعي القومي لدى الأجيال الشابة من خلال فرض مناهج تعليم تتجاهل تاريخنا وتراثنا والتركيز على تاريخ اليهود والصهيونية.

كذلك التمييز العنصري ضد الطلاب العرب في الجامعات ووضع العراقيل في طريق الإلتحاق بالجامعة وتضييق الفرص في إيجاد عمل بعد التخرج.

وقد ساهم نضال ونشاط الأحزاب والحركات العربية المختلفة في الدفاع عن حق المواطنين العرب في الوجود والحياة وانتزاع بعض الحقوق وتحقيق إنجازات كثيرة وهامة في مجال التعليم حيث ازداد عدد الجامعيين العرب مما زاد من مستوى الوعي والمعرفة بأساليب النضال وبقوانين اللعبة السياسية في إسرائيل، هذه الدولة التي فرضت عليهم ولم يختاروها. ولكن هذه الأحزاب دخلت في أزمة في أواخر الثمانينيات. والمقصود بالأزمة، أنها عجزت عن وقف سياسة السلطة الإسرائيلية ضد العرب، ليس لأن إسرائيل قوية فقط، بل لأن الأحزاب نفسها بدأت تضعف من الداخل وواصلت استعمال نفس أساليب النشاط القديمة. ففي موضوع الأرض التي تشكل الركيزة الأساسية للإنسان الفلسطيني ومصدر بقائه، والتي يبني عليها بيته ويأكل منها، لم تستطع هذه الأحزاب تطوير أساليب عمل ونضال جديدة توقف سياسة المصادرة على الرغم من أن الناس العاديين أثبتوا استعدادهم للتضحية والموت من أجل أرضهم ووطنهم كما حصل في يوم الأرض عام 1976.

 في يوم الأرض أعلن الفلسطينيون في إسرائيل إضراباً عاماً احتجاجاً على استمرار مخططات مصادرة الأرض وخاضوا مواجهة بطولية مع قوات الجيش الإسرائيلي انتهت بسقوط ستة شهداء ومئات الجرحى في قرى الجليل والمثلث. لقد تحولت شوارع القرى والمدن العربية الى ساحات معارك بين القوات الإسرائيلية التي جاءت لتقمع الإضراب، والمتظاهرين العرب. وشهدت مدينة سخنين أشدّ المواجهات التي سقط فيها وحدها ثلاثة شهداء؛ خديجة شواهنة، خضر خلايلة ورجا أبو ريا. وفي عرابة سقط الشهيد خير ياسين وفي كفركنا محسن طه. وفي الطيبة في المثلث الجنوبي، رأفت على زهدي (من مخيم نور شمس). وكان ذلك اليوم حزيناًً وثقيلاً ولكنه شكـّل منعطفاً هاماً في تاريخ الفلسطينيين في إسرائيل ومصدراً للفخر والإعتزاز، حيث للمرة الاولى تصرفوا كجماعة أو كشعب واحد  ضد الظلم وكسروا حاجز الخوف من القوة الإسرائيلية. وخرجوا من دائرة الشعور بالنقص أمام اليهودي. ومنذ ذلك التاريخ خاضوا نضالات ومعارك سياسية وشعبية عديدة سقط ايضاً فيها شهداء وجرحى دفاعاً عن الأرض والمأوى والكرامة وتضامناً مع نضال شعبنا الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال والعودة.    

وكان أهم هذه المعارك بعد يوم الأرض وأكثرها تأثيراً على وعي العرب الفلسطينيين في إسرائيل هي هبة القدس والأقصى أوما يسميها البعض هبة أكتوبر. في الأول من اكتوبر من عام 2000، صُدم المواطنون العرب من المجزرة التي ارتكبتها قوات الإحتلال الإسرائيلي في باحة المسجد الأقصى التي راح ضحيتها 7 شهداء وعشرات الجرحى (منهم جرحى من المواطنين العرب في الداخل) وذلك لأنهم احتجوا على الزيارة الإستفزازية التي قام بها الجنرال أرييل شارون، المعروف بتاريخه الدموي، لباحة المسجد الأقصى.

هذه المجزرة أشعلت الأرض تحت أقدام المحتلين في جميع أنحاء الأرض المحتلة؛ قطاع غزة والضفة الغربية وسالت دماء كثيرة قتل فيها إسرائيليون وفلسطينيون كثيرون. وهكذا بدأت ما أصبح يعرف بالإنتفاضة الفلسطينية العارمة الثانية. بتأثير من هذه الإنتفاضة، اشتعلت مشاعر المواطنين العرب في إسرائيل، خاصة في الجليل والمثلث وفي مدن مثل سخنين وعرابة والناصرة وكفركنا وأم الفحم وجت المثلث وغيرها. نزلوا بعشرات الألوف الى الشوارع وأغلقوا طرقاً رئيسية. ولكن قوات الشرطة الإسرائيلية وعلى عكس ما تفعله مع المتظاهرين اليهود، قامت، بأوامر من أعلى، بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين العرب فقتلت 13 عربياً فلسطينياً، هم مواطنو دولة إسرائيل، وهم؛ أسيل عاصلة وعلاء نصار من قرية عرابة، وليد أبو صالح وعماد غنايم من مدينة سخنين، رامز بشناق من قرية كفرمندا، محمد خمايسة من كفركنا، عمر عكاوي وإياد لوابنة ووسام يزبك من مدينة الناصرة. وأحمد أبو صيام من معاوية ومحمد جبارين من مدينة أم الفحم ومصلح أبو جراد من دير البلح (استشهد في أم الفحم)، رامي غرة من جت. كما وجرحت المئات.

كانت أوساط اسرائيلية مسؤولة تتوقع انفجاراً لعرب الداخل منذ فترة طويلة، بسبب ازدياد سياسة التمييز العنصرية ضدهم، مثل مصادرة الأراضي، وهدم البيوت العربية، وازدياد عدد العاطلين عن العمل من العرب وغيرها من مجالات الحياة. لكن هذه الأوساط فوجئت بل صدمت من حجم واتساع نطاق المظاهرات ومن عنفوانها واستمرارها لأكثر من ثلاثة أيام (انتفاضة يوم الأرض كانت ليوم واحد). أدركت عندها الحكومة الإسرائيلية أن العرب في الداخل وخاصة الأجيال الشابة ايضاً تهمهم قضية شعبهم الفلسطيني. وأنهم لم ينسوا أنهم فلسطينيين ولم يتخلوا عن هويتهم الوطنية ولا عن مساعدة شعبهم في التخلص من الإحتلال. فمن لا يشعر مع أخيه يكون كمن تخلى عن أخلاقه.

وقال بعض الإسرائيليين ممن يتحلوا ببعض الموضوعية: أنه طبيعي أن يتضامن المواطنون العرب مع إخوتهم في الضفة والقطاع. فلماذا نحن الإسرائيليين نقيم الدنيا ولا نقعدها عندما يجرح يهودي في أي بلد في العالم على خلفية عنصرية.

لقد أصبحت هبة القدس والأقصى المحطة الهامة جداً الثانية بعد هبة يوم الأرض في تاريخ العرب الفلسطينيين في الداخل. فهي عززت هويتهم وانتمائهم الجماعي ولفتت أنظار قطاعات واسعة من الرأي العام الإسرائيلي والعالمي الى الظلم الذي يعانوه. ولكن في الوقت ذاته زادت كراهية أوساط واسعة وأساسية في السلطة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي للمواطنين العرب. فراحت تُضيّق على العرب من جديد وتخطط لسلب الإنجازات التي حققوها بالنضال السياسي والجماهيري مترافقاً مع تحريض عنصري وعدائي سافر. ومن هذه المخططات تمرير مشروع الخدمة المدنية، أي دفع الشباب العرب الى ما يسمى بالخدمة المجانية في مؤسسات اجتماعية أو صحية من خلال وزارة الأمن الإسرائيلية، وكذلك مخطط دفع الشباب العرب الى الخدمة في الشرطة الجماهيرية. ما الهدف من ذلك؟

 لقد انتبهت الحكومة الإسرائيلية الى الوعي الوطني المتزايد لدى الشباب العربي التي تجّلت في هبة القدس والأقصى. حيث يرفض الشباب العربي إعلان الولاء لدولة اسرائيل اليهودية ورموزها الصهيونية وهم يعبرون عن ولائهم للشعب الفلسطيني ولقيم الحرية والمساواة والعدالة وهي قيم مناقضة للعنصرية.

الحكومة تعرض عروضاً مادية رخيصة أو وعوداً بتوظيف الشباب العرب بعد أدائهم الخدمة المدنية أو في الشرطة الجماهيرية. والهدف من ذلك تهيئة الشاب العربي للإنخراط في الجيش الإسرائيلي، جيش الإحتلال أو لدفعه للتخلي عن هويته الوطنية فيبدأ بالبحث عن مصلحته الشخصية بمعزل عن مصلحة مجتمعه العربي وعن مصلحة أقرانه وزملائه.

ما العمل – بداية تأسيس التجمع

كان على بعض القوى الوطنية (وبالذات تلك القوى التي عرفت نفسها على أنها قوى عربية فلسطينية وليست عربية إسرائيلية) أن تتجاوز الأزمة التي تجلت في أوائل التسعينات والبدء بالتغلب على نقاط ضعفنا وذلك من خلال تجميع القوى الوطنية ذات التوجه القومي في حزب واحد وهي: حركة أبناء البلد، الحركة التقدمية، ميثاق المساواة وحركات محلية مثل النهضة وأبناء الطيرة وعشرات المثقفين البارزين الذين تركوا الحزب الشيوعي الذي خيّب أملهم بسبب الجمود الفكري ونهج الأسرلة أي الإندماج بالدولة اليهودية كما هي. وفشل هذا الحزب في استيعاب موضوع القومية إذ تعامل معها بصورة فجّة وعدمية ويقف اليوم عقبة أمام تنظيم العرب على أساس قومي. كما تحول في الآونة الأخيرة الى قوة رجعية من خلال تكريس العائلية والتخلف الإجتماعي في انتخابات السلطات المحلية.

بدأت فكرة تجميع الحركات المذكورة ودمجها في حزب واحد في أوائل التسعينيات، وذلك بعد ضرب العراق وقوته العلميّة والعسكريّة المتصاعدة على يد أمريكا، التي تحولت الى القوة الوحيدة المهيمنة على العالم بعد سقوط الإتحاد السوفييتي وانتشار الشعور بالإحباط واليأس بين الناس. وتعززت هذه الفكرة والحاجة الى تنفيذها بعد ان قام رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، ومجموعة من القياديين المقربين له بالتوصل الى إتفاق سري مع اسرائيل – المعروف باتفاق أوسلو عام 1993 من وراء ظهر الشعب الفلسطيني ومؤسساته – والذي رأى فيه معظم الناس العاديين والأحزاب المذكورة أعلاه، إتفاقاً ظالماً لأنه لا يعيد الأرض الفلسطينية الى أصحابها، ولا ينص على دولة فلسطينية مستقلة، ولا على إعادة أربعة ملايين لاجئ يعيشون في الخارج، ولا يعترف بالمليون فلسطيني في إسرائيل كجزء من الشعب الفلسطينيين. بكلمات أخرى، إعتبر إتفاق أوسلو موضوع المليون فلسطيني في إسرائيل شأناً إسرائيلياً داخلياً ولم يتم التطرق إليهم في المفاوضات بناء على الرفض الإسرائيلي وكأننا لسنا جزء من الشعب العربي الفلسطيني. وشكل ذلك خيبة أمل كبيرة لغالبية العرب في إسرائيل الذين تعلقوا بأمل المساعدة من الخارج (من منظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية). وكان ذلك على حساب التعامل بجدية مع حق المواطنة.

غير أن بعض القوى السياسية، مثل الحزب الشيوعي الإسرائيلي والحزب العربي الديمقراطي اعتبروا هذا الإتفاق –أوسلو- دعماً لبرنامجهم السياسي، الذي تعتبره حركات سياسية أخرى مثل التجمع الوطني الديمقراطي، برنامجاً عربياً إسرائيلياً وليس عربياً فلسطينياً أو قومياً يكرس الأسرلة والتشوه القومي.

(للتوضيح: إن ياسر عرفات يقول أنه قبل بهذا الإتفاق، لأنه لم يحظ بالدعم المطلوب من الدول العربية ليحصل على المزيد وكان من الممكن أن تختفي منظمة التحرير وما تمثله من طموحات وطنية بدون هذا الإتفاق. على أية حال هناك رأي واسع داخل الشعب الفلسطيني يدعي: أن عرفات أخطأ خطأ جسيماً في القبول بهذا الإتفاق).

بسبب ذلك كله أصيب المواطنون العرب، الفلسطينيون في اسرائيل، بخيبة أمل كبيرة، وبعضهم أصابه اليأس، هذه الأجواء البائسة عززت نهج الأسرلة ودفعت الكثير من الناس الى الإهتمام بأمورهم الخاصة والسعي للحصول على مصالحهم من السلطة الإسرائيلية بطرق ملتوية وغير أخلاقية مثل الإنتماء للأحزاب الصهيونية والتصويت لها مقابل وظيفة في مدرسة أو مؤسسة رسمية  أو من خلال تكتيل حمائلهم لخوض انتخابات السلطات المحلية للوصول الى رئاسة أو نيابة أو الى وظائف أخرى أو من خلال اللجوء الى المقربين الى السلطة الإسرائيلية أو العملاء للحصول على وظيفة أو مصلحة ما. ولم يدرك هؤلاء أنه حتى لو حصل عدد قليل من الناس على مصالحهم بهذه الطرق الملتوية وغير الأخلاقية وغير الوطنية، فإن معظم الناس الذين هم أبناء شعبنا، إخوتنا وأبناؤنا وأقاربنا والذين يسكنون معنا في قرانا ومدننا، سيبقون بدون وظائف ولا عمل ولا مستقبل. بكلمات أخرى، هذا العمل الفردي الانتهازي لا يقود الى تحصيل حقوقنا وكرامتنا الوطنية كجماعة أو كشعب، بل العكس انه يؤخر ويعرقل نضالنا لأن السلطة سعت دائماً الى الاستفراد بنا وتقسيمنا الى حمائل وطوائف وأفراد وتقديم الرشوات لكي تضعفنا وتواصل سياسة التمييز والسيطرة الكاملة على مقدرات وثروات البلاد.

لذلك فالطريق الوحيد للحصول على حقوقنا جميعاً وبطريقة محترمة هو أن نقف صفاً واحداً ونعمل معاً ضمن حزب أو حركة سياسية وطنية جامعة ومتجددة وشريفة، وثم من خلال التنسيق مع الأحزاب العربية للحصول على حقوقنا عبر قيادة قومية مؤلفة من جميع هذه الأحزاب.

لقد عملت الحكومة الإسرائيلية منذ عام 1948 على تفريقنا من خلال تشجيع النعرات العائلية والطائفية وفرضت التجنيد الإجباري الظالم على أبناء الطائفة العربية الدرزية بهدف سلخهم عن شعبهم وقوميتهم. وعلينا أن نقف الى جانبهم في محنتهم التي هي محنتنا جميعاً ونقاوم معاً هذا الظلم والقهر وقد تعرض وكثيرون من شباب هذه الطائفة العربية ولا زالوا يتعرضون للسجن بسبب رفضهم للتجنيد. هكذا قاومت إسرائيل رغبتنا الطبيعية في أن نتصرف كشعب واحد وموحد.. وسلكت سياسة فرق تسد واستغلت الخلافات العائلية داخل القرى والمدن وعمقتها حتى لا نستطيع أن نتوحد ونحصل على المساواة في الحقوق ونصون كرامتنا. وقد وجدت السلطة من بين شعبنا من تجاوب مع سياستها المعادية بقصد أو بدون قصد. هذا الأمر زاد من معاناتنا وعمق مشاعر القلق والخوف على مستقبلنا، مستقبل أطفالنا شبابنا، عمالنا أكاديميينا ومثقفينا.

ولذلك كان على القوى الوطنية أو الحركات السياسية المذكورة أن تبني حزباً واحداً لمواجهة هذه السياسة ولتطرح برنامجاً جديداً للعمل مستندة الى التطور الكمي والنوعي للمواطنين العرب . هذا الحزب اسمه التجمع الوطني الديمقراطي الذي وضعت أسسه الأولية عام 1994 – 1995 وخاض الإنتخابات البرلمانية لأول مرة بالتحالف مع الجبهة (الحزب الشيوعي) عام 1996. ذلك أن كل شعب يحترم نفسه يتعين على مثقفيه وقيادييه أن يتوقفوا أمام مشاكل مجتمعهم ويعيدوا النظر في أساليب العمل المستعملة ويجددوا هذه الأساليب لكي نستطيع التقدم الى الأمام ونتفادى خطر الضياع والتخلف. (يذكر أن التحالف بين  التجمع والجبهة جرى تحت ضغط القواعد خوفاً من سقوط الجبهة في الإنتخابات وتقدم التجمع عليها... لكن التجمع كان يطمح في خلق إطار وطني ديمقراطي تستطيع من خلاله الجبهة تجاوز طروحاتها القديمة الى طروحات وطنية ديمقراطية جديدة تأخذ بالإعتبار التحولات الهامة لدى المجتمع العربي في الداخل خاصة النزوع الى التبلور القومي عبر مؤسسات منتخبة. ولكن عجز قيادة الحزب الشيوعي والجبهة عن التطور وبسبب بقائها أسيرة الفكر التقليدي بما يخص مستقبل العرب في إسرائيل حال دون تطور هذه التجربة بل أدى الى انهيارها).

فكر التجمع الوطني الديمقراطي

تتمثل أهداف التجمع الوطني في تنظيم العرب في إسرائيل على أساس قومي دون إلغاء الأحزاب أو الآراء المختلفة التي هي ضرورية لتطور أي مجتمع. والمقصود بتنظيم العرب قومياً هو أن نتصرف كشعب واحد مثلما يتصرف اليهود في مواجهة العرب على الرغم من إختلافاتهم الحزبية والسياسية وهذا يتطلب تشكيل قيادة قومية للعرب في البلاد عبر الإنتخاب المباشر كما هو الحال مع الأقليات القومية في الدول التي تتبنى الديمقراطية الغربية. وتنظيم العرب قومياً هو أن يعرف الإنسان العربي خاصة الجيل الناشئ في هذه البلاد أنه عربي فلسطيني ينتمي الى شعب فلسطيني والى أمة عربية كبيرة ذات تاريخ وحضارة عريقة (الحضارة العربية الإسلامية) قبل أي إنتماء آخر (ومواطن في دولة إسرائيل) وليس كعربي اسرائيلي وليس على أساس أنه ينتمي الى عائلة فلان أو طائفة معينة مع الإحترام والتقدير للعائلات والطوائف المختلفة لشعبنا. كذلك أن يجعل انتماءه العربي القومي والإنساني الصادق فوق كل شيء. لماذا؟ لأن ما يجمع المسلم والمسيحي والدرزي في هذه البلاد هو القومية العربية أو الهوية الفلسطينية، أي لنا لغة مشتركة، وعادات وتراث وتاريخ مشترك، والأهم قضية مشتركة ومصير مشترك، لأننا جميعاً نتعرض لسياسة واحدة معادية من قبل الحكومة الإسرائيلية المدعومة من الإمبريالية الأمريكية. وإذا أصرّ كل منا على انتمائه الأصغر، أي العائلة أو الطائفة، ووضعه قبل انتمائه الأكبر أي الإنتماء القومي، فإننا سنتفرق وسنضعف وبالتالي سندفع ثمناً باهظاً حاضراً ومستقبلاً. هذا هو الوعي الذي يريده التجمع الوطني – الوعي القومي والوحدة القومية التي تمنحنا القوة والتقدم الى الأمام. والشاب بصورة عامة يرغب ويطمح بأن يرى مجتمعه قوياً ومتطوراً ليوفر له الأمان ويمنحه الشعور بالإعتزاز والإفتخار وليس الشعور بالنقص أمام الآخرين. بل أن يدرك أن من حقه أن يطالب بالمساواة الكاملة وبالمواطنة المتساوية، برأس مرفوع دون أن يردعه شعور بالنقص أو بأنه أقل من اليهودي. فهو إبن هذا الوطن وصاحب هذه الأرض.

وبذلك يمكن تلخيص مبادئ التجمع الوطني ومطالبه الأساسية كالتالي:

ان التجمع هو حزب عربي قومي علماني يضم في صفوفه وطنيين وقوميين ديمقراطيين من علمانيين ومتدينين متنورين، وهو ليس حزباً عربياً-يهودياً مثل الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي يرفض تنظيم العرب قومياً وليس حركة دينية أصولية مثل الحركة الإسلامية وليس حزباً عربياً اسرائيلياً مثل الحزب العربي الديمقراطي مع إحترامنا لحق هذه الأحزاب في النشاط والعمل السياسي وإن كنا نختلف معها في النهج والفكر.

ومع ذلك فإن التجمع يطرح حلاً ليس فقط للعرب الفلسطينيين بل أيضاً لليهود حيث يرفع شعار تحويل اسرائيل الى دولة لجميع مواطنيها تنتفي فيها العنصرية وتكون  المساواة كاملة بين العرب واليهود – ويبقي الباب مفتوحاً للعمل من أجل حل ديمقراطي وإنساني شامل – أي دولة ثنائية القومية في كل فلسطين التاريخية.

أيضاَ يسعى الى إنتزاع  الإعتراف بالفلسطينيين في إسرائيل الذين يشكلون 20% من السكان كأقلية قومية. وكما هو معروف فإن قوانين الأمم المتحدة تنص على الإعتراف بالأقليات القومية بحقوقها في الحفاظ على هويتها ولغتها وثقافتها وإدارة شؤونها بنفسها.

ويعمل التجمع من أجل إلغاء الطابع الصهيوني لدولة اسرائيل التي تعرف نفسها كدولة يهودية وليس دولة عربية-يهودية. ويعني ذلك إلغاء كافة القوانين العنصرية التي تمنح الإمتيازات لليهود وتحجبها عن المواطنين العرب.

وفي مجال التعليم والثقافة، يطالب ويسعى الى إقامة حكم ذاتي ثقافي والذي يعني أن يكون لدينا جامعة عربية وأن ندير مدارسنا العربية بأنفسنا، ونضع مناهج التعليم ونوظف المعلمين، وكما هو معروف فإن جميع هذه الأمور يتحكم بها اليهود، فهم الذين يختارون المنهاج ويحرموننا من تعلم تاريخ شعبنا الفلسطيني وأدبه، ويفرضون علينا تعلم تاريخ اليهود في محاولة لفرض الولاء لدولة اسرائيل على حساب الولاء لشعبنا. فهل كرامتنا تسمح بالإعلان عن الولاء لدولة تقوم على أنقاض شعبنا كله ولا تحترم حقوق مواطنة من تبقى من هذا الشعب داخل حدودها وتواصل حربها ضد شعبنا الذي يناضل من أجل دحر الإحتلال وحق العودة لنصف شعبنا المشتت في المنافي.

أما المبادئ والمطالب الأخرى المتعلقة بحل القضية الفلسطينية ككل، فهي تتمثل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة عام 67 وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين الى وطنهم، وإبقاء الباب مفتوحاً أمام تطوير آفاق لحل يقوم على دولة ثنائية القومية عربية-يهودية في كل فلسطين التاريخية. وفيما يتعلق بالعالم العربي، فإن التجمع باعتباره تياراً قومياً ديمقراطياً فإنه يتطلع لرؤية تغيير حقيقي في الوضع العربي، نحو الديمقراطية والحرية، والعدالة الإجتماعية والوحدة القومية بين الشعوب العربية التي نحن جزءٌٌ منها.

وفي المجال الإجتماعي، فإن التجمع يطرح الدفاع عن القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام حرية الفرد وحق المرأة في العمل والمساواة مع الرجل كشرط لتحرير المجتمع من قيود الماضي والإنطلاق نحو المستقبل يكون فيه كل أفراده رجالاً ونساءً فاعلين في عملية التطوير والبناء والتقدم. كما أنه يشارك كل القوى الديمقراطية في العالم من أجل مجتمع إنساني تسود فيه العدالة الإجتماعية  وتوزيع عادل للثروة وتنتفي فيه الحروب والإعتداءات على الغير والفقر وهيمنة القوى الإستعمارية والرأسمالية المتوحشة.

إن التجمع يولي أهمية خاصة لتنظيم الشباب والنهوض بوعيهم  وثقافتهم وبمسؤوليتهم تجاه مجتمعهم. ويتجلى ذلك في إقامة الاداة التنظيمية المطلوبة لتسهيل هذه المهمة - اتحاد الشباب الوطني الديمقراطي في عموم البلاد والتجمع الطلابي في الجامعات. والحزب ينظم سنوياً معسكر الشباب القومي الذي يشارك فيه مئات الشباب ضمن برامج تثقيفية تقوم على التساؤل والبحث والنقاش الحّر حول كافة جوانب ومتطلبات تطور مجتمعنا. ناهيك عن النشاطات العديدة الأخرى والتي يشارك فيها الالاف من الأجيال الناشئة. والتي تهدف الى صقل شخصية الشاب العربي الفلسطيني وتحصينه في مواجهة مخططات المؤسسة الإسرائيلية وفي مواجهة التعصب القومي والطائفي والمذهبي، وتأهيله ليصبح قوياً ومعتزاً وشامخاً.

لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون الإنتماء الى جماعة وليس بمقدوره التطور بدون التفاعل مع الجماعة القومية ولا بدون التفاعل مع الحضارات والثقافات الانسانية، نحن جزء من دائرة إنسانية شاملة.  وأنتم الشباب بمقدوركم عمل الكثير، بل أنتم بناة المستقبل. إن مجتمعكم بحاجة لكم وأنتم بحاجة الى مجتمعكم ليحميكم. لقد قام التجمع الوطني الديمقراطي ليعبّر عن طموحاتكم ورغباتكم وأمانيكم، وتحقيق هذه الاماني مرهون بدعمكم وإنخراطكم فيه وتأديتكم لواجبكم الوطني والإنساني تجاه أنفسكم وتجاه شعبكم. إن التجمع الوطني الديمقراطي لا يزال في بداية طريقه وأولى خطواته، ولم تكتمل بعد كافة ملامحه وتصوراته النظرية والعملية. ولكنه يمثل المحاولة النوعية الفريدة والجريئة التي تنشأ على ساحة عرب 48 لإعادة صياغة الرؤية لمستقبل أفضل، وأنتم الركيزة الأساسية لهذا المستقبل، فتعالوا نبنيه معاً، تعالوا نشيد مجدنا وكرامتنا على أرض وطننا.

عوض عبد الفتاح

سكرتير عام التجمع الوطني الديمقراطي

إصدار:

دائرة التثقيف المركزي

الطبعة الأولى 1998

الطبعة الثانية 2003

الطبعة الثالثة (إضافات) 2006


تصميم وبرمجة: باسل شليوط