الوضع القائم في الأقصى مفهوم تاريخي يجري تشويهه

أجرى وزير الخارجية الأمريكية انتوني بلينكن سلسلة من الاتصالات الهاتفية مع قيادات فلسطينية وأردنية وإسرائيلية، وأكّد هو ومن تحدّث معهم على ضرورة الالتزام بـ«الوضع القائم» في المسجد الأقصى، وأرسل وفداً أمريكيا إلى المنطقة بهدف العمل على حفظ «الأمن والاستقرار» ووقف التدهور.

وقد توالت، خلال الأسبوع المنصرم، الدعوات الدولية والعربية للحفاظ على حالة ما يسمّى بالوضع القائم «الستاتوس كفو» في الحرم القدسي الشريف، وأبدت إسرائيل من جهتها استعدادا للمحافظة على ما تعتبره هي «الوضع القائم» وهو يختلف تماما عن المعنى الأصلي والتاريخي لهذا المفهوم، الذي يعود الى «فرمانات» عثمانية من القرن التاسع عشر وإلى تقرير بعثة عصبة الأمم عام 1930، وإلى ما ساد في المسجد الأقصى قبل الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية عام 1967.

ومن المهم التأكيد على أن الشعب الفلسطيني يرفض تماما ويقاوم «الوضع القائم» الإسرائيلي، ويسعى إلى تغييره من الأساس بإنهاء الاحتلال كحل استراتيجي، والمطالبة مرحليا بإلغاء الخطوات والتغييرات كافة، التي قامت بها إسرائيل في المسجد الأقصى وفي محيط المسجد الأقصى منذ عام 1967. لقد كانت قضية القدس والأقصى وما زالت قضية دينية ووطنية وقومية، ودينامو القضية الفلسطينية، وعليه فكل من يطالب الفلسطينيين بالتزام «الهدوء» والقبول بالوضع القائم في المسجد الأقصى، فهو يدعوهم إلى رفع الرايات البيضاء وإلى الرضوخ للاحتلال والاستسلام له.

أثبت شعب فلسطين المرّة تلو الأخرى أنّه مستعد لبذل كل التضحيات لحماية الأقصى، وهو على وعي تام بأن حماية القدس والأقصى هي حماية لفلسطين

من حقنا أن نسأل الداعين إلى العودة إلى «الستاتوس كفو» أن يحدّدوا قصدهم، وإن لم يفعلوا فهم يدعمون من حيث يدرون أو لا يدرون الموقف الإسرائيلي، الذي يدّعي التمسك والالتزام بالوضع القائم، في الوقت الذي يواصل تغييره بلا توقّف منذ عام 1967. الدعوة للعودة إلى «الوضع القائم» تعني العودة إلى الواقع الذي فرضه الاحتلال، والذي يختلف تماما عن المفهوم التاريخي والقانوني لهذا المصطلح، وهي أيضا دعوة للفلسطيني «أن يسكت» كما قال مظفّر النوّاب مستهجنًا.

تأكيد الوضع القائم 1930

يعود تعبير الوضع القائم بصيغته الحديثة إلى تقرير اللجنة الدولية التي أقامتها عصبة الأمم في أعقاب أحداث «هبّة البراق» ودعت إليها لجنة «شو» التي أرسلها الانتداب البريطاني لتقصّي الحقائق بشأن الأحداث. وجاء في وثيقة «تقرير اللجنة الدولية المعيّنة من حكومة الانتداب البريطانية بموافقة مجلس عصبة الأمم، لتحديد حقوق ومطالب المسلمين واليهود بشأن حائط البراق/ الحائط الغربي في القدس» التي صدرت في الأول من ديسمبر/كانون الأول 1930، أنّ المسجد الأقصى بما فيه حائط البراق هو ملك للمسلمين وحدهم» وكذلك أنّ «الرصيف الكائن أمام الحائط هو للمسلمين أيضا» وإذ أكّدت اللجنة بالسماح لليهود بالصلاة على هذا الرصيف في أوقات محدّدة، كما كان «الوضع القائم» منذ القرن التاسع عشر، فهي أضافت في تقريرها أنّه «يمنع جلب أي خيمة أو ستار أو ما شابههما من الأدوات إلى المكان لوضعها هناك ولو لمدة محدودة من الزمن». لقد أكدت اللجنة الدولية على «الوضع القائم» الذي ساد في القرن التاسع عشر، وسمح المسلمون بموجبه لليهود بأداء الصلوات على بعد لا يقل عن خمسين مترا عن حائط البراق، ويرجع التعبير إلى فرمان السلطان العثماني بالمحافظة على «الوضع القائم» للأماكن المقدّسة ودور العبادة للمسلمين والمسيحيين في القدس، وهو ما زال قائما حتى أيامنا، سوى في المسجد الأقصى بعد التغييرات التعسفية الاحتلالية. وبما أن اللجنة الدولية انبثقت عن عصبة الأمم فقراراتها هي بمثابة تجسيد للقانون الدولي، وقد أكّدت منظمة اليونسكو على تسمية المسجد الأقصى وعلى ملكية تامة للمسلمين عليه.

خروقات إسرائيلية

بعد انتهاء حرب حزيران/يونيو 1967، وعد موشيه ديان وزير الحرب الإسرائيلي، الأوقاف الإسلامية بالمحافظة على «الستاتوس كفو» كما كان. لكن وفورا بعد هذا الوعد الكاذب بدأت إسرائيل سلسلة من الخطوات لتغيير الوضع القائم، مع التظاهر بالمحافظة عليه، ومن هذه الخطوات:

*قامت إسرائيل، بعد الاحتلال، بهدم 350 مبنى ومنزلا في محيط المسجد الأقصى في منطقة حي المغاربة لتوسيع ساحة حائط البراق.
*استولت إسرائيل على حائط البراق وسوّت الأرض حوله وجعلتها ساحة ضخمة تتسع لعشرات الآلاف، وأقامت عددا كبيرا من المرافق في المكان، وشرعت الجماعات الدينية اليهودية بإقامة الشعائر الدينية في المكان بادعاء أنه يشكّل الحائط الغربي للهيكل.
*قامت إسرائيل بحفريات مكثفة تحت المسجد الأقصى بهدف البحث عن جذور «يهودية» تحت أرض الحرم القدسي الشريف. وتعرّض هذه الحفريات المسجد للخطر، خاصة في حال حدوث هزّة أرضية.
*تتحكم شرطة الاحتلال ببوّابات المسجد، وتسمح وتمنع الدخول لمن تشاء وفق حساباتها وأهوائها. ولا أساس للادعاء الإسرائيلي بأنّها تحترم حريّة العبادة (التي هي في صلب مفهوم «الوضع القائم») فهي تحرم مئات الآلاف من أهالي الضفة الغربية وقطاع غزّة من الصلاة في المسجد الأقصى، وكثيرا ما تفرض قيودا على أهالي القدس والداخل الفلسطيني أيضا.
*ترعى سلطات الاحتلال الإسرائيلي اقتحامات المستوطنين اليومية لباحات المسجد الأقصى، التي تجري بحراسة أمنية مشدّدة، يرافقها إخلاء للمعتكفين في المسجد. وقد بلغ عدد المقتحمين عام 2021، حوالي 34 ألفا، وحوالي ألف مرة أكثر من عددهم في الثمانينيات.
*في الآونة الأخيرة تأخذ اقتحامات الأقصى علامات تقسيم الزمان والمكان، حيث يدخل المستوطنون يوميا في ساعات محدّدة تزداد بمرور الوقت، ويجوبون ساحات المسجد بمسارات معينة تتسع باستمرار. في هذه الساعات يمنع الموجودون في المسجد الأقصى من الاقتراب من مواقع مرور المستوطنين، وكثيرا ما تقوم الشرطة بإخلائهم من المسجد تماما.
*تسمح الشرطة الإسرائيلية، بقرار حكومي، للمقتحمين بأداء صلوات وتضرعات «صامتة» وكثيرا ما تخرج عن الصمت.
*تقتحم شرطة الاحتلال باحات المساجد والمساجد نفسها، بشكل روتيني، وتقوم بالاعتداء على المصلين وبإخلاء المرابطين والمرابطات، ولا تعير اهتماما لقدسية المكان ولا تتورّع عن تدنيسه.
*تحاول سلطات الاحتلال منع الأوقاف الإسلامية من القيام بأعمال الترميم، وتمنع حتى الصلاة في بعض المواقع.

*ترفض إسرائيل الاعتراف بسلطة الأوقاف الشاملة، وبملكية المسلمين التامة للمسجد الأقصى وباحاته وحيطانه ومحيطه، وتصادر القرارات وتحتفظ بها لنفسها،
من الممكن أن نورد عشرات الخروقات الإسرائيلية الإضافية للوضع القائم في المسجد الأقصى، ما يجعل الخطاب الإسرائيلي حول المحافظة على «الوضع القائم ذرّاً للرماد في أعين العرب والمسلمين والعالم. لكن هذه الخروقات ليست موجّهة للحجر فقط، بل وبالأساس للبشر. فهذه رسالة من إسرائيل بأن السيادة لها في الأقصى وفي فلسطين كلّها. والصراع هنا على هويّة المكان في الماضي وفي المستقبل. ويرى التيار المركزي في المجتمع الإسرائيلي، وليس «المتطرفين» وحدهم، أن شرعية وجود إسرائيل كامنة في هذا الموقع.

الأقصى والقدس وفلسطين هي قضية واحدة لا تتجزأ، والدفاع عن الأقصى هو في الوقت نفسه دفاع عن فلسطين وعن شعب فلسطين. وكما أن «الوضع القائم» للاحتلال مرفوض فإن الوضع القائم الإسرائيلي في المسجد الأقصى مرفوض. أمّا البحث عن صيغة للتهدئة فهي مساعدة للاحتلال ولأطماعه ولمشاريعه، والأجدر بالمهدّئين العرب أن يصمتوا، إن هم لا يستطيعون أو لا يريدون مساندة شعب فلسطين في نضاله التحرّري. والأجدر بهم أيضا أن يكفّوا عن الترويج لفكرة «عدم تغيير الوضع القائم» فهو قد تغيّر من زمان، وإسرائيل لن تتراجع عمّا غيّرته إلّا مجبرة ومضطرة. لقد أثبت شعب فلسطين المرّة تلو الأخرى أنّه مستعد لبذل كل التضحيات لحماية الأقصى، وهو على وعي تام بأن حماية القدس والأقصى هي حماية لفلسطين. فلسطين بدون القدس هي كالجسد بلا روح، والدعوة إلى الهدوء في الأقصى لا تنبع من الخشية على المكان المقدس، بل من الخوف من أن تكون أحداث الأقصى شرارة اندلاع انتفاضة عارمة وشاملة.

*رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي


تصميم وبرمجة: باسل شليوط